الباحث القرآني
﴿فَألْقى مُوسى عَصاهُ فَإذا هي تَلْقَفُ﴾ أيْ تَبْتَلِعُ بِسُرْعَةٍ، وأصْلُ التَّلَقُّفِ الأخْذُ بِسُرْعَةٍ، وقَرَأ أكْثَرُ السَّبْعَةِ: (تَلَقَّفُ) بِفَتْحِ اللّامِ والتَّشْدِيدِ، والأصْلُ تَتَلَقَّفُ، فَحُذِفَتْ إحْدى التّاءَيْنِ، والتَّعْبِيرُ بِالمُضارِعِ لِاسْتِحْضارِ السُّورَةِ والدَّلالَةِ عَلى الِاسْتِمْرارِ ﴿ما يَأْفِكُونَ﴾ أيِ: الَّذِي يُقَلِّبُونَهُ مِن حالِهِ الأوَّلِ وصُورَتِهِ بِتَمْوِيهِهِمْ وتَزْوِيرِهِمْ، فَيُخَيِّلُونَ حِبالَهم وعِصِيَّهم أنَّها حَيّاتٌ تَسْعى، فَما مَوْصُولَةٌ حُذِفَ عائِدُها لِلْفاصِلَةِ، وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أيْ تَلْقَفُ إفْكَهم تَسْمِيَةً لِلْمَأْفُوكِ بِهِ مُبالَغَةً ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ﴾ أيْ: خَرُّوا ساجِدِينَ إثْرَ ما شاهَدُوا ذَلِكَ مِن غَيْرِ تَلَعْثُمٍ وتَرَدُّدٍ لِعِلْمِهِمْ بِأنَّ مِثْلَ ذَلِكَ خارِجٌ عَنْ حُدُودِ السِّحْرِ، وأنَّهُ أمْرٌ إلَهِيٌّ قَدْ ظَهَرَ عَلى يَدِهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لِتَصْدِيقِهِ، وعُبِّرَ عَنِ الخُرُورِ بِالإلْقاءِ؛ لِأنَّهُ ذُكِرَ مَعَ الإلْقاءاتِ فَسُلِكَ بِهِ طَرِيقَ المُشاكَلَةِ، وفِيهِ أيْضًا - مَعَ مُراعاةِ المُشاكَلَةِ - أنَّهم حِينَ رَأوْا ما رَأوْا لَمْ يَتَمالَكُوا أنْ رَمَوْا بِأنْفُسِهِمْ إلى الأرْضِ ساجِدِينَ، كَأنَّهم أُخِذُوا فَطُرِحُوا طَرْحًا، فَهُناكَ اسْتِعارَةٌ تَبَعِيَّةٌ زادَتْ حُسْنَها المُشاكَلَةُ، وبَحَثَ في ذَلِكَ بَعْضُهم بِأنَّ اللَّهَ تَعالى خالِقُ خَرُورِهِمْ عِنْدَ أهْلِ الحَقِّ، وخَلْقُهُ هو الإلْقاءُ، فَلا حاجَةَ إلى التَّجَوُّزِ.
وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ إيجادَ خَرُورِهِمْ وخَلْقَهُ فِيهِمْ لا يُسَمّى إلْقاءً حَقِيقَةً ولُغَةً، ثُمَّ ظاهِرُ كَلامِهِمْ أنَّ فاعِلَ الإلْقاءِ - لَوْ صُرِّحَ بِهِ - هو اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - بِما خَوَّلَهم مِنَ التَّوْفِيقِ، وجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنْ يَكُونَ إيمانَهم أوْ ما عايَنُوا مِنَ المُعْجِزَةِ الباهِرَةِ، ثُمَّ قالَ: ولَكَ أنْ لا تُقَدِّرَ فاعِلًا؛ لِأنَّ (أُلْقِيَ) بِمَعْنى (خَرُّوا وسَقَطُوا).
وتَعَقَّبَ هَذا أبُو حَيّانَ بِأنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ إذْ لا يُمْكِنُ أنْ يُبْنى الفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ إلّا وقَدْ حُذِفَ الفاعِلُ فَنابَ ذَلِكَ عَنْهُ، أمّا أنَّهُ لا يُقَدَّرُ فاعِلٌ فَقَوْلٌ ذاهِبٌ عَنِ الصَّوابِ، ووَجَّهَ ذَلِكَ صاحِبُ الكَشْفِ بِأنَّهُ أرادَ أنَّهُ لا يُحْتاجُ إلى تَقْدِيرِ فاعِلٍ آخَرَ غَيْرِ مَن أُسْنِدَ إلَيْهِ المَجْهُولُ؛ لِأنَّهُ فاعِلُ الإلْقاءِ، ألا تَرى أنَّكَ لَوْ فَسَّرْتَ (سَقَطَ) بِـ(ألْقى نَفْسَهُ) لَصَحَّ.
والطِّيبِيُّ بِأنَّهُ أرادَ أنَّهُ لا يُحْتاجُ إلى تَعْيِينِ فاعِلٍ؛ لِأنَّ المَقْصُودَ المُلْقى لا تَعْيِينُ مَن ألْقاهُ، كَما تَقُولُ: قُتِلَ الخارِجِيُّ.
وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ التَّعْلِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ إلى ما اخْتارَهُ صاحِبُ الكَشْفِ أقْرَبُ، وبِالجُمْلَةِ لا بُدَّ مِن تَأْوِيلِ كَلامِ صاحِبِ الكَشّافِ؛ فَإنَّهُ أجَلُّ مِن أنْ يُرِيدَ ظاهِرَهُ الَّذِي يَرُدُّ عَلَيْهِ ما أوْرَدَهُ أبُو حَيّانَ.
وفِي سُجُودِ السَّحَرَةِ وتَسْلِيمِهِمْ دَلِيلٌ عَلى أنَّ مُنْتَهى السِّحْرِ تَمْوِيهٌ وتَزْوِيقٌ، يُخَيِّلُ شَيْئًا لا حَقِيقَةَ لَهُ؛ لِأنَّ السِّحْرَ أقْوى ما كانَ في زَمَنِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - ومَن أتى بِهِ فِرْعَوْنُ أعْلَمُ أهْلِ عَصْرِهِ بِهِ، وقَدْ بَذَلُوا جُهْدَهم وأظْهَرُوا أعْظَمَ ما عِنْدَهم (p-79)مِنهُ، ولَمْ يَأْتُوا إلّا بِتَمْوِيهٍ وتَزْوِيقٍ، كَذا قِيلَ، والتَّحْقِيقُ أنَّ ذَلِكَ هو الغالِبُ في السِّحْرِ لا أنَّ كَلَّ سِحْرٍ كَذَلِكَ.
وقَوْلُ القَزْوِينِيِّ: إنَّ دَعْوى أنَّ في السِّحْرِ تَبْدِيلَ صُورَةٍ حَقِيقَةً مِن خُرافاتِ العَوامِّ وأسْمارِ النِّسْوَةِ - فَإنَّ ذَلِكَ مِمّا لا يُمْكِنُ في سِحْرٍ أبَدًا - لا يَخْلُو عَنْ مُجازَفَةٍ، واسْتُدِلَّ بِذَلِكَ أيْضًا عَلى أنَّ التَّبَحُّرَ في كُلِّ عِلْمٍ نافِعٌ، فَإنَّ أُولَئِكَ السَّحَرَةَ لِتَبَحُّرِهِمْ في عِلْمِ السِّحْرِ عَلِمُوا حَقِيَةَ ما أتى بِهِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - وأنَّهُ مُعْجِزَةٌ فانْتَفَعُوا بِزِيادَةِ عِلْمِهِمْ؛ لِأنَّهُ أدّاهُمُ إلى الِاعْتِرافِ بِالحَقِّ والإيمانِ لِفَرْقِهِمْ بَيْنَ المُعْجِزَةِ والسِّحْرِ.
وتُعُقِّبَ بِأنَّ هَذا إنَّما يَثْبُتُ حُكْمًا جُزْئِيًّا كَما لا يَخْفى، وذَكَرَ بَعْضُ الأجِلَّةِ أنَّهم إنَّما عَرَفُوا حَقِّيَّةَ ذَلِكَ بَعْدَ أنْ أخَذَ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - العَصا فَعادَتْ كَما كانَتْ، وذَلِكَ أنَّهم لَمْ يَرَوْا لِحِبالِهِمْ وعِصِيِّهِمْ بَعْدُ أثَرًا، وقالُوا: لَوْ كانَ هَذا سِحْرًا لَبَقِيَتْ حِبالُنا وعِصِيُّنا، ولَعَلَّها عَلى هَذا صارَتْ أجْزاءً هَبائِيَّةً وتَفَرَّقَتْ أوْ عَدِمَتْ لِانْقِطاعِ تَعَلُّقِ الإرادَةِ بِوُجُودِها.
وقالَ الشَّيْخُ الأكْبَرُ - قُدِّسَ سِرُّهُ - في البابِ السّادِسَ عَشَرَ والبابِ الأرْبَعِينَ مِنَ الفُتُوحاتِ: إنَّ العَصا لَمْ تَلْقَفْ إلّا صُوَرَ الحَيّاتِ مِنَ الحِبالِ والعِصِيِّ، وأمّا هي فَقَدْ بَقِيَتْ ولَمْ تُعْدَمْ كَما تَوَهَّمَهُ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿تَلْقَفْ ما صَنَعُوا﴾ وهم لَمْ يَصْنَعُوا إلّا الصُّوَرَ، ولَوْلا ذَلِكَ لَوَقَعَتِ الشُّبْهَةُ لِلسَّحَرَةِ في عَصا مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَلَمْ يُؤْمِنُوا، انْتَهى مُلَخَّصًا، فَتَأمَّلْ.
{"ayahs_start":45,"ayahs":["فَأَلۡقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِیَ تَلۡقَفُ مَا یَأۡفِكُونَ","فَأُلۡقِیَ ٱلسَّحَرَةُ سَـٰجِدِینَ"],"ayah":"فَأُلۡقِیَ ٱلسَّحَرَةُ سَـٰجِدِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











