الباحث القرآني

﴿قُلْ﴾ أمْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - بِأنْ يُبَيِّنَ لِلنّاسِ أنَّ الفائِزِينَ بِتِلْكَ النَّعْماءِ الجَلِيلَةِ الَّتِي يَتَنافَسُ فِيها المُتَنافِسُونَ إنَّما نالُوها بِما عُدِّدَ مِن مَحاسِنِهِمْ، ولَوْلاها لَمْ يُعْتَدَّ بِهِمْ أصْلًا، أيْ: قُلْ لِلنّاسِ مُشافِهًا لَهم بِما صَدَرَ عَنْ جِنْسِهِمْ مِن خَيْرٍ وشَرٍّ: ﴿ما يَعْبَأُ بِكم رَبِّي﴾ أيْ: أيَّ عِبْءٍ يَعْبَأُ بِكُمْ، وأيَّ اعْتِدادٍ يَعْتَدُّ بِكم ﴿لَوْلا دُعاؤُكُمْ﴾ أيْ: عِبادَتُكم لَهُ - عَزَّ وجَلَّ - حَسْبَما مَرَّ تَفْصِيلُهُ، فَإنَّ ما خُلِقَ لَهُ الإنْسانُ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعالى وطاعَتَهُ - جَلَّ وعَلا - وإلّا فَهو والبَهائِمُ سَواءٌ، فَما مُتَضَمِّنَةٌ لِمَعْنى الِاسْتِفْهامِ، وهي في مَحَلِّ النَّصْبِ، وهي عِبارَةٌ عَنِ المَصْدَرِ، وأصْلُ العِبْءِ الثِّقْلُ، وحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ: (ما عَبَأْتُ بِهِ) ما اعْتَدَدْتُ لَهُ مِن فَوادِحِ هَمِّي ومِمّا يَكُونُ عِبْئًا عَلَيَّ، كَما تَقُولُ: ما اكْتَرَثْتُ لَهُ، أيْ: ما أعْدَدْتُ لَهُ مِن كَوارِثِي ومِمّا يُهِمُّنِي. وقالَ الزَّجّاجُ: مَعْناهُ: أيُّ وزْنٍ يَكُونُ لَكم عِنْدَهُ تَعالى لَوْلا عِبادَتُكُمْ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ ما نافِيَةً، أيْ لَيْسَ يَعْبَأُ، وأيًّا ما كانَ فَجَوابُ لَوْلا مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ، أيْ: لَوْلا دُعاؤُكم لَما اعْتَدَّ بِكُمْ، وهَذا بَيانٌ لِحالِ المُؤْمِنِينَ مِنَ المُخاطَبِينَ. وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿فَقَدْ كَذَّبْتُمْ﴾ بَيانٌ لِحالِ الكَفَرَةِ مِنهُمْ، والمَعْنى: إذا أعْلَمْتُكم أنَّ حُكْمِي أنِّي لا أعْتَدُّ بِعِبادِي إلّا لِعِبادَتِهِمْ فَقَدْ خالَفْتُمْ حُكْمِي ولَمْ تَعْمَلُوا عَمَلَ أُولَئِكَ المَذْكُورِينَ، فالفاءُ مِثْلُها في قَوْلِهِ: ؎فَقَدْ جِئْنا خُراسانا والتَّكْذِيبُ مُسْتَعارٌ لِلْمُخالَفَةِ، وقِيلَ: المُرادُ فَقَدْ قَصَّرْتُمْ في العِبادَةِ، عَلى أنَّهُ مِن قَوْلِهِمْ: (كَذَبَ القِتالُ) إذا لَمْ يُبالَغْ فِيهِ، والأوَّلُ أوْلى، وإنْ قِيلَ: إنَّ المُرادَ مِنَ التَّقْصِيرِ في العِبادَةِ تَرْكُها. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ، وابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ الزُّبَيْرِ «فَقَدْ كَذَّبَ الكافِرُونَ» وهو عَلى مَعْنى (كَذَّبَ الكافِرُونَ مِنكُمْ) لِعُمُومِ الخِطابِ لِلْفَرِيقَيْنِ عَلى ما أشَرْنا إلَيْهِ، وهو الَّذِي اخْتارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، واسْتَحْسَنَهُ صاحِبُ الكَشْفِ، واخْتارَ غَيْرُ واحِدٍ أنَّهُ خِطابٌ لِكَفَرَةِ قُرَيْشٍ، والمَعْنى عَلَيْهِ عِنْدَ بَعْضٍ: ما يَعْبَأُ بِكم لَوْلا عِبادَتُكم لَهُ سُبْحانَهُ، أيْ: لَوْلا إرادَتُهُ تَعالى التَّشْرِيعِيَّةُ لِعِبادَتِكم لَهُ تَعالى لَما عَبَأ بِكم ولا خَلَقَكُمْ، وفِيهِ مَعْنًى مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ﴾ وقِيلَ: المَعْنى ما يَعْبَأُ بِكم لَوْلا دُعاؤُهُ سُبْحانَهُ إيّاكم إلى التَّوْحِيدِ عَلى لِسانِ رَسُولِهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ – أيْ: لَوْلا إرادَةُ ذَلِكَ. وقِيلَ: المَعْنى ما يُبالِي سُبْحانَهُ بِمَغْفِرَتِكم لَوْلا دُعاؤُكم مَعَهُ آلِهَةً، أوْ ما يَفْعَلُ بِعَذابِكم لَوْلا شِرْكُكم كَما (p-55)قالَ تَعالى: ﴿ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكم إنْ شَكَرْتُمْ وآمَنتُمْ﴾ وقِيلَ: المَعْنى ما يَعْبَأُ بِعَذابِكم لَوْلا دُعاؤُكم إيّاهُ تَعالى وتَضَرُّعُكم إلَيْهِ في الشَّدائِدِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿فَإذا رَكِبُوا في الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ﴾ وقالَ سُبْحانَهُ: ﴿فَأخَذْناهم بِالبَأْساءِ والضَّرّاءِ لَعَلَّهم يَتَضَرَّعُونَ﴾ وقِيلَ: المَعْنى ما خَلَقَكم سُبْحانَهُ ولَهُ إلَيْكم حاجَةٌ إلّا أنْ تَسْألُوهُ فَيُعْطِيَكم وتَسْتَغْفِرُوهُ فَيَغْفِرَ لَكُمْ، ورُوِيَ هَذا عَنِ الوَلِيدِ بْنِ الوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ. وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ ما آثَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لا يُنافِي كَوْنَ الخِطابِ لِقُرَيْشٍ مِن حَيْثُ المَعْنى، فَقَدْ خُصِّصَ بِهِمْ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزامًا﴾ أيْ: جَزاءُ التَّكْذِيبِ أوْ أثَرُهُ لازِمًا يَحِيقُ بِكم حَتّى يُكِبَّكم في النّارِ، كَما يُعْرِبُ عَنْهُ الفاءُ الدّالَّةُ عَلى لُزُومِ ما بَعْدَها لِما قَبْلَها، فَضَمِيرُ «يَكُونُ» لِمَصْدَرِ الفِعْلِ المُتَقَدِّمِ بِتَقْدِيرِ مُضافٍ أوْ عَلى التَّجَوُّزِ، وإنَّما لَمْ يُصَرَّحْ بِذَلِكَ لِلْإيذانِ بِغايَةِ ظُهُورِهِ وتَهْوِيلِ أمْرِهِ، ولِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّهُ مِمّا لا يَكْتَنِهُهُ البَيانُ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلْعَذابِ، وقَدْ صَرَّحَ بِهِ مَن قَرَأ «يَكُونُ العَذابُ لِزامًا» وصَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّ اللِّزامَ قَتْلُ يَوْمِ بَدْرٍ، ورَوِيَ عَنْ أُبَيٍّ ومُجاهِدٍ وقَتادَةَ وأبِي مالِكٍ، ولَعَلَّ إطْلاقَهُ عَلى ذَلِكَ لِأنَّهُ لُوزِمَ فِيهِ بَيْنَ القَتْلى لِزامًا. وقَرَأ ابْنُ جُرَيْجٍ (تَكُونُ) بِتاءِ التَّأْنِيثِ عَلى مَعْنى تَكُونُ العاقِبَةُ، وقَرَأ المِنهالُ، وأبانُ بْنُ ثَعْلَبٍ وأبُو السَّمّالِ «لَزامًا» بِفَتْحِ اللّامِ مَصْدَرَ لَزَمَ، يُقالُ: لَزَمَ لُزُومًا ولِزامًا كَثَبَتَ ثُبُوتًا وثَباتًا، ونَقَلَ ابْنُ خالَوَيْهِ عَنْ أبِي السَّمّالِ أنَّهُ قَرَأ «لِزامِ» عَلى وزْنِ حِذامِ جَعَلَهُ مَصْدَرًا مَعْدُولًا عَنِ اللِّزْمَةِ كَفِجارِ المَعْدُولِ عَنِ الفِجْرَةِ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ هَذا. * * * ومِن بابِ الإشارَةِ: قِيلَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقالُوا مالِ هَذا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ ويَمْشِي في الأسْواقِ﴾ إشارَةُ قُصُورِ حالِ المُنْكِرِينَ عَلى أوْلِياءِ اللَّهِ تَعالى حَيْثُ شارَكُوهم في لَوازِمِ البَشَرِيَّةِ مِنَ الأكْلِ والشُّرْبِ ونَحْوِهِما، وقالُوا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وجَعَلْنا بَعْضَكم لِبَعْضٍ فِتْنَةً﴾ إنَّ وجْهَ فِتْنَتِهِ النَّظَرُ إلَيْهِ نَفْسِهِ، والغَفْلَةُ فِيهِ عَنْ رَبِّهِ سُبْحانَهُ، ويُشْعِرُ هَذا بِأنَّ كُلَّ ما سِوى اللَّهِ تَعالى فِتْنَةٌ مِن هَذِهِ الحَيْثِيَّةِ. وقالَ ابْنُ عَطاءٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقَدِمْنا إلى ما عَمِلُوا مِن عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنثُورًا﴾ أطْلَعْناهم عَلى أعْمالِهِمْ فَطالَعُوها بِعَيْنِ الرِّضا، فَسَقَطُوا مِن أعْيُنِنا بِذَلِكَ، وجَعَلْنا أعْمالَهم هَباءً مَنثُورًا، وهَذِهِ الآيَةُ - وإنْ كانَتْ في وصْفِ الكُفّارِ - لَكِنْ في الحَدِيثِ أنَّ في المُؤْمِنِينَ مَن يُجْعَلُ عَمَلُهُ هَباءً كَما تَضَمَّنَتْهُ. فَقَدْ أخْرَجَ أبُو نُعَيْمٍ في (الحِلْيَةِ) والخَطِيبُ في (المُتَّفِقِ والمُفْتَرِقِ) عَنْ سالِمٍ مَوْلى أبِي حُذَيْفَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««لَيُجاءَنَّ يَوْمَ القِيامَةِ بِقَوْمٍ مَعَهم حَسَناتٌ مِثْلُ جِبالِ تِهامَةَ حَتّى إذا جِيءَ بِهِمْ جَعَلَ اللَّهُ تَعالى أعْمالَهم هَباءً ثُمَّ قَذَفَهم في النّارِ، قالَ سالِمٌ: بِأبِي وأُمِّي يا رَسُولَ اللَّهِ، حُلَّ لَنا هَؤُلاءِ القَوْمَ، قالَ: كانُوا يَصُومُونَ ويُصَلُّونَ ويَأْخُذُونَ هِنْئَةً مِنَ اللَّيْلِ ولَكِنْ كانُوا إذا عُرِضَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنَ الحَرامِ وثَبُوا عَلَيْهِ، فَأدْحَضَ اللَّهُ تَعالى أعْمالَهم»» وذُكِرَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويَوْمَ يَعَضُّ الظّالِمُ﴾ الآيَةَ أنَّ حُكْمَهُ عامٌّ في كُلِّ مُتَحابَّيْنِ عَلى مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعالى. وعَنْ مالِكِ بْنِ دِينارٍ: نَقْلُ الأحْجارِ مَعَ الأبْرارِ خَيْرٌ مِن أكْلِ الخَبِيصِ مَعَ الفُجّارِ، وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ المُجْرِمِينَ﴾ أنَّهُ يَلْزَمُ مِن هَذا - مَعَ قَوْلِهِمْ: كُلُّ ولِيٍّ عَلى قَدَمِ نَبِيٍّ - أنْ يَكُونَ لِكُلِّ ولِيٍّ عَدُوٌّ يَتَظاهَرُ بِعَداوَتِهِ، وفِيهِ إشارَةٌ إلى سُوءِ حالِ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مَعَ أوْلِياءِ اللَّهِ تَعالى، ولِذا قِيلَ: إنَّ عَداوَتَهم عَلامَةُ سُوءِ الخاتِمَةِ والعِياذُ بِاللَّهِ تَعالى، وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنَّمَ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّهم كانُوا مُتَوَجِّهِينَ إلى جِهَةِ الطَّبِيعَةِ ولِذا حُشِرُوا مَنكُوسِينَ، وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَواهُ أفَأنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وكِيلا﴾ (p-56)أنَّهُ عامٌّ في كُلِّ مَن مالَ إلى هَوى نَفْسِهِ واتَّبَعَهُ فِيما تَوَجَّهَ إلَيْهِ، ومِن هُنا دَقَّقَ العارِفُونَ النَّظَرَ في مَقاصِدِ أنْفُسِهِمْ حَتّى إنَّهم إذا أمَرْتَهم بِمَعْرُوفٍ لَمْ يُسارِعُوا إلَيْهِ، وتَأمَّلُوا ماذا أرَدْتَ بِذَلِكَ، فَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أنَّ نَفْسَهُ لَمْ تَزَلْ تَحُسُّهُ عَلى الجِهادِ في سَبِيلِ اللَّهِ تَعالى، فاسْتَغْرَبَ ذَلِكَ مِنها لِعِلْمِهِ أنَّ النَّفْسَ أمّارَةٌ بِالسُّوءِ، فَأمْعَنَ النَّظَرَ فَإذا هي قَدْ ضَجِرَتْ مِنَ العِبادَةِ فَأرادَتِ الجِهادَ رَجاءَ أنْ تُقْتَلَ فَتَسْتَرِيحَ مِمّا هي فِيهِ مِنَ النَّصَبِ، ولَمْ تَقْصِدْ بِذَلِكَ الطّاعَةَ، بَلْ قَصَدَتِ الفِرارَ مِنها. وقِيلَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾ الآيَةَ، أيْ: ألَمْ تَرَ كَيْفَ مَدَّ ظِلَّ عالَمِ الأجْسامِ ﴿ولَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِنًا﴾ في كَتْمِ العَدَمِ، ثُمَّ جَعَلْنا شَمْسَ عالَمِ الأرْواحِ عَلى وُجُودِ ذَلِكَ الظِّلِّ دَلِيلًا بِأنْ كانَتْ مُحَرِّكَةً لَها إلى غايَتِها المَخْلُوقَةِ هي لِأجْلِها، فَعُرِفَ مِن ذَلِكَ أنَّهُ لَوْلا الأرْواحُ لَمْ تُخْلَقِ الأجْسادُ، وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ قَبَضْناهُ إلَيْنا قَبْضًا يَسِيرًا﴾ إشارَةٌ إلى أنَّ كُلَّ مُرَكَّبٍ فَإنَّهُ سَيَنْحَلُّ إلى بَسائِطِهِ إذا حَصَلَ عَلى كَمالِهِ الأخِيرِ، وبِوَجْهٍ آخَرَ: الظِّلُّ ما سِوى نُورِ الأنْوارِ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلى صانِعِهِ الَّذِي هو شَمْسُ عالَمِ الوُجُودِ، وهَذا شَأْنُ الذّاهِبِينَ مِن غَيْرِهِ سُبْحانَهُ إلَيْهِ عَزَّ وجَلَّ، وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنا﴾ إشارَةٌ إلى مَرْتَبَةٍ أعْلى مِن ذَلِكَ، وهي الِاسْتِدْلالُ بِهِ تَعالى عَلى غَيْرِهِ سُبْحانَهُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ وهَذِهِ مَرْتَبَةُ الصِّدِّيقِينَ. وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿ثُمَّ قَبَضْناهُ﴾ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلا وجْهَهُ﴾، وألّا إلى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ وبِوَجْهٍ آخَرَ: الظِّلُّ حِجابُ الذُّهُولِ والغَفْلَةِ، والشَّمْسُ شَمْسُ تَجَلِّي المَعْرِفَةِ مِن أُفُقِ العِنايَةِ عِنْدَ صَباحِ الهِدايَةِ، ولَوْ شاءَ سُبْحانَهُ لَجَعَلَهُ دائِمًا لا يَزُولُ، وإنَّما يُسْتَدَلُّ عَلى الذُّهُولِ بِالعِرْفانِ، وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ قَبَضْناهُ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّ الكَشْفَ التّامَّ يَحْصُلُ بِالتَّدْرِيجِ عِنْدَ انْقِضاءِ مُدَّةِ التَّكْلِيفِ. ﴿وهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباسًا﴾ تَسْتَتِرُونَ بِهِ عَنْ رُؤْيَةِ الأجانِبِ لَكم واطِّلاعِهِمْ عَلى حالِكم مِنَ التَّواجُدِ وسَكْبِ العَبَراتِ ﴿والنَّوْمَ سُباتًا﴾ راحَةً لِأبْدانِكم مِن نَصَبِ المُجاهَداتِ ﴿وجَعَلَ النَّهارَ نُشُورًا﴾ تَنْتَشِرُونَ فِيهِ لِطَلَبِ ضَرُورِيّاتِكم ﴿وهُوَ الَّذِي أرْسَلَ الرِّياحَ﴾ أيْ: رِياحَ الِاشْتِياقِ عَلى قُلُوبِ الأحْبابِ ﴿بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ مِنَ التَّجَلِّياتِ والكُشُوفِ ﴿وأنْزَلْنا﴾ مِن سَماءِ الكَرَمِ ماءَ حَياةِ العِرْفانِ ﴿لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا﴾ أيْ: قُلُوبًا مَيْتَةً ﴿ونُسْقِيَهُ مِمّا خَلَقْنا أنْعامًا﴾ وهُمُ الَّذِينَ غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الصِّفاتُ الحَيَوانِيَّةُ، يَسْقِيهِمْ سُبْحانَهُ لِيَرُدَّهم إلى القِيامِ بِالعِباداتِ ﴿وأناسِيَّ كَثِيرًا﴾ وهُمُ الَّذِينَ سَكَنُوا إلى رِياضِ الإنْسِ يَسْقِيهِمْ سُبْحانَهُ مِن ذَلِكَ لِيَفْطِمَهم عَنْ مَراضِعِ الإنْسانِيَّةِ إلى المَشارِبِ الرُّوحانِيَّةِ ﴿ولَقَدْ صَرَّفْناهُ﴾ أيِ: القُرْآنَ الَّذِي هو ماءُ حَياةِ القُلُوبِ بَيْنَهم ﴿لِيَذَّكَّرُوا﴾ بِهِ مَوْطِنَهُمُ الأصْلِيَّ ﴿فَأبى أكْثَرُ النّاسِ إلا كُفُورًا﴾ بِنِعْمَةِ القُرْآنِ وما عَرَفُوا قَدْرَها ﴿وهُوَ الَّذِي مَرَجَ البَحْرَيْنِ﴾ بَحْرَ الرُّوحِ وبَحْرَ النَّفْسِ (هَذا) وهو بَحْرُ الرُّوحِ ﴿عَذْبٌ فُراتٌ﴾ مِنَ الصِّفاتِ الحَمِيدَةِ الرَّبّانِيَّةِ، (وهَذا) وهو بَحْرُ النَّفْسِ ﴿مِلْحٌ أُجاجٌ﴾ مِنَ الصِّفاتِ الذَّمِيمَةِ الحَيَوانِيَّةِ ﴿وجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخًا وحِجْرًا مَحْجُورًا﴾ فَحَرامٌ عَلى الرُّوحِ أنْ يَكُونَ مَنشَأ الصِّفاتِ الذَّمِيمَةِ، وعَلى النَّفْسِ أنْ تَكُونَ مَعْدِنَ الصِّفاتِ الحَمِيدَةِ. وذُكِرَ أنَّ البَرْزَخَ هو القَلْبُ، وقالَ ابْنُ عَطاءٍ: تَلاطَمَتْ صِفَتانِ فَتَلاقَيَتا في قُلُوبِ الخَلْقِ، فَقُلُوبُ أهْلِ المَعْرِفَةِ مُنَوَّرَةٌ بِأنْوارِ الهِدايَةِ، مُضِيئَةٌ بِضِياءِ الإقْبالِ، وقُلُوبُ أهْلِ النَّكِرَةِ مُظْلِمَةٌ بِظُلُماتِ المُخالَفَةِ، مُعْرِضَةٌ عَنْ سُنَنِ التَّوْفِيقِ، وبَيْنَهُما قُلُوبُ العامَّةِ لَيْسَ لَها عِلْمٌ بِما يَرِدُ عَلَيْها وما يَصْدُرُ مِنها، لَيْسَ مَعَها خِطابٌ ولا لَها جَوابٌ، وقِيلَ: البَحْرُ العَذْبُ إشارَةٌ إلى بَحْرِ الشَّرِيعَةِ، وعُذُوبَتُهُ لِما أنَّ الشَّرِيعَةَ سَهْلَةٌ لا حَرَجَ فِيها ولا دِقَّةَ في مَعانِيها، ولِذَلِكَ (p-57)صارَتْ مَوْرِدَ الخَواصِّ والعَوامِّ، والبَحْرُ المِلْحُ إشارَةٌ إلى بَحْرِ الحَقِيقَةِ، ومُلُوحَتُهُ لِما أنَّ الحَقِيقَةَ صَعْبَةُ المَسالِكِ لا يَكادُ يُدْرِكُ ما فِيها عَقْلُ السّالِكِ، والبَرْزَخُ إشارَةٌ إلى الطَّرِيقَةِ؛ فَإنَّها لَيْسَتْ بِسَهْلَةٍ كالشَّرِيعَةِ ولا صَعْبَةٍ كالحَقِيقَةِ بَلْ بَيْنَ بَيْنَ. ﴿تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ في السَّماءِ بُرُوجًا﴾ قِيلَ: هو إشارَةٌ إلى أنَّهُ سُبْحانَهُ جَعَلَ في سَماءِ القُلُوبِ بُرُوجَ المَنازِلِ والمَقاماتِ، وهي اثْنا عَشَرَ: التَّوْبَةُ والزُّهْدُ والخَوْفُ والرَّجاءُ والتَّوَكُّلُ والصَّبْرُ والشُّكْرُ واليَقِينُ والإخْلاصُ والتَّسْلِيمُ والتَّفْوِيضُ والرِّضا، وهي مَنازِلُ الأحْوالِ السَّيّارَةِ: شَمْسُ التَّجَلِّي، وقَمَرُ المُشاهَدَةِ، وزَهْرَةُ الشَّوْقِ، ومُشْتَرِي المَحَبَّةِ، وعُطارِدُ الكُشُوفِ، ومِرِّيخُ الفَناءِ، وزُحَلُ البَقاءِ، «﴿وعِبادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلى الأرْضِ هَوْنًا﴾» بِغَيْرِ فَخْرٍ ولا خُيَلاءَ لِما شاهَدُوا مِن كِبْرِياءِ اللَّهِ تَعالى وجَلالِهِ جَلَّ شَأْنُهُ. وذَكَرَ بَعْضُهم أنَّ هَؤُلاءِ العِبادَ يُعامِلُونَ الأرْضَ مُعامَلَةَ الحَيَوانِ لا الجَمادِ، ولِذا يَمْشُونَ عَلَيْها هَوْنًا ﴿وإذا خاطَبَهُمُ الجاهِلُونَ﴾ وهم أبْناءُ الدُّنْيا ﴿قالُوا سَلامًا﴾ أيْ: سَلامَةً مِنَ اللَّهِ تَعالى مِن شَرِّكُمْ، أوْ إذا خاطَبَهم كُلُّ ما سِوى اللَّهِ تَعالى مِنَ الدُّنْيا والآخِرَةِ وما فِيهِما مِنَ اللَّذَّةِ والنَّعِيمِ وتَعَرَّضَ لَهم لِيَشْغَلَهم عَمّا هم فِيهِ ﴿قالُوا سَلامًا﴾ سَلامُ مُتارَكَةٍ وتَوْدِيعٍ ﴿والَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وقِيامًا﴾ لِما عَلِمُوا أنَّ الصَّلاةَ مِعْراجُ المُؤْمِنِ، واللَّيْلَ وقْتُ اجْتِماعِ المُحِبِّ بِالحَبِيبِ: ؎نَهارِي نَهارُ النّاسِ حَتّى إذا بَدا لِي اللَّيْلُ هَزَّتْنِي إلَيْكَ المَضاجِعُ ؎أقْضِي نَهارِي بِالحَدِيثِ وبِالمُنى ∗∗∗ ويَجْمَعُنِي والهَمَّ بِاللَّيْلِ جامِعُ ﴿والَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا اصْرِفْ عَنّا عَذابَ جَهَنَّمَ إنَّ عَذابَها كانَ غَرامًا﴾ إشارَةٌ إلى مَزِيدِ خَوْفِهِمْ مِنَ القَطِيعَةِ والبُعْدِ عَنْ مَحْبُوبِهِمْ، وذَلِكَ ما عَنَوْهُ بِعَذابِ جَهَنَّمَ لا العَذابُ المَعْرُوفُ، فَإنَّ المُحِبَّ الصّادِقَ يَسْتَعْذِبُهُ مَعَ الوِصالِ، ألا تَسْمَعَ ما قِيلَ: ؎فَلَيْتَ سُلَيْمى في المَنامِ ضَجِيعَتِي ∗∗∗ في جَنَّةِ الفِرْدَوْسِ أوْ في جَهَنَّمَ ﴿والَّذِينَ إذا أنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُرُوا﴾ إشارَةٌ إلى أنَّ فُيُوضاتِهِمْ حَسَبَ قابِلِيَّةِ المُفاضِ عَلَيْهِ لا يُسْرِفُونَ فِيها بِأنْ يُفِيضُوا فَوْقَ الحاجَةِ ولا يُقَتِّرُونَ بِأنْ يُفِيضُوا دُونَ الحاجَةِ، أوْ إلى أنَّهم إذا أنْفَقُوا وُجُودَهم في ذاتِ اللَّهِ تَعالى وصِفاتِهِ - جَلَّ شَأْنُهُ - لَمْ يُبالِغُوا في الرِّياضَةِ إلى حَدِّ تَلَفِ البَدَنِ ولَمْ يُقَتِّرُوا في بَذْلِ الوُجُودِ بِالرُّكُونِ إلى الشَّهَواتِ ﴿والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ﴾ بِرَفْعِ حَوائِجِهِمْ إلى الأغْيارِ ﴿ولا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ﴾ قَتْلَها ﴿إلا بِالحَقِّ﴾ أيْ: إلّا بِسَطْوَةِ تَجَلِّياتِهِ تَعالى ﴿ولا يَزْنُونَ﴾ بِالتَّصَرُّفِ في عَجُوزِ الدُّنْيا ولا يَنالُونَ مِنها شَيْئًا إلّا بِإذْنِهِ تَعالى ﴿والَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ لا يَحْضُرُونَ مَجالِسَ الباطِلِ مِنَ الأقْوالِ والأفْعالِ ﴿وإذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ﴾ وهو ما لا يُقَرِّبُهم إلى مَحْبُوبِهِمْ ﴿مَرُّوا كِرامًا﴾ مُعْرِضِينَ عَنْهُ ﴿والَّذِينَ إذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وعُمْيانًا﴾ بَلْ أقْبَلُوا عَلَيْها بِالسَّمْعِ والطّاعَةِ مُشاهِدِينَ بِعُيُونِ قُلُوبِهِمْ أنْوارَ ما ذُكِّرُوا بِهِ مِن كَلامِ رَبِّهِمْ ﴿والَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِن أزْواجِنا﴾ مَنِ ازْدَوَجَ مَعَنا وصَحِبَنا (وذُرِّيّاتِنا) الَّذِينَ أخَذُوا عَنّا ﴿قُرَّةَ أعْيُنٍ﴾ بِأنْ يُوَفَّقُوا لِلْعَمَلِ الصّالِحِ ﴿واجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إمامًا﴾ وهُمُ الفائِزُونَ بِالفَناءِ والبَقاءِ الأتَمَّيْنِ ﴿أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الغُرْفَةَ﴾ وهو مَقامُ العِنْدِيَّةِ ﴿بِما صَبَرُوا﴾ في البِدايَةِ عَلى تَكالِيفِ الشَّرِيعَةِ، وفي الوَسَطِ عَلى التَّأدُّبِ بِآدابِ الطَّرِيقَةِ، وفي النِّهايَةِ عَلى ما تَقْتَضِيهِ الحَقِيقَةُ (p-58)﴿ويُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً﴾ هي أُنْسُ الأسْرارِ بِالحَيِّ القَيُّومِ وسَلامًا وهو سَلامَةُ القُلُوبِ مِن خُطُورِ القَطِيعَةِ ﴿خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا ومُقامًا﴾ لِأنَّها مَشْهَدُ الحَقِّ، ومَحَلُّ رِضا المَحْبُوبِ المُطْلَقِ. نَسْألُ اللَّهَ تَعالى أنْ يَمُنَّ عَلَيْنا بِرِضائِهِ، ويَمْنَحَنا بِسَوابِغِ نَعْمائِهِ وآلائِهِ بِحُرْمَةِ سَيِّدِ أنْبِيائِهِ، وأحَبِّ أحِبّائِهِ، ﷺ، وشَرَّفَ قَدْرَهُ وعَظَّمَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب