الباحث القرآني
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَما لَنا مِن شافِعِينَ﴾ ﴿ولا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ مُرَتَّبٌ عَلى ما اعْتَرَفُوا بِهِ مِن عِظَمِ الجِنايَةِ وظُهُورِ الضَّلالَةِ. والمُرادُ التَّلَهُّفُ والتَّأسُّفُ عَلى فَقْدِ شَفِيعٍ يَشْفَعُ لَهم مِمّا هم فِيهِ، أوْ صَدِيقٍ شَفِيقٍ يُهِمُّهُ ذَلِكَ، وقَدْ تَرَقَّوْا - لِمَزِيدِ انْحِطاطِ حالِهِمْ - في التَّأسُّفِ، حَيْثُ نَفَوْا أوَّلًا أنْ يَكُونَ لَهم مَن يَنْفَعُهم في تَخْلِيصِهِمْ مِنَ العَذابِ بِشَفاعَتِهِ (p-105)ونَفَوْا ثانِيًا أنْ يَكُونَ لَهم مَن يُهِمُّهُ أمْرُهُمْ، ويُشْفِقُ عَلَيْهِمْ، ويَتَوَجَّعُ لَهم وإنْ لَمْ يُخَلِّصْهُمْ، وأُتِيَ بِالشّافِعِ في سِياقِ النَّفْيِ جَمْعًا - وإنْ كانَ حُكْمُ هَذا الجَمْعِ في الِاسْتِغْراقِ لِمَكانِ مِنَ الزّائِدَةِ حُكْمَ المُفْرَدِ بِلا خِلافٍ، إنَّما الخِلافُ فِيما إذا لَمْ تَزِدْ مِن بَعْدِ النَّفْيِ داخِلَةً عَلى الجَمْعِ - رِعايَةً لِما كانُوا يَأْتُونَ بِهِ في الإثْباتِ مِنَ الجَمْعِ.
وقالَ في الكَشّافِ: جُمِعَ الشّافِعُ لِكَثْرَةِ الشُّفَعاءِ، ووُحِّدَ الصَّدِيقُ لِقِلَّتِهِ، ألا تَرى أنَّ الرَّجُلَ إذا امْتُحِنَ بِإرْهاقِ ظالِمٍ نَهَضَتْ جَماعَةٌ وافِرَةٌ مِن أهْلِ بَلْدِهِ رَحْمَةً لَهُ وحِسْبَةً - إنْ لَمْ تَسْبِقْ لَهُ بِأكْثَرِهِمْ مَعْرِفَةٌ - وأمّا الصَّدِيقُ الصّادِقُ في وِدادِكَ الَّذِي يُهِمُّهُ ما يُهِمُّكَ فَهو أعَزُّ مِن بَيْضِ الأنُوقِ، ويَجُوزُ أنْ يُرِيدَ بِالصَّدِيقِ الجَمْعَ، أيْ: فَإنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ لِما أنَّهُ عَلى زِنَةِ المَصْدَرِ بِخِلافِ الشّافِعِ.
وذَكَرَ البَيْضاوِيُّ في تَوْحِيدِ الصَّدِيقِ وجْهًا آخَرَ أيْضًا، وهو أنَّ الصَّدِيقَ الواحِدَ يَسْعى أكْثَرَ مِمّا يَسْعى الشُّفَعاءُ، وحاصِلُهُ أنَّ الواحِدَ في مَعْنى الجَمْعِ بِحَسَبِ العادَةِ، فَلِذا اكْتُفِيَ بِهِ لِما فِيهِ مِنَ المُطابَقَةِ المَعْنَوِيَّةِ كَما قِيلَ:
؎النّاسُ ألْفٌ مِنهُمُو كَواحِدٍ وواحِدٌ كالألْفِ إنْ أمْرٌ عَنا
وقالَ بَعْضُ الكَلِمَةِ: إنَّ إيرادَ الشّافِعِينَ بِصِيغَةِ الجَمْعِ لِمُجَرَّدِ مَصْلَحَةِ الفاصِلَةِ، وأمّا إيرادُ الصَّدِيقِ مُفْرَدًا؛ فَلِأنَّ المَقامَ مَقامُ المُفْرَدِ، ومَصْلَحَةُ الفاصِلَةِ حَصَلَتْ قَبْلَهُ وهو كَما تَرى.
وقالَ سَعْدُ أفَنْدِي: لا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ جَمْعُ الأوَّلِ وإفْرادُ الثّانِي إشارَةً إلى أنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ الِاسْتِغْراقَيْنِ، وفِيهِ أنَّ إيثارَ صِيغَةٍ لِإفادَةِ مَسْألَةٍ عَرَبِيَّةٍ لَيْسَ مِن دَأْبِ القُرْآنِ المَجِيدِ، والَّذِي أمِيلُ إلَيْهِ أنَّ الإفْرادَ عَلى الأصْلِ، والجَمْعَ - وإنْ أدّى مُؤَدّاهُ - عَلى سُنَنِ ما كانُوا يَقُولُونَهُ ويَزْعُمُونَهُ في الدُّنْيا مِن تَعَدُّدِ الشُّفَعاءِ، ولا يَضُرُّ في ذَلِكَ كَوْنُ المَنفِيِّ هُنا أعَمَّ مِنَ المُثْبَتِ هُناكَ مِن حَيْثُ شُمُولُهُ لِلْأصْنامِ والكُبَراءِ والمَلائِكَةِ والأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - كَما هو المُتَبادَرُ إلى الفَهْمِ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أنَّ المَعْنى: (فَما لَنا مِن شافِعِينَ) مِن أهْلِ السَّماءِ ولا صَدِيقٌ حَمِيمٌ مِن أهْلِ الأرْضِ.
وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّهم عَنَوْا بِالشّافِعِينَ هُنا ما عَنَوْا بِالمُجْرِمِينَ مِن كُبَرائِهِمْ وساداتِهِمْ، وفَرَّعُوا النَّفْيَ عَلى قَوْلِهِمْ: ﴿وما أضَلَّنا إلا المُجْرِمُونَ﴾ فَكَأنَّهم قالُوا: سادَتُنا وكُبَراؤُنا الَّذِينَ أضَلُّونا مُجْرِمُونَ مُعَذَّبُونَ مِثْلَنا، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلى السَّعْيِ في نَفْعِنا والشَّفاعَةِ لَنا.
وفِي الكَشّافِ (فَما لَنا مِن شافِعِينَ) كَما نَرى المُؤْمِنِينَ لَهم شُفَعاءَ مِنَ المَلائِكَةِ والنَّبِيِّينَ، ولا صَدِيقٍ كَما نَرى لَهم أصْدِقاءَ، فَإنَّهُ لا يَتَصادَقُ في الآخِرَةِ إلّا المُؤْمِنُونَ قالَ تَعالى: ﴿الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلا المُتَّقِينَ﴾ أوْ ( ﴿فَما لَنا مِن شافِعِينَ﴾ ﴿ولا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ ) مِنَ الَّذِينَ كُنّا نَعُدُّهم شُفَعاءَ وأصْدِقاءَ؛ لِأنَّهم كانُوا يَعْتَقِدُونَ في أصْنامِهِمْ أنَّهم شُفَعاؤُهم عِنْدَ اللَّهِ تَعالى، وكانَ لَهُمُ الأصْدِقاءُ مِن شَياطِينِ الإنْسِ، أوْ أرادُوا أنَّهم وقَعُوا في مَهْلَكَةٍ عَلِمُوا أنَّ الشُّفَعاءَ والأصْدِقاءَ لا يَنْفَعُونَهم ولا يَدْفَعُونَ عَنْهُمْ، فَقَصَدُوا بِنَفْيِهِمْ نَفْيَ ما يَتَعَلَّقُ بِهِمْ مِنَ النَّفْعِ؛ لِأنَّ ما لا يَنْفَعُ حُكْمُهُ حُكْمُ المَعْدُومِ، انْتَهى.
والظّاهِرُ عَلى هَذا الأخِيرِ أنَّ الكَلامَ كِنايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الأمْرِ، بِحَيْثُ لا يَنْفَعُ فِيهِ أحَدٌ ولَوْ أدْنى نَفْعٍ، وهو وجْهٌ وجِيهٌ، والوَجْهُ الأوَّلُ لا يَكادُ يَتَسَنّى عَلى مَذْهَبِ المُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ لا يُجَوِّزُونَ الشَّفاعَةَ في الخَلاصِ مِنَ النّارِ بَعْدَ دُخُولِها أوْ قَبْلَهُ؛ لِأنَّ الظّاهِرَ مِن قَوْلِهِمْ: فَما لَنا مِن شافِعِينَ كَما نَرى المُؤْمِنِينَ لَهم شُفَعاءُ مِنَ المَلائِكَةِ والنَّبِيِّينَ، فَما لَنا مِن شافِعِينَ يُخَلِّصُونا مِنَ النّارِ كَما نَرى المُؤْمِنِينَ لَهم شُفَعاءُ مِنَ المَلائِكَةِ والنَّبِيِّينَ يُخَلِّصُونَهم مِنها، فارْتِضاءُ الزَّمَخْشَرِيِّ لِهَذا الوَجْهِ غَرِيبٌ، اللَّهُمَّ إلّا أنْ يُقالَ: المُرادُ التَّشْبِيهُ بِاعْتِبارِ مُطْلَقِ الشَّفاعَةِ، والمُعْتَزِلَةُ (p-106)يُجَوِّزُونَ بَعْضَ أصْنافِها كالشَّفاعَةِ في زِيادَةِ الدَّرَجاتِ في الجَنَّةِ، لَكِنْ لا يَخْلُو عَنْ بُعْدٍ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
{"ayahs_start":100,"ayahs":["فَمَا لَنَا مِن شَـٰفِعِینَ","وَلَا صَدِیقٍ حَمِیمࣲ"],"ayah":"فَمَا لَنَا مِن شَـٰفِعِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











