الباحث القرآني

وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوَلَمْ يَرَوْا إلى الأرْضِ﴾ بَيانٌ لِإعْراضِهِمْ عَنِ الآياتِ التَّكْوِينِيَّةِ بَعْدَ بَيانِ إعْراضِهِمْ عَنِ الآياتِ التَّنْزِيلِيَّةِ، والهَمْزَةُ لِلْإنْكارِ التَّوْبِيخِيِّ، والواوُ لِلْعَطْفِ عَلى مُقَدَّرٍ يَقْتَضِيهِ المَقامُ، أيْ: أأصَرُّوا عَلى ما هم عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ بِاللَّهِ تَعالى وتَكْذِيبِ ما يَدْعُوهم إلى الإيمانِ بِهِ - عَزَّ وجَلَّ - ولَمْ يَنْظُرُوا إلى عَجائِبِ الأرْضِ الزّاجِرَةِ لَهم عَنْ ذَلِكَ والدّاعِيَةِ إلى الإيمانِ بِهِ تَعالى، وقالَ أبُو السُّعُودِ - بَعْدَ جَعْلِ الهَمْزَةِ لِلْإنْكارِ والعَطْفِ عَلى مُقَدَّرٍ يَقْتَضِيهِ المَقامُ - أيْ: أفَعَلُوا ما فَعَلُوا مِنَ الإعْراضِ عَنِ الآياتِ والتَّكْذِيبِ والِاسْتِهْزاءِ بِها، ولَمْ يَنْظُرُوا إلى عَجائِبِ الأرْضِ الزّاجِرَةِ عَمّا فَعَلُوا والدّاعِيَةِ إلى الإقْبالِ عَلى ما أعْرَضُوا عَنْهُ، انْتَهى. وهُوَ ظاهِرٌ في أنَّ الآيَةَ مُرْتَبِطَةٌ بِما قَبْلَها مِن قَوْلِهِ تَعالى: ( وما يَأْتِيهِمْ ) إلَخْ، وهو قَرِيبٌ بِحَسَبِ اللَّفْظِ، إلّا أنَّ فِيهِ أنَّ النَّظَرَ إلى عَجائِبِ الأرْضِ لا يَظْهَرُ كَوْنُهُ زاجِرًا عَنِ التَّكْذِيبِ بِكَوْنِ القُرْآنِ مُنَزَّلًا مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - وداعِيًا إلى الإقْبالِ إلَيْهِ، وقالَ ابْنُ كَمالٍ: التَّقْدِيرُ ألَمْ يَتَأمَّلُوا في عَجائِبِ قُدْرَتِهِ تَعالى ولَمْ يَنْظُرُوا، انْتَهى. والظّاهِرُ أنَّ الآيَةَ عَلَيْهِ ابْتِداءَ كَلامٍ، فافْهَمْ، وقِيلَ: هو بَيانٌ لِتَكْذِيبِهِمْ بِالمَعادِ إثْرَ بَيانِ تَكْذِيبِهِمْ بِالمَبْدَأِ وكُفْرِهِمْ بِهِ - عَزَّ وجَلَّ - والعَطْفُ عَلى مُقَدَّرٍ أيْضًا، والتَّقْدِيرُ: أكَذَّبُوا بِالبَعْثِ ولَمْ يَنْظُرُوا إلى عَجائِبِ الأرْضِ الزّاجِرَةِ عَنِ التَّكْذِيبِ بِذَلِكَ، والأوَّلُ أوْلى وأظْهَرُ، وأيًّا ما كانَ فالكَلامُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ كَما أُشِيرَ إلَيْهِ، وجُوِّزَ أنْ (p-62)يُرادَ مِنَ الأرْضِ عَجائِبُها مَجازًا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَمْ أنْبَتْنا فِيها مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ اسْتِئْنافٌ مُبَيِّنٌ لِما في الأرْضِ مِنَ الآياتِ الزّاجِرَةِ عَنِ الكُفْرِ الدّاعِيَةِ إلى الإيمانِ. و(كَمْ) خَبَرِيَّةٌ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى المَفْعُولِيَّةِ بِما بَعْدَها، وهي مُفِيدَةٌ لِلْكَثْرَةِ، وجِيءَ بِكُلٍّ مَعَها لِإفادَةِ الإحاطَةِ والشُّمُولِ، فَيُفِيدُ أنَّ كَثْرَةَ أفْرادِ كُلِّ صِنْفٍ صِنْفٌ، فَيَكُونُ المَعْنى: أنْبَتْنا فِيها شَيْئًا كَثِيرًا مِن كُلِّ صِنْفٍ، عَلى أنَّ (مِن) تَبْعِيضِيَّةٌ، أوْ كَثْرَةَ الأصْنافِ، فَيَكُونُ المَعْنى: أنْبَتْنا فِيها شَيْئًا كَثِيرًا هو كُلُّ صِنْفٍ، عَلى أنَّ (مِن) بَيانِيَّةٌ، وأيًّا ما كانَ فَلا تَكْرارَ بَيْنِهِما، وقَدْ يُقالُ: المَعْنى: أوَلَمْ يَنْظُرُوا إلى نَفْسِ الأرْضِ الَّتِي هي طَبِيعَةٌ واحِدَةٌ كَيْفَ جَعَلْناها مَنبَتًا لِنَباتاتٍ كَثِيرَةٍ مُخْتَلِفَةِ الطَّبائِعِ، وحِينَئِذٍ لَيْسَ هُناكَ حَذْفُ مُضافٍ ولا مُجازٌ، ويَكُونُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَمْ أنْبَتْنا فِيها﴾ إلَخْ ... بَدَلَ اشْتِمالٍ بِحَسَبِ المَعْنى، وهو وجْهٌ حَسَنٌ فافْهَمْهُ؛ لِئَلّا تَظُنَّ رُجُوعَهُ إلى ما تَقَدَّمَ واحْتِياجَهُ إلى ما احْتاجَ إلَيْهِ مِنَ الحَذْفِ أوِ التَّجَوُّزِ، والزَّوْجُ الصِّنْفُ كَما أشَرْنا إلَيْهِ، وذَكَرَ الرّاغِبُ أنَّ كُلَّ ما في العالَمِ زَوْجٌ مِن حَيْثُ إنَّ لَهُ ضِدًّا ما أوْ مِثْلًا ما أوْ تَرْكِيبًا ما، بَلْ لا يَنْفَكُّ بِوَجْهٍ مِن تَرْكِيبٍ، والكِرِيمُ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَرْضِيُّهُ ومَحْمُودُهُ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ؎حَتّى يَشُقَّ الصُّفُوفَ مِن كَرَمِهِ فَإنَّهُ أرادَ مِن كَوْنِهِ مَرْضِيًّا في شَجاعَتِهِ، وهو صِفَةٌ لِـ(زَوْجٍ) أيْ: مِن كُلِّ زَوْجٍ كَثِيرِ المَنافِعِ، وهي تَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ والتَّوْضِيحَ، وُوَجْهُ الأوَّلِ دَلالَتُهُ عَلى ما يَدُلُّ عَلَيْهِ غَيْرُهُ في شَأْنِ الواجِبِ - تَعالى - وزِيادَةٍ حَيْثُ يَدُلُّ عَلى النِّعْمَةِ الزّاجِرَةِ لَهم عَمّا هم عَلَيْهِ أيْضًا، ووَجْهُ الثّانِي التَّنْبِيهُ عَلى أنَّهُ تَعالى ما أنْبَتَ شَيْئًا إلّا وفِيهِ فائِدَةٌ كَما يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكم ما في الأرْضِ جَمِيعًا﴾ وأيًّا ما كانَ فالظّاهِرُ عَدَمُ دُخُولِ الحَيَوانِ في عُمُومِ المَنبَتِ، وذَهَبَ بَعْضٌ إلى دُخُولِهِ بِناءً عَلى أنَّ خَلْقَهُ مِنَ الأرْضِ إنْباتٌ لَهُ، كَما يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللَّهُ أنْبَتَكم مِنَ الأرْضِ نَباتًا﴾ . وعَنِ الشَّعْبِيِّ التَّصْرِيحُ بِدُخُولِ الإنْسانِ فِيهِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: النّاسُ مِن نَباتِ الأرْضِ، فَمَن صارَ إلى الجَنَّةِ فَهو كَرِيمٌ، ومَن صارَ إلى النّارِ فَبِضِدِّ ذَلِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب