الباحث القرآني

﴿لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ﴾ أيْ: قاتِلُ إيّاها مِن شِدَّةِ الوَجْدِ كَما قالَ اللَّيْثَ، وأنْشَدَ قَوْلَ الفَرَزْدَقَ:(p-59) ؎ألا أيُّهَذا الباخِعُ الوَجْدُ نَفْسَهُ لِشَيْءٍ نَحَّتْهُ عَنْ يَدَيْهِ المُقادِرُ وقالَ الأخْفَشُ والفَرّاءُ: يُقالُ: بَخَعَ يَبْخَعُ بَخْعًا وبُخُوعًا أيْ أُهْلِكَ مِن شِدَّةِ الوَجْدِ، وأصْلُهُ الجُهْدُ، ومِنهُ قَوْلُ عائِشَةَ في عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما -: بَخَعَ الأرْضَ، أيْ: جَهَدَها حَتّى أخَذَ ما فِيها مِن أمْوالِ المُلُوكِ، وقالَ الكِسائِيُّ: بَخَعَ الأرْضَ بِالزِّراعَةِ جَعَلَها ضَعِيفَةً بِسَبَبِ مُتابَعَةِ الحِراثَةِ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ - وتَبِعَهُ المُطَرِّزِيُّ -: أصْلُ البَخْعِ أنْ تَبْلُغَ بِالذَّبْحِ البِخاعَ - بِكَسْرِ الباءِ - وهو عِرْقٌ مُسْتَبْطِنُ الفَقارَ، وذَلِكَ أقْصى حَدِّ الذَّبْحِ، ولَمْ يَطَّلِعْ عَلى ذَلِكَ ابْنُ الأثِيرِ - مَعَ مَزِيدِ بَحْثِهِ - ولا ضَيْرَ في ذَلِكَ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وقَتادَةُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعالى -: «باخِعُ نَفْسِكَ» بِالإضافَةِ عَلى خِلافِ الأصْلِ، فَإنَّ الأصْلَ في اسْمِ الفاعِلِ إذا اسْتَوْفى شُرُوطَ العَمَلِ أنْ يَعْمَلَ عَلى ما أشارَ إلَيْهِ سِيبَوَيْهِ في الكِتابِ، وقالَ الكِسائِيُّ: العَمَلُ والإضافَةُ سَواءٌ، وذَهَبَ أبُو حَيّانَ إلى أنَّ الإضافَةَ أحْسَنُ مِنَ العَمَلِ، ولَعَلَّ في مِثْلِ هَذا المَوْضِعِ لِإشْفاقِ المُتَكَلِّمِ، ولَمّا اسْتَحالَ في حَقِّهِ سُبْحانَهُ جَعَلُوهُ مُتَوَجِّهًا إلى المُخاطَبِ، ولَمّا كانَ غَيْرَ واقِعٍ مِنهُ أيْضًا قالُوا: المُرادُ الأمْرُ بِهِ لِدَلالَةِ الإنْكارِ المُسْتَفادِ مِن سَوْقِ الكَلامِ عَلَيْهِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: أشْفِقْ عَلى نَفْسِكَ أنْ تَقْتُلَها وجْدًا وحَسْرَةً عَلى ما فاتَكَ مِن إسْلامِ قَوْمِكَ، وقالَ العَسْكَرِيُّ: هي في مِثْلِ هَذا المَوْضِعِ مَوْضُوعَةٌ مَوْضِعَ النَّهْيِ، والمَعْنى: لا تَبْخَعْ نَفْسَكَ، وقِيلَ: وُضِعَتْ مَوْضِعَ الِاسْتِفْهامِ، والتَّقْدِيرُ: هَلْ أنْتَ باخِعٌ، وحُكِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ إلّا أنَّهُ قالَ: المُرادُ: الإنْكارُ، أيْ: لا تَكُنْ باخِعًا نَفْسَكَ ﴿ألا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ تَعْلِيلٌ لِلْبَخْعِ، ولَمّا لَمْ يَصِحَّ كَوْنُ عَدَمِ كَوْنِهِمْ في المُسْتَقْبَلِ مُؤْمِنِينَ - كَما يُفِيدُهُ ظاهِرُ الكَلامِ - عِلَّةً لِذَلِكَ؛ لِعَدَمِ المُقارَنَةِ - والعِلَّةُ يَنْبَغِي أنْ تُقارِنَ المَعْلُولَ - قَدَّرُوا (خِيفَةَ) فَقالُوا: خِيفَةَ أنْ لا يُؤْمِنُوا بِذَلِكَ الكِتابِ المُبِينِ، ومِنَ الأجِلَّةِ مَن لَمْ يُقَدِّرْ ذَلِكَ؛ بِناءً عَلى أنَّ المُرادَ اسْتِمْرارُهم عَلى عَدَمِ قَبُولِ الإيمانِ بِذَلِكَ الكِتابِ؛ لِأنَّ كَلِمَةَ كانَ لِلِاسْتِمْرارِ، وصِيغَةَ الِاسْتِقْبالِ لِتَأْكِيدِهِ، وأُرِيدَ اسْتِمْرارُ النَّفْيِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ الكَوْنُ بِمَعْنى الصِّحَّةِ، والمَعْنى: لِامْتِناعِ إيمانِهِمْ، والقَوْلُ بِأنَّ فِعْلَ الكَوْنِ أُتِيَ بِهِ لِأجْلِ الفاصِلَةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب