الباحث القرآني
﴿وبُرِّزَتِ الجَحِيمُ لِلْغاوِينَ﴾ الضّالِّينَ عَنْ طَرِيقِ الحَقِّ، وهو التَّقْوى والإيمانُ، أيْ: جُعِلَتْ بارِزَةً لَهم بِحَيْثُ يَرَوْنَها مَعَ ما فِيها مِن أنْواعِ الأحْوالِ الهائِلَةِ، ويَتَحَسَّرُونَ عَلى أنَّهُمُ المَسُوقُونَ إلَيْها، وفي اخْتِلافِ الفِعْلَيْنِ - عَلى ما ذَكَرَهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ - تَرْجِيحٌ لِجانِبِ الوَعْدِ؛ لِأنَّ التَّعْبِيرَ بِالإزْلافِ - وهو غايَةُ التَّقْرِيبِ - يُشِيرُ إلى قُرْبِ الدُّخُولِ وتَحَقُّقِهِ، ولِذا قُدِّمَ لِسَبْقِ رَحْمَتِهِ تَعالى بِخِلافِ الإبْرازِ - وهو الإراءَةُ ولَوْ مِن بُعْدٍ - فَإنَّهُ مَطْمَعٌ في النَّجاةِ، كَما قِيلَ: (مِنَ العَمُودِ إلى العَمُودِ فَرَجٌ).
وقالَ ابْنُ كَمالٍ: في اخْتِلافِ الفِعْلَيْنِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ أرْضَ الحَشْرِ قَرِيبَةٌ مِنَ الجَحِيمِ، وحاصِلُهُ أنَّ الجَنَّةَ بَعِيدَةٌ مِن أرْضِ المَحْشَرِ بُعْدًا مَكانِيًّا، والنّارَ قَرِيبَةٌ مِنها قُرْبًا مَكانِيًّا؛ فَلِذا أُسْنِدَ الإزْلافُ - أيِ التَّقْرِيبُ - إلى الجَنَّةِ دُونَ الجَحِيمِ، قِيلَ: ولَعَلَّهُ مَبْنِيٌّ عَلى أنَّ الجَنَّةَ في السَّماءِ وأنَّ النّارَ تَحْتَ الأرْضِ، وأنَّ تَبْدِيلَ الأرْضِ يَوْمَ القِيامَةِ بِمَدِّها وإذْهابِ كَرَيَّتِها؛ إذْ حِينَئِذٍ يَظْهَرُ أمْرُ البُعْدِ والقُرْبِ، لَكِنْ لا يَخْفى أنَّ كَوْنَ الجَنَّةِ في السَّماءِ مِمّا يَعْتَقِدُهُ أهْلُ السُّنَّةِ ولَيْسَ في ذَلِكَ خِلافٌ بَيْنَهم يُعْتَدُّ بِهِ، وأمّا كَوْنُ النّارِ تَحْتَ الأرْضِ فَفِيهِ تَوَقُّفٌ، قالَ الجَلالُ السُّيُوطِيُّ في إتْمامِ الدِّرايَةِ: نَعْتَقِدُ أنَّ الجَنَّةَ في السَّماءِ ونَقِفُ عَنِ النّارِ، ونَقُولُ: مَحَلُّها حَيْثُ (p-102)لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ تَعالى، فَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدِي حَدِيثٌ أعْتَمِدُهُ في ذَلِكَ، وقِيلَ: تَحْتَ الأرْضِ، انْتَهى.
وكَوْنُ تَبْدِيلِ الأرْضِ بِمَدِّها وإذْهابِ كَرَيَّتِها قَوْلٌ لِبَعْضِهِمْ، واخْتارَ الإمامُ القُرْطُبِيُّ - بَعْدَ أنْ نَقَلَ في التَّذْكِرَةِ أحادِيثَ كَثِيرَةً - أنَّ تَبْدِيلَ الأرْضِ بِمَعْنى أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ يَخْلُقُ أرْضًا أُخْرى بَيْضاءَ مِن فِضَّةٍ لَمْ يُسْفَكْ عَلَيْها دَمٌ حَرامٌ، ولا جَرى فِيها ظُلْمٌ قَطُّ، والأوْلى أنْ يُقالَ في بُعْدِ الجَنَّةِ وقُرْبِ النّارِ مِن أرْضِ المَحْشَرِ: إنَّ الوُصُولَ إلى الجَنَّةِ بِالعُبُورِ عَلى الصِّراطِ وهو مَنصُوبٌ عَلى مَتْنِ جَهَنَّمَ كَما نَطَقَتْ بِهِ الأخْبارُ، فالوُصُولُ إلى جَهَنَّمَ أوَّلًا وإلى الجَنَّةِ آخِرًا بِواسِطَةِ العُبُورِ، وهو ظاهِرٌ في القُرْبِ والبُعْدِ، ثُمَّ إنَّ ظاهِرَ الآيَةِ يَقْتَضِي أنَّ الجَنَّةَ تُنْقَلُ عَنْ مَكانِها اليَوْمَ يَوْمَ القِيامَةِ؛ إذِ التَّقْرِيبُ يَسْتَدْعِي النَّقْلَ ولَيْسَ في الأحادِيثِ - عَلى ما نَعْلَمُ - ما يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ.
نَعَمْ، جاءَ فِيها ما يَدُلُّ عَلى نَقْلِ النّارِ، فَفي التَّذْكِرَةِ أخْرَجَ مُسْلِمٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: ««يُؤْتى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَها سَبْعُونَ ألْفَ زِمامٍ، مَعَ كُلِّ زِمامٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ»» والظّاهِرُ أنَّ مَعْنى (يُؤْتى بِها) يُجاءُ بِها مِنَ المَحَلِّ الَّذِي خَلَقَها اللَّهُ تَعالى فِيهِ، وقَدْ صُرِّحَ بِذَلِكَ في التَّذْكِرَةِ.
وقالَ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ في أسْئِلَتِهِ: فَإنْ قِيلَ: قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ أيْ قُرِّبَتْ، والجَنَّةُ لا تَنْتَقِلُ عَنْ مَكانِها ولا تُحَوَّلُ؟ قُلْنا: مَعْناهُ: وأُزْلِفَتِ المُتَّقُونَ إلى الجَنَّةِ، وهَذا كَما يُقالُ الحاجُّ إذا دَنَوْا إلى مَكَّةَ: قَرُبَتْ مَكَّةُ مِنّا، وقِيلَ: مَعْناهُ أنَّها كانَتْ مَحْجُوبَةً عَنْهم فَلَمّا رُفِعَتِ الحُجُبُ بَيْنَها وبَيْنَهم كانَ ذَلِكَ تَقْرِيبًا، انْتَهى، ويَرِدُ عَلى الأخِيرِ أنَّهُ يُمْكِنُ أنْ يُقالَ مِثْلُهُ في الجَحِيمِ، وحِينَئِذٍ يُسْألُ عَنْ وجْهِ اخْتِلافِ الفِعْلَيْنِ.
ويَرِدُ عَلى القَوْلِ بِأنَّ الجَنَّةَ لا تَنْتَقِلُ عَنْ مَكانِها أنَّهُ خِلافُ ظاهِرِ الآيَةِ، ولا يَلْزَمُ لِصِحَّةِ القَوْلِ بِهِ نَقْلُ حَدِيثٍ يَدُلُّ عَلى نَقْلِها يَوْمَئِذٍ، فَلا مانِعَ مِنَ القَوْلِ بِهِ وتَفْوِيضِ الكَيْفِيَّةِ إلى عِلْمِ مَن لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ وهو بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٍ، وإذا أُرِيدَ التَّأْوِيلُ فَلْيَكُنْ ذَلِكَ بِحَمْلِ التَّقْرِيبِ عَلى التَّقْرِيبِ بِحَسَبِ الرُّؤْيَةِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ هُناكَ نَقْلٌ فَقَدْ يُرى الشَّيْءُ قَرِيبًا - وإنْ كانَ في نَفْسِ الأمْرِ في غايَةِ البُعْدِ - كَما يُشاهَدُ ذَلِكَ في النُّجُومِ، وقَدْ يُقَرَّبُ البَعِيدُ في الرُّؤْيَةِ بِواسِطَةِ المَناظِرِ والآلاتِ المَوْضُوعَةِ لِذَلِكَ، وقَدْ يَنْعَكِسُ الحالُ بِواسِطَتِها أيْضًا فَيُرى القَرِيبُ بَعِيدًا، ومَتى جازَ وُقُوعُ ذَلِكَ بِواسِطَةِ الآلاتِ في هَذِهِ النَّشْأةِ جازَ أنْ يَقَعَ في النَّشْأةِ الأُخْرى بِما لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّطِيفُ الخَبِيرُ، فَتَأمَّلْ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
وقَرَأ الأعْمَشُ «فَبُرِّزَتِ» بِالفاءِ، وقَرَأ مالِكُ بْنُ دِينارٍ «وبَرَزَتْ» بِالفَتْحِ والتَّخْفِيفِ و«الجَحِيمُ» بِالرَّفْعِ عَلى الفاعِلِيَّةِ.
{"ayah":"وَبُرِّزَتِ ٱلۡجَحِیمُ لِلۡغَاوِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق