الباحث القرآني

﴿الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما في سِتَّةِ أيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ قَدْ سَلَفَ تَفْسِيرُهُ، ومَحَلُّ المَوْصُولِ الجَرُّ عَلى أنَّهُ صِفَةٌ أُخْرى لِلْحَيِّ، ووُصِفَ سُبْحانَهُ بِالصِّفَةِ الفِعْلِيَّةِ بَعْدَ وصْفِهِ - جَلَّ وعَلا - بِالأبَدِيَّةِ الَّتِي هي مِنَ الصِّفاتِ الذّاتِيَّةِ، والإشارَةُ إلى اتِّصافِهِ تَعالى بِالعِلْمِ الشّامِلِ لِتَقْرِيرِ وُجُوبِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ - جَلَّ جَلالُهُ – وتَأْكِيدِهِ، فَإنَّ مَن أنْشَأ هَذِهِ الأجْرامَ العِظامَ عَلى هَذا النَّمَطِ الفائِقِ، والنَّسَقِ الرّائِقِ، بِتَدْبِيرٍ مَتِينٍ، وتَرْتِيبٍ رَصِينٍ، في أوْقاتٍ مُعَيَّنَةٍ - مَعَ كَمالِ قُدْرَتِهِ سُبْحانَهُ عَلى إبْداعِها دُفْعَةً بِحِكَمِ جَلِيلَةٍ وغاياتٍ جَمِيلَةٍ لا تَقِفُ عَلى تَفاصِيلِها العُقُولُ - أحَقُّ مَن يُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ وأوْلى مَن يُفَوَّضُ الأمْرُ إلَيْهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿الرَّحْمَنُ﴾ مَرْفُوعٌ عَلى المَدْحِ، أيْ: هو الرَّحْمَنُ، وهو في الحَقِيقَةِ وصْفٌ آخَرُ لِلْحَيِّ - كَما في قِراءَةِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِالجَرِّ - مُفِيدٌ لِزِيادَةِ تَأْكِيدِ ما ذُكِرَ مِن وُجُوبِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ - جَلَّ شَأْنُهُ - وإنْ لَمْ يَتْبَعْهُ في الإعْرابِ لِما تَقَرَّرَ مِن أنَّ المَنصُوبَ والمَرْفُوعَ مَدْحًا - وإنْ خَرَجًا عَنِ التَّبَعِيَّةِ لِما قَبْلَهُما صُورَةً حَيْثُ لَمْ يَتْبَعاهُ في الإعْرابِ وبِذَلِكَ سُمِّيا قَطْعًا - لَكِنَّهُما تابِعانِ لَهُ حَقِيقَةً، ألا تَرى كَيْفَ التَزَمُوا حَذْفَ الفِعْلِ والمُبْتَدَأِ؛ رَوْمًا لِتَصْوِيرِ كُلٍّ مِنهُما بِصُورَةِ مُتَعَلِّقٍ مِن مُتَعَلِّقاتِ ما قَبْلَهُ، وتَنْبِيهًا عَلى شِدَّةِ الِاتِّصالِ بَيْنَهُما، وإنَّما قَطَعُوا لِلِافْتِتانِ المُوجِبِ لِإيقاظِ السّامِعِ وتَحْرِيكِهِ إلى الجِدِّ في الإصْغاءِ. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ المَوْصُولُ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الِاخْتِصاصِ، وأنْ يَكُونَ في مَحَلِّ رَفْعٍ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ صِفَةً لَهُ، أوْ مُبْتَدَأٌ والرَّحْمَنُ خَبَرُهُ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ ( الرَّحْمَنُ ) بَدَلًا مِنَ المُسْتَكِنِّ في «اسْتَوى» ويَجُوزُ عَلى مَذْهَبِ الأخْفَشِ أنْ يَكُونَ «الرَّحْمَنُ» مُبْتَدَأً، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاسْألْ بِهِ خَبِيرًا﴾ خَبَرَهُ عَلى حَدِّ تَخْرِيجِهِ قَوْلَ الشّاعِرِ: ؎وقائِلَةٍ خَوْلانُ فانْكِحْ فَتاتَهُمْ وهُوَ بَعِيدٌ. والظّاهِرُ أنَّ هَذِهِ جُمْلَةٌ مُنْقَطِعَةٌ عَمّا قَبْلَها إعْرابًا، والفاءُ فَصِيحَةٌ، والجارُّ والمَجْرُورُ صِلَةُ (اسْألْ) والسُّؤالُ - كَما يُعَدّى بِعْنَ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنى التَّفْتِيشِ - يُعَدّى بِالباءِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنى الِاعْتِناءِ، وعَلَيْهِ قَوْلُ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدَةَ: ؎فَإنْ تَسْألُونِي بِالنِّساءِ فَإنَّنِي ∗∗∗ خَبِيرٌ بِأدْواءِ النِّساءِ طَبِيبُ فَلا حاجَةَ إلى جَعْلِها بِمَعْنى عَنْ كَما فَعَلَ الأخْفَشُ والزَّجّاجُ، والضَّمِيرُ راجِعٌ إلى ما ذُكِرَ إجْمالًا مِنَ الخَلْقِ والِاسْتِواءِ، والمَعْنى: إنْ شِئْتَ تَحْقِيقَ ما ذُكِرَ أوْ تَفْصِيلَ ما ذُكِرَ فاسْألْ مُعْتَنِيًا بِهِ، خَبِيرًا عَظِيمَ الشَّأْنِ، مُحِيطًا بِظَواهِرِ الأُمُورِ وبَواطِنِها، وهو اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - يُطْلِعْكَ عَلى جَلِيَّةِ الأمْرِ. والمَسْؤُولُ في الحَقِيقَةِ تَفاصِيلُ ما ذُكِرَ لا نَفْسُهُ؛ إذْ بَعْدَ بَيانِهِ لا يَبْقى إلى السُّؤالِ حاجَةٌ، ولا في تَعْدِيَتِهِ بِالباءِ المَبْنِيَّةِ عَلى تَضْمِينِهِ مَعْنى الِاعْتِناءِ المُسْتَدْعِي لِكَوْنِ المَسْؤُولِ أمْرًا خَطِيرًا مُهْتَمًّا بِشَأْنِهِ غَيْرَ حاصِلٍ لِلسّائِلِ - فائِدَةٌ؛ فَإنَّ نَفْسَ الخَلْقِ والِاسْتِواءِ بَعْدَ الذِّكْرِ لَيْسَ (p-39)كَذَلِكَ كَما لا يَخْفى. وكَوْنُ التَّقْدِيرِ: إنْ شَكَكْتَ فِيهِ فاسْألْ بِهِ خَبِيرًا عَلى أنَّ الخِطابَ لَهُ ﷺ والمُرادَ غَيْرُهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - بِمَعْزِلٍ عَنِ السَّدادِ، وقِيلَ: ( بِهِ ) صِلَةُ ( خَبِيرًا ) قُدِّمَ لِرُؤُوسِ الآيِ. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ الكَلامُ مِن بابِ التَّجْرِيدِ، نَحْوُ: رَأيْتُ بِهِ أسَدًا، أيْ: رَأيْتُ بِرُؤْيَتِهِ أسَدًا، فَكَأنَّهُ قِيلَ هُنا: فاسْألْ بِسُؤالِهِ خَبِيرًا، والمَعْنى: إنْ سَألْتَهُ وجَدْتَهُ خَبِيرًا، والباءُ عَلَيْهِ لَيْسَتْ صِلَةً؛ فَإنَّها باءُ التَّجْرِيدِ، وهي - عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ – سَبَبِيَّةٌ، والخَبِيرُ عَلَيْهِ هو اللَّهُ تَعالى أيْضًا، وقَدْ ذَكَرَ هَذا الوَجْهَ السَّجاوَنْدِيُّ، واخْتارَهُ صاحِبُ الكَشْفِ، قالَ: وهو أوْجَهُ لِيَكُونَ كالتَّتْمِيمِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ إلَخْ، فَإنَّهُ لِإثْباتِ القُدْرَةِ مُدْمَجًا فِيهِ العِلْمُ، وكَوْنُ ضَمِيرِ (بِهِ) راجِعًا إلى ما ذُكِرَ مِنَ الخَلْقِ والِاسْتِواءِ، و(الخَبِيرُ) في الآيَةِ هو اللَّهُ تَعالى مَرْوِيٌّ عَنِ الكَلْبِيِّ، ورُوِيَ تَفْسِيرُ الخَبِيرِ بِهِ تَعالى عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أيْضًا. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - الخَبِيرُ هو جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، وقِيلَ: هو مَن وجَدَ ذَلِكَ في الكُتُبِ القَدِيمَةِ المُنَزَّلَةِ مِن عِنْدِهِ تَعالى، أيْ: فاسْألْ بِما ذُكِرَ مِنَ الخَلْقِ والِاسْتِواءِ مَن عَلِمَ بِهِ مِن أهْلِ الكُتُبِ لِيُصَدِّقَكَ، وقِيلَ: إذا أُرِيدَ بِالخَبِيرِ مَن ذُكِرَ فَضَمِيرُ ( بِهِ ) لِلرَّحْمَنِ، والمَعْنى: إنْ أنْكَرُوا إطْلاقَ الرَّحْمَنِ عَلَيْهِ تَعالى فاسْألْ بِهِ مَن يُخْبِرُكَ مِن أهْلِ الكِتابِ لِيَعْرِفُوا مَجِيءَ ما يُرادِفُهُ في كُتُبِهِمْ، وفِيهِ أنَّهُ لا يُناسِبُ ما قَبْلَهُ؛ لِأنَّ فِيهِ عَوْدَ الضَّمِيرِ لِلَفْظِ ( الرَّحْمَنُ ) دُونَ مَعْناهُ، وهو خِلافُ الظّاهِرِ، ولِأنَّهُ كانَ الظّاهِرُ حِينَئِذٍ أنْ يُؤَخَّرَ عَنْ قَوْلِهِ تَعالى: ( ما الرَّحْمَنُ ) . وقِيلَ: الخَبِيرُ مُحَمَّدٌ ﷺ وضَمِيرُ ( بِهِ ) لِلرَّحْمَنِ، والمُرادُ: فاسْألْ بِصِفاتِهِ، والخِطابُ لِغَيْرِهِ ﷺ مِمَّنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ ولَيْسَ بِشَيْءٍ، كَما لا يَخْفى، وقِيلَ: ضَمِيرُ ( بِهِ ) لِلرَّحْمَنِ، والمُرادُ: فاسْألْ بِرَحْمَتِهِ وتَفاصِيلِها عارِفًا يُخْبِرْكَ بِها، أوِ المُرادُ: فاسْألْ بِرَحْمَتِهِ حالَ كَوْنِهِ عالِمًا بِكُلِّ شَيْءٍ، عَلى أنَّ ( خَبِيرًا ) حالٌ مِنَ الهاءِ لا مَفْعُولُ (اسْألْ) كَما في الأوْجُهِ السّابِقَةِ. وجَوَّزَ أبُو البَقاءِ أنْ يَكُونَ ( خَبِيرًا ) حالًا مِنَ ( الرَّحْمَنُ ) إذا رُفِعَ بِـ(اسْتَوى) وقالَ: يَضْعُفُ أنْ يَكُونَ حالًا مِن فاعِلِ (اسْألْ) لِأنَّ الخَبِيرَ لا يُسْألُ إلّا عَلى جِهَةِ التَّوْكِيدِ، مِثْلُ: ﴿وهُوَ الحَقُّ مُصَدِّقًا﴾ والوَجْهُ الأقْرَبُ الأوْلى في الآيَةِ مِن بَيْنِ الأوْجُهِ المَذْكُورَةِ لا يَخْفى، وقُرِئَ «فَسَلْ» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب