الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلا صالِحًا﴾ فَإنَّ اسْتِثْناءَ المُؤْمِنِ يَدُلُّ عَلى اعْتِبارِ الكُفْرِ في المُسْتَثْنى مِنهُ. وأُورِدَ عَلَيْهِ أنَّ تَكَرُّرَ لا النّافِيَةِ يُفِيدُ نَفْيَ كُلٍّ مِن تِلْكَ الأفْعالِ، بِمَعْنى: لا يُوقِعُونَ شَيْئًا مِنها، فَيَكُونُ ﴿ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ بِمَعْنى: ومَن يَفْعَلْ شَيْئًا مِن ذَلِكَ؛ لِيَتَّحِدَ مَوْرِدُ الإثْباتِ والنَّفْيِ، فَلا دَلالَةَ عَلى الِانْضِمامِ، والمُسْتَثْنى مَن جَمَعَ بَيْنَ ما ذُكِرَ مِنَ الإيمانِ والتَّوْبَةِ والعَمَلِ الصّالِحِ، فَيَكُونُ المُسْتَثْنى مِنهُ غَيْرَ جامِعٍ لَها، فَلَعَلَّ الجَوابَ أنَّ المُضاعَفَةَ بِالنِّسْبَةِ إلى عَذابٍ ما دُونُ المَذْكُوراتِ. وتُعُقِّبَ بِأنَّ الجَوابَ المَذْكُورَ لا بَعْدَ فِيهِ - وإنْ لَمْ يُذْكَرْ ما دُونَها - إلّا أنَّ الإيرادَ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّ الكَلامَ تَعْرِيضٌ لِلْكَفَرَةِ، ومَن يَفْعَلْ شَيْئًا مِن ذَلِكَ مِنهم فَقَدْ ضَمَّ مَعْصِيَتَهُ إلى كُفْرِهِ، ولَوْ لَمْ يُلاحِظْ ذَلِكَ - عَلى ما اخْتارَهُ - لَزِمَ أنَّ مَنِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً يَكُونُ مُخَلَّدًا، ولا يَخْفى فَسادُهُ عِنْدَنا، وما ذُكِرَ مِنِ اتِّحادِ مَوْرِدِ الإثْباتِ والنَّفْيِ لَيْسَ بِلازِمٍ. ثُمَّ إنَّ في الكَلامِ قَرِينَةً عَلى أنَّ المُسْتَثْنى مِنهُ مَن جَمَعَ بَيْنَ أضْدادِها - كَما عَلِمْتَ - ولِذا جُمِعَ بَيْنَ الإيمانِ والعَمَلِ الصّالِحِ، مَعَ أنَّ العَمَلَ مَشْرُوطٌ بِالإيمانِ، فَذِكْرُهُ لِلْإشارَةِ إلى انْتِفائِهِ عَنِ المُسْتَثْنى مِنهُ، ولِذا قَدَّمَ التَّوْبَةَ عَلَيْهِ، ويُحْتَمَلُ أنَّ تَقْدِيمَها لِأنَّها تَخْلِيَةٌ، وقالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ المُرادُ بِالمُضاعَفَةِ المَذْكُورَةِ ضَمَّ قَدْرَيْنِ مُتَساوِيَيْنِ مِنَ العَذابِ كُلٍّ مِنهُما بِقَدْرِ ما تَقْتَضِيهِ المَعْصِيَةُ، بَلِ المُرادُ لازِمُ ذَلِكَ، وهو الشِّدَّةُ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يُعَذَّبْ عَذابًا شَدِيدًا، ويَكُونُ ذَلِكَ العَذابُ الشَّدِيدُ جَزاءَ كُلٍّ مِن تِلْكَ الأفْعالِ ومُماثِلًا لَهُ، والقَرِينَةُ عَلى المَجازِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إلا مِثْلَها﴾ ونَحْوُهُ، ويُرادُ مِنَ الخُلُودِ المُكْثُ الطَّوِيلُ الصّادِقُ بِالخُلُودِ الأبَدِيِّ وغَيْرِهِ، ويَكُونُ لِمَن أشْرَكَ بِاعْتِبارِ فَرْدِهِ الأوَّلِ، ولِمَنِ ارْتَكَبَ إحْدى الكَبِيرَتَيْنِ الأخِيرَتَيْنِ بِاعْتِبارِ فَرْدِهِ الآخِرِ وهو كَما تَرى، ومِثْلُهُ ما قِيلَ مِن أنَّ المُضاعَفَةَ لِحِفْظِ ما تَقْتَضِيهِ المَعْصِيَةُ؛ فَإنَّ الأمْرَ الشَّدِيدَ إذا دامَ هانَ. هَذا، والظّاهِرُ أنَّ الِاسْتِثْناءَ مُتَّصِلٌ - عَلى ما هو الأصْلُ فِيهِ - وقالَ أبُو حَيّانَ: الأوْلى عِنْدِي أنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا، أيْ: لَكِنْ مَن تابَ ... إلَخْ؛ لِأنَّ المُسْتَثْنى مِنهُ عَلى تَقْدِيرِ الِاتِّصالِ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِأنَّهُ يُضاعَفُ لَهُ العَذابُ، فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: إلّا مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلًا صالِحًا فَلا يُضاعَفُ لَهُ العَذابُ، ولا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفاءِ التَّضْعِيفِ بَقاءُ العَذابِ غَيْرِ المُضَعَّفِ، وفِيهِ: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى الآتِي ( فَأُوْلئِكَ ) إلَخْ، احْتِراسٌ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ ثُبُوتِ أصْلِ العَذابِ بِإفادَةِ أنَّهم لا يَلْقَوْنَهُ أصْلًا عَلى أكْمَلِ وجْهٍ، وقِيلَ - أيْضًا - في تَرْجِيحِ الِانْقِطاعِ: إنَّ الِاتِّصالَ - مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ إيهامِهِ ثُبُوتَ أصْلِ العَذابِ، بَلْ وعَنْ إيهامِهِ الخُلُودَ غَيْرَ مُهانٍ - يُوهِمُ أنَّ مُضاعَفَةَ العَمَلِ الصّالِحِ شَرْطٌ لِنَفْيِ الخُلُودِ، مَعَ أنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ. ثُمَّ أيَّةُ ضَرُورَةٍ تَدْعُو إلى أنْ يَرْتَكِبَ ما فِيهِ إيهامٌ، ثُمَّ يَتَشَبَّثُ بِأذْيالِ الِاحْتِراسِ، عَلى أنَّ الظّاهِرَ أنْ يُجْعَلَ (مَن) مُبْتَدَأً والجُمْلَةَ المَقْرُونَةَ بِالفاءِ خَبَرَهُ، وقُرِنَتْ بِذَلِكَ لِوُقُوعِها خَبَرًا عَنِ المَوْصُولِ، كَما في قَوْلِكَ: الَّذِي يَأْتِينِي فَلَهُ دِرْهَمٌ، وأنا أمِيلُ لِما مالَ إلَيْهِ أبُو حَيّانَ لِمَجْمُوعِ ما ذُكِرَ، وذِكْرُ المَوْصُوفِ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وعَمِلَ عَمَلا صالِحًا﴾ (p-50)- مَعَ جَرَيانِ الصّالِحِ والصّالِحاتِ مَجْرى الِاسْمِ - لِلِاعْتِناءِ بِهِ والتَّنْصِيصِ عَلى مُغايَرَتِهِ لِلْأعْمالِ السّابِقَةِ. ﴿فَأُولَئِكَ﴾ إشارَةٌ إلى المَوْصُولِ، والجَمْعُ بِاعْتِبارِ مَعْناهُ، كَما أنَّ الإفْرادَ في الأفْعالِ الثَّلاثَةِ بِاعْتِبارِ لَفْظِهِ، أيْ: فَأُولَئِكَ المَوْصُوفُونَ بِالتَّوْبَةِ والإيمانِ والعَمَلِ الصّالِحِ. ﴿يُبَدِّلُ اللَّهُ﴾ في الدُّنْيا ﴿سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ﴾ بِأنْ يَمْحُوَ سَوابِقَ مَعاصِيهِمْ بِالتَّوْبَةِ، ويُثْبِتَ مَكانَها لَواحِقَ طاعاتِهِمْ، كَما يُشِيرُ إلى ذَلِكَ كَلامُ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ، وقِيلَ: المُرادُ بِالسَّيِّئاتِ والحَسَناتِ مَلَكَتُهُما لِأنْفُسِهِما، أيْ: يُبَدِّلُ - عَزَّ وجَلَّ - بِمَلَكَةِ السَّيِّئاتِ ودَواعِيها في النَّفْسِ مَلَكَةَ الحَسَناتِ، بِأنْ يُزِيلَ الأوْلى ويَأْتِيَ بِالثّانِيَةِ، وقِيلَ: هَذا التَّبْدِيلُ في الآخِرَةِ، والمُرادُ بِالسَّيِّئاتِ والحَسَناتِ العِقابُ والثَّوابُ مَجازًا مِن بابِ إطْلاقِ السَّبَبِ وإرادَةِ المُسَبَّبِ، والمَعْنى يَعْفُو - جَلَّ وعَلا - عَنْ عِقابِهِمْ ويَتَفَضَّلُ سُبْحانَهُ عَلَيْهِمْ بَدَلَهُ بِالثَّوابِ، وإلى هَذا ذَهَبَ القَفّالُ، والقاضِي. وعَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، وعَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، ومَكْحُولٍ أنَّ ذَلِكَ بِأنْ تُمْحى السَّيِّئاتُ نَفْسُها يَوْمَ القِيامَةِ مِن صَحِيفَةِ أعْمالِهِمْ ويُكْتَبَ بَدَلَها الحَسَناتُ، واحْتَجُّوا بِالحَدِيثِ الَّذِي رَواهُ مُسْلِمٌ في الصَّحِيحِ عَنْ أبِي ذَرٍّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««يُؤْتى بِالرَّجُلِ يَوْمَ القِيامَةِ فَيُقالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغارَ ذُنُوبِهِ ويُنَحّى عَنْهُ كِبارُها، فَيُقالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذا وكَذا كَذا وكَذا، وهو يُقِرُّ لا يُنْكِرُ، وهو مُشْفِقٌ مِنَ الكَبائِرِ، فَيُقالُ: أعْطُوهُ مَكانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ عَمَلِها حَسَنَةً، فَيَقُولُ: إنَّ لِي ذُنُوبًا لَمْ أرَها هُنا، قالَ: ولَقَدْ رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - ضَحِكَ حَتّى بَدَتْ نَواجِذُهُ»». ونَحْوُ هَذا ما أخْرَجَهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدُويَهْ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: ««لَيَأْتِيَنَّ ناسٌ يَوْمَ القِيامَةِ ودُّوا أنَّهُمُ اسْتَكْثَرُوا مِنَ السَّيِّئاتِ، قِيلَ: مَن هُمْ؟ قالَ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: الَّذِينَ يُبَدِّلُ اللَّهُ تَعالى سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ»» ويُسَمّى هَذا التَّبْدِيلُ كَرَمَ العَفْوِ، وكَأنَّهُ لِذَلِكَ قالَ أبُو نُواسٍ: ؎تَعَضُّ نَدامَةً كَفَّيْكَ مِمّا تَرَكْتَ مَخافَةَ الذَّنْبِ السُّرُورا ولَعَلَّ المُرادَ أنَّهُ تُغْفَرُ سَيِّئاتُهُ، ويُعْطى بَدَلَ كُلِّ سَيِّئَةٍ ما يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ ثَوابَ حَسَنَةٍ تَفَضُّلًا مِنهُ - عَزَّ وجَلَّ - وتَكَرُّمًا لا أنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ أفْعالُ حَسَناتٍ لَمْ يَفْعَلْها ويُثابُ عَلَيْها. وفِي كَلامِ أبِي العالِيَةِ ما هو ظاهِرٌ في إنْكارِ تَمَنِّي الِاسْتِكْثارِ مِنَ السَّيِّئاتِ، فَقَدْ أخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ أنَّهُ قِيلَ لَهُ: إنَّ أُناسًا يَزْعُمُونَ أنَّهم يَتَمَنَّوْنَ أنْ يَسْتَكْثِرُوا مِنَ الذُّنُوبِ فَقالَ: ولِمَ ذَلِكَ؟ فَقِيلَ: يَتَأوَّلُونَ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ﴾ وكانَ أبُو العالِيَةِ إذا أُخْبِرَ بِما لا يَعْلَمُ قالَ: آمَنتُ بِما أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى مِن كِتابِهِ، فَقالَ ذَلِكَ ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِن خَيْرٍ مُحْضَرًا وما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أنَّ بَيْنَها وبَيْنَهُ أمَدًا بَعِيدًا﴾ وكَأنَّهُ ظَنَّ أنَّ ما تَلاهُ مُنافٍ لِما زَعَمُوهُ مِنَ التَّمَنِّي، ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّ ما دَلَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الآيَةُ يَكُونُ قَبْلَ الوُقُوفِ عَلى التَّبْدِيلِ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ. ﴿وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ اعْتِراضٌ تَذْيِيلِيٌّ مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِ ما قَبْلَهُ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب