الباحث القرآني
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ﴾ حِكايَةٌ لِاحْتِجاجِهِ تَعالى عَلى العَبَدَةِ بِطَرِيقِ تَلْوِينِ الخِطابِ وصَرْفِهِ عَنِ المَعْبُودِينَ عِنْدَ تَمامِ جَوابِهِمْ وتَوَجُّهِهِ إلى العَبَدَةِ مُبالَغَةً في تَقْرِيعِهِمْ وتَبْكِيتِهِمْ عَلى تَقْدِيرِ قَوْلٍ مُرَتَّبٍ عَلى الجَوابِ أيْ فَقالَ اللَّهُ تَعالى عِنْدَ ذَلِكَ: قَدْ كَذَّبَكُمُ المَعْبُودُونَ أيُّها الكَفَرَةُ، وقالَ بَعْضُ الأجِلَّةِ الفاءُ فَصِيحَةٌ مِثْلُها في قَوْلِ عَبّاسِ بْنِ الأحْنَفِ:
؎قالُوا خُراسانَ أقْصى ما يُرادُ بِنا ثُمَّ القُفُولُ فَقَدْ جِئْنا خُراسانا
والتَّقْدِيرُ هُنا قُلْنا أوْ قالَ تَعالى إنْ قُلْتُمْ إنَّهم آلِهَةٌ فَقَدْ كَذَّبُوكم ﴿بِما تَقُولُونَ﴾ أيْ في قَوْلِكم عَلى أنَّ الباءَ بِمَعْنى في وما مَصْدَرِيَّةٌ والجارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِالفِعْلِ والقَوْلُ بِمَعْنى المَقُولِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ ما مَوْصُولَةً والعائِدُ مَحْذُوفٌ أيْ في الَّذِي تَقُولُونَهُ، وجَوَّزَ أنْ تَكُونَ الباءُ صِلَةً والمَجْرُورُ بَدَلَ اشْتِمالٍ مِنَ الضَّمِيرِ المَنصُوبِ في كَذَّبُوكُمْ، والمُرادُ بِمِقْوَلِهِمْ أنَّهم آلِهَةٌ أوْ هَؤُلاءِ أضَلُّونا، وتَعَقَّبَ بِأنَّ تَكْذِيبَهم في هَذا القَوْلِ لا تَعَلُّقَ لَهُ بِما بَعْدَهُ مِن عَدَمِ اسْتِطاعَتِهِمْ لِلصَّرْفِ والنَّصْرِ أصْلًا وإنَّما الَّذِي يَسْتَتْبِعُهُ تَكْذِيبُهم في زَعْمِهِمْ أنَّهم آلِهَتُهم وناصِرُوهم وفِيهِ نَظَرٌ كَما سَنُشِيرُ إلَيْهِ قَرِيبًا إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، وقِيلَ: الخِطابُ لِلْمَعْبُودِينَ أيْ فَقَدْ كَذَّبَكُمُ العابِدُونَ أيُّها المَعْبُودُونَ في قَوْلِكم سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أنْ نَتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِن أوْلِياءٍ حَيْثُ زَعَمُوا أنَّكم آلِهَةً، والمُرادُ الحُكْمُ عَلى أُولَئِكَ المُكَذِّبِينَ بِالكُفْرِ عَلى وجْهٍ فِيهِ اسْتِزادَةُ غَيْظِ المَعْبُودِينَ عَلَيْهِمْ وجَعَلَهُ مُفَرَّعًا عَلَيْهِ ما سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى.
والفاءُ أيْضًا فَصِيحَةٌ، والجُمْلَةُ جَزاءٌ بِاعْتِبارِ الأخْبارِ، وقِيلَ: هو خِطابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ في الدُّنْيا فَقَدْ كَذَّبَكم أيُّها المُؤْمِنُونَ الكَفَرَةُ في الدُّنْيا فِيما تَقُولُونَهُ مِنَ التَّوْحِيدِ وجِيءَ بِالكَلامِ لِيُفَرِّعَ عَلَيْهِ ما بَعْدُ وكِلا القَوْلَيْنِ كَما تَرى والثّانِي أبْعَدُهُما، وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ «يَقُولُونَ» بِالياءِ آخِرَ الحُرُوفِ وهي رِوايَةٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وقَنْبَلِ الخِطابِ في ﴿كَذَّبُوكُمْ﴾ لِلْعابِدِينَ وضَمِيرُ الجَمْعِ فِيهِ وفي «يَقُولُونَ» لِلْمَعْبُودِينَ أيْ فَقَدْ كَذَّبَكم أيُّها العَبَدَةُ المَعْبُودُونَ بِزَعْمِكم بِقَوْلِهِمْ سُبْحانَكَ إلَخْ والباءُ لِلْمُلابَسَةِ أوِ الِاسْتِعانَةِ، وفِيهِ أيْضًا القَوْلانِ السّابِقانِ أيْ فَقَدْ كَذَّبَكم أيُّها المَعْبُودُونَ العَبَدَةُ بِقَوْلِهِمْ إنَّكم آلِهَةٌ أوْ فَقَدْ كَذَّبَكم أيُّها المُؤْمِنُونَ الكُفّارُ في التَّوْحِيدِ بِقَوْلِهِمْ: إنَّ هَؤُلاءِ المَحْكِيَّ عَنْهم آلِهَةٌ (p-253)﴿فَما تَسْتَطِيعُونَ﴾ أيْ فَما تَمْلِكُونَ أيُّها العَبَدَةُ ﴿صَرْفًا﴾ أيْ دَفْعًا لِلْعَذابِ عَنْ أنْفُسِكم بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ كَما يُعْرِبُ عَنْهُ التَّنْكِيرُ أيْ لا بِالذّاتِ ولا بِالواسِطَةِ، وقِيلَ: حِيلَةٌ مِن قَوْلِهِمْ: إنَّهُ لِيَصْرِفَ في أُمُورِهِ أيْ يَحْتالُ فِيها، وقِيلَ: تَوْبَةٌ، وقِيلَ: فِدْيَةٌ والأوَّلُ أظْهَرُ فَإنَّ أصْلَ الصَّرْفِ رَدُّ الشَّيْءِ مِن حالَةٍ إلى أُخْرى وإطْلاقُهُ عَلى الحِيلَةِ أوِ التَّوْبَةِ أوِ الفِدْيَةِ مَجازٌ، والمُرادُ فَما تَمْلِكُونَ دَفْعًا لِلْعَذابِ قَبْلَ حُلُولِهِ ﴿ولا نَصْرًا﴾ أيْ فَرْدًا مِن أفْرادِ النَّصْرِ أيِ العَوْنِ لا مِن جِهَةِ أنْفُسِكم ومِن جِهَةِ غَيْرِكم بَعْدَ حُلُولِهِ، وقِيلَ: نَصْرًا جَمْعُ ناصِرٍ كَصَحْبٍ جَمْعُ صاحِبٍ ولَيْسَ بِشَيْءٍ، والفاءُ لِتَرْتِيبِ عَدَمِ الِاسْتِطاعَةِ عَلى ما قَبْلِها مِنَ التَّكْذِيبِ لَكِنْ لا عَلى مَعْنى أنَّهُ لَوْلاهُ لَوَجَدَتِ الِاسْتِطاعَةُ حَقِيقَةً بَلْ في زَعْمِهِمْ حَيْثُ كانُوا يَزْعُمُونَ أنَّهم يَدْفَعُونَ عَنْهُمُ العَذابَ ويَنْصُرُونَهم وفِيهِ ضَرْبُ تَهَكُّمٍ بِهِمْ، والمُرادُ مِنَ التَّكْذِيبِ المُرَتَّبِ عَلَيْهِ ما ذَكَرَ تَكْذِيبَهم بِقَوْلِهِمْ إنَّهم آلِهَةٌ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِهِ تَكْذِيبُهم بِقَوْلِهِمْ: هَؤُلاءِ أضَلُّونا وهو مُتَضَمِّنٌ نَفْيِ كَوْنِهِمْ آلِهَةً وبِذَلِكَ يَتِمُّ أمْرُ التَّرْتِيبِ.
وقَرَأ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ وأكْثَرُ السَّبْعَةِ «يَسْتَطِيعُونَ» بِالياءِ التَّحْتِيَّةِ
أيْ فَما يَسْتَطِيعُ آلِهَتُكم دَفْعًا لِلْعَذابِ عَنْكُمْ، وقِيلَ حِيلَةٌ لِدَفْعِهِ، وقِيلَ فِدْيَةٌ عَنْكم ولا نَصْرًا لَكُمْ، وقِيلَ في مَعْنى الآيَةِ عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ الخِطابِ السّابِقِ لِلْمُؤْمِنِينَ إنَّهُ سُبْحانَهُ أرادَ أنَّ هَؤُلاءِ الكَفَرَةَ شَدِيدٌ والشَّكِيمَةُ في التَّكْذِيبِ المُوجِبِ لِلتَّعْذِيبِ فَما تَسْتَطِيعُونَ أنْتُمْ صَرْفَهم عَنْهُ ولا نَصْرًا لَكم فِيما يُصِيبُهم مِمّا يَسْتَوْجِبُهُ مِنَ العَذابِ هَذا عَلى قِراءَةِ حَفْصٍ «تَسْتَطِيعُونَ» بِالتّاءِ الفَوْقِيَّةِ وأمّا عَلى قِراءَةِ الجَماعَةِ «يَسْتَطِيعُونَ» بِالياءِ فالمَعْنى ما يَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا لِأنْفُسِهِمْ عَمّا هم عَلَيْهِ ولا نَصْرًا لَها فِيما اسْتَوْجَبُوهُ بِتَكْذِيبِهِمْ مِنَ العَذابِ أوْ فَما يَسْتَطِيعُونَ صَرْفَكم عَنِ الحَقِّ الَّذِي أنْتُمْ عَلَيْهِ ولا نَصْرًا لِأنْفُسِهِمْ مِنَ العَذابِ انْتَهى وهو كَما تَرى ﴿ومَن يَظْلِمْ﴾ أيْ يَكْفُرُ ﴿مِنكُمْ﴾ أيُّها المُكَلَّفُونَ ويَعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ تَعالى إلَهًا آخَرَ كَهَؤُلاءِ الكَفَرَةِ ﴿نُذِقْهُ﴾ في الآخِرَةِ ﴿عَذابًا كَبِيرًا﴾ لا يُقادِرُ قَدْرَهُ وهو عَذابُ النّارِ، وقُرِئَ «يَذُقْهُ» عَلى أنَّ الضَّمِيرَ لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وقِيلَ:
لِمَصْدَرٍ يَظْلِمُ أيْ يَذُقْهُ الظُّلْمُ والإسْنادُ مَجازِيٌّ، وتَفْسِيرُ الظُّلْمِ بِالكُفْرِ هو المَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، والحَسَنُ وابْنُ جَرِيجٍ وأيَّدَ بِأنَّ المَقامَ يَقْتَضِيهِ فَإنَّ الكَلامَ في الكُفْرِ ووَعِيدِهِ مِن مُفْتَتَحِ السُّورَةِ، وجَوَّزَ أنْ يُرادَ بِهِ ما يَعُمُّ الشِّرْكَ وسائِرَ المَعاصِي والوَعِيدَ بِالعَذابِ لا يُنافِي العَفْوَ بِالنِّسْبَةِ إلى غَيْرِ المُشْرِكِ لِما حَقَّقَ في مَوْضِعِهِ. واخْتارَ الطَّيِّبِيُّ التَّفْسِيرَ الأوَّلَ وجَعَلَ الخِطابَ لِلْكُفّارِ أيْضًا لِأنَّ الكَلامَ فِيهِمْ مِن أوَّلُ وقَدْ سَبَقَ ﴿فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ﴾ وهَذِهِ الآيَةُ لِما يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنَ الأهْوالِ والنَّكالِ مِن لَدُنِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إذا رَأتْهم مِن مَكانٍ بَعِيدٍ﴾ [الفَرْقانُ: 12] ومَعْنى ﴿ومَن يَظْلِمْ﴾ حِينَئِذٍ ومَن يَدُمْ عَلى الظُّلْمِ، وفي الكَشْفِ الوَجْهُ أنَّ الخِطابَ عامٌّ والظُّلْمُ الكُفْرُ ﴿ومَن يَظْلِمْ﴾ مَظْهَرٌ أُقِيمَ مَقامَ المُضْمَرِ تَنْبِيهًا عَلى تَوَغُّلِهِمْ في الكَفْرِ وتَجاوُزِهِمْ حَدَّ الإنْصافِ والعَدْلِ إلى مَحْضِ الِاعْتِسافِ والجَدَلِ فِيما رَمَوْا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وكانَ الأصْلُ فَلا يَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا ولا نَصْرًا ونُذِيقُهم عَذابًا كَبِيرًا أوْ نُذِيقُكم عَلى اخْتِلافِ القِراءَتَيْنِ والحَمْلِ عَلى مَن يَدُمْ عَلى الظُّلْمِ مِنكم لِيَخْتَصَّ الخِطابُ بِالكُفّارِ صَحِيحٌ أيْضًا ولَكِنْ تَفُوتُهُ النُّكْتَةُ الَّتِي ذَكَرْناها انْتَهى. ولا يَخْفى أنَّ كَوْنَهُ مِن إقامَةِ المُظْهِرِ مَقامَ المُضْمَرِ خِلافَ الظّاهِرِ فَتَأمَّلْ.
{"ayah":"فَقَدۡ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسۡتَطِیعُونَ صَرۡفࣰا وَلَا نَصۡرࣰاۚ وَمَن یَظۡلِم مِّنكُمۡ نُذِقۡهُ عَذَابࣰا كَبِیرࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











