الباحث القرآني
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ نَشَأْ﴾ إلَخْ، اسْتِئْنافٌ لِتَعْلِيلِ الأمْرِ بِإشْفاقِهِ عَلى نَفْسِهِ ﷺ أوِ النَّهْيِ عَنِ البَخْعِ، ومَفْعُولُ المَشِيئَةِ مَحْذُوفٌ، وهو - عَلى المَشْهُورِ - ما دَلَّ عَلَيْهِ مَضْمُونُ الجَزاءِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِما قَبْلُ، أيْ: إنْ نَشَأ إيمانَهم ﴿نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً﴾ مُلْجِئَةً لَهم إلى الإيمانِ، قاسِرَةً عَلَيْهِ، كَما نَتَقَ الجَبَلَ فَوْقَ بَنِي إسْرائِيلَ، وتَقْدِيمُ الظَّرْفَيْنِ عَلى المَفْعُولِ الصَّرِيحِ لِما مَرَّ مِرارًا مِنَ الِاهْتِمامِ بِالمُقَدَّمِ والتَّشْوِيقِ إلى المُؤَخَّرِ.
وقَرَأ أبُو عَمْرٍو في رِوايَةِ هارُونَ عَنْهُ «إنْ يَشَأْ يُنَزِّلْ» عَلى الغَيْبَةِ، والضَّمِيرُ لَهُ تَعالى، وفي بَعْضِ المَصاحِفِ: (لَوْ شِئْنا لَأنْزَلْنا ﴿فَظَلَّتْ أعْناقُهم لَها خاضِعِينَ﴾ أيْ: مُنْقادِينَ، وهو خَبَرٌ عَنِ الأعْناقِ، وقَدِ اكْتَسَبَتِ التَّذْكِيرَ وصِفَةَ العُقَلاءِ مِنَ المُضافِ إلَيْهِ، فَأُخْبِرَ عَنْها لِذَلِكَ بِجَمْعِ مَن يَعْقِلُ، كَما نَقَلَهُ أبُو حَيّانَ عَنْ بَعْضِ أجِلَّةِ عُلَماءِ العَرَبِيَّةِ، واخْتِصاصُ جَوازِ مِثْلِ ذَلِكَ الشِّعْرَ - كَما حَكاهُ السِّيرافِيُّ عَنِ النَّحْوِيِّينَ - مِمّا لَمْ يَرْتَضِهِ المُحَقِّقُونَ، ومِنهم أبُو العَبّاسِ، وهو مِمَّنْ خَرَّجَ الآيَةَ عَلى ذَلِكَ.
وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِما أنَّها وُصِفَتْ بِفِعْلٍ لا يَكُونُ إلّا مَقْصُودًا لِلْعاقِلِ وهو الخُضُوعُ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿رَأيْتُهم لِي ساجِدِينَ﴾ وأنْ يَكُونَ الكَلامُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، وقَدْ رُوعِيَ بَعْدَ حَذْفِهِ، أيْ: أصْحابُ أعْناقِهِمْ، ولا يَخْفى أنَّ هَذا التَّقْدِيرَ رَكِيكٌ مَعَ الإضافَةِ إلى ضَمِيرِهِمْ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (p-60)أصْلُ الكَلامِ: فَظَلُّوا لَها خاضِعِينَ، فَأُقْحِمَتِ الأعْناقُ لِبَيانِ مَوْضِعِ الخُضُوعِ؛ لِأنَّهُ يَتَراءى قَبْلَ التَّأمُّلِ لِظُهُورِ الخُضُوعِ في العُنُقِ بِنَحْوِ الِانْحِناءِ أنَّهُ هو الخاضِعُ دُونَ صاحِبِهِ، وتُرِكَ الجَمْعُ بَعْدَ الإقْحامِ عَلى ما كانَ عَلَيْهِ قَبْلُ، وقالَ الكِسائِيُّ: إنَّ خاضِعِينَ حالٌ لِلضَّمِيرِ المَجْرُورِ لا لِلْأعْناقِ.
وتَعَقَّبَهُ أبُو البَقاءِ فَقالَ: هو بَعِيدٌ في التَّحْقِيقِ لِأنَّ ﴿خاضِعِينَ﴾ يَكُونُ جارِيًا عَلى غَيْرِ فاعِلِ (ظَلَّتْ) فَيَفْتَقِرُ إلى إبْرازِ ضَمِيرِ الفاعِلِ، فَكانَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ (خاضِعِينَ هُمْ) فافْهَمْ.
وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وابْنُ زَيْدٍ، والأخْفَشُ: الأعْناقُ الجَماعاتُ، يُقالُ: جاءَ في عُنُقٍ مِنَ النّاسِ أيْ جَماعَةٍ، والمَعْنى: ظَلَّتْ جَماعاتُهُمْ، أيْ: جُمْلَتُهم.
وقِيلَ: المُرادُ بِها الرُّؤَساءُ والمُقَدَّمُونَ مَجازًا، كَما يُقالُ لَهُمْ: رُؤُوسٌ وصُدُورٌ، فَيَثْبُتُ الحُكْمُ لِغَيْرِهِمْ بِالطَّرِيقِ الأوْلى، وظاهِرُ كَلامِهِمْ أنَّ إطْلاقَ العُنُقِ عَلى الجَماعَةِ مُطْلَقًا رُؤَساءَ أمْ لا حَقِيقَةٌ، وذَكَرَ الطِّيبِيُّ عَنِ الأساسِ أنَّ مِنَ المَجازِ: (أتانِي عُنُقٌ مِنَ النّاسِ) لِلْجَماعَةِ المُتَقَدِّمَةِ، وجاؤُوا رُسُلًا رُسُلًا وعُنُقًا عُنُقًا، والكَلامُ يَأْخُذُ بَعْضُهُ بِأعْناقِ بَعْضٍ، ثُمَّ قالَ: يُفْهَمُ مِن تَقابُلِ (رُسُلًا رُسُلًا) لِقَوْلِهِ: (عُنُقًا عُنُقًا) أنَّ في إطْلاقِ الأعْناقِ عَلى الجَماعاتِ اعْتِبارُ الهَيْئَةِ المُجْتَمِعَةِ، فَيَكُونُ المَعْنى: فَظَلُّوا خاضِعِينَ، مُجْتَمِعِينَ عَلى الخُضُوعِ، مُتَّفِقِينَ عَلَيْهِ، لا يَخْرُجُ أحَدٌ مِنهم عَنْهُ.
وقَرَأ عِيسى وابْنُ أبِي عَبْلَةَ «خاضِعَةً» وهي ظاهِرَةٌ عَلى جَمِيعِ الأقْوالِ في الأعْناقِ بَيْدَ أنَّهُ إذا أُرِيدَ بِها ما هو جَمْعُ العُنُقِ بِمَعْنى الجارِحَةِ كانَ الإسْنادُ إلَيْها مَجازِيًّا ولَها في القِراءَتَيْنِ صِلَةُ ظَلَّتْ، أوِ الوَصْفِ والتَّقْدِيمُ لِلْفاصِلَةِ، أوْ نَحْوُ ذَلِكَ لا لِلْحَصْرِ، و(ظَلَّتْ) عَطْفٌ عَلى (نُنَزِّلْ) ولا بُدَّ مِن تَأْوِيلِ أحَدِ الفِعْلَيْنِ بِما هو مِن نَوْعِ الآخَرِ؛ لِأنَّهُ - وإنْ صَحَّ عَطْفُ الماضِي عَلى المُضارِعِ - إلّا أنَّهُ هُنا غَيْرُ مُناسِبٍ، فَإنَّهُ لا يَتَرَتَّبُ الماضِي عَلى المُسْتَقْبَلِ بِالفاءِ التَّعْقِيبِيَّةِ أوِ السَّبَبِيَّةِ، ولا يُعْقَلُ ذَلِكَ والمَعْقُولُ عَكْسُهُ، وبِتَأْوِيلِ أحَدِ الفِعْلَيْنِ يُدْفَعُ ذَلِكَ، لَكِنِ اخْتارَ بَعْضُهم تَأْوِيلَ (ظَلَّتْ) بِـ(تَظَلُّ) وكَأنَّ العُدُولَ عَنْهُ لِيُؤْذِنَ الماضِي بِسُرْعَةِ الِانْفِعالِ، وأنَّ نُزُولَ الآيَةِ - لِقُوَّةِ سُلْطانِهِ وسُرْعَةِ تَرَتُّبِ ما ذُكِرَ عَلَيْهِ - كَأنَّهُ كانَ واقِعًا قَبْلَهُ، وبَعْضُهم تَأْوِيلَ (نُنَزِّلْ) بِـ(أنْزَلْنا) ولَعَلَّ وضْعَهُ مَوْضِعَهُ لِاسْتِحْضارِ صُورَةِ إنْزالِ تِلْكَ الآيَةِ العَظِيمَةِ المُلْجِئَةِ إلى الإيمانِ، وحُصُولُ خُضُوعِ رِقابِهِمْ عِنْدَ ذَلِكَ في ذِهْنِ السّامِعِ لِيَتَعَجَّبَ مِنهُ، فَتَأمَّلْ.
وقَرَأ طَلْحَةُ «فَتَظَلْ» بِفَكِّ الإدْغامِ والجَزْمِ، وضَعَّفَ الحَرِيرِيُّ في دُرَّةِ الغَوّاصِ الفَكَّ في مِثْلِ ذَلِكَ، ورَجَّحَ صاحِبُ الكَشْفِ القِراءَةَ بِأنَّها أبْلَغُ لِإفادَةِ الماضِي ما سَمِعْتَهُ آنِفًا.
هَذا، والظّاهِرُ أنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ إنْزالُ هَذِهِ الآيَةِ؛ لِأنَّ سُنَّةَ اللَّهِ تَعالى تَكْلِيفُ النّاسِ بِالإيمانِ مِن دُونِ إلْجاءٍ، نَعَمْ، إذا قِيلَ: المُرادُ: آيَةٌ مُذِلَّةٌ لَهم - كَما رُوِيَ عَنْ قَتادَةَ - جازَ أنْ يُقالَ بِتَحَقُّقٍ ذَلِكَ، ولَعَلَّ ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - كَما في البَحْرِ والكَشّافِ - مِن قَوْلِهِ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِينا وفي بَنِي أُمَيَّةَ، سَتَكُونُ لَنا عَلَيْهِمُ الدَّوْلَةُ فَتَذِلُّ أعْناقُهم بَعْدَ صُعُوبَةٍ، ويَلْحَقُهم هَوانٌ بَعْدَ عِزَّةٍ ناظِرٌ إلى هَذا، وعَنْ أبِي حَمْزَةَ الثُّمالِيِّ أنَّ الآيَةَ صَوْتٌ يُسْمَعُ مِنَ السَّماءِ في نِصْفِ شَهْرِ رَمَضانَ، وتُخْرَجُ لَهُ العَواتِقُ مِنَ البُيُوتِ، وهَذا قَوْلٌ بِتَحَقُّقِ الإنْزالِ بَعْدُ، وكَأنَّ ذَلِكَ زَمانَ المَهْدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، ومِن صِحَّةِ ما ذُكِرَ مِنَ الأخْبارِ في القَلْبِ شَيْءٌ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
{"ayah":"إِن نَّشَأۡ نُنَزِّلۡ عَلَیۡهِم مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ ءَایَةࣰ فَظَلَّتۡ أَعۡنَـٰقُهُمۡ لَهَا خَـٰضِعِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











