الباحث القرآني

﴿إنْ كادَ﴾ إنْ مُخَفَّفَةٌ مِن إنَّ، واسْمُها عِنْدَ بَعْضٍ ضَمِيرُ الشَّأْنِ مَحْذُوفٌ، أيْ: إنَّهُ كادَ ﴿لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا﴾ أيْ: لَيَصْرِفُنا عَنْ عِبادَتِها صَرْفًا كُلِّيًّا بِحَيْثُ يُبْعِدُنا عَنْها لا عَنْ عِبادَتِها فَقَطْ، والعُدُولُ إلى الإضْلالِ لِغايَةِ ضَلالِهِمْ بِادِّعاءِ أنَّ عِبادَتَها طَرِيقٌ سَوِيٌّ. ﴿لَوْلا أنْ صَبَرْنا عَلَيْها﴾ ثَبَتْنا عَلَيْها واسْتَمْكَنّا بِعِبادَتِها، ولَوْلا في أمْثالِ هَذا الكَلامِ يَجْرِي مَجْرى التَّقْيِيدِ لِلْحُكْمِ المُطْلَقِ مِن حَيْثُ المَعْنى دُونَ اللَّفْظِ، وهَذا اعْتِرافٌ مِنهم بِأنَّهُ ﷺ قَدْ بَلَغَ مِنَ الِاجْتِهادِ في الدَّعْوَةِ إلى التَّوْحِيدِ وإظْهارِ المُعْجِزاتِ وإقامَةِ الحُجَجِ والبَيِّناتِ ما شارَفُوا بِهِ أنْ يَتْرُكُوا دِينَهم لَوْلا فَرْطُ لُجاجِهِمْ وغايَةُ عِنادِهِمْ، ولا يُنافِي هَذا اسْتِحْقارَهم واسْتِهْزائَهُمُ السّابِقَ؛ لِأنَّ هَذا مِن وجْهٍ وذاكَ مِن وجْهٍ آخَرَ زَعَمُوهُ سَبَبًا لِذَلِكَ قاتَلَهُمُ اللَّهُ تَعالى. وقِيلَ: إنَّ كَلامَهم قَدْ تَناقَضَ لِاضْطِرابِهِمْ وتَحَيُّرِهِمْ، فَإنَّ الِاسْتِفْهامَ السّابِقَ دالٌّ عَلى الِاسْتِحْقارِ وهَذا دالٌّ عَلى قُوَّةِ حُجَّتِهِ وكَمالِ عَقْلِهِ ﷺ فَفِيما حَكاهُ سُبْحانَهُ عَنْهم تَحْمِيقٌ لَهم وتَجْهِيلٌ لِاسْتِهْزائِهِمْ بِما اسْتَعْظَمُوهُ. وقِيلَ عَلَيْهِ: إنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ في اعْتِرافِهِمْ بِما ذُكِرَ بَلِ الظّاهِرُ أنَّهُ أُخْرِجَ في مَعْرِضِ التَّسْلِيمِ تَهَكُّمًا، كَما في قَوْلِهِمْ: بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا، وفِيهِ مَنعٌ ظاهِرٌ، والتَّناقُضُ مُنْدَفِعٌ كَما لا يَخْفى. ﴿وسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العَذابَ﴾ الَّذِي يَسْتَوْجِبُهُ كُفْرُهم وعِنادُهم ﴿مَن أضَلُّ سَبِيلا﴾ أيْ يَعْلَمُونَ جَوابَ هَذا، عَلى أنَّ ( مَن ) اسْتِفْهامِيَّةٌ مُبْتَدَأٌ ( وأضَلُّ ) خَبَرُها، والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ مَفْعُولَيْ ( يَعْلَمُونَ ) إنْ كانَتْ (p-23)تَعَدَّتْ إلى مَفْعُولَيْنِ، أوْ في مَوْضِعِ مَفْعُولٍ واحِدٍ إنْ كانَتْ مُتَعَدِّيَةً إلى واحِدٍ، أوْ يَعْلَمُونَ الَّذِي هو أضَلُّ عَلى أنَّ مَن مَوْصُولَةٌ، مَفْعُولُ ( يَعْلَمُونَ ) و(أضَلُّ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، والجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصُولِ، وحُذِفَ صَدْرُ الصِّلَةِ وهو العائِدُ لِطُولِها بِالتَّمْيِيزِ، وكَأنَّ أُولَئِكَ الكَفَرَةَ لَمّا جَعَلُوا دَعْوَتَهُ ﷺ إلى التَّوْحِيدِ إضْلالًا حَيْثُ قالُوا: ﴿إنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا﴾ إلَخْ - والمُضِلُّ لِغَيْرِهِ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ ضالًّا في نَفْسِهِ - جِيءَ بِهَذِهِ الجُمْلَةِ رَدًّا عَلَيْهِمْ بِبَيانِ أنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - هادٍ لا مُضِلٌّ عَلى أبْلَغَ وجْهٍ، فَإنَّها تَدُلُّ عَلى نَفْيِ الضَّلالِ عَنْهُ ﷺ لِأنَّ المُرادَ أنَّهم يَعْلَمُونَ أنَّهم في غايَةِ الضَّلالِ لا هُوَ، ونَفْيُ اللّازِمِ يَقْتَضِي نَفْيَ مَلْزُومِهِ فَيَلْزَمُهُ أنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ هادِيًا لا مُضِلًّا، وفي تَقْيِيدِ العِلْمِ بِوَقْتِ رُؤْيَةِ العَذابِ وعِيدٌ لَهم وتَنْبِيهٌ عَلى أنَّهُ تَعالى لا يُهْمِلُهم وإنْ أمْهَلَهُمْ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب