الباحث القرآني

سُورَةُ النَّمْلِ وتُسَمّى أيْضًا - كَما في الدُّرِّ المَنثُورِ - سُورَةَ سُلَيْمانَ، وهي مَكِّيَّةٌ - كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم - وذَهَبَ بَعْضُهم إلى مَدَنِيَّةِ بَعْضِ آياتِها - كَما سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى - وعَدَدُ آياتِها خَمْسٌ وتِسْعُونَ آيَةً حِجازِيٌّ، وأرْبَعٌ بَصْرِيٌّ وشامِيٌّ، وثَلاثٌ كُوفِيٌّ، ووَجْهُ اتِّصالِها بِما قَبْلَها أنَّها كالتَّتِمَّةِ لَها؛ حَيْثُ زادَ سُبْحانَهُ فِيها ذِكْرَ داوُدَ وسُلَيْمانَ، وبَسَطَ فِيها قِصَّةَ لُوطٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أبْسَطَ مِمّا هي قَبْلُ، وقَدْ وقَعَ فِيها: ﴿إذْ قالَ مُوسى لأهْلِهِ إنِّي آنَسْتُ نارًا﴾ إلَخْ،،، وذَلِكَ كالتَّفْصِيلِ لِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ فِيما قَبْلُ: ﴿فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وجَعَلَنِي مِنَ المُرْسَلِينَ﴾ وقَدِ اشْتَمَلَ كُلٌّ مِنَ السُّورَتَيْنِ عَلى ذِكْرِ القُرْآنِ وكَوْنِهِ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وعَلى تَسْلِيَتِهِ ﷺ إلى غَيْرِ ذَلِكَ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وجابِرِ بْنِ زَيْدٍ أنَّ الشُّعَراءَ نَزَلَتْ، ثُمَّ طس، ثُمَّ القَصَصُ. ﷽ ﴿طس﴾ قُرِئَ بِالإمالَةِ وعَدَمِها، والكَلامُ فِيهِ كالكَلامِ في نَظائِرِهِ مِنَ الفَواتِحِ. ﴿تِلْكَ﴾ إشارَةٌ إلى السُّورَةِ المَذْكُورَةِ، وأداةُ البُعْدِ لِلْإشارَةِ إلى بُعْدِ المَنزِلَةِ في الفَضْلِ والشَّرَفِ أوْ إلى (p-155)الآياتِ الَّتِي تُتْلى بَعْدُ، نَظِيرُ الإشارَةِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الم﴾ ﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ أوْ إلى مُطْلَقِ الآياتِ، ومَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلى الِابْتِداءِ، خَبَرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿آياتُ القُرْآنِ﴾ والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، أوْ خَبَرٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: (طس) وإضافَةُ (آياتُ) إلى (القُرْآنِ) لِتَعْظِيمِ شَأْنِها؛ فَإنَّ المُرادَ بِهِ المُنَزَّلُ المُبارَكُ المُصَدِّقُ لِما بَيْنَ يَدَيْهِ، المَوْصُوفُ بِالكِمالاتِ الَّتِي لا نِهايَةَ لَها، ويُطْلَقُ عَلى كُلِّ المُنَزَّلِ عَلَيْهِ ﷺ – لِلْإعْجازِ، وعَلى بَعْضٍ مِنهُ، وجُوِّزَ هُنا إرادَةُ كُلٍّ مِنَ المَعْنَيَيْنِ، وإذا أُرِيدَ الثّانِي فالمُرادُ بِالبَعْضِ جَمِيعُ المُنَزَّلِ عِنْدَ نُزُولِ السُّورَةِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكِتابٍ مُبِينٍ﴾ عَطْفٌ عَلى (القُرْآنِ) والمُرادُ بِهِ القُرْآنُ، وعَطْفُهُ عَلَيْهِ - مَعَ اتِّحادِهِ مَعَهُ في الصِّدْقِ - كَعَطْفِ إحْدى الصِّفَتَيْنِ عَلى الأُخْرى، كَما في قَوْلِهِمْ: هَذا فِعْلُ السَّخِيِّ والجَوادِ الكَرِيمِ، وتَنْوِينُهُ لِلتَّفْخِيمِ، و«المُبِينِ» إمّا مِن أبانَ المُتَعَدِّي، أيْ: مُظْهِرٍ ما في تَضاعِيفِهِ مِنَ الحِكَمِ والأحْكامِ، وأحْوالِ القُرُونِ الأُولى وأحْوالِ الآخِرَةِ، الَّتِي مِن جُمْلَتِها الثَّوابُ والعِقابُ، أوْ سَبِيلُ الرُّشْدِ والغَيِّ، أوْ نَحْوُ ذَلِكَ، والمَشْهُورُ في أمْثالِ هَذا الحَذْفِ أنَّهُ يُفِيدُ العُمُومَ. وإمّا مِن أبانَ اللّازِمِ بِمَعْنى بانَ، أيْ: ظاهِرِ الإعْجازِ، أوْ ظاهِرِ الصِّحَّةِ لِلْإعْجازِ، وهو عَلى الِاحْتِمالَيْنِ صِفَةٌ مادِحَةٌ لِـ(كِتابٍ) مُؤَكِّدَةٌ لِما أفادَهُ التَّنْوِينُ مِنَ الفَخامَةِ. ولَمّا كانَ في التَّنْكِيرِ نَوْعٌ مِنَ الفَخامَةِ وفي التَّعْرِيفِ نَوْعٌ آخَرُ، وكانَ الغَرَضُ الجَمْعَ لِلِاسْتِيعابِ الكامِلِ - عُرِّفَ القُرْآنُ ونُكِّرَ الكُتّابُ، وعُكِسَ في الحِجْرِ، وقُدِّمَ المُعَرَّفُ في المَوْضِعَيْنِ؛ لِزِيادَةِ التَّنْوِيهِ، ولَمّا عَقَّبَهُ سُبْحانَهُ بِالحَدِيثِ عَنِ الخُصُوصِ هاهُنا قُدِّمَ كَوْنُهُ قُرْآنًا؛ لِأنَّهُ أدَلُّ عَلى خُصُوصِ المُنَزَّلِ عَلى مُحَمَّدٍ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - لِلْإعْجازِ كَذا في الكَشْفِ. وقالَ بَعْضُ الأجِلَّةِ: قُدِّمَ الوَصْفُ الأوَّلُ هاهُنا نَظَرًا إلى حالِ تَقَدُّمِ القُرْآنِيَّةِ عَلى حالِ الكِتابِيَّةِ، وعُكِسَ هُنالِكَ؛ لِأنَّ المُرادَ تَفْخِيمُهُ مِن حَيْثُ اشْتِمالِهِ عَلى كَمالِ جِنْسِ الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ، حَتّى كَأنَّهُ كُلُّها، ومِن حَيْثُ كَوْنِهِ مُمْتازًا عَنْ غَيْرِهِ نَسِيجَ وحْدِهِ، بَدِيعًا في بابِهِ، والإشارَةُ إلى امْتِيازِهِ عَنْ سائِرِ الكُتُبِ بَعْدَ التَّنْبِيهِ عَلى انْطِوائِهِ عَلى كِمالاتِ غَيْرِهِ مِنَ الكُتُبِ أدْخَلُ في المَدْحِ؛ لِئَلّا يُتَوَهَّمَ مِن أوَّلِ الأمْرِ أنَّ امْتِيازَهُ عَنْ غَيْرِهِ لِاسْتِقْلالِهِ بِأوْصافٍ خاصَّةٍ بِهِ مِن غَيْرِ اشْتِمالِهِ عَلى نُعُوتِ كَمالِ سائِرِ الكُتُبِ الكَرِيمَةِ، وفي هَذا حَمْلُ (ألْ) عَلى الجِنْسِ في الكِتابِ. والظّاهِرُ أنَّها في (القُرْآنِ) لِلْعَهْدِ، فَيَخْتَلِفُ مَعْناها في المَوْضِعَيْنِ، وإلَيْهِ يُشِيرُ ظاهِرُ كَلامِ الكَشّافِ كَما قِيلَ، واعْتُذِرَ لَهُ بِأنَّهُ إذا رَجَعَ المَعْنَيانِ إلى التَّفْخِيمِ فَلا بَأْسَ بِمِثْلِ هَذا الِاخْتِلافِ، وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ في المَوْضِعَيْنِ لِلْعَهْدِ وأنْ تَكُونَ فِيهِما لِلْجِنْسِ، فَتَأمَّلْ، وقِيلَ: إنَّ اخْتِصاصَ كُلٍّ مِنَ المَوْضِعَيْنِ بِما اخْتُصَّ بِهِ مِن تَعْيِينِ الطَّرِيقِ. وجُوِّزَ أنْ يُرادَ بِالكِتابِ اللَّوْحُ المَحْفُوظُ، وإبانَتُهُ أنَّهُ خُطَّ فِيهِ ما هو كائِنٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، فَهو يُبَيِّنُهُ لِلنّاظِرِينَ فِيهِ، وتَأْخِيرُهُ هُنا عَنِ القُرْآنِ بِاعْتِبارِ تَعَلُّقِ عِلْمِنا بِهِ، وتَقْدِيمُهُ في الحِجْرِ عَلَيْهِ بِاعْتِبارِ الوُجُودِ الخارِجِيِّ؛ فَإنَّ القُرْآنَ - بِمَعْنى المَقْرُوءِ لَنا - مُؤَخَّرٌ عَنِ اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، ولا يَخْفى أنَّ إرادَةَ غَيْرِ اللَّوْحِ مِنَ الكِتابِ أظْهَرُ. وقالَ بَعْضُهُمْ: لا يُساعِدُ إرادَةَ اللَّوْحِ مِنهُ هاهُنا إضافَةُ الآياتِ إلَيْهِ؛ إذْ لا عَهْدَ بِاشْتِمالِهِ عَلى الآياتِ، ولا وصْفُهُ بِالهِدايَةِ والبِشارَةِ إذْ هُما بِاعْتِبارِ إبانَتِهِ، فَلا بُدَّ مِنِ اعْتِبارِها بِالنِّسْبَةِ إلى النّاسِ الَّذِينَ مِن جُمْلَتِهِمُ المُؤْمِنُونَ لا إلى النّاظِرِينَ فِيهِ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ «وكِتابٌ مُبِينٌ» بِرَفْعِهِما، وخُرِّجَ عَلى حَذْفِ المُضافِ وإقامَةِ المُضافِ إلَيْهِ مَقامَهُ، أيْ: وآياتٌ كِتابٌ، وقِيلَ: يَجُوزُ عَدَمُ اعْتِبارِ الحَذْفِ، والكِتابُ لِكَوْنِهِ مَصْدَرًا في الأصْلِ يَجُوزُ الإخْبارُ بِهِ عَنِ المُؤَنَّثِ، وقِيلَ: رُبَّ شَيْءٍ يَجُوزُ تَبَعًا ولا يَجُوزُ اسْتِقْلالًا، ألا تَرى أنَّهم حَظَرُوا: (جاءَتْنِي زَيْدٌ) وأجازُوا: (جاءَتْنِي (p-156)هِنْدٌ وزَيْدٌ).
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب