﴿إِلَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَذَكَرُوا۟ ٱللَّهَ كَثِیرࣰا وَٱنتَصَرُوا۟ مِنۢ بَعۡدِ مَا ظُلِمُوا۟ۗ وَسَیَعۡلَمُ ٱلَّذِینَ ظَلَمُوۤا۟ أَیَّ مُنقَلَبࣲ یَنقَلِبُونَ﴾ [الشعراء ٢٢٧]
﴿إلا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ وذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وانْتَصَرُوا مِن بَعْدِ ما ظُلِمُوا﴾ اسْتِثْناءٌ لِلشُّعَراءِ المُؤْمِنِينَ الصّالِحِينَ الَّذِينَ يُكْثِرُونَ ذِكْرَ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - ويَكُونُ أكْثَرُ أشْعارِهِمْ في التَّوْحِيدِ والثَّناءِ عَلى اللَّهِ - سُبْحانَهُ وتَعالى - والحَثِّ عَلى الطّاعَةِ والحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ، والزُّهْدِ في الدُّنْيا، والتَّرْهِيبِ عَنِ الرُّكُونِ إلَيْها، والِاغْتِرارِ بِزَخارِفِها، والِافْتِتانِ بِمَلاذِّها الفانِيَةِ، والتَّرْغِيبِ فِيما عِنْدَ اللَّهِ تَعالى، ونَشْرِ مَحاسِنِ رَسُولِهِ ﷺ ومَدْحِهِ وذِكْرِ مُعْجِزاتِهِ؛ لِيَتَغَلْغَلَ حُبُّهُ في سُوَيْداءِ قُلُوبِ السّامِعِينَ، وتَزْدادَ رَغَباتُهم في اتِّباعِهِ، ونَشْرِ مَدائِحِ آلِهِ وأصْحابِهِ وصُلَحاءِ أُمَّتِهِ لِنَحْوِ ذَلِكَ، ولَوْ وقَعَ مِنهم في بَعْضِ الأوْقاتِ هَجْوٌ وقَعَ بِطَرِيقِ الِانْتِصارِ مِمَّنْ هَجاهم مِن غَيْرِ اعْتِداءٍ ولا زِيادَةٍ، كَما يُشِيرُ إلَيْهِ قِراءَةُ بَعْضِهِمْ
«وانْتَصَرُوا بِمِثْلِ ما ظُلِمُوا».
وقِيلَ: المُرادُ بِالمُسْتَثْنَيْنَ شُعَراءُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كانُوا يُنافِحُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ويُكافِحُونَ هُجاةَ المُشْرِكِينَ، واسْتُدِلَّ لِذَلِكَ بِما أخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ قَتادَةَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في رَهْطٍ مِنَ الأنْصارِ هاجُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنهم كَعْبُ بْنُ مالِكٍ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَواحَةَ، وحَسّانُ بْنُ ثابِتٍ، وعَنِ السُّدِّيِّ نَحْوُهُ.
وبِما أخْرَجَ جَماعَةٌ عَنْ أبِي حَسَنٍ سالِمٍ البَرّادِ أنَّهُ قالَ: لَمّا نَزَلَتْ: (والشُّعَراءُ) الآيَةَ جاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَواحَةَ، وحَسّانُ بْنُ ثابِتٍ، وكَعْبُ بْنُ مالِكٍ وهم يَبْكُونَ فَقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ وهو يَعْلَمُ أنّا شُعَراءُ، هَلَكْنا، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى:
﴿إلا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلَخْ، فَدَعاهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَتَلاها عَلَيْهِمْ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ العِبْرَةَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لا لِخُصُوصِ السَّبَبِ.
وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدُويَهْ، وابْنُ عَساكِرَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - أنَّهُ قَرَأ قَوْلَهُ تَعالى:
﴿إلا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلى آخِرِ الصِّفاتِ فَقالَ: هم أبُو بَكْرٍ، وعُمَرُ، وعَلِيٌّ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَواحَةَ، ولَعَلَّهُ مِن بابِ الِاقْتِصارِ عَلى بَعْضِ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، فَقَدْ جاءَ عَنْهُ في بَعْضِ الرِّواياتِ ما يُشْعِرُ بِالعُمُومِ.
هَذا، واسْتُدِلَّ بِالآيَةِ عَلى ذَمِّ الشِّعْرِ والمُبالَغَةِ في المَدْحِ والهَجْوِ وغَيْرِهِما مِن فُنُونِهِ، وجَوازِهِ في الزُّهْدِ والأدَبِ ومَكارِمِ الأخْلاقِ، وجَوازِ الهَجْوِ لِمَن ظُلِمَ انْتِصارًا كَذا قِيلَ.
واعْلَمْ أنَّ الشِّعْرَ بابٌ مِنَ الكَلامِ حَسَنُهُ حَسَنٌ وقَبِيحُهُ قَبِيحٌ، وفي الحَدِيثِ:
««إنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً»».
وقَدْ سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ – الشِّعْرَ، وأجازَ عَلَيْهِ،
«وقالَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - لِحَسّانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ -: «اهْجُهم - يَعْنِي المُشْرِكِينَ - فَإنَّ رُوحَ القُدُسِ سَيُعِينُكَ»» وفي رِوايَةٍ
««اهْجُهم وجِبْرِيلُ مَعَكَ»».
وأخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ أنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أعانَ حَسّانًا عَلى مِدْحَتِهِ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - بِسَبْعِينَ بَيْتًا.
وأخْرَجَ أحْمَدُ، والبُخارِيُّ في التّارِيخِ، وأبُو يَعْلى، وابْنُ مَرْدُويَهْ،
«عَنْ كَعْبِ بْنِ مالِكٍ أنَّهُ قالَ لِلنَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: إنَّ اللَّهَ تَعالى أنْزَلَ في الشُّعَراءِ ما أنْزَلَ فَكَيْفَ تَرى فِيهِ؟ فَقالَ: «إنَّ المُؤْمِنَ يُجاهِدُ بِسَيْفِهِ ولِسانِهِ، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَكَأنَّ ما تَرْمُونَهم بِهِ نَضْحَ النَّبْلِ»».
وأخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ
«قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - لَيْلَةً وهم في سَفَرٍ: «أيْنَ حَسّانُ بْنُ ثابِتٍ فَقالَ: لَبَّيْكَ يا رَسُولَ اللَّهِ وسَعْدَيْكَ، قالَ: خُذْ فَجَعَلَ يُنْشِدُهُ ويُصْغِي إلَيْهِ حَتّى فَرَغَ مِن نَشِيدِهِ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: لَهَذا أشُدُّ عَلَيْهِمْ مِن وقْعِ النَّبْلِ»».
ويُرْوى عَنْ هِشامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها -
«أنَّ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - بَنِي لِحَسّانَ بْنِ ثابِتٍ مِنبَرًا في المَسْجِدِ يُنْشِدُ عَلَيْهِ الشِّعْرَ».
وأخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ – مَرْفُوعًا:
«الشُّعَراءُ الَّذِينَ يَمُوتُونَ في الإسْلامِ يَأْمُرُهُمُ اللَّهُ تَعالى أنْ يَقُولُوا شِعْرًا يَتَغَنّى بِهِ الحُورُ العِينُ لِأزْواجِهِنَّ في الجَنَّةِ، والَّذِينَ ماتُوا في الشِّرْكِ يَدْعُونَ بِالوَيْلِ والثُّبُورِ في النّارِ».
وقَدْ أنْشَدَ كُلٌّ مِنَ الخُلَفاءِ الرّاشِدِينَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم - أجْمَعِينَ الشِّعْرَ، وكَذا كَثِيرٌ مِنَ الصَّحابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم - فَمِن شِعْرِ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ:
أمِن طَيْفِ سَلْمى بِالبِطاحِ الدَّمائِثِ أرِقْتَ وأمْرٍ في العَشِيرَةِ حادِثِ
تَرى مِن لُؤَيٍّ فِرْقَةً لا يَصُدُّها ∗∗∗ عَنِ الكُفْرِ تَذْكِيرٌ ولا بَعْثُ باعِثِ
رَسُولٌ أتاهم صادِقٌ فَتَكَذَّبُوا ∗∗∗ عَلَيْهِ وقالُوا لَسْتَ فِينا بِماكِثِ
ولَمّا دَعَوْناهم إلى الحَقِّ أدْبَرُوا ∗∗∗ وهَرُّوا هَرِيرَ المُجْحِراتِ اللَّواهِثِ
فَكَمْ قَدْ مَثَّلْنا فِيهِمْ بِقَرابَةٍ ∗∗∗ وتَرْكُ التُّقى شَيْءٌ لَهم غَيْرُ كارِثِ
فَإنْ يَرْجِعُوا عَنْ كُفْرِهِمْ وعُقُوقِهِمْ ∗∗∗ فَما طَيِّباتُ الحِلِّ مِثْلُ الخَبائِثِ
وإنْ يَرْكَبُوا طُغْيانَهم وضَلالَهم ∗∗∗ فَلَيْسَ عَذابُ اللَّهِ عَنْهم بِلابِثِ
ونَحْنُ أُناسٌ مِن ذُؤابَةِ غالِبٍ ∗∗∗ لَنا العِزُّ مِنها في الفُرُوعِ الأثائِثِ
فَأوْلى بِرَبِّ الرّاقِصاتِ عَشِيَّةً ∗∗∗ حَراجِيجَ تُحْدِي في السَّرِيحِ الرَّثائِثِ
كَأُدْمِ ظِباءٍ حَوْلَ مَكَّةَ عُكَّفٍ ∗∗∗ يَرِدْنَ حِياضَ البِئْرِ ذاتِ النَّبائِثِ
لَئِنْ لَمْ يَفِيقُوا عاجِلًا مِن ضَلالِهِمْ ∗∗∗ ولَسْتُ إذا آلَيْتُ يَوْمًا بِحانِثِ
لَتَبْتَدِرَنَّهم غارَةٌ ذاتُ مَصْدَقٍ ∗∗∗ تُحَرِّمُ أطْهارَ النِّساءِ الطَّوامِثِ
تُغادِرُ قَتْلى يَعْصِبُ الطَّيْرُ حَوْلَهم ∗∗∗ ولا تَرْأفُ الكُفّارُ رَأفَ ابْنِ حارِثِ
فَأبْلِغْ بَنِي سَهْمٍ لَدَيْكَ رِسالَةً ∗∗∗ وكُلَّ كَفُورٍ يَبْتَغِي الشَّرَّ باحِثِ
فَإنْ تَشَعَّثُوا عَرْضِي عَلى سُوءِ رَأْيِكم ∗∗∗ فَإنِّي مِن أعْراضِكم غَيْرُ شاعِثِ
ومِن شِعْرِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - وكانَ مِن أنْقَدِ أهْلِ زَمانِهِ لِلشِّعْرِ وأنْفَذِهِمْ فِيهِ مَعْرِفَةً:
تَوَعَّدَنِي كَعْبٌ ثَلاثًا يَعِدُّها ∗∗∗ ولا شَكَّ أنَّ القَوْلَ ما قالَهُ كَعْبُ
وما بِي خَوْفُ المَوْتِ إنِّي لَمَيِّتٌ ∗∗∗ ولَكِنَّ خَوْفَ الذَّنْبِ يَتْبَعُهُ الذَّنْبُ
وقَوْلُهُ ويُرْوى لِلْأعْوَرِ الثَّنِيِّ:
هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإنَّ الأُمُورَ ∗∗∗ بِكَفِّ الإلَهِ مَقادِيرُها
فَلَيْسَ بِآتِيكَ مَنهِيُّها ∗∗∗ ولا قاصِرٌ عَنْكَ مَأْمُورُها
ومِنهُ وقَدْ لَبِسَ بُرْدًا جَدِيدًا فَنَظَرَ النّاسُ إلَيْهِ، ويُرْوى لِوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ مِن أبْياتٍ:
لا شَيْءَ مِمّا تَرى تَبْقى بِشاشَتُهُ ∗∗∗ يَبْقى الإلَهُ ويَفْنى المالُ والوَلَدُ
لَمْ تُغْنِ عَنْ هُرْمُزَ يَوْمًا خَزائِنُهُ ∗∗∗ والخُلْدَ حاوَلَهُ عادٌ فَما خَلَدُوا
ولا سُلَيْمانُ إذْ تَجْرِي الرِّياحُ لَهُ ∗∗∗ والإنْسُ والجِنُّ فِيما بَيْنَها تَرِدُ
حَوْضٌ هُنالِكَ مَوْرُودٌ بِلا كَذِبٍ ∗∗∗ لا بُدَّ مِن ورْدِهِ يَوْمًا كَما ورَدُوا
ومِن شِعْرِ عُثْمانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ:
غِنى النَّفْسِ يُغْنِي النَّفْسَ حَتّى يَكُفَّها ∗∗∗ وإنَّ عَضَّها حَتّى يَضُرَّ بِها الفَقْرُ
ومِن شِعْرِ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - وكانَ مُجَوِّدًا حَتّى قِيلَ: إنَّهُ أشْعَرُ الخُلَفاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم - يَذْكُرُ هَمْدانَ ونَصْرَهم إيّاهُ في صِفِّينَ:
ولَمّا رَأيْتُ الخَيْلَ تُزْحَمُ بِالقَنا ∗∗∗ نَواصِيها حُمْرُ النُّحُورِ دَوامِي
وأعْرَضَ نَقَعٌ في السَّماءِ كَأنَّهُ ∗∗∗ عَجاجَةُ دَجْنٍ مُلْبَسٌ بِقَتامِ
ونادى ابْنُ هِنْدٍ في الكُلاعِ وحِمْيَرَ ∗∗∗ وكِنْدَةَ في لَخْمٍ وحَيِّ جُذامِ
تَيَمَّمْتُ هَمْدانَ الَّذِينَ هم هم ∗∗∗ إذا نابَ دَهْرٌ جُنَّتِي وسِهامِي
فَجاوَبَنِي مِن خَيْلِ هَمْدانَ عُصْبَةٌ ∗∗∗ فَوارِسُ مِن هَمْدانَ غَيْرُ لِئامِ
فَخاضُوا لِظاها واسْتَطارُوا شَرارَها ∗∗∗ وكانُوا لَدى الهَيْجا كَشُرْبِ مَدامِ
فَلَوْ كُنْتُ بَوّابًا عَلى بابِ جَنَّةٍ ∗∗∗ لَقُلْتُ لِهَمْدانَ ادْخُلُوا بِسَلامِ
وقَدْ جَمَعُوا ما نُسِبَ إلَيْهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - مِنَ الشِّعْرِ في دِيوانٍ كَبِيرٍ، ولا يَصِحُّ مِنهُ إلّا اليَسِيرُ.
ومِن شِعْرِ ابْنِهِ الحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - وقَدْ خَرَجَ عَلى أصْحابِهِ مُخْتَضِبًا:
نَسُودُ أعْلاها وتَأْبى أُصُولُها ∗∗∗ فَلَيْتَ الَّذِي يَسُودُ مِنها هو الأصْلُ
ومِن شِعْرِ الحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - وقَدْ عاتَبَهُ أخُوهُ الحَسَنُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - في امْرَأتِهِ:
لَعَمْرُكَ إنَّنِي لَأُحِبُّ دارًا ∗∗∗ تَحُلُّ بِها سَكِينَةُ والرَّبابُ
أُحِبُّهُما وأبْذُلُ جُلَّ مالِي ∗∗∗ ولَيْسَ لِلائِمِي عِنْدِي عِتابُ
ومِن شِعْرِ فاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها - قالَتْهُ يَوْمَ وفاةِ أبِيها عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ:
ماذا عَلى مَن شَمَّ تُرْبَةَ أحْمَدَ ∗∗∗ أنْ لا يَشُمَّ مَدى الزَّمانِ غَوالِيا
صَبَّتْ عَلَيَّ مَصائِبَ لَوْ أنَّها ∗∗∗ صُبَّتْ عَلى الأيّامِ صِرْنَ لَيالِيا
ومِن شِعْرِ العَبّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - يَوْمَ حُنَيْنٍ يَفْتَخِرُ بِثُبُوتِهِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ:
ألا هَلْ أتى عُرْسِي مَكْرِي ومَوْقِفِي ∗∗∗ بِوادِي حُنَيْنٍ والأسِنَّةُ تُشْرَعُ
وقَوْلِي إذا ما النَّفْسُ جاشَتْ لَها قُرًى ∗∗∗ وهامٌ تَدَهْدى والسَّواعِدُ تُقْطَعُ
وكَيْفَ رَدَدْتُ الخَيْلَ وهي مُغِيرَةٌ ∗∗∗ بِزَوْراءَ تُعْطِي بِاليَدَيْنِ وتَمْنَعُ
نَصَرْنا رَسُولَ اللَّهِ في الحَرْبِ سَبْعَةٌ ∗∗∗ وقَدْ فَرَّ مَن قَدْ فَرَّ عَنْهُ فَأقْشَعُوا
ومِن شِعْرِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما:
إذا طارِقاتُ الهَمِّ ضاجَعَتِ الفَتى ∗∗∗ وأعْمَلَ فِكْرَ اللَّيْلِ واللَّيْلُ عاكِرُ
وباكَرَنِي في حاجَةٍ لَمْ يَجِدْ لَها ∗∗∗ سِوايَ ولا مِن نَكْبَةِ الدَّهْرِ ناصِرُ
فَرَّجْتُ بِمالِي هَمَّهُ مِن مَقامِهِ ∗∗∗ وزايَلَهُ هَمٌّ طَرُوقٌ مُسامِرُ
وكانَ لَهُ فَضْلٌ عَلَيَّ بِظَنِّهِ ∗∗∗ بِي الخَيْرَ أنِّي لِلَّذِي ظَنَّ شاكِرُ
وهَلُمَّ جَرّا إلى حَيْثُ شِئْتَ.
ولَيْسَ مِن بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ - كَما قِيلَ - رِجالًا ولا نِساءً مَن لَمْ يَقُلِ الشِّعْرَ حاشا النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - لِيَكُونَ ذَلِكَ أبْلَغَ في أمْرِهِ، عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ.
ولِأجِلَّةِ التّابِعِينَ ومَن بَعْدَهم مِن أئِمَّةِ الدِّينِ وفُقَهاءِ المُسْلِمِينَ شِعْرٌ كَثِيرٌ أيْضًا، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الشّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ:
ومُتْعِبِ العِيسِ مُرْتاحٍ إلى بَلَدٍ ∗∗∗ والمَوْتُ يَطْلُبُهُ في ذَلِكَ البَلَدِ
وضاحِكٍ والمَنايا فَوْقَ هامَتِهِ ∗∗∗ لَوْ كانَ يَعْلَمُ غَيْبًا ماتَ مَن كَمَدِ
مَن كانَ لَمْ يُؤْتَ عِلْمًا في بَقاءِ غَدٍ ∗∗∗ فَما يُفَكِّرُ في رِزْقٍ لِبَعْدِ غَدِ
والِاسْتِقْصاءُ في هَذا البابِ يَحْتاجُ إلى إفْرادِهِ بِكِتابٍ، وفِيما ذُكِرَ كِفايَةٌ.
وقَدْ مَدَحَهُ أيْضًا غَيْرُ واحِدٍ مِنَ الأجِلَّةِ، فَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - أنَّهُ كَتَبَ إلى أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ: مُرْ مَن قِبَلَكَ بِتَعَلُّمِ الشِّعْرِ فَإنَّهُ يَدُلُّ عَلى مَعالِي الأخْلاقِ، وصَوابِ الرَّأْيِ، ومَعْرِفَةِ الأنْسابِ، وعَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ -: الشِّعْرُ مِيزانُ العُقُولِ.
وكانَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - يَقُولُ: إذا قَرَأْتُمْ شَيْئًا مِن كِتابِ اللَّهِ تَعالى فَلَمْ تَعْرِفُوهُ فاطْلُبُوهُ في أشْعارِ العَرَبِ؛ فَإنَّ الشِّعْرَ دِيوانُ العَرَبِ.
وما أخْرَجَهُ أحْمَدُ، وابْنُ أبِي شَيْبَةَ، عَنْ أبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - قالَ:
«بَيْنَما نَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - إذْ عَرَضَ شاعِرٌ يَنْشُدُ فَقالَ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: «لَأنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أحَدِكم قَيْحًا خَيْرٌ مِن أنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا»» حَمَلَهُ الشّافِعِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - عَلى الشِّعْرِ المُشْتَمِلِ عَلى الفُحْشِ، ورُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها.
فَقَدْ أخْرَجَ الكَلْبِيُّ، عَنْ أبِي صالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، عَنْ عائِشَةَ أنَّهُ بَلَغَها أنَّ أبا هُرَيْرَةَ يَرْوِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -:
««لَأنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أحَدِكم قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِن أنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا»» مِنَ الشِّعْرِ الَّذِي هُجِيتُ بِهِ يَعْنِي نَفْسَهُ الشَّرِيفَةَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - ذَكَرَ ذَلِكَ المُرْشِدِيُّ في فَتاواهُ نَقْلًا عَنْ كِتابِ (بُسْتانِ الزّاهِدِينَ) ولا يَخْفى أنَّهُ يَبْعُدُ الحَمْلُ المَذْكُورُ لِلتَّعْبِيرِ بِـ(يَمْتَلِئَ) فَإنَّ الكَثِيرَ والقَلِيلَ مِمّا فِيهِ فُحْشٌ أوْ هَجْوٌ لِسَيِّدِ الخَلْقِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ – سَواءٌ.
وما أحْسَنَ قَوْلَ الماوَرْدِيِّ: الشِّعْرُ في كَلامِ العَرَبِ مُسْتَحَبٌّ ومُباحٌ ومَحْظُورٌ، فالمُسْتَحَبُّ ما حَذَّرَ مِنَ الدُّنْيا ورَغَّبَ في الآخِرَةِ، وحَثَّ عَلى مَكارِمِ الأخْلاقِ. والمُباحُ ما سَلِمَ مِن فُحْشٍ أوْ كَذِبٍ. والمَحْظُورُ نَوْعانِ: كَذِبٌ وفُحْشٌ، وهُما جَرْحٌ في قائِلِهِ، وأمّا مُنْشِدُهُ فَإنْ حَكاهُ اضْطِرارًا لَمْ يَكُنْ جَرْحًا أوِ اخْتِيارًا جُرِحَ.
وتَبِعَهُ عَلى ذَلِكَ الرُّويانِيُّ، وجَعَلَ الرُّويانِيُّ ما فِيهِ الهَجْوُ لِمُسْلِمٍ - سَواءٌ كانَ بِصِدْقٍ أوْ كَذِبٍ - مِنَ المَحْظُورِ أيْضًا، ووافَقَهُ جَماعَةٌ، إلّا أنَّ إثْمَ الصّادِقِ أخَفُّ مِن إثْمِ الكاذِبِ - كَما قالَ القَمُولِيُّ - وإثْمَ الحاكِي - عَلى ما قالَ الرّافِعِيُّ - دُونَ إثْمِ المُنْشِدِ.
وقالَ الأذْرَعِيُّ: لَيْسَ هَذا عَلى إطْلاقِهِ، بَلْ إذا اسْتَوى الحاكِي والمُنْشِدُ، أمّا إذا أنْشَدَهُ ولَمْ يُذِعْهُ فَأذاعَهُ الحاكِي فَإثْمُهُ أشَدُّ بِلا شَكٍّ، واحْتُرِزَ بِقَيْدِ المُسْلِمِ عَمّا فِيهِ الهَجْوُ لِكافِرٍ فَإنَّ فِيهِ تَفْصِيلًا.
وفَصَّلَ بَعْضُهم ما فِيهِ الهَجْوُ لِمُسْلِمٍ أيْضًا، وذَلِكَ أنَّ كَثِيرًا مِنَ العُلَماءِ أطْلَقُوا جَوازَ هَجْوِ الكافِرِ؛ اسْتِدْلالًا بِأمْرِهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - حَسّانًا ونَحْوَهُ بِهَجْوِ المُشْرِكِينَ، وقالَ بَعْضُهُمْ: مَحَلُّ ذَلِكَ الكُفّارُ عَلى العُمُومِ، وكَذا المُعِينُ الحَرْبِيُّ - مَيِّتًا كانَ أوْ حَيًّا - حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَرِيبٌ مَعْصُومٌ يَتَأذّى بِهِ، وأمّا الذِّمِّيُّ أوِ المُعاهَدُ أوِ الحَرْبِيُّ الَّذِي لَهُ قَرِيبٌ ذِمِّيٌّ أوْ مُسْلِمٌ يَتَأذّى بِهِ فَلا يَجُوزُ هَجْوُهُ - كَما قالَهُ الأذْرَعِيُّ وابْنُ العِمادِ وغَيْرُهُما - وقالُوا: إنَّ هَجْوَ حَسّانَ - وإنْ كانَ في مُعَيَّنٍ - لَكِنَّهُ في حَرْبِيٍّ، وعَلى التَّنَزُّلِ فَهو ذَبٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فَيَكُونُ مِنَ القُرَبِ، فَضْلًا عَنِ المُباحاتِ.
وألْحَقَ الغَزالِيُّ وتَبِعَهُ جَمْعٌ المُبْتَدِعَ بِالحَرْبِيِّ، فَيَجُوزُ هَجْوُهُ بِبِدْعَتِهِ لَكِنْ لِمَقْصِدٍ شَرْعِيٍّ كالتَّحْذِيرِ مِن جِهَتِهِ، وجَوَّزَ ابْنُ العِمادِ هَجْوَ المُرْتَدِّ دُونَ تارِكِ الصَّلاةِ والزّانِي المُحْصَنِ، وما قالَهُ في المُرْتَدِّ واضِحٌ؛ لِأنَّهُ كالحَرْبِيِّ بَلْ أقْبَحُ، وفي الأخِيرَيْنِ مَحَلُّهُ حَيْثُ لَمْ يَتَجاهَرْ، أمّا المُتَجاهِرُ بِفِسْقِهِ فَيَجُوزُ هَجْوُهُ بِما تَجاهَرَ بِهِ فَقَطْ؛ لِجَوازِ غَيْبَتِهِ بِذَلِكَ فَقَطْ.
وقالَ البَلْقِينِيُّ: الأرْجَحُ تَحْرِيمُ هَجْوِ المُتَجاهِرِ المَذْكُورِ لا لِقَصْدِ زَجْرِهِ؛ لِأنَّهُ قَدْ يَتُوبُ وتَبْقى وصْمَةُ الشِّعْرِ السّائِرِ عَلَيْهِ، ولا كَذَلِكَ الكافِرُ إذا أسْلَمَ.
ورُدَّ بِأنَّ مُجاهَرَتَهُ بِالمَعْصِيَةِ وعَدَمَ مُبالاتِهِ بِالنّاسِ وكَلامِهِمْ فِيهِ صَيَّراهُ غَيْرَ مُحْتَرَمٍ ولا مُراعًى فَهو المُهْدِرُ لِحُرْمَةِ نَفْسِهِ بِالنِّسْبَةِ لِما تَجاهَرَ بِهِ، فَلَمْ يُبالِ بِبَقاءِ تِلْكَ الوَصْمَةِ عَلَيْهِ.
نَعَمْ، لَوْ قِيلَ بِحُرْمَةِ إنْشادِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ إذا كانَ يَتَأذّى بِهِ هو أوْ قَرِيبُهُ المُسْلِمُ أوِ الذِّمِّيُّ، أوْ بَعْدَ مَوْتِهِ إذا كانَ يَتَأذّى بِهِ مَن ذُكِرَ لَمْ يَبْعُدْ.
وذَكَرَ جَماعَةٌ أنَّ مِن جُمْلَةِ المَحْظُورِ أيْضًا ما فِيهِ تَشْبِيبٌ بِغُلامٍ ولَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ مَعَ ذِكْرِ أنَّهُ يَعْشَقُهُ، أوْ بِامْرَأةٍ أجْنَبِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ - وإنْ لَمْ يَذْكُرْها بِفُحْشٍ - أوْ بِامْرَأةٍ مُبْهَمَةٍ مَعَ ذِكْرِها بِالفُحْشِ، ولَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ إنْشاءِ ذَلِكَ وإنْشادِهِ، واعْتَبَرَ بَعْضُهُمُ التَّعْيِينَ في الغُلامِ كالمَرْأةِ فَلا يَحْرُمُ التَّشْبِيبُ بِمُبْهَمٍ.
قالَ الأذْرَعِيُّ: وهو الأقْرَبُ، والأوَّلُ ضَعِيفٌ جِدًّا، وقالَ أيْضًا: يَجِبُ القَطْعُ بِأنَّهُ إذا شَبَّبَ بِحَلِيلَتِهِ ولَمْ يَذْكُرْ سِوى المَحَبَّةِ والشَّوْقِ أوْ ذَكَرَ شَيْئًا مِنَ التَّشْبِيهاتِ الظّاهِرَةِ أنَّهُ لا يَضُرُّ، وكَذا إذا ذَكَرَ امْرَأةً مَجْهُولَةً ولَمْ يَذْكُرْ سُوءًا.
وفِي الإحْياءِ في حُرْمَةِ التَّشْبِيبِ بِنَحْوِ وصْفِ الخُدُودِ والأصْداغِ وسائِرِ أوْصافِ النِّساءِ نَظَرٌ، والصَّحِيحُ أنَّهُ لا يَحْرُمُ نَظْمُهُ ولا إنْشادُهُ بِصَوْتٍ وغَيْرِ صَوْتٍ، وعَلى المُسْتَمِعِ أنْ يُنْزِلَهُ عَلى امْرَأةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَإنْ نَزَّلَهُ عَلى حَلِيلَتِهِ جازَ، أوْ عَلى غَيْرِها فَهو العاصِي بِالتَّنْزِيلِ، ومَن هَذا وصْفُهُ فَيَنْبَغِي أنْ يَجْتَنِبَ السَّماعَ، وذَكَرَ بَعْضُ الفُضَلاءِ أنَّ ما يَحْرُمُ إنْشاؤُهُ قَدْ لا تَحْرُمُ رِوايَتُهُ؛ فَإنَّ المَغازِيَ رُوِيَ فِيها قَصائِدُ الكُفّارِ الَّذِينَ هاجُوا فِيها الصَّحابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم - ولَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أحَدٌ.
وقَدْ رُوِيَ أنَّهُ ﷺ أذِنَ في الشِّعْرِ الَّذِي تَقاوَلَتْ بِهِ الشُّعَراءُ في يَوْمَيْ بَدْرٍ وأُحُدٍ وغَيْرِهِما إلّا قَصِيدَةَ ابْنِ أبِي الصَّلْتِ الحائِيَّةَ، انْتَهى.
قالَ الأذْرَعِيُّ: ولا شَكَّ في هَذا إذا لَمْ يَكُنْ فِيهِ فُحْشٌ ولا أذًى لِحَيٍّ ولا مَيِّتٍ مِنَ المُسْلِمِينَ ولَمْ تَدْعُ حاجَةٌ إلَيْهِ، وقَدْ ذَمَّ العُلَماءُ جَرِيرًا والفَرَزْدَقَ في تَهاجِيهِما، ولَمْ يَذُمُّوا مَنِ اسْتَشْهَدَ بِذَلِكَ عَلى إعْرابٍ وغَيْرِهِ مِن عِلْمِ اللِّسانِ، ويَجِبُ حَمْلُ كَلامِ الأئِمَّةِ عَلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا هو عادَةُ أهْلِ اللَّعِبِ والبِطالَةِ، وعَلى إنْشادِ شِعْرِ شُعَراءِ العَصْرِ إذا كانَ إنْشاؤُهُ حَرامًا؛ إذْ لَيْسَ فِيهِ إلّا أذًى أوْ وقِيعَةٌ في الأحْياءِ، أوْ إساءَةُ الأحْياءِ في أمْواتِهِمْ، أوْ ذِكْرُ مَساوِئِ الأمْواتِ وغَيْرُ ذَلِكَ، ولَيْسَ مِمّا يُحْتَجُّ بِهِ في اللُّغَةِ ولا غَيْرِها فَلَمْ يَبْقَ إلّا اللَّعِبُ بِالأعْراضِ، وزادَ بَعْضٌ حُرْمَةَ شِعْرٍ فِيهِ تَعْرِيضٌ، وجَعَلَ التَّعْرِيضَ في الهَجْوِ كالتَّصْرِيحِ، ولَهُ وجْهٌ وجِيهٌ.
وقالَ آخَرُ: إنَّ ما فِيهِ فَخْرٌ مَذْمُومٌ وقَلِيلُهُ كَكَثِيرِهِ، والحَقُّ أنَّ ذَلِكَ إنْ تَضَمَّنَ غَرَضًا شَرْعِيًّا فَلا بَأْسَ بِهِ، ولِلسَّلَفِ شِعْرٌ كَثِيرٌ مِن ذَلِكَ، وقَدْ تَقَدَّمَ لَكَ بَعْضٌ مِنهُ، وحَمَلَ الأكْثَرُونَ الخَبَرَ السّابِقَ عَلى ما إذا غَلَبَ عَلَيْهِ الشِّعْرُ ومَلَكَ نَفْسَهُ حَتّى اشْتَغَلَ بِهِ عَنِ القُرْآنِ والفِقْهِ ونَحْوِهِما ولِذَلِكَ ذُكِرَ الِامْتِلاءُ، والحاصِلُ أنَّ المَذْمُومَ امْتِلاءُ القَلْبِ مِنَ الشِّعْرِ بِحَيْثُ لا يَتَّسِعُ لِغَيْرِهِ ولا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ.
ولَيْسَ في الخَبَرِ ذَمُّ إنْشائِهِ ولا إنْشادِهِ لِحاجَةٍ شَرْعِيَّةٍ وإلّا لَوَقَعَ التَّعارُضُ بَيْنَهُ وبَيْنَ الأخْبارِ الصَّحِيحَةِ الدّالَّةِ عَلى حِلِّ ذَلِكَ، وهي أكْثَرُ مِن أنْ تُحْصى، وأبْعَدُ مِن أنْ تَقْبَلَ التَّأْوِيلِ كَما لا يَخْفى.
وما رُوِيَ عَنِ الإمامِ الشّافِعِيِّ مِن قَوْلِهِ:
ولَوْلا الشِّعْرُ بِالعُلَماءِ يُزْرِي ∗∗∗ لَكُنْتُ اليَوْمَ أشْعُرَ مَن لَبِيدِ
مَحْمُولٌ عَلى نَحْوِ ما حَمَلَ الأكْثَرُونَ الخَبَرَ عَلَيْهِ، وإلّا فَما قالَهُ شِعْرٌ، وفي مَعْناهُ قَوْلُ شَيْخِنا عَلاءِ الدِّينِ عَلِيٍّ أفَنْدِي - تَغَمَّدَهُ اللَّهُ تَعالى بِرَحْمَتِهِ - مُخاطِبًا خاتِمَةَ الوُزَراءِ في الزَّوْراءِ داوُدَ باشا مِن أبْياتٍ:
ولَوْ لِداعِيهِ يَرْضى الشِّعْرَ مَنقَبَةً ∗∗∗ لَقُمْتُ ما بَيْنَ مُنْشِيهِ ومُنْشِدِهِ
هَذا، وسَيَأْتِي - إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى - كَلامٌ يَتَعَلَّقُ بِهَذا البَحْثِ أيْضًا عِنْدَ الكَلامِ في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿وما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وما يَنْبَغِي لَهُ﴾ .
ومِنَ اللَّطائِفِ أنَّ سُلَيْمانَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ سَمِعَ قَوْلَ الفَرَزْدَقَ:
فَبِتْنَ بِجانِبِي مُصَرَّعاتٍ ∗∗∗ وبِتُّ أفُضُّ أغْلاقَ الخِتامِ
فَقالَ لَهُ: قَدْ وجَبَ عَلَيْكَ الحَدُّ، فَقالَ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، قَدْ دَرَأ اللَّهُ تَعالى عَنِّي الحَدَّ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ:
﴿وأنَّهم يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ﴾ .
﴿وسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ ووَعِيدٌ أكِيدٌ لِما في (سَيَعْلَمُ) مِن تَهْوِيلِ مُتَعَلَّقِهِ، وفي (الَّذِينَ ظَلَمُوا) مِنَ الإطْلاقِ والتَّعْمِيمِ، وقَدْ كانَ السَّلَفُ الصّالِحُ يَتَواعَظُونَ بِها، وخَتَمَ بِها أبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - وصِيَّتَهُ حِينَ عَهِدَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - وذَلِكَ أنَّهُ أمَرَ عُثْمانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - أنْ يَكْتُبَ في مَرَضِ مَوْتِهِ حِينَئِذٍ:
﷽
هَذا ما عَهِدَ بِهِ أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي قُحافَةَ عِنْدَ آخِرِ عَهْدِهِ بِالدُّنْيا وأوَّلِ عَهْدِهِ بِالآخِرَةِ في الحالِ الَّتِي يُؤْمَنُ فِيها الكافِرُ، ويُتَّقى فِيها الفاجِرُ، ويُصَدَّقُ فِيها الكاذِبُ: إنِّي قَدِ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكم عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ، فَإنْ يَعْدِلْ فَذاكَ ظَنِّي بِهِ ورَجائِي فِيهِ، وإنْ يَجُرْ ويُبَدِّلْ فَلا عِلْمَ لِي بِالغَيْبِ، والخَيْرَ أرَدْتُ، ولِكُلِّ امْرِئٍ ما اكْتَسَبَ
﴿وسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ .
وتَفْسِيرُ الظُّلْمِ بِالكُفْرِ - وإنْ كانَ شائِعًا في عِدَّةِ مَواضِعَ مِنَ القُرْآنِ الكَرِيمِ - إلّا أنَّ الأنْسَبَ - عَلى ما قِيلَ - هُنا الإطْلاقُ لِمَكانِ قَوْلِهِ تَعالى: (مِن بَعْدِ ما ظُلِمُوا) وقالَ الطِّيبِيُّ: سِياقُ الآيَةِ بَعْدَ ذِكْرِ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ آذَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وما لَقِيَ مِنهم مَنِ الشَّدائِدِ - كَما مَرَّ مِن أوَّلِ السُّورَةِ - يُؤَيِّدُ تَفْسِيرَ الظُّلْمِ بِالكُفْرِ.
ورَوى مُحْيِي السُّنَّةِ: (الَّذِينَ ظَلَمُوا) أشْرَكُوا وهَجَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ أرْقَمَ، عَنِ الحَسَنِ:
«أيَّ مُنْفَلَتٍ يَنْفَلِتُونَ» بِالفاءِ والتّاءِ الفَوْقِيَّةِ مِنَ الِانْفِلاتِ بِمَعْنى النَّجاةِ، والمَعْنى إنَّ الظّالِمِينَ يَطْمَعُونَ أنْ يَنْفَلِتُوا مِن عَذابِ اللَّهِ تَعالى، وسَيَعْلَمُونَ أنْ لَيْسَ لَهم وجْهٌ مِن وُجُوهِ الِانْفِلاتِ (وسَيَعْلَمُ) هُنا مُعَلَّقَةٌ، و(أيَّ) اسْتِفْهامٌ مُضافٌ إلى (مُنْقَلَبٍ) والنّاصِبُ لَهُ (يَنْقَلِبُونَ) والجُمْلَةُ سادَّةٌ مَسَدَّ المَفْعُولَيْنِ، كَذا في البَحْرِ.
وقالَ أبُو البَقاءِ: (أيَّ مُنْقَلَبٍ) مَصْدَرٌ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، والعامِلُ (يَنْقَلِبُونَ) أيْ: يَنْقَلِبُونَ انْقِلابًا، أيَّ مُنْقَلَبٍ، ولا يَعْمَلُ فِيهِ (يَعْلَمُ) لِأنَّ الِاسْتِفْهامَ لا يَعْمَلُ فِيهِ ما قَبْلَهُ، وتُعُقِّبَ بِأنَّهُ تَخْلِيطٌ؛ لِأنَّ أيًّا إذا وُصِفَ بِها لَمْ تَكُنِ اسْتِفْهامًا، وقَدْ صَرَّحُوا بِأنَّ المَوْصُوفَ بِها قَسِيمُ الِاسْتِفْهامِيَّةِ، وتَحْقِيقُ انْقِسامِ أيٍّ يُطْلَبُ مِن كُتُبِ النَّحْوِ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
* * *ومِمّا قِيلَ في بَعْضِ الآياتِ مِن بابِ الإشارَةِ:
(طسم) قالَ الجُنَيْدُ: الطّاءُ طَرَبُ التّائِبِينَ في مَيْدانِ الرَّحْمَةِ، والسِّينُ سُرُورُ العارِفِينَ في مَيْدانِ الوَصْلَةِ، والمِيمُ مَقامُ المُحِبِّينَ في مَيْدانِ القُرْبَةِ.
وقِيلَ: الطّاءُ طَهارَةُ القَدَمِ مِنَ الحَدَثانِ، والسِّينُ سَناءُ صِفاتِهِ تَعالى الَّتِي تُكْشَفُ في مَرايا البُرْهانِ، والمِيمُ مَجْدُهُ سُبْحانَهُ الَّذِي ظَهَرَ بِوَصْفِ البَهاءِ في قُلُوبِ أهْلِ العِرْفانِ.
وقِيلَ: الطّاءُ طَهارَةُ قَلْبِ نَبِيِّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - عَنْ تَعَلُّقاتِ الكَوْنَيْنِ، والسِّينُ سِيادَتُهُ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - عَلى الأنْبِياءِ والمُرْسَلِينَ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - والمِيمُ مُشاهَدَتُهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - جَمالَ رَبِّ العالَمِينَ.
وقِيلَ: الطّاءُ شَجَرَةُ طُوبى، والسِّينُ سِدْرَةُ المُنْتَهى، والمِيمُ مُحَمَّدٌ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وقِيلَ غَيْرَ ذَلِكَ.
﴿لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ ألا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ إلَخْ ... فِيهِ إشارَةٌ إلى كَمالِ شَفَقَتِهِ ﷺ عَلى أُمَّتِهِ، وأنَّ الحِرْصَ عَلى إيمانِ الكافِرِ لا يَمْنَعُ سَوابِقَ الحِكَمِ.
﴿وإذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أنِ ائْتِ القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ ﴿قَوْمَ فِرْعَوْنَ ألا يَتَّقُونَ﴾ إلى آخِرِ القِصَّةِ فِيهِ إشارَةٌ إلى حُسْنِ التَّعاضُدِ في المَصالِحِ الدِّينِيَّةِ، والتَّلَطُّفِ بِالضّالِّ في إلْزامِهِ بِالحُجَجِ القَطْعِيَّةِ، وأنَّهُ لا يَنْبَغِي عَدَمُ الِاحْتِفالِ بِمَن رَبَّيْتَهُ صَغِيرًا ثُمَّ رَأيْتَهُ وقَدْ مَنَحَهُ اللَّهُ تَعالى ما مَنَحَهُ مَن فَضْلِهِ كَبِيرًا.
وقالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ فِيهِ إشارَةً إلى ما في الأنْفُسِ، وجَعَلَ مُوسى إشارَةً إلى مُوسى القَلْبِ، وفِرْعَوْنَ إشارَةً إلى فِرْعَوْنَ النَّفْسِ، وقَوْمَهُ إشارَةً إلى الصِّفاتِ النَّفْسانِيَّةِ، وبَنِي إسْرائِيلَ إشارَةً إلى الصِّفاتِ الرُّوحانِيَّةِ، والفِعْلَةَ إشارَةً إلى قَتْلِ قِبْطِيِّ الشَّهْوَةِ، والعَصا إشارَةً إلى عَصا الذِّكْرِ، أعْنِي (لا إلَهَ إلّا اللَّهُ) واليَدَ إشارَةً إلى يَدِ القُدْرَةِ، وكَوْنَها بَيْضاءَ إشارَةً إلى كَوْنِها مُؤَيَّدَةً بِالتَّأْيِيدِ الإلَهِيِّ، والنّاظِرِينَ إشارَةً إلى أرْبابِ الكَشْفِ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ بِنُورِ اللَّهِ تَعالى، والسَّحَرَةَ إشارَةً إلى الأوْصافِ البَشَرِيَّةِ والأخْلاقِ الرَّدِيَّةِ، والنّاسَ إشارَةً إلى الصِّفاتِ النّاسُوتِيَّةِ، والأجْرَ إشارَةً إلى الحُظُوظِ الحَيَوانِيَّةِ، والحِبالَ إشارَةً إلى حِبالِ الحِيَلِ، والعِصِيَّ إشارَةً إلى عِصِيِّ التَّمْوِيهاتِ والمُخَيَّلاتِ، والمَدائِنَ إشارَةً إلى أطْوارِ النَّفْسِ، وهَكَذا.
وعَلى هَذا الطَّرِيقِ سَلَكُوا في الإشارَةِ في سائِرِ القَصَصِ، فَجَعَلُوا إبْراهِيمَ إشارَةً إلى القَلْبِ، وأباهُ وقَوْمَهُ إشارَةً إلى الرُّوحِ وما يَتَوَلَّدُ مِنها، والأصْنامَ إشارَةً إلى ما يُلائِمُ الطِّباعَ مِنَ العُلْوِيّاتِ والسُّفْلِيّاتِ، وهَكَذا مِمّا لا يَخْفى عَلى مَن لَهُ قَلْبٌ أوْ ألْقى السَّمْعَ وهو شَهِيدٌ.
ولِلشَّيْخِ الأكْبَرِ - قُدِّسَ سِرُّهُ - في هَذِهِ القَصَصِ كَلامٌ عَجِيبٌ، مَن أرادَهُ فَلْيَطْلُبْهُ في كُتُبِهِ، وهو - قُدِّسَ سِرُّهُ - مِمَّنْ ذَهَبَ إلى أنَّ خَطِيئَةَإبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - الَّتِي أرادَها بِقَوْلِهِ:
﴿والَّذِي أطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ كانَتْ إضافَةَ المَرَضِ إلى نَفْسِهِ في قَوْلِهِ:
﴿وإذا مَرِضْتُ فَهو يَشْفِينِ﴾ وقَدْ ذَكَرَ - قُدِّسَ سِرُّهُ - أنَّهُ اجْتَمَعَ مَعَ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَسَألَهُ عَنْ مُرادِهِ بِها فَأجابَهُ بِما ذَكَرَ.
وقالَ في بابِ أسْرارِ الزَّكاةِ مِنَ الفُتُوحاتِ: إنَّ قَوْلَ الرَّسُولِ ( إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى رَبِ العالَمِينَ ) لا يَقْدَحُ في كَمالِ عُبُودِيَّتِهِ، فَإنَّ قَوْلَهُ ذَلِكَ لِأنْ يُعْلَمَ أنَّ كُلَّ عَمَلٍ خالِصٍ يَطْلُبُ الأجْرَ بِذاتِهِ، وذَلِكَ لا يُخْرِجُ العَبْدَ عَنْ أوْصافِ العُبُودِيَّةِ، فَإنَّ العَبْدَ في صُورَةِ الأجِيرِ ولَيْسَ بِأجِيرٍ حَقِيقَةً؛ إذْ لا يَسْتَأْجِرُ السَّيِّدُ عَبْدَهُ بَلْ يَسْتَأْجِرُ الأجْنَبِيَّ، وإنَّما العَمَلُ نَفْسُهُ يَقْتَضِي الأُجْرَةَ وهو لا يَأْخُذُها، وإنَّما يَأْخُذُها العامِلُ وهو العَبْدُ، فَهو قابِضُ الأُجْرَةِ مِنَ اللَّهِ تَعالى فَأشْبَهَ الأجِيرَ في قَبْضِ الأُجْرَةِ وخالَفَهُ بِالِاسْتِئْجارِ اهـ.
وحَقَّقَ أيْضًا ذَلِكَ في البابِ السّادِسَ عَشَرَ والثَّلاثِمِائَةِ مِنَ الفُتُوحاتِ، وذَكَرَ في البابِ السّابِعَ عَشَرَ والأرْبَعِمِائَةِ مِنها أنَّ أجْرَ كُلِّ نَبِيٍّ يَكُونُ عَلى قَدْرِ ما نالَهُ مِنَ المَشَقَّةِ الحاصِلَةِ لَهُ مِنَ المُخالِفِينَ.
﴿وما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ﴾ ﴿وما يَنْبَغِي لَهم وما يَسْتَطِيعُونَ﴾ ﴿إنَّهم عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ﴾ فِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّهُ لَيْسَ لِلشَّيْطانِ قُوَّةُ حَمْلِ القُرْآنِ؛ لِأنَّهُ خُلِقَ مِن نارٍ ولَيْسَ لَها قُوَّةُ حَمْلِ النُّورِ، ألا تَرى أنَّ نارَ الجَحِيمِ كَيْفَ تَسْتَغِيثُ عِنْدَ مُرُورِ المُؤْمِنِ عَلَيْها، وتَقُولُ: جُزْ يا مُؤْمِنُ فَقَدْ أطْفَأ نُورُكَ لَهَبِي، ولِنَحْوِ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ قُوَّةٌ عَلى سَمْعِهِ.
وهَذا بِالنِّسْبَةِ إلى أوَّلِ مَراتِبِ ظُهُورِهِ، فَلا يَرِدُ أنَّهُ يَلْزَمُ - عَلى ما ذُكِرَ - أنَّ الشَّياطِينَ لا يَسْمَعُونَ آياتِ القُرْآنِ إذا تَلَوْناها ولا يَحْفَظُونَها، ولَيْسَ كَذَلِكَ، نَعَمْ، ذُكِرَ أنَّهم لا يَقْدِرُونَ أنْ يَسْمَعُوا آيَةَ الكُرْسِيِّ، وآخِرَ البَقَرَةِ؛ وذَلِكَ لِخاصِّيَّةٍ فِيهِما.
﴿وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ﴾ فِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّ النَّسَبَ إذا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ الإيمانُ لا يَنْفَعُ شَيْئًا، ولَمّا كانَ حِجابُ القَرابَةِ كَثِيفًا أُمِرَ ﷺ بِإنْذارِ عَشِيرَتِهِ الأقْرَبِينَ
﴿واخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ هم أهْلُ النَّسَبِ المَعْنَوِيِّ، الَّذِي هو أقْرَبُ مِنَ النَّسَبِ الصُّورِيِّ، كَما أشارَ إلَيْهِ ابْنُ الفارِضِ - قُدِّسَ سِرُّهُ - بِقَوْلِهِ:
نَسَبٌ أقْرَبُ في شَرْعِ الهَوى بَيْنَنا مِن نَسَبٍ مِن أبَوَيَّ
وأنا أحْمَدُ اللَّهَ تَعالى كَما هو أهْلُهُ عَلى أنْ جَعَلَنِي مِنَ الفائِزِينَ بِالنَّسَبَيْنِ؛ حَيْثُ وهَبَ لِي الإيمانَ، وجَعَلَنِي مِن ذُرِّيَّةِ سَيِّدِ الكَوْنَيْنِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فَها أنا مِن جِهَةِ أُمِّ أبِي مِن ذُرِّيَّةِ الحَسَنِ، ومِن جِهَةِ أبِي مِن ولَدِ الحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما -:
نَسَبٌ كَأنَّ عَلَيْهِ مِن شَمْسِ الضُّحى ∗∗∗ نُورًا ومِن فَلَقِ الصَّباحِ عَمُودًا
واللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - هو ولِيُّ الإحْسانِ، المُتَفَضِّلُ بِصُنُوفِ النِّعَمِ عَلى نَوْعِ الإنْسانِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى سَيِّدِ العالَمِينَ وآلِهِ وصَحْبِهِ أجْمَعِينَ.