الباحث القرآني

﴿وهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباسًا﴾ بَيانٌ لِبَعْضِ بَدائِعِ آثارِ قُدْرَتِهِ - عَزَّ وجَلَّ - ورَوائِعِ أحْكامِ رَحْمَتِهِ ونِعْمَتِهِ الفائِضَةِ عَلى الخَلْقِ، وتَلْوِينُ الخِطابِ (p-29)لِتَوْفِيَةِ مَقامِ الِامْتِنانِ حَقَّهُ، واللّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ(جَعَلَ) وتَقْدِيمُها عَلى مَفْعُولَيْهِ لِلِاعْتِناءِ بِبَيانِ كَوْنِ ما بَعْدُ مِن مَنافِعِهِمْ، وفي تَعْقِيبِ بَيانِ أحْوالِ الظِّلِّ بِبَيانِ أحْكامِ اللَّيْلِ الَّذِي هو ظِلُّ الأرْضِ مِن لُطْفِ المَسْلَكِ ما لا مَزِيدَ عَلَيْهِ، أيْ: وهو الَّذِي جَعَلَ لِنَفْعِكُمُ اللَّيْلَ كاللِّباسِ يَسْتُرُكم بِظَلامِهِ كَما يَسْتُرُكُمُ اللِّباسُ ( وجَعَلَ النَّوْمَ ) الَّذِي يَقَعُ فِيهِ غالِبًا بِسَبَبِ اسْتِيلاءِ الأبْخِرَةِ عَلى القُوى عادَةً، وقِيلَ: بِشَمِّ نَسِيمٍ يَهَبُّ مِن تَحْتِ العَرْشِ، ولا يَكادُ يَصِحُّ. ﴿سُباتًا﴾ راحَةً لِلْأبْدانِ بِقِطَعِ الأفاعِيلِ الَّتِي تَكُونُ حالَ اليَقَظَةِ، وأصْلُ السَّبْتِ القَطْعُ، وقِيلَ: يَوْمُ السَّبْتِ لِما جَرَتِ العادَةُ مِنَ الِاسْتِراحَةِ فِيهِ عَلى ما قِيلَ، وقِيلَ: لِأنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يَخْلُقْ فِيهِ شَيْئًا، ويُقالُ لِلْعَلِيلِ إذا اسْتَراحَ مِن تَعَبِ العِلَّةِ: مَسْبُوتٌ، وإلى هَذا ذَهَبَ أبُو مُسْلِمٍ. وقالَ أبُو حَيّانَ: السُّباتُ ضَرْبٌ مِنَ الإغْماءِ يَعْتَرِي اليَقْظانَ مَرَضًا، فَشُبِّهَ النَّوْمُ بِهِ، والسَّبْتُ الإقامَةُ في المَكانِ فَكانَ النَّوْمُ سُكُونًا ما. ﴿وجَعَلَ النَّهارَ نُشُورًا﴾ أيْ: ذا نُشُورٍ، يَنْتَشِرُ فِيهِ النّاسُ لِطَلَبِ المَعاشِ، فَهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وجَعَلْنا النَّهارَ مَعاشًا﴾ وفي جَعْلِهِ نَفْسَ النُّشُورِ مُبالَغَةٌ، وقِيلَ: نُشُورًا بِمَعْنى (ناشِرًا) عَلى الإسْنادِ المَجازِيِّ، وجُوِّزَ أنْ يُرادَ بِالسُّباتِ المَوْتُ لِما فِيهِ مِن قَطْعِ الإحْساسِ أوِ الحَياةِ، وعُبِّرَ عَنِ النَّوْمِ بِهِ لِما بَيْنَهُما مِنَ المُشابَهَةِ التّامَّةِ في انْقِطاعِ أحْكامِ الحَياةِ، وعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهُوَ الَّذِي يَتَوَفّاكم بِاللَّيْلِ﴾ وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿اللَّهُ يَتَوَفّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِها والَّتِي لَمْ تَمُتْ في مَنامِها﴾ وبِالنُّشُورِ البَعْثُ، أيْ: وجَعَلَ النَّهارَ زَمانَ بَعْثٍ مِن ذَلِكَ السُّباتِ، أوْ نَفْسَ البَعْثِ عَلى سَبِيلِ المُبالَغَةِ. وأبى الزَّمَخْشَرِيُّ الرّاحَةَ في تَفْسِيرِ السُّباتِ، وقالَ: إنَّهُ يَأْباهُ النُّشُورُ في مُقابَلَتِهِ إباءَ العَيُوفِ الوَرْدَ وهو مُرَنَّقٌ، وكَأنَّ ذَلِكَ لِأنَّ النُّشُورَ في القُرْآنِ لا يَكادُ يُوجَدُ بِمَعْنى الِانْتِشارِ والحَرَكَةِ لِطَلَبِ المَعاشِ، وعَلَّلَ في الكَشْفِ إباءَ الزَّمَخْشَرِيِّ بِذَلِكَ، وبِأنَّ الآياتِ السّابِقَةَ واللّاحِقَةَ - مَعَ ما فِيها مِنَ التَّذْكِيرِ بِالنِّعْمَةِ والقُدْرَةِ - أُدْمِجَ فِيها الدَّلالَةُ عَلى الإعادَةِ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أنْ لا يُفَرَّقَ بَيْنَ هَذِهِ وبَيْنَ أتْرابِها. وكَأنَّهُ جَعَلَ جَعْلَ اللَّيْلِ لِباسًا والنَّوْمَ فِيهِ سُباتًا بِمَجْمُوعِهِ مُقابِلَ جَعْلِ النَّهارِ نُشُورًا، ولِهَذا كُرِّرَ (جَعَلَ) فِيهِ لِما فى النُّشُورِ مِن مَعْنى الظُّهُورِ والحَرَكَةِ النّاصِبَةِ، أوْ مَعْنى الظُّهُورِ والبَعْثِ، ولَمْ يَسْلُكْ في آيَةِ سُورَةِ النَّبَأِ هَذا المَسْلَكَ لِما لا يَخْفى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب