الباحث القرآني

﴿لَهم فِيها ما يَشاءُونَ﴾ قِيلَ اسْتِئْنافٌ وقَعَ جَوابًا لِسُؤالٍ نَشَأ مِمّا قَبِلَهُ حَيْثُ أفادَ أنَّ الجَنَّةَ مَسْكَنٌ لَهم والسّاكِنُ في دارٍ يَحْتاجُ إلى أشْياءَ كَثِيرَةً لِتَطِيبَ نَفْسُهُ بِسُكْناها فَكَأنَّ سائِلًا يَقُولُ: ما لَهم إذا صارُوا إلَيْها وسَكَنُوا فِيها؟ فَقِيلَ لَهم فِيها ما يَشاؤُونَ، وقالَ الطَّبَرْسِيُّ: الجُمْلَةُ في مَوْضِعِ الحالِ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿المُتَّقُونَ﴾ وما مَوْصُولَةٌ مُبْتَدَأٌ أوِ العائِدُ مَحْذُوفٌ ( ولَهم ) خَبَرُهُ ( وفِيها ) مُتَعَلِّقٌ بِما تَعَلَّقَ بِهِ أيْ كائِنٍ لَهم فِيها الَّذِي يَشاؤُونَهُ مِن فُنُونِ المَلاذِ والمُشْتَهِياتِ وأنْواعِ النَّعِيمِ الرُّوحانِيِّ والجُسْمانِيِّ، ولَعَلَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنهم يَقْتَنِعُ بِما أُبِيحَ لَهُ مِن دَرَجاتِ النَّعِيمِ ويَرى ما هو فِيهِ ألَذُّ الأشْياءِ ولا تَمْتَدُّ أعْناقُ هِمَمِهِمْ إلى ما فَوْقَ ذَلِكَ مِنَ المَراتِبِ العالِيَةِ ولا يَخْطُرُ بِبالِهِ ما يَخْطُرُ طَلَبُهُ ولا يَتَأتّى لَهُ فَلا يَشاءُ آحادُ المُؤْمِنِينَ رُتْبَةَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ ولا يَتَعَرَّضُونَ لِلشَّفاعَةِ لِمَن كُتِبَ عَلَيْهِ الخُلُودُ في النّارِ مَثَلًا فَلا يَلْزَمُ الحِرْمانَ ولا تَساوِي مَراتِبِ أهْلِ الجِنانِ، وعَلى ضِدِّ هَؤُلاءِ فِيما ذَكَرَ أهْلُ النّارِ فَقَدْ قالَ سُبْحانَهُ فِيهِمْ: ﴿وحِيلَ بَيْنَهم وبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ﴾ [سَبَأُ: 54] . (p-247)﴿خالِدِينَ﴾ حالَ مِن أحَدِ ضَمائِرِهِمْ عَلى ما قِيلَ وظاهِرُهُ عَدَمُ التَّرْجِيحِ، وقالَ بَعْضُ الأفاضِلِ: جَعَلَهُ حالًا مِنَ الأوَّلِ يَقْتَضِي كَوْنَها حالًا مُقَدَّرَةً ومِنَ الثّالِثِ يُوهِمُ تَقْيِيدَ المَشِيئَةِ بِها فَخَيْرُ الأُمُورِ أوْسَطُها، ورَجَّحَ بَعْضُهُمُ الثّالِثَ لِقُرْبِهِ والتَّقْيِيدُ غَيْرُ مُخِلٍّ بَلْ مُهِمٌّ، وجَوَّزَ كَوْنَها حالًا مِنَ المُتَّقِينَ ولا يَخْفى حالُهُ، ولِبَعْضِ الأجِلَّةِ هاهُنا كَلامٌ فِيهِ بَحْثٌ ذَكَرَهُ الحِمَصِيُّ في حَواشِي التَّصْرِيحِ فَلْيُراجَعْ ﴿كانَ﴾ أيِ الوَعْدِ بِما ذَكَرَ أوِ المَوْعُودُ المَفْهُومُ مِنَ الكَلامِ فَيَشْمَلُ الوَعْدَ بِالجَنَّةِ وبِحُصُولِ ما يَشاؤُونَ لَهم فِيها وبِالخُلُودِ عَلى الأوَّلِ والجَنَّةِ وحُصُولُ المُرادّاتِ والخُلُودُ المَوْعُودُ بِها عَلى الثّانِي، وقالَ بَعْضُهُمُ: الضَّمِيرُ لِلْخُلُودِ، وآخَرُ لِحُصُولِ ما يَشاؤُونَ لَهم فِيها أوَّلُهُ ولِكَوْنِ الجَنَّةِ جَزاءً ومَصِيرًا، والإفْرادُ بِاعْتِبارِ ما ذَكَرَ ويُغْنِي عَنْهُ ما سَمِعْتَ، والأكْثَرُونَ عَلى أنَّهُ لَما يَشاؤُونَ وهو اسْمُ كانَ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَلى رَبِّكَ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِها أوْ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِن قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وعْدًا﴾ وهو خَبَرُها، ولَمْ يُجَوِّزْ تَعَلُّقَ الجارِّ بِهِ سَواءً كانَ باقِيًا عَلى مَصْدَرِيَّتِهِ أوْ مُؤَوَّلًا باسِمِ المَفْعُولِ أيْ مَوْعُودًا لِما عَلِمْتَ مِنَ الخِلافِ في مَرْجِعِ الضَّمِيرِ بِناءً عَلى مَنعِ تَقْدِيمِ مَعْمُولِ المَصْدَرِ عَلَيْهِ وإنْ كانَ مُؤَوَّلًا بِغَيْرِهِ أوْ كانَ المُقَدَّمُ ظَرْفًا وفِيهِ خِلافٌ، وجَوَّزَ أنْ يَكُونَ ﴿عَلى رَبِّكَ﴾ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ هو الخَبَرُ ( ووَعْدًا ) مَصْدَرًا مُؤَكَّدًا، والأظْهَرُ أنْ يَجْعَلَ هو الخَبَرُ أيْ كانَ ذَلِكَ وعْدًا أوْ مَوْعُودًا ﴿مَسْؤُولا﴾ أيْ حَقِيقِيًّا أنْ يَسْألَ ويُطْلَبَ لِكَوْنِهِ مِمّا يَتَنافَسُ فِيهِ المُتَنافِسُونَ أوْ سَبَبًا لِحُصُولِ ذَلِكَ فَمَسْؤُولِيَّتِهِ كِنايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ أمْرًا عَظِيمًا ويَجُوزُ أنْ يُرادَ كَوْنَ المَوْعُودِ مَسْؤُولًا حَقِيقَةٍ بِمَعْنى يَسْألُهُ النّاسُ في دُعائِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: ﴿رَبَّنا وآتِنا ما وعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ﴾ [آلُ عِمْرانَ: 194]، وقالَ سَعِيدُ بْنُ أبِي هِلالٍ: سَمِعْتُ أبا حازِمٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ يَقُولُ: إذا كانَ يَوْمَ القِيامَةِ يَقُولُ المُؤْمِنُونَ: رَبَّنا عَمَلْنا لَكَ بِما أمَرْتَنا فانْجُزْ لَنا ما وعَدَتْنا فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وعْدًا مَسْؤُولا﴾ . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ مِن طَرِيقِ سَعِيدٍ هَذا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ أنَّهُ قالَ في الآيَةِ: إنَّ المَلائِكَةَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ لِتَسْألَ ذَلِكَ في قَوْلِهِمْ: ﴿رَبَّنا وأدْخِلْهم جَنّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وعَدْتَهُمْ﴾ [غافِرٌ: 8] والتَّعَرُّضُ لِعُنْوانِ الرُّبُوبِيَّةِ مَعَ الإضافَةِ إلى ضَمِيرِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِتَشْرِيفِهِ ﷺ والإشْعارُ بِأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ هو الفائِزُ بِمَغانِمِ الوَعْدِ الكَرِيمِ. واسْتَشْكَلَتِ الآيَةُ عَلى مَذْهَبِ الإشارَةِ لِأنَّها تَدُلُّ عَلى الوُجُوبِ عَلى اللَّهِ تَعالى لِمَكانِ «عَلى» وعِنْدَهم لا يَجِبُ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ شَيْءٌ لِاسْتِلْزامِ ذَلِكَ سَلْبِ الِاخْتِيارِ وعَدَمِ اسْتِحْقاقِ الحَمْدِ، وأُجِيبُ بِأنَّ الوُجُوبَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الآيَةُ وُجُوبٌ بِمُقْتَضى الوَعْدِ والمُمْتَنِعُ إيجابُ الإلْجاءِ والقَسْرُ مِن خارِجٍ لِأنَّهُ السّالِبُ لِلِاخْتِيارِ المُوجِبِ لِلْمُفْسِدَةِ دُونَ إيجابِهِ تَعالى عَلى نَفْسِهِ شَيْئًا بِمُقْتَضى وعْدِهِ وكَرَمِهِ فَإنَّهُ مَسْبُوقٌ بِالإرادَةِ والوُجُوبُ النّاشِئِ مِنَ الإرادَةِ لا يُنافِي الِاخْتِيارَ، وهَذا ظاهِرٌ إذا كانَ الوَعْدُ حادِثًا وأمّا إذا كانَ قَدِيمًا فالسّابِقِيَّةُ والمَسْبُوقِيَّةُ بِحَسْبِ الذّاتِ وذَلِكَ لا يَسْتَلْزِمُ الحُدُوثَ، أوْ يُقالُ: الحادِثُ بِالإرادَةِ تَعَلُّقُهُ بِالمَوْعُودِ بِهِ فافْهَمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب