الباحث القرآني
والضَّمِيرُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ سَلَكْناهُ في قُلُوبِ المُجْرِمِينَ﴾ - عَلى ما يَقْتَضِيهِ انْتِظامُ الضَّمائِرِ السّابِقَةِ واللّاحِقَةِ في سِلْكٍ واحِدٍ – لِلْقُرْآنِ، وإلَيْهِ ذَهَبُ الرُّمّانِيُّ وغَيْرُهُ، والمَعْنى - عَلى ما قِيلَ -: مِثْلَ ذَلِكَ السَّلْكِ البَدِيعِ المَذْكُورِ سَلَكْناهُ، أيْ: أدْخَلْنا القُرْآنَ في قُلُوبِ المُجْرِمِينَ، فَفَهِمُوا مَعانِيَهُ، وعَرَفُوا فَصاحَتَهُ، وأنَّهُ خارِجٌ عَنِ القُوى البَشَرِيَّةِ، وقَدِ انْضَمَّ إلَيْهِ عِلْمُ أهْلِ الكِتابَيْنِ بِشَأْنِهِ، وبِشارَةُ الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ بِإنْزالِهِ، فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِبَيانِ أنَّهم لا يَتَأثَّرُونَ بِأمْثالِ تِلْكَ الأُمُورِ الدّاعِيَةِ إلى الإيمانِ بِهِ، بَلْ يَسْتَمِرُّونَ عَلى ما هم عَلَيْهِ ﴿حَتّى يَرَوُا العَذابَ الألِيمَ﴾ المُلْجِئَ إلى الإيمانِ بِهِ، وحِينَئِذٍ لا يَنْفَعُهم ذَلِكَ.
والمُرادُ بِالمُجْرِمِينَ المُشْرِكُونَ الَّذِينَ عادَتْ عَلَيْهِمُ الضَّمائِرُ مِن (لَهُمْ) و(عَلَيْهِمْ) و(كانُوا) وعُدِلَ عَنْ ضَمِيرِهِمْ إلى ما ذُكِرَ؛ تَأْكِيدًا لِذَمِّهِمْ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في مَعْنى ذَلِكَ: أيْ مِثْلَ هَذا السَّلْكِ سَلَكْناهُ في قُلُوبِهِمْ، وهَكَذا مَكَّنّاهُ وقَرَّرْناهُ فِيها، وعَلى مِثْلِ هَذِهِ الحالِ وهَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الكُفْرِ بِهِ والتَّكْذِيبِ لَهُ وضَعْناهُ فِيها، فَكَيْفَما فُعِلَ بِهِمْ وصُنِعَ، وعَلى أيِّ وجْهٍ دُبِّرَ أمْرُهم فَلا سَبِيلَ إلى أنْ يَتَغَيَّرُوا عَمّا هم عَلَيْهِ مِن جُحُودِهِ وإنْكارِهِ كَما قالَ سُبْحانَهُ: (p-129)﴿ولَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتابًا في قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ هَذا إلا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ .
ومَوْقِعُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ إلَخْ مِمّا قَبْلَهُ مَوْقِعُ المُوَضِّحِ والمُلَخِّصِ؛ لِأنَّهُ مَسُوقٌ لِثَباتِهِ مُكَذَّبًا مَجْحُودًا في قُلُوبِهِمْ، فاتُّبِعَ ما يُقَرِّرُ هَذا المَعْنى مِن أنَّهم لا يَزالُونَ عَلى التَّكْذِيبِ بِهِ وجُحُودِهِ حَتّى يُعايِنُوا الوَعِيدَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا، أيْ: سَلَكْناهُ فِيها غَيْرَ مُؤْمَنٍ بِهِ، اهـ.
وتُعُقِّبَ بِأنَّ الأوَّلَ هو الأنْسَبُ بِمَقامِ بَيانِ غايَةِ عِنادِهِمْ ومُكابَرَتِهِمْ مَعَ تَعاضُدِ أدِلَّةِ الإيمانِ، وتَناجُدِ مَبادِئِ الهِدايَةِ والإرْشادِ، وانْقِطاعِ أعْذارِهِمْ بِالكُلِّيَّةِ، وقَدْ يُقالُ: إنَّ هَذا التَّفْسِيرَ أوْفَقُ بِتَسْلِيَتِهِ ﷺ الَّتِي هي كالمَبْنى لِهَذِهِ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ، وبِها صُدِّرَتْ حَيْثُ قالَ سُبْحانَهُ: ﴿لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ ألا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ كَأنَّهُ - جَلَّ وعَلا - بَعْدَ أنْ ذَكَرَ فَرْطَ عِنادِهِمْ وشِدَّةَ شَكِيمَتِهِمْ في المُكابَرَةِ، وهو تَفْسِيرٌ واضِحٌ في نَفْسِهِ، فَهو عِنْدِي أوْلى مِمّا تَقَدَّمَ.
وفِي المَطْلَعِ أنَّ الضَّمِيرَ لِلتَّكْذِيبِ والكُفْرِ المَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ﴾ وبِهِ قالَ يَحْيى بْنُ سَلّامٍ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ، والمَعْنى: وكَذَلِكَ سَلَكْنا التَّكْذِيبَ بِالقُرْآنِ والكَفْرَ بِهِ في قُلُوبِ مُشْرِكِي مَكَّةَ ومَكَّناهُ فِيها، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ إلَخْ واقِعٌ مَوْقِعَ الإيضاحِ لِذَلِكَ، ولا يَظْهَرُ عَلى هَذا الوَجْهِ كَوْنُهُ حالًا، ولا أرى لِهَذا المَعْنى كَثْرَةَ بُعْدٍ عَنْ قَوْلِ مَن قالَ: أيْ: عَلى مِثْلِ هَذا السَّلْكِ سَلَكْنا القُرْآنَ، وعَلى مِثْلِ هَذِهِ الحالِ وهَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الكُفْرِ بِهِ والتَّكْذِيبِ لَهُ وضَعْناهُ في قُلُوبِهِمْ.
وحاصِلُ الأوَّلِ: كَذَلِكَ سَلَكْنا التَّكْذِيبَ بِالقُرْآنِ في قُلُوبِهِمْ، وحاصِلُ هَذا: وكَذَلِكَ سَلَكْنا القُرْآنَ بِصِفَةِ التَّكْذِيبِ بِهِ في قُلُوبِهِمْ، فَتَأمَّلْ.
وجُوِّزَ جَعْلُ الضَّمِيرِ لِلْبُرْهانِ الدّالِّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوَلَمْ يَكُنْ لَهم آيَةً أنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إسْرائِيلَ﴾ وهو بَعِيدٌ لَفْظًا ومَعْنًى.
هَذا، وذَهَبَ بَعْضُهم إلى أنَّ المُرادَ بِالمُجْرِمِينَ غَيْرُ الكَفَرَةِ المُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ عادَتْ عَلَيْهِمُ الضَّمائِرُ، وهم مُشْرِكُو مَكَّةَ مِنَ المُعاصِرِينَ لَهم ومَن يَأْتِي بَعْدَهُمْ، وذَلِكَ إشارَةٌ إلى السَّلْكِ في قُلُوبِ أُولَئِكَ المُشْرِكِينَ، أيْ: مِثْلَ ذَلِكَ السَّلْكِ في قُلُوبِ مُشْرِكِي مَكَّةَ سَلَكْناهُ في قُلُوبِ المُجْرِمِينَ غَيْرِهِمْ لِاشْتِراكِهِمْ في الوَصْفِ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿لا يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ إلَخْ بَيانٌ لِحالِ المُشْرِكِينَ المُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ اعْتُبِرُوا في جانِبِ المُشَبَّهِ بِهِ، أوْ إيضاحٌ لِحالِ المُجْرِمِينَ، وبَيانٌ لِما يَقْتَضِيهِ التَّشْبِيهُ، وهو كَما تَرى.
ونُقِلَ في البَحْرِ عَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ أنَّهُ أُرِيدَ مُجْرِمِي كُلِّ أُمَّةٍ، أيْ: إنَّ سُنَّةَ اللَّهِ تَعالى فِيهِمْ أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يَرَوُا العَذابَ، فَلا يَنْفَعُهُمُ الإيمانُ بَعْدَ تَلَبُّسِ العَذابِ بِهِمْ، وهَذا عَلى جِهَةِ المِثالِ لِقُرَيْشٍ، أيْ: هَؤُلاءِ كَذَلِكَ، وكَشْفُ الغَيْبِ بِما تَضَمَّنَتْهُ الآيَةُ يَوْمَ بَدْرٍ، انْتَهى.
وكَأنَّهُ جَعَلَ ضَمِيرَ (سَلَكْناهُ) لِمُطْلَقِ الكُفْرِ لا لِلْكُفْرِ بِالقُرْآنِ، وضَمِيرَ (بِهِ) لِلَّهِ تَعالى، أوْ لِما أُمِرُوا بِالإيمانِ بِهِ لِلْقُرْآنِ، وإلّا فَلا يَكادُ يَتَسَنّى ذَلِكَ، وعَلى كُلِّ حالٍ لا يَنْبَغِي أنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ.
{"ayahs_start":200,"ayahs":["كَذَ ٰلِكَ سَلَكۡنَـٰهُ فِی قُلُوبِ ٱلۡمُجۡرِمِینَ","لَا یُؤۡمِنُونَ بِهِۦ حَتَّىٰ یَرَوُا۟ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِیمَ"],"ayah":"لَا یُؤۡمِنُونَ بِهِۦ حَتَّىٰ یَرَوُا۟ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِیمَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق