الباحث القرآني

﴿وأقْسَمُوا بِاللَّهِ﴾ حِكايَةٌ لِبَعْضٍ آخَرَ مِن أكاذِيبِ الكَفَرَةِ المُنافِقِينَ مُؤَكِّدًا بِالأيْمانِ الفاجِرَةِ فَهو عَوْدٌ عَلى بَدْءٍ، والقَسَمُ الحَلْفُ وأصْلُهُ مِنَ القَسامَةِ وهي أيْمانٌ تُقْسَمُ عَلى مُتَّهَمِينَ بِقَتْلٍ حَسْبَما بَيَّنَ في كُتُبِ الفِقْهِ ثُمَّ صارَ اسْمًا لِكُلِّ حَلْفٍ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿جَهْدَ أيْمانِهِمْ﴾ نُصِبَ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِفِعْلِهِ المَحْذُوفِ، وجُمْلَةُ ذَلِكَ الفِعْلِ مَعَ فاعِلِهِ في مَوْضِعِ الحالِ أوْ هو نَصْبٌ عَلى الحالِ أيْ حَلَفُوا بِهِ تَعالى يُجْهِدُونَ أيْمانَهم جُهْدًا أوْ جاهِدِينَ أيْمانَهُمْ، ومَعْنى جُهْدِ اليَمِينِ بُلُوغُ غايَتِها بِطَرِيقِ الِاسْتِعارَةِ مِن قَوْلِهِمْ: جُهْدُ نَفْسِهِ إذا بَلَغَ أقْصى وُسْعِها وطاقَتِها، والمُرادُ أقْسَمُوا بِالغَيْنِ أقْصى مَراتِبِ اليَمِينِ في الشِّدَّةِ والوَكادَةِ، وجَوَّزَ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مُؤَكَّدًا لَأقْسَمُوا أيْ أقْسَمُوا أقْسامَ اجْتِهادٍ في اليَمِينِ، قالَ مُقاتِلٌ: مَن حَلَفَ بِاللَّهِ تَعالى فَقَدِ اجْتَهَدَ في اليَمِينِ. والظّاهِرُ هُنا أنَّهم غَلَّظُوا الأيْمانَ وشَدَّدُوها ولَمْ يَكْتَفُوا بِقَوْلِ واللَّهِ ﴿لَئِنْ أمَرْتَهُمْ﴾ أيْ بِالخُرُوجِ كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَيَخْرُجُنَّ﴾ والمُرادُ بِهَذا الخُرُوجِ الخُرُوجُ لِلْجِهادِ كَما أخْرَجَهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُقاتِلٍ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدُويَهٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما ما يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ الخُرُوجُ مِنَ الأمْوالِ. وأيًّا ما كانَ فالجُمْلَةُ جَوابٌ لَأقْسَمُوا وجَوابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ هَذِهِ الجُمْلَةِ عَلَيْهِ وهي حِكايَةٌ بِالمَعْنى والأصْلُ لَنَخْرُجُنَّ بِصِيغَةِ المُتَكَلِّمِ مَعَ الغَيْرِ، وقِيلَ الأصْلُ لَخَرَجْنا إلّا أنَّهُ أُرِيدَ حِكايَةُ الحالِ الماضِيَةِ فَعَبَّرَ بِذَلِكَ. وتَعَقَّبَ بِأنَّ المُعْتَبَرَ زَمانُ الحُكْمِ هو مُسْتَقْبَلٌ ﴿قُلْ﴾ أيْ رَدًّا عَلَيْهِمْ وزَجْرًا لَهم عَنِ التَّفَوُّهِ بِتِلْكَ الأيْمانِ وإظْهارًا لِعَدَمِ القَبُولِ لِكَوْنِهِمْ كاذِبِينَ فِيها لا ﴿تُقْسِمُوا﴾ عَلى ما يُنَبِّئُ عَنْهُ كَلامُكم مِنَ الطّاعَةِ ﴿طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ﴾ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أيْ طاعَتِكم طاعَةٌ، والجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ كَأنَّهُ قِيلَ لا تُقْسِمُوا عَلى ما تَدْعُونَ مِنَ الطّاعَةِ لِأنَّ طاعَتَكم طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِأنَّها واقِعَةٌ بِاللِّسانِ فَقَطْ مِن غَيْرِ مُواطَأةٍ مِنَ القَلْبِ لا يَجْهَلُها أحَدٌ مِنَ النّاسِ، وقِيلَ التَّقْدِيرُ المَطْلُوبُ مِنكم طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ مَعْلُومَةٌ لا يَشُكُّ فِيها كَطاعَةِ الخُلَّصِ مِنَ المُؤْمِنِينَ، وقِيلَ ﴿طاعَةٌ﴾ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أيْ طاعَةٍ مَعْرُوفَةٍ مُتَوَسِّطَةٍ عَلى قَدْرِ الِاسْتِطاعَةِ أمْثَلُ وأوْلى بِكم مِن قِسْمِكم. واخْتارَهُ الزَّجّاجُ، وقِيلَ: مَرْفُوعٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ أيْ لِتَكُنْ طاعَةً مَعْرُوفَةً مِنكُمْ، وضَعَّفَ الكُلُّ بِأنَّهُ مِمّا لا يُساعِدُهُ المُقامُ والأخِيرُ بِأنَّ فِيهِ حَذْفُ الفِعْلِ في غَيْرِ مَوْضِعِ الحَذْفِ. وقالَ البَقاعِيُّ: لا تَقْدِيرَ في الكَلامِ ( وطاعَةٌ ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ ﴿مَعْرُوفَةٌ﴾ وسَوَّغَ الِابْتِداءَ بِالنَّكِرَةِ أنَّها أُرِيدَ بِها (p-200)الحَقِيقَةَ فَتَعُمُّ والعُمُومُ مِنَ المُسَوِّغاتِ، ولَمْ تَعْرِفْ لِئَلّا يُتَوَهَّمُ أنَّ تَعْرِيفَها لِلْعَهْدِ، والجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ أيْ لا تُقْسِمُوا فَإنَّ الطّاعَةَ مَعْرُوفَةٌ مِنكم ومِن غَيْرِكم لا تُخْفى فَقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللَّهِ تَعالى عَلى أنَّ العَبْدَ وإنِ اجْتَهَدَ في إخْفاءِ الطّاعَةِ لا بُدَّ وأنْ يَظْهَرَ سُبْحانَهُ مَخايِلَها عَلى شَمائِلِهِ، وكَذا المَعْصِيَةُ فَلا فائِدَةَ في إظْهارِ ما يُخالِفُ الواقِعَ، وفي الأحادِيثِ ما يَشْهَدُ لِما ذُكِرَ، فَقَدْ رَوى الطَّبَرانِيُّ عَنْ جُنْدُبٍ «ما أسَرَّ عَبْدٌ سَرِيرَةً إلّا ألْبَسُهُ اللَّهُ تَعالى رِداءَها» ورَوى الحاكِمُ وقالَ صَحِيحُ الإسْنادِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: ««لَوْ أنَّ أحَدَكم يَعْمَلُ في صَخْرَةٍ صَمّاءَ لَيْسَ لَها بابٌ ولا كُوَّةٌ لَخَرَجَ عَمَلُهُ لِإنْسانٍ كائِنًا مَن كانَ»» وهَذا المَعْنى عَلى ما قِيلَ حَسَنٌ لَكِنَّهُ خِلافُ الظّاهِرِ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ واليَزِيدِيُّ «طاعَةً مَعْرُوفَةً» بِالنَّصْبِ عَلى تَقْدِيرِ تُطِيعُونَ طاعَةً مَعْرُوفَةً نَفاقِيَّةً، وقِيلَ أطِيعُوا طاعَةً مَعْرُوفَةً حَقِيقِيَّةً وطاعَةً بِمَعْنى إطاعَةٍ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنْبَتَكم مِنَ الأرْضِ نَباتًا﴾ [نُوحٌ: 17] ﴿إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ﴾ مِنَ الأعْمالِ الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها ما تَظْهَرُونَهُ مِنَ الأكاذِيبِ المُؤَكِّدَةِ بِالأيْمانِ الفاجِرَةِ وما تُضْمِرُونَهُ مِنَ الكُفْرِ والنِّفاقِ والعَزِيمَةِ عَلى مُخادَعَةِ المُؤْمِنِينَ وغَيْرِها مِن فُنُونِ الشَّرِّ والفَسادِ والمُرادُ الوَعِيدُ بِأنَّهُ تَعالى مُجازِيهِمْ بِجَمِيعِ أعْمالِهِمُ السَّيِّئَةِ الَّتِي مِنها نِفاقُهُمْ، وفي الإرْشادِ أنَّ الجُمْلَةَ تَعْلِيلٌ لِلْحُكْمِ بِأنَّ طاعَتَهم طاعَةٌ نِفاقِيَّةٌ مُشْعِرٌ بِأنَّ مَدارَ شُهْرَةِ أمْرِها فِيما بَيْنَ المُؤْمِنِينَ إخْبارُهُ تَعالى بِذَلِكَ ووَعِيدٌ لَهم بِالمُجازاةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب