الباحث القرآني
﴿وتِلْكَ﴾ أيِ: التَّرْبِيَةُ المَفْهُومَةُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ألَمْ نُرَبِّكَ﴾ إلَخْ، ﴿نِعْمَةٌ تَمُنُّها﴾ أيْ تُنْعِمُ بِها ﴿عَلَيَّ﴾ فَهو مِن بابِ الحَذْفِ والإيصالِ، وتَمُنُّ مِنَ المِنَّةِ بِمَعْنى الإنْعامِ، والمُضارِعُ لِاسْتِحْضارِ الصُّورَةِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ مِنَ المَنِّ، والمَعْنى تِلْكَ نِعْمَةٌ تَعُدُّها عَلَيَّ فَلَيْسَ (p-70)هُناكَ حَذْفٌ وإيصالٌ، والمُضارِعُ قِيلَ عَلى ظاهِرِهِ مِنَ الِاسْتِقْبالِ، وفِيهِ مَنعٌ ظاهِرٌ ﴿أنْ عَبَّدْتَ بَنِي إسْرائِيلَ﴾ أيْ: ذَلَّلْتَهم واتَّخَذْتَهم عَبِيدًا، يُقالُ: عَبَّدْتُ الرَّجُلَ وأعْبَدْتُهُ إذا اتَّخَذْتَهُ عَبْدًا، قالَ الشّاعِرُ:
؎عَلامَ يُعَبِّدُنِي قَوْمِي وقَدْ كَثُرَتْ فِيهِمْ أباعِرُ ما شاؤُوا وعِبْدانُ؟
وأنْ وما بَعْدَها في تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ مَرْفُوعٍ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، والجُمْلَةُ حالِيَّةٌ أوْ مُفَسِّرَةٌ، أوْ عَلى أنَّهُ بَدَلٌ مِن (تِلْكَ) أوْ (نِعْمَةٌ) أوْ عَطْفٌ أوْ مَنصُوبٌ عَلى أنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الهاءِ في (تَمُنُّها) أوْ مَجْرُورٌ بِتَقْدِيرِ الباءِ السَّبَبِيَّةِ أوِ اللّامِ عَلى أحَدِ القَوْلَيْنِ في مَحَلِّ أنْ وما بَعْدَها بَعْدَ حَذْفِ الجارِّ، والقَوْلُ الآخَرُ أنَّ مَحَلَّهُ النَّصْبُ، وحاصِلُ الرَّدِّ أنَّ ما ذَكَرْتَ نِعْمَةٌ ظاهِرًا، وهي في الحَقِيقَةِ نِقْمَةٌ، حَيْثُ كانَتْ بِسَبَبِ إذْلالِ قَوْمِي، وقَصْدِكَ إيّاهم بِذَبْحِ أبْنائِهِمْ، ولَوْلا ذَلِكَ لَمْ أحْصُلْ بَيْنَ يَدَيْكَ، ولَمْ أكُنْ في مَهْدِ تَرْبِيَتِكَ، وقِيلَ: ( تِلْكَ ) إشارَةٌ إلى خَصْلَةٍ شَنْعاءَ مُبْهَمَةٍ لا يُدْرى ما هي إلّا بِتَفْسِيرِها وأنْ عَبَّدْتَ عَطْفُ بَيانٍ لَها، والمَعْنى تَعْبِيدُكَ بَنِي إسْرائِيلَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ، وحاصِلُ الرَّدِّ إنْكارُ ما امْتَنَّ بِهِ أيْضًا، ويُرِيدُ حَمْلَ الكَلامِ عَلى رَدِّ كَوْنِ ذَلِكَ نِعْمَةً في الحَقِيقَةِ قِراءَةُ الضَّحّاكِ «وتِلْكَ نِعْمَةٌ ما لَكَ أنْ تَمُنَّها عَلَيَّ» وإلى ذَلِكَ ذَهَبَ قَتادَةُ وكَذا الأخْفَشُ والفَرّاءُ إلّا أنَّهُما قالا بِتَقْدِيرِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ لِلْإنْكارِ بَعْدَ الواوِ، والأصْلُ: (وأتِلْكَ نِعْمَةٌ) إلَخْ، وأبى بَعْضُ النُّحاةِ حَذْفَ حَرْفِ الِاسْتِفْهامِ في مِثْلِ هَذا المَوْضِعِ.
وقالَ أبُو حَيّانَ: الظّاهِرُ أنَّ هَذا الكَلامَ إقْرارٌ مِنهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِنِعْمَةِ فِرْعَوْنَ، كَأنَّهُ يَقُولُ: وتَرْبِيَتُكَ إيّايَ نِعْمَةٌ عَلَيَّ مِن حَيْثُ إنَّكَ عَبَّدْتَ غَيْرِي وتَرَكْتَنِي واتَّخَذْتَنِي ولَدًا، لَكِنْ لا يَدْفَعُ ذَلِكَ رِسالَتِي، وإلى هَذا التَّأْوِيلِ ذَهَبَ السُّدِّيُّ والطَّبَرِيُّ ولَيْسَ بِذاكَ.
وأيًّا ما كانَ فالآيَةُ ظاهِرَةٌ في أنَّ كُفْرَ الكافِرِ لا يُبْطِلُ نِعْمَتَهُ، وذَهَبَ بَعْضُهم أنَّ الكُفْرَ يُبْطِلُ النِّعْمَةَ؛ لِئَلّا يَجْتَمِعَ اسْتِحْقاقُ المَدْحِ واسْتِحْقاقُ الذَّمِّ، وفِيهِ أنَّهُ لا ضَيْرَ في ذَلِكَ لِاخْتِلافِ جِهَتَيِ الِاسْتِحْقاقَيْنِ.
هَذا، وذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إلى أنَّ (إذًا) في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَعَلْتُها إذًا﴾ جَوابٌ وجَزاءٌ، وبَيَّنَ وجْهَ كَوْنِ الكَلامِ جَزاءً بِقَوْلِهِ: قَوْلُ «وفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ» فِيهِ مَعْنى أنَّكَ جازَيْتَ نِعْمَتِي بِما فَعَلْتَ، فَقالَ لَهُ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ -: نَعَمْ، فَعَلْتُها مُجازِيًا لَكَ؛ تَسْلِيمًا لِقَوْلِهِ، كَأنَّ نِعْمَتَهُ عِنْدَهُ جَدِيرَةٌ بِأنْ تُجازى بِنَحْوِ ذَلِكَ الجَزاءِ.
واعْتُرِضَ بِأنَّ هَذا لا يُلائِمُ قَوْلَهُ: ﴿وأنا مِنَ الضّالِّينَ﴾ لِأنَّهُ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ اعْتَرَفَ بِأنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ جاهِلًا أوْ ناسِيًا، وفي الكَشْفِ تَحْقِيقُ ما ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أنَّ التَّرْتِيبَ الَّذِي هو مَعْنى الشَّرْطِ والجَزاءِ حاصِلٌ، ولَمّا كانا ماضِيَيْنِ كانَ ذَلِكَ تَقْدِيرِيًّا، كَأنَّهُ قالَ: إنْ كانَ ذَلِكَ كُفْرانًا بِنِعْمَتِكَ فَقَدْ فَعَلْتُهُ جَزاءً، ولَكِنَّ الوَصْفَ - أيْ كَوْنَهُ كُفْرانًا - غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وأمَدَّهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها﴾ وفِيهِ القَوْلُ بِالمُوجَبِ أيْضًا.
وقَوْلُهُ: ﴿وأنا مِنَ الضّالِّينَ﴾ عَلى هَذا كَأنَّهُ اعْتِذارٌ ثانٍ، أيْ: كُنْتَ تَسْتَحِقُّ ذَلِكَ عِنْدِي، وأيْضًا كُنْتُ مِنَ الحائِدِينَ عَنْ مَنهَجِ الصَّوابِ لا في اعْتِقادِ اسْتِحْقاقِ مُكافَأةِ صَنِيعِكَ بِمِثْلِ تِلْكَ، ولَكِنْ في الإقْدامِ قَبْلَ الإذْنِ مِنَ المَلِكِ العَلّامِ.
والحاصِلُ أنَّهُ نَسَبَهُ إلى مُقابَلَةِ الإحْسانِ بِالإساءَةِ، وقَرَّرَها بِكَوْنِهِ كافِرًا، فَأجابَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِأنَّ المُقابَلَةَ حاصِلَةٌ ولَكِنْ أيْنَ الإحْسانُ؟ وما كُنْتُ كافِرًا بِكَ - فَإنَّهُ عَيْنُ الهُدى - بَلْ ضالًّا في الإقْدامِ عَلى الفِعْلِ، وما كُنْتُ كافِرًا لِنِعْمَةِ مُنْعِمٍ أصْلًا ولَكِنْ كُنْتُ فاعِلًا لِذَلِكَ خَطَأً، ومِنهُ ظَهَرَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وأنا مِنَ الضّالِّينَ﴾ لا يُنافِي تَقْرِيرَ الزَّمَخْشَرِيِّ بَلْ يُؤَيِّدُهُ اهـ.
(p-71)ولا يَخْفى أنَّ الأوْفَقَ بِحَدِيثِ الجَزاءِ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِقَوْلِهِ: (فَعَلْتُها وأنا مِنَ الضّالِّينَ) فَعَلْتُها مُقْدِمًا عَلَيْها مِن غَيْرِ مُبالاةٍ، عَلى أنَّ الضَّلالَ بِمَعْنى الجَهْلِ المُفَسَّرِ بِالإقْدامِ مِن غَيْرِ مُبالاةٍ، لَكِنِ التِزامُ كَوْنِ (إذًا) هُنا لِلْجَوابِ والجَزاءِ التِزامُ ما لا يَلْزَمُ، فَإنَّ الصَّحِيحَ الَّذِي قالَ بِهِ الأكْثَرُونَ أنَّها قَدْ تَتَمَحَّضُ لِلْجَوابِ، وفي البَحْرِ أنَّهم حَمَلُوا ما في هَذِهِ الآيَةِ عَلى ذَلِكَ، وتَوْجِيهُ كَوْنِها لِلْجَزاءِ فِيها بِما ذُكِرَ لا يَخْلُو عَنْ تَكَلُّفٍ، والأظْهَرُ عِنْدِي مَعْنى ما آثَرَهُ بَعْضُ أفاضِلِ المُحَقِّقِينَ مِن أنَّها ظَرْفٌ مَقْطُوعٌ عَنِ الإضافَةِ، ولا أرى فِيهِ ما يُقالُ سِوى أنَّهُ مَعْنًى لَمْ يَذْكُرْهُ أكْثَرُ عُلَماءِ العَرَبِيَّةِ، وهم لَمْ يُحِيطُوا بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وإنْ أبَيْتَ هَذا فَهي لِلْجَوابِ فَقَطْ، ومِنَ العَجِيبِ قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: إنَّها هُنا صِلَةٌ في الكَلامِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: وكَأنَّها بِمَعْنى حِينَئِذٍ، ولَوِ اكْتَفى بِهِ عَلى أنَّهُ تَفْسِيرُ مَعْنًى لَكانَ لَهُ وجْهٌ، فَتَأمَّلْ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
{"ayah":"وَتِلۡكَ نِعۡمَةࣱ تَمُنُّهَا عَلَیَّ أَنۡ عَبَّدتَّ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق