الباحث القرآني
﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ﴾ شُرُوعٌ في بَيانِ حُكْمِ مَن نَسِبَ الزِّنا إلى غَيْرِهِ بَعْدَ بَيانِ حُكْمِ مَن فَعَلَهُ، والمَوْصُولُ عَلى ما اخْتارَهُ العَلّامَةُ الثّانِي في التَّلْوِيحِ مَنصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ فِعْلُ الأمْرِ بَعْدَ عَلَيْهِ أيِ اجْلِدُوا الَّذِينَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ في مَحَلِّ رَفْعٍ عَلى الِابْتِداءِ ولا يَخْفى عَلَيْكَ خَبَرُهُ والآيَةُ نَزَلَتْ في امْرَأةِ عُوَيْمِرٍ كَما في صَحِيحِ البُخارِيِّ، وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أنَّها نَزَلَتْ بِسَبَبِ قِصَّةِ الإفْكِ والرَّمْيِ مَجازًا عَنِ الشَّتْمِ.
وجُرْحُ اللِّسانِ كَجُرْحِ اليَدِ والمُرادُ الرَّمْيُ بِالزِّنا كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ إيرادُ ذَلِكَ عُقَيْبِ الزَّوانِي مَعَ جَعْلِ المَفْعُولِ ﴿المُحْصَناتِ﴾ الدّالُّ عَلى النَّزاهَةِ عَنِ الزِّنا وهَذا كالصَّرِيحِ في ذَلِكَ، ورُبَّما يُدْعى أنَّ اشْتِراطَ أرْبَعَةٍ مِنَ الشُّهُودِ يَشْهَدُونَ بِتَحَقُّقٍ ما رُمِيَ بِهِ كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فاجْلِدُوهم ثَمانِينَ جَلْدَةً﴾ قَرِينَةٌ عَلى المُرادِ بِناءً عَلى العِلْمِ بِأنَّهُ لا شَيْءَ يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهُ بِالشَّهادَةِ عَلى شَهادَةِ أرْبَعَةٍ إلّا الزِّنا، والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ النِّساءُ المُحْصَناتُ وعَلَيْهِ يَكُونُ ثُبُوتُ وُجُوبِ جَلْدِ رامِي المُحْصَنِ بِدَلالَةِ النَّصِّ لِلْقَطْعِ بِإلْغاءِ الفارِقِ وهو صِفَةُ (p-89)الأُنُوثَةِ واسْتِقْلال دَفَعَ عارَ ما نُسِبَ إلَيْهِ بِالتَّأْثِيرِ بِحَيْثُ لا يَتَوَقَّفُ فَهْمُهُ عَلى ثُبُوتِ أهْلِيَّةِ الِاجْتِهادِ، وكَذا ثُبُوتُ وُجُوبِ جَلْدِ رامِيَةِ المُحْصَنِ أوِ المُحْصَنَةِ بِتِلْكَ الدَّلالَةِ وإلّا فالَّذِينَ يَرْمُونَ لِلْجَمْعِ المُذَكَرِ، وتَخْصِيصُ الذُّكُورِ في جانِبٍ الرّامِي والإناثِ في جانِبِ المَرْمِيِّ لِخُصُوصِ الواقِعَةِ، وقِيلَ المُرادُ الفُرُوجُ المُحْصَناتُ وفِيهِ أنَّ إسْنادَ الرَّمْيِ يَأْباهُ مَعَ ما فِيهِ مِنَ التَّوْصِيفِ بِالمُحْصَناتِ مِن مُخالَفَةِ الظّاهِرِ.
وقالَ ابْنُ حَزْمٍ وحَكاهُ الزَّهْراوِيُّ: المُرادُ الأنْفُسُ المُحْصَناتُ واسْتَدَلَّ لَهُ أبُو حَيّانَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ﴾ [النِّساءُ: 24] فَإنَّهُ لَوْلا أنَّ المُحْصَناتِ صالِحٌ لِلْعُمُومِ لَمْ يُقَيِّدْ وتَعَقَّبْ بِأنَّ مِنَ النِّساءِ هُناكَ قَرِينَةً عَلى العُمُومِ ولا قَرِينَةَ هُنا، وجَعَلَ كَوْنَ حُكْمِ الرِّجالِ كَذَلِكَ قَرِينَةً لا يَخْلُو عَنْ شَيْءٍ فالأوْلى الِاعْتِمادُ عَلى ما تَقَدَّمَ والإحْصانُ هُنا، وجَعَلَ كَوْنَ حُكْمِ الرِّجالِ كَذَلِكَ قَرِينَةً لا يَخْلُو عَنْ شَيْءٍ فالأوْلى الِاعْتِمادُ عَلى ما تَقَدَّمَ والإحْصانُ هُنا لا يَتَحَقَّقُ إلّا بِتَحَقُّقِ العِفَّةِ عَنِ الزِّنا وهو مَعْناهُ المَشْهُورُ وبِالحَرِيَّةِ والبُلُوغِ والعَقْلِ والإسْلامِ.
قالَ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ: ولا نَعْلَمُ خِلافًا بَيْنَ الفُقَهاءِ في ذَلِكَ، ولَعَلَّ غَيْرَهُ عَلَّمَ كَما سَتَعْلَمُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، وثُبُوتُهُ بِإقْرارِ القاذِفِ أوْ شَهادَةِ رَجُلَيْنِ أوْ رَجُلٍ واِمْرَأتَيْنِ خِلافًا لِزَفَرٍ، ووَجْهُ اعْتِبارِ العِفَّةِ عَنِ الزِّنا ظاهِرٌ لَكِنَّ في شَرْحِ الطَّحاوِيِّ في الكَلامِ عَلى العِفَّةِ عَدَمُ الِاقْتِصارِ عَلى كَوْنِها عَنِ الزِّنا حَيْثُ قالَ فِيها: بِأنَّ لَمْ يَكُنْ وطِئَ امْرَأةً بِالزِّنا ولا بِشُبْهَةٍ ولا بِنِكاحٍ فاسِدٍ في عُمْرِهِ فَإنْ كانَ فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً يُرِيدُ النِّكاحَ الفاسِدَ تَسْقُطُ عَدالَتُهُ ولا حَدَّ عَلى قاذِفِهِ، وكَذا لَوْ وطِئَ في غَيْرِ المِلْكَ كَما إذا وطِئَ جارِيَةً مُشْتَرِكَةً بَيْنَهُ وبَيْنَ غَيْرِهِ سَقَطَتْ عَدالَتُهُ، ولَوْ وطِئَ في المِلْكِ إلّا أنَّهُ مُحَرَّمٌ فَإنَّهُ يَنْظُرُ إنْ كانَتِ الحُرْمَةُ مُؤَقَّتَةً لا تَسْقُطُ عَدالَتُهُ كَما إذا وطِئَ امْرَأتَهُ في الحَيْضِ أوْ أُمَّتَهُ المَجُوسِيَّةَ، وإنْ كانَتْ مُؤَبَّدَةً سَقَطَتْ عَدالَتُهُ كَما إذا وطِئَ أمَّتَهُ وهي أُخْتُهُ مِنَ الرَّضاعَةِ.
ولَوْ مَسَّ امْرَأةً أوْ نَظَرَ إلى فَرْجِها بِشَهْوَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَ بِنْتَها فَدَخَلَ بِها أوْ أُمِّها لا يَسْقُطُ إحْصانُهُ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ وعِنْدَهُما يَسْقُطُ، ولَوْ وطِئَ امْرَأةً بِالنِّكاحِ ثُمَّ تَزَوَّجَ بِها سَقَطَ إحْصانُهُ انْتَهى.
والمَذْكُورُ في غَيْرِ كِتابٍ أنَّ أبا حَنِيفَةَ يَشْتَرِطُ في سُقُوطِ الحَدِّ عَنْ قاذِفِ الواطِئِ في الحُرْمَةِ المُؤَبَّدَةِ كَوْنُ تِلْكَ الحُرْمَةِ ثابِتَةً بِحَدِيثٍ مَشْهُورٍ كَحُرْمَةِ وطْءِ المَنكُوحَةِ بِلا شُهُودِ الثّابِتَةِ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ««لا نِكاحَ إلّا بِشُهُودٍ»»
وهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ أوْ ثابِتَةٌ بِالإجْماعِ كَمَوْطُوءَةِ أبِيهِ بِالنِّكاحِ أوْ بِمِلْكِ اليَمِينِ لَوْ تَزَوَّجَها الِابْنُ أوِ اشْتَراها فَوَطِئَها، ومِثْلُ ذَلِكَ عِنْدَهُ وطْءُ مَزْنِيَّتِهِ فَإنَّهُ لا يُعْتَبَرُ الخِلافُ عِنْدَ ثُبُوتِ الحُرْمَةِ بِالنَّصِّ وهُنا قَدْ ثَبَتَتْ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكم مِنَ النِّساءِ﴾ [النِّساءُ: 22] وإنَّما يَعْتَبِرُهُ إذا ثَبَتَتْ بِقِياسٍ أوِ احْتِياطٍ كَثُبُوتِها بِالنَّظَرِ إلى الفَرْجِ والمَسِّ بِشَهْوَةٍ فَإنَّ ثُبُوتَها فِيما ذَكَرَ لِإقامَةِ السَّبَبِ مَقامَ المُسَبِّبِ احْتِياطًا، ومِن هَذا يَعْلَمُ حالَ فُرُوعٍ كَثِيرَةٍ فَلْيَحْفَظْ، وما ذَكَرَ مِن سُقُوطِ إحْصانِ مَن وطِئَ أمَتَهُ وهي أُخْتُهُ مِنَ الرِّضاعِ فِيهِ خِلافُ الكَرْخِيِّ فَإنَّهُ قالَ: لا يَسْقُطُ الإحْصانُ بِوَطْئِها وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ ومالِكٍ وأحْمَدَ لِقِيامِ المَلِكِ فَكانَ كَوَطْءِ أُمَّتِهِ المَجُوسِيَّةِ، وفِيهِ أنَّ الحُرْمَةَ في وطْءِ المَجُوسِيَّةِ يُمْكِنُ ارْتِفاعُها فَتَكُونُ مُؤَقَّتَةً وحُرْمَةُ الرِّضاعِ لا يُمْكِنُ ارْتِفاعُها فَلَمْ يَكُنِ المَحَلُّ قابِلًا لِلْحَلِّ أصْلًا، واشْتَرَطَ في المَلِكِ أنْ لا يَظْهَرُ فَسادَهُ بِالِاسْتِحْقاقِ فَلَوِ اشْتَرى جارِيَةً فَوَطِئَها ثُمَّ اسْتَحَقَّتْ فَقَذَفَهُ إنْسانٌ لا يَحُدُّ. وفي كافِي
الحاكِمِ والقَهْسَتانِيِّ والفَتْحِ أنَّ الوَطْءَ في الشِّراءِ الفاسِدِ يَسْقُطُ (p-90)الحَدَّ عَنِ القاذِفِ وحَمَلَهُ بَعْضُهم عَلى ما ذَكَرْنا، وقالَ بَعْضُ الأجِلَّةِ: كَما يُشْتَرَطُ العِفَّةُ عَنِ الزِّنا يُشْتَرَطُ السَّلامَةُ عَنْ تُهْمَتِهِ ويَحْتَرِزُ بِهِ عَنْ قَذْفِ ذاتِ ولَدٍ لَيْسَ لَهُ أبٌ مَعْرُوفٌ فَإنَّهم ذَكَرُوا أنَّهُ لا يَحُدُّ قاذِفُها لِمَكانِ التُّهْمَةِ، وقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الحَصَكْفِيُّ في بابِ اللِّعانِ مَن شَرْحِ تَنْوِيرِ الأبْصارِ، ولا تُقاسُ اللُّواطَةُ عَلى الزِّنا فَلَوْ قُذِفَ بِها لا يَحِدُّ القاذِفُ خِلافًا لِأبِي يُوسُفَ ومُحَمَّدٍ وقَدِ اخْتَلَفا في أحْكامٍ كَثِيرَةٍ ذَكَرَها زَيْنُ الدِّينِ في بَحْرِهِ، وأمّا اعْتِبارُ الحُرِّيَّةِ فَلِأنَّها يُطْلَقُ عَلَيْها اسْمُ الإحْصانِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلى المُحْصَناتِ مِنَ العَذابِ﴾ فَإنَّ المُرادَ بِالمُحْصَناتِ فِيهِ الحَرائِرُ فالرَّقِيقُ لَيْسَ مُحْصَنًا بِهَذا المَعْنى وكَوْنُهُ مُحْصَنًا بِمَعْنًى آخَرَ كالإسْلامِ وغَيْرِهِ فَيَكُونُ مُحْصَنًا مِن وجْهٍ دُونَ وجْهٍ وذَلِكَ شُبْهَةٌ في إحْصانِهِ فَوَجَبَ دَرْءَ الحَدِّ عَنْ قاذِفِهِ فَلا يَحِدُّ حَتّى يَكُونَ مُحْصَنًا بِجَمِيعِ المَفْهُوماتِ الَّتِي يُطْلَقُ عَلَيْها لَفْظُ الإحْصانِ إلّا ما أجْمَعَ عَلى عَدَمِ اعْتِبارِهِ في تَحَقُّقِ الإحْصانِ وهو كَوْنُ المَقْذُوفَةِ زَوْجَةً أوْ كَوْنِ المَقْذُوفِ زَوْجًا فَإنَّهُ جاءَ بِمَعْناهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ﴾ [النِّساءُ: 24] أيِ المُتَزَوِّجاتِ ولا يُعْتَبَرُ في إحْصانِ القَذْفِ بَلْ في إحْصانِ الرَّجْمِ، ثُمَّ لا شَكَّ في أنَّ الإحْصانَ أُطْلِقَ بِمَعْنى الحُرِّيَّةِ كَما سَمِعْتُ وبِمَعْنى الإسْلامِ في قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿فَإذا أُحْصِنَّ﴾ [النِّساءُ: 25] قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ:
أسْلَمْنَ وهَذا يَكْفِي في إثْباتِ اعْتِبارِ الإسْلامِ في الإحْصانِ، وعَنْ داوُدَ عَدَمُ اشْتِراطِ الحُرِّيَّةِ وأنَّهُ يَحُدُّ قاذِفَ العَبْدِ وأمّا اعْتِبارُ العَقْلِ والبُلُوغِ فَفِيهِ إجْماعٌ إلّا ما رُوِيَ عَنْ أحْمَدَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ مِن أنَّ الصَّبِيَّ الَّذِي يُجامِعُ مِثْلَهُ مُحْصَنٌ فَيَحُدُّ قاذِفُهُ، والأصَحُّ عَنْهُ مُوافَقَةُ الجَماعَةِ، وقَوْلُ مالِكٍ في الصَّبِيَّةِ الَّتِي يُجامِعُ مِثْلَها يَحُدُّ قاذِفَها خُصُوصًا إذا كانَتْ مُراهِقَةً فَإنَّ الحَدَّ لِعِلَّةِ إلْحاقِ العارِ ومِثْلُها يَلْحَقُهُ العارُ، وكَذا قَوْلُهُ وقَوْلُ اللَّيْثِ: إنَّهُ يَحُدُّ قاذِفَ المَجْنُونِ لِذَلِكَ والجَماعَةُ يَمْنَعُونَ كَوْنَ الصَّبِيِّ والمَجْنُونُ يُلْحِقُهُما العارُ بِنِسْبَتِهِما إلى الزِّنا بَلْ رُبَّما يُضْحِكُ مَن ناسَبَهُما إلَيْهِ إمّا لِعَدَمِ صِحَّةِ قَصْدِهِ مِنهُما وإمّا لِعَدَمِ مُخاطَبَتِهِما بِالمُحَرَّماتِ وما أشْبَهَ ذَلِكَ، ولَوْ فَرَضْنا لُحُوقَ عارٍ بِالمُراهِقِ فَلَيْسَ ذَلِكَ عَلى الكَمالِ فَيَنْدَرِئُ الحَدُّ، ومِثْلُ الصَّبِيِّ والمَجْنُونِ في أنَّهُ رُبَّما يَضْحَكُ مِن نِسْبَةِ الزِّنا إلَيْهِما الرَّتْقاءُ والمَجْبُوبُ بَلْ هُما أوْلى بِذَلِكَ لِعَدَمِ تَصَوُّرِهِ فِيهِما ولِذا لا يَحِدُّ بِقَذْفِهِما، وإلّا ما رُوِيَ عَنْ سَعِيدٍ وابْنِ أبِي لَيْلى مِن أنَّهُ يَحُدُّ بِقَذْفِ الذِّمِّيَّةِ إذا كانَ لَها ولَدٌ مُسْلِمٌ، وكَذا ما قِيلَ: إنَّهُ يَحُدُّ بِقَذْفِها إذا كانَتْ تَحْتَ مُسْلِمٍ، ثُمَّ إنَّ الإسْلامَ والحُرِّيَّةَ إذا لَمْ يَكُونا مَوْجُودَيْنِ وقْتَ الزِّنا المَقْذُوفِ بِهِ بَلْ كانا مَوْجُودَيْنِ وقْتَ القَذْفِ لا يُفِيدانِ شَيْئًا فَلَوْ قَذَفَ امْرَأةً مُسْلِمَةً زَنَتْ في نَصْرانِيَّتِها أوْ رَجُلًا مُسْلِمًا زَنى في نَصْرانِيَّتِهِ وقالَ: زَنَيْتِ وأنْتِ كافِرَةٌ أوْ زَنَيْتَ وأنْتَ كافِرٌ أوْ قَذَفَ مُعَتَقًا زَنى وهو عَبْدٌ أوْ مُعَتَّقَةً زَنَتْ وهي أمَةٌ وقالَ: زَنَيْتِ أوْ زَنَيْتَ وأنْتَ عَبْدٌ أوْ أنْتِ أمَةٌ لا يَحُدُّ، وكَذا المَكاتِبُ والمُكاتِبَةُ والكافِرُ الحَرْبِيُّ إذا زَنى في دارِ الحَرْبِ ثُمَّ أسْلَمَ، ويُفْهَمُ مِن كَلامِهِمْ أنَّ البُلُوغَ والعَقْلَ كالإسْلامِ والحُرِّيَّةِ في ذَلِكَ، فَقَدْ صَرَّحُوا فِيما إذا قالَ: زَنَيْتِ وأنْتِ صَغِيرَةٌ أوْ زَنَيْتَ وأنْتَ مَجْنُونٌ بِأنَّهُ لا يَحُدُّ، وكانَ المَدارُ في دَرْءِ الحَدِّ الصِّدْقُ في كُلِّ ذَلِكَ، ومِن هُنا قالَ في المَبْسُوطِ: إنَّ المَوْطُوءَةَ إذا كانَتْ مُكْرَهَةً يَسْقُطُ إحْصانُها ولا يَحُدُّ قاذِفُها كَما يَسْقُطُ إحْصانُ المُكْرَهِ الواطِئِ ولا يَحِدُّ قاذِفَهُ لِأنَّ الإكْراهَ يُسْقِطُ الإثْمَ ولا يُخْرِجُ الفِعْلُ بِهِ مِن أنْ يَكُونَ زِنًى، لَكِنْ ذَكَرَ فِيهِ أنَّ مَن قَذَفَ زانِيًا لا حَدَّ عَلَيْهِ سَواءً قَذَفَهُ بِذَلِكَ الزِّنا بِعَيْنِهِ أوْ بِزِنًى آخَرَ مِن جِنْسِهِ أوْ أبْهَمَ في حالَةِ القَذْفِ، ووَجَّهَ أنَّ اللَّهَ تَعالى أوْجَبَ الحَدَّ عَلى مَن رَمى المُتَّصِفَ بِالإحْصانِ وبِالزِّنا لا يَبْقى إحْصانٌ فَلا يَثْبُتُ الحَدُّ خِلافًا لِإبْراهِيمَ وابْنِ أبِي لَيْلى، نَعَمْ إذا كانَ القَذْفُ بِزِنا تابَ عَنْهُ المَقْذُوفُ يُعَزَّرُ القاذِفُ، وهَذا يَقْتَضِي أنَّهُ لا يَحْتاجُ سُقُوطَ الحَدِّ في المَسائِلِ السّابِقَةِ إلى التَّقْيِيدِ (p-91)فَلْيَتَأمَّلْ، ولَوْ تَزَوُّجَ مَجُوسِيٌّ بِأُمِّهِ أوْ بِنْتِهِ ثُمَّ أسْلَمَ فَفَسَخَ النِّكاحَ فَقَذَفَهُ مُسْلِمٌ في حالِ إسْلامِهِ يَحِدُّ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ بِناءً عَلى ما يَراهُ مِن أنَّ أنْكِحَةَ المَجُوسِ لَها حُكْمُ الصِّحَّةِ. وقالَ الإمامانِ: لا يَحِدُّ بِناءً عَلى أنَّ لَيْسَ لَها حُكْمُ الصِّحَّةِ وهو قَوْلُ الأئِمَّةِ الثَّلاثَةِ، ولا يُعْلَمُ خِلافٌ بَيْنِ مَن يَعْتَبِرُ الحُرِّيَّةَ في الإحْصانِ في أنَّهُ لا حَدَّ عَلى مَن قَذَفَ مُكاتِبًا ماتَ وتَرَكَ وفاءً لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ في شَرْطِ الحَدِّ وهو الإحْصانُ لِاخْتِلافِ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم في أنَّهُ ماتَ حُرًّا أوْ عَبْدًا وذَلِكَ يُوجِبُ دَرْءَ الحَدِّ ولِأنَّهُ يَدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ، لا يَحِدُّ مَن قَذَفَ أخْرَسَ فَإنَّ هُناكَ احْتِمالَ أنْ يُصَدِّقَهُ لَوْ نَطَقَ ولا يُعَوِّلَ عَلى إشارَتِهِ هُنا وإنْ قالُوا: إنَّها تَقُومُ مَقامَ عِبارَتِهِ في بَعْضِ الأحْكامِ لِقِيامِ الِاحْتِمالِ فِيها، واشْتَرَطُوا أيْضًا أنْ يُوجَدَ الإحْصانُ وقْتَ الحَدِّ حَتّى لَوِ ارْتَدَّ المَقْذُوفُ سَقَطَ الحَدُّ ولَوْ أسْلَمَ بَعْدُ، وكَذا لَوْ زَنى أوْ وطِئَ وطَّأ حَرامًا أوْ صارَ مَعْتُوهًا أوْ أخْرَسَ وبَقِيَ ذَلِكَ لَمْ يَحُدَّ كَما في كافِي الحاكِمِ، واشْتَرَطُوا أيْضًا أنْ لا يَمُوتُ قَبْلَ أنْ يَحِدَّ القاذِفُ لِأنَّ الحَدَّ لا يُوَرَّثُ، وأنْ لا يَكُونَ المَقْذُوفُ ولَدَ القاذِفِ أوْ ولَدَ ولَدِهِ فَلا يَحُدُّ مِن قَذْفِ أحَدِهِما إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا سَتَعْلَمُ بَعْضَهُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، ولَمْ يُصَرِّحْ أكْثَرُ الفُقَهاءِ بـ ِشُرُوطِ القاذِفِ، ويُفْهَمْ مِن كَلامِهِمْ أنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ أنْ يَكُونَ- بالِغًا- فَلا يَحُدُّ الصَّبِيُّ إذا قَذَفَ ويُعَزَّرُ- عاقِلًا- فَلا يُحَدُّ المَجْنُونُ ولا لِسَكْرانٍ إلّا إذا سَكِرَ بِمُحَرَّمٍ- ناطِقًا- فَلا يَحِدُّ الأخْرَسُ لِعَدَمِ التَّصْرِيحِ بِالزِّنا، وصَرَّحَ بِهَذا ابْنُ الشَّلَبِي عَنِ النِّهايَةِ- طائِعًا- فَلا يُحَدُّ المُكْرَهُ- قاذِفًا- في دارِ العَدْلِ. فَلا يُحَدُّ القاذِفُ في دارِ
الحَرْبِ أوِ البَغْيِ، وفي الآيَةِ إشارَةٌ إلى بَعْضِ ذَلِكَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُعَدَّ مِنَ الشُّرُوطِ كَوْنُهُ عالِمًا بِالحُرْمَةِ حَقِيقَةً أوْ حُكْمًا بِأنْ يَكُونَ ناشِئًا في دارِ الإسْلامِ، لَكِنَّ في كافَيِ الحاكِمِ حَرْبِيٍّ دَخَلَ دارَ الإسْلامِ بِأمانٍ فَقَذَفَ مُسْلِمًا يَحُدُّ في قَوْلِهِ الأخِيرِ وهو قَوْلُ صاحِبَيْهِ، وظاهِرُهُ أنَّهُ يَحُدُّ ولَوْ كانَ قَذْفُهُ في فَوْرِ دُخُولِهِ، ولَعَلَّ وجْهَهُ أنَّ الزِّنا حَرامٌ في كُلِّ مِلَّةٍ فَيُحَرِّمُ القَذْفَ بِهِ أيْضًا فَلا يُصَدَّقُ بِالجَهْلِ، ويُشْتَرَطُ أنْ يَكُونَ القَذْفُ بِصَرِيحِ الزِّنا بِأيِّ لِسانٍ كانَ كَما صَرَّحَ بِهِ جَمْعٌ مِنَ الفُقَهاءِ وألْحَقُوا بِهِ بَعْضَ ألْفاظٍ ثَبَتَ الحَدُّ بِها بِالأثَرِ والإجْماعِ فَيَحُدُّ بِقَوْلِهِ: زَنَيْتُ أوْ زانِي بِياءٍ ساكِنَةٍ وكَذا يا زانِئُ بِهَمْزَةٍ مَضْمُومَةٍ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ وأبِي يُوسُفَ خِلافًا لِمُحَمَّدٍ فَلا يَحُدُّ بِذَلِكَ عِنْدَهُ لِأنَّهُ حَقِيقَةٌ عِنْدَهُ في الصُّعُودِ. وتَعَقَّبَ بِأنَّ ذَلِكَ إنَّما يُفْهَمُ مِنهُ إذا ذَكَرَ مَقْرُونًا بِمَحَلِّ الصُّعُودِ، عَلى أنَّهُ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ المَذْهَبُ أنَّهُ لَوْ قِيلَ مَعَ ذِكْرِ مَحَلِّ الصُّعُودِ في حالَةِ الغَضَبِ والسِّبابِ يَكُونُ قَذْفًا، فَقَدْ جَزَمَ في المَبْسُوطِ بِالحَدِّ فِيما إذا قالَ: زَنَأتْ في الجَبَلِ أوْ عَلى الجَبَلِ في حالَةِ الغَضَبِ ولَوْ قالَ لِاِمْرَأةٍ: يا زانِي حِدَّ اتِّفاقًا، وعَلَّلْهُ في الجَوْهَرَةِ بِأنَّ الأصْلَ في الكَلامِ التَّذْكِيرُ، ولَوْ قالَ لِلرَّجُلِ: يا زانِيَةُ لا يَحُدُّ عِنْدَ الإمامِ وأبِي يُوسُفَ لِأنَّهُ أحالَ كَلامَهُ فَوَصَفَ الرَّجُلَ بِصِفَةِ المَرْأةِ، وقالَ مُحَمَّدٌ: يَحُدُّ لِأنَّ الهاءَ تَدْخُلُ لِلْمُبالِغَةِ كَما في عَلّامَةٍ، وأُجِيبُ بِأنَّ كَوْنَها لِلْمُبالَغَةِ مَجازًا بَلْ هي لَمّا عَهِدَ لَها مِنَ التَّأْنِيثِ ولَوْ كانَتْ في ذَلِكَ حَقِيقَةً فالحَدُّ لا يَجِبُ لِلشَّكِّ، ويَحُدُّ بِقَوْلِهِ: أنْتَ أزَنى مِن فُلانٍ أوْ مِنِّي عَلى ما في الظَّهِيرِيَّةِ وهو الظّاهِرُ، لَكِنَّ في الفَتْحِ عَنِ المَبْسُوطِ أنَّهُ لا حَدَّ في أنْتَ أزَنى مِن فُلانٍ أوْ أزَنى النّاسِ، وعَلَّلَهُ في الجَوْهَرَةِ بِأنَّ مَعْناهُ أنْتَ أقْدَرُ عَلى الزِّنا، وفي الفَتْحِ بِأنَّ أفْعَلُ في مَثَلِهِ يُسْتَعْمَلُ لِلتَّرْجِيحِ في العِلْمِ فَكَأنَّهُ قالَ: أنْتَ أعْلَمُ بِالزِّنا، ولا يُخْفى أنَّ قَصْدَ ذَلِكَ في حالَةِ السِّبابِ بَعِيدٌ، وفي الخانِيَةِ في أنْتَ أزَنى النّاسِ أوْ أزَنى مِن فُلانٍ الحَدُّ، وفي أنْتَ أزَنى مِنِّي لا حَدَّ، ولا يَخْفى أنَّ التَّفْرِقَةَ غَيْرُ ظاهِرَةٍ، وقَدْ يُقالُ: إنَّ قَوْلَهُ: أنْتَ أزَنى مِن فُلانٍ فِيهِ نِسْبَةُ فُلانٍ إلى الزِّنا وتَشْرِيكُ المُخاطَبِ مَعَهُ في ذَلِكَ بِخِلافِ أنْتَ أزَنى مِنِّي لِأنَّ فِيهِ نِسْبَةَ نَفْسِهِ (p-92)إلى الزِّنا وذَلِكَ غَيْرُ قَذْفٍ فَلا يَكُونُ قَذْفًا لِلْمُخاطِبِ لِأنَّهُ تَشْرِيكٌ لَهُ فِيما لَيْسَ بِقَذْفٍ، ويَحُدُّ بِلَسْتَ لِأبِيكَ لِما فِيهِ مِن نِسْبَةِ الزِّنا إلى الأُمِّ ولِما جاءَ في الأثَرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ لا حَدَّ إلّا في قَذْفِ مُحْصَنَةٍ أوْ نَفْيِ رَجُلٍ مِن أبِيهِ، وقَيَّدَ بِكَوْنِهِ في حالَةِ الغَضَبِ إذْ هو في حالَةِ الرِّضا يُرادُ بِهِ المُعاتَبَةُ بِنَفْيِ مُشابَهَتِهِ لَهُ، وذَكَرَ أنَّ مُقْتَضى القِياسِ أنْ لا حَدَّ بِهِ مُطْلَقًا لِجَوازِ أنْ يُنْفى النَّسَبُ مِن أبِيهِ مِن غَيْرِ أنْ تَكُونَ الأُمُّ زانِيَةً مِن كُلِّ وجْهٍ بِأنْ تَكُونَ مَوْطُوءَةً بِشُبْهَةٍ وُلِدَتْ في عِدَّةِ الواطِئِ لَكِنَّ تَرْكَ ذَلِكَ لِلْأثَرِ، ولا حَدَّ بِالتَّعْرِيضِ كَأنْ يَقُولَ ما أنا بِزانٍ أوْ لَيْسَتْ أُمِّي زانِيَةً وبِهِ قالَ الشّافِعِيُّ وسُفْيانُ الثَّوْرِيُّ وابْنُ شُبْرُمَةَ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ وهو الرِّوايَةُ المَشْهُورَةُ عَنْ أحْمَدَ، وقالَ مالِكٌ وهو رِوايَةٌ عَنْ أحْمَدَ: يَحُدُّ بِالتَّعْرِيضِ لِما رَوى الزَّهْرِيُّ عَنْ سالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: كانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ يَضْرِبُ الحَدَّ بِالتَّعْرِيضِ،
وعَنْ عَلَيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ أنَّهُ جَلَدَ رَجُلًا بِالتَّعْرِيضِ، ولِأنَّهُ إذا عَرَفَ المُرادُ بِدَلِيلِهِ مِنَ القَرِينَةِ صارَ كالصَّرِيحِ، ولِلْجَماعَةِ أنَّ الشّارِعَ لَمْ يُعْتَبَرْ مِثْلُهُ فَإنَّهُ حَرَّمَ صَرِيحَ خُطْبَةِ المُتَوَفّى عَنْها زَوْجُها في العِدَّةِ وأباحَ التَّعْرِيضَ فَقالَ سُبْحانَهُ: ﴿ولَكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ [البَقَرَةُ: 235] وقالَ تَعالى: ﴿ولا جُناحَ عَلَيْكم فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِن خِطْبَةِ النِّساءِ أوْ أكْنَنْتُمْ﴾ [البَقَرَةُ: 235] فَإذا ثَبَتَ مِنَ الشَّرْعِ عَدَمُ اتِّحادِ حُكْمِهِما في غَيْرِ الحَدِّ لَمْ يَجُزْ أنْ يُعْتَبَرَ مِثْلَهُ عَلى وجْهٍ يُوجِبُ الحَدَّ المُحْتاطَ في دَرْئِهِ، وهو أوْلى مِنَ الِاسْتِدْلالِ بِأنَّهُ ﷺ لَمْ يَلْزَمِ الحَدَّ لِلَّذِي قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ امْرَأتِي ولَدَتْ غُلامًا أسْوَدَ يُعَرِّضُ بِنَفْسِهِ لِأنَّ إلْزامَ حَدِّ القَذْفِ مُتَوَقِّفٌ عَلى الدَّعْوى والمَرْأةِ لَمْ تَدْعُ ذَلِكَ، ولا حَدَّ بِوَطْئِكَ فُلانٍ وطَأ حَرامًا أوْ جامَعَكَ حَرامًا أوْ فَجَرْتَ بِفُلانَةٍ أوْ يا حَرامَ زادَهُ أوِ اذْهَبْ فَقُلْ لِفُلانٍ: إنَّكَ زانٍ فَذَهَبَ الرَّسُولُ فَقالَ لَهُ ذَلِكَ عَنْهُ بِأنْ قالَ: فُلانٌ يَقُولُ إنَّكَ زانٍ لا إذا قالَ لَهُ: إنَّكَ زانٍ فَإنَّهُ يَحِدُّ الرَّسُولَ حِينَئِذٍ، واسْتِيفاءُ ما فِيهِ حَدٌّ وما لا حَدَّ فِيهِ في كُتُبِ الفِقْهِ، وقَوْلُنا في كَذا حَدٌّ عَلى إرادَةٍ إذا تَحَقَّقَ الشَّرْطُ المَفْهُومُ مِن قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا﴾ إلَخْ، واشْتَرَطَ الإتْيانَ بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ تَشْدِيدًا عَلى القاذِفِ، ويُشْتَرَطُ كَوْنُهم رِجالًا لِما صَرَّحُوا بِهِ مِن أنَّهُ لا مَدْخَلَ لِشَهادَةِ النِّساءِ في الحُدُودِ، وظاهِرُ إتْيانِ التّاءِ في العَدَدِ مُشْعِرٌ بِاشْتِراطِ كَوْنِهِمْ كَذَلِكَ، ولا يُشْتَرَطُ فِيهِمُ العَدالَةَ لِيُلْزِمَ مِن عَدَمِ الإتْيانِ بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ عُدُولِ الجَلْدِ لِما صَرَّحَ بِهِ في المُلْتَقَطِ مِن أنَّهُ لَوْ أتى بِأرْبَعَةِ فُسّاقٍ فَشَهِدُوا أنَّ الأمْرَ كَما قالَ دَرِئَ الحَدُّ عَنِ القاذِفِ والمَقْذُوفِ والشُّهُودِ، ووَجْهُ ذَلِكَ أنَّ في الفاسِقِ نَوْعُ قُصُورٍ وإنْ كانَ مَن أهْلِ الأداءِ والتَّحَمُّلِ ولِذا لَوْ قَضى بِشَهادَتِهِ نَفَّذَ عِنْدَنا فَيُثْبِتُ بِشَهادَتِهِمْ شُبْهَةَ الزِّنا فَيَسْقُطُ الحَدُّ عَنْهم وعَنِ القاذِفِ وكَذا عَنِ المَقْذُوفِ لِاشْتِراطِ العَدالَةِ في الثُّبُوتِ، ولَوْ كانُوا عُمْيانًا أوْ عَبِيدًا أوْ مَحْدُودِينَ في قَذْفٍ فَإنَّهم يَحِدُّونَ لِلْقَذْفِ دُونَ المَشْهُودِ عَلَيْهِ لِعَدَمِ أهْلِيَّةِ الشَّهادَةِ فِيهِمْ كَما قِيلَ.
والظّاهِرُ أنَّ القاذِفَ يَحِدُّ أيْضًا لِأنَّ الشُّهُودَ إذا حَدُّوا مَعَ أنَّهم إنَّما تَكَلَّمُوا عَلى وجْهِ الشَّهادَةِ دُونَ القَذْفِ فَحَدُّ القاذِفِ أوْلى، والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ يَشْهَدُونَ عَلى مَن رُمِيَ بِأنَّهُ زَنًى، والمُتَبادِرُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنْ مُعايَنَةٍ لَكِنْ قالَ في الفَتْحِ: لَوْ شَهِدَ رَجُلانِ أوْ رَجُلٌ واِمْرَأتانِ عَلى إقْرارِ المَقْذُوفِ بِالزِّنا يَدْرَأُ عَنِ القاذِفِ الحَدَّ وكَذا عَنِ الثَّلاثَةِ أيِ الرَّجُلِ والمَرْأتَيْنِ لِأنَّ الثّابِتَ بِالبَيِّنَةِ كالثّابِتِ فَكَأنّا سَمِعْنا إقْرارَهُ بِالزِّنا انْتَهى.
وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ البَيِّنَةَ عَلى الإقْرارِ لا تُعْتَبَرُ بِالنِّسْبَةِ إلى حَدِّ المَقْذُوفِ لِأنَّهُ إنْ كانَ مُنْكِرًا فَقَدْ رَجَعَ بِالإنْكارِ عَنِ الإقْرارِ وهو مُوجِبٌ لِدَرْءِ الحَدِّ فَتَلْغُو البَيِّنَةَ، وإنْ أقَرَّ بِشَرْطِهِ لا تَسْمَعُ فَإنَّها إنَّما تَسْمَعُ مَعَ الإقْرارِ في سَبْعَةِ (p-93)مَواضِعَ لَيْسَ هَذا المَوْضِعُ مِنها، ويُشْتَرَطُ اجْتِماعُ شُهُودِ الزِّنا في مَجْلِسِ الحاكِمِ بِأنْ يَأْتُوا إلَيْهِ مُجْتَمِعِينَ أوْ فُرادى ويَجْتَمِعُوا فِيهِ ويَقُومَ مِنهم إلى الحاكِمِ واحِدٌ بَعْدَ واحِدٍ فَإنْ لَمْ يَأْتُوا كَذَلِكَ بِأنْ أتَوْا مُتَفَرِّقِينَ أوِ اجْتَمَعُوا خارِجَ مَجْلِسِ الحاكِمِ ودَخَلُوا واحِدًا بَعْدَ واحِدٍ لَمْ تُعْتَبَرْ شَهادَتُهم وحَدُّوا حَدَّ القَذْفِ.
والظّاهِرُ أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ أحَدُ الشُّهُودِ زَوْجَ المَقْذُوفَةِ لِانْدِراجِهِ في أرْبَعَةِ ﴿شُهَداءَ﴾ وبِهِ قالَ أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الحَسَنِ والشَّعْبِيِّ وقالَ مالِكٌ والشّافِعِيُّ: يُلاعِنُ الزَّوْجُ وتَحُدُّ الثَّلاثَةُ، ورُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، وظاهِرُ الآيَةِ أنَّهُ إذا لَمْ يَأْتِ القاذِفُ بِتَمامِ العِدَّةِ بِأنْ أتى بِاثْنَيْنِ أوْ ثَلاثَةٍ مِنها جَلْدُ وحْدَهُ ولا يَجْلِدُ الشّاهِدُ إلّا أنَّ المَأْثُورَ جَلْدُهُ، فَقَدْ رُوِيَ أنَّهُ شَهِدَ عَلى المُغِيرَةِ بِالزِّنا شِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ البَجْلِيِّ وأبُو بَكْرَةَ وأخُوهُ نافِعٌ وتَوَقَّفَ زِيادٌ فَحَدَّ الثَّلاثَةَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم ولَمْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِ وهم هم وفي كَلِمَةِ ﴿ثُمَّ﴾ إشْعارٌ بِجَوازِ تَأْخِيرِ الإتْيانِ بِالشُّهُودِ كَما أنَّ في كَلِمَةِ ﴿لَمْ﴾ إشارَةٌ إلى تَحَقُّقِ العَجْزِ عَنِ الإتْيانِ بِهِمْ وتُقَرِّرُهُ. وفي غَيْرِ كِتابٍ مِن كُتُبِ الفُرُوعِ لِأصْحابِنا أنَّ القاذِفَ إذا عَجَزَ عَنِ الشُّهُودِ لِلْحالِ واسْتَأْجَلَ لِإحْضارِهِمْ زاعِمًا أنَّهم في المُصِرِّ يُؤَجِّلُ مِقْدارَ قِيامِ الحاكِمِ مِن مَجْلِسِهِ فَإنْ عَجَزَ حَدٌّ ولا يَكْفُلُ لِيَذْهَبَ لِطَلَبِهِمْ بَلْ يُحْبَسُ ويُقالُ: ابْعَثْ إلَيْهِمْ مَن يُحْضِرُهم عِنْدَ الإمامِ، وأبِي يُوسُفَ في أحَدِ قَوْلَيْهِ لِأنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الحَدِّ ظَهَرَ عِنْدَ الحاكِمِ فَلا يَكُونُ لَهُ أنْ يُؤَخِّرَ الحَدَّ لِتَضَرُّرِ المَقْذُوفِ بِتَأْخِيرِ دَفْعِ العارِ عَنْهُ والتَّأْخِيرُ مِقْدارُ قِيامِهِ مِنَ المَجْلِسِ قَلِيلٌ لا يَتَضَرَّرُ بِهِ، وفي قَوْلِ أبِي يُوسُفَ الآخَرِ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ يَكْفُلُ أيْ بِالنَّفْسِ إلى ثَلاثَةِ أيّامٍ.
وكانَ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ يَقُولُ: مُرادُ أبِي حَنِيفَةَ أنَّ الحاكِمَ لا يُجْبِرُهُ عَلى إعْطاءِ الكَفِيلِ فَأمّا إذا سَمَحَتْ نَفْسُهُ بِهِ فَلا بَأْسَ لِأنَّ تَسْلِيمَ نَفْسِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ والكَفِيلُ بِالنَّفْسِ إنَّما يُطالِبُ بِهَذا القَدْرِ، وذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أنَّهُ إذا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَن يَأْتِي بِالشُّهُودِ يَبْعَثُ مَعَهُ الحاكِمُ واحِدًا لِيَرُدَّهُ عَلَيْهِ، والأمْرُ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿فاجْلِدُوهُمْ﴾ لِوُلاةِ الأمْرِ ونُوّابِهِمْ.
والظّاهِرُ وُجُوبُ الجَلْدِ إنْ لَمْ يُطالِبِ المَقْذُوفُ وبِهِ قالَ ابْنُ لَيْلى، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ والأوْزاعِيُّ والشّافِعِيُّ: لا يَحُدُّ إلّا بِمُطالَبَتِهِ. وقالَ مالِكٌ: كَذَلِكَ إلّا أنْ يَكُونَ الإمامُ سَمِعَهُ يَقْذِفُهُ فَيَحُدُّهُ إنْ كانَ مَعَ الإمامِ شُهُودٌ عُدُولٌ وإنْ لَمْ يُطالِبِ المَقْذُوفُ كَذا قالَ أبُو حَيّانَ ولِلْمَقْذُوفِ المُطالَبَةُ وإنْ كانَ آمِرًا لِلْقاذِفِ بِقَذْفِهِ لِأنَّ بِالأمْرِ لا يَسْقُطُ الحَدُّ كَما نَقَلَ الحَصَكْفِيُّ ذَلِكَ عَنْ شَرْحِ التَّكْمِلَةِ ثُمَّ لا يَخْفى أنَّ القَوْلَ بِأنَّ القاذِفَ لا يَحُدُّ إلّا بِمُطالَبَةِ المَقْذُوفِ ظاهِرٌ في أنَّ الحَدَّ حَقُّ العَبْدِ ويَشْهَدُ لِذَلِكَ أحْكامٌ كَثِيرَةٌ ذَكَرَها أصْحابُنا. مِنها أنَّهُ لا تَبْطُلُ الشَّهادَةُ عَلى ما يُوجِبُهُ بِالتَّقادُمِ، ومِنها أنَّهُ لا يَدْفَعُهُ الرُّجُوعُ عَنِ الإقْرارِ بِمُوجِبِهِ. ومِنها أنَّهُ يُقامُ عَلى المُسْتَأْمِنِ وإنَّما يُؤاخِذُ المُسْتَأْمِنُ بِما هو مِن حُقُوقِ العِبادِ، ومِنها أنَّهُ يُقَدِّمُ اسْتِيفاؤُهُ عَلى اسْتِيفاءِ حَدِّ الزِّنا وحَدِّ السَّرِقَةِ وشُرْبِ الخَمْرِ ومِنها أنَّهُ يُقِيمُهُ القاضِي بِعِلْمِهِ إذا عَلِمَهُ في أيّامِ قَضائِهِ ولِذا لَوْ قَذَفَ بِحَضْرَتِهِ يَحُدُّهُ.
وعِنْدَنا أحْكامٌ تَشْهَدُ بِأنَّهُ حَقُّ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. مِنها أنَّ اسْتِيفاءَهُ إلى الإمامِ وهو إنَّما يَتَعَيَّنُ نائِبًا في اسْتِيفاءِ حَقِّ اللَّهِ تَعالى وأمّا حَقُّ العَبْدِ فاسْتِيفاؤُهُ إلَيْهِ. ومِنها أنَّهُ لا يَحْلِفُ القاذِفَ إذا أنْكَرَ سَبَبَهُ وهو القَذْفُ ولَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ. ومِنها أنَّهُ لا يَنْقَلِبُ مالًا عِنْدَ السُّقُوطِ. ومِنها أنَّهُ يَتَّصِفُ بِالرِّقِّ كَسائِرِ العُقُوباتِ الواجِبَةِ (p-94)حَقًّا لَهُ عَزَّ وجَلَّ، وذَكَرَ ابْنُ الهُمامِ أنَّهُ لا خِلافَ في أنَّ فِيهِ حَقَّ اللَّهِ تَعالى وحَقَّ العَبْدِ إلّا أنَّ الشّافِعِيَّ مالَ إلى تَغْلِيبِ حَقِّ العَبْدِ بِاعْتِبارِ حاجَتِهِ وغِنى الحَقِّ سُبْحانَهُ وتَعالى ونَحْنُ صِرْنا إلى تَغْلِيبِ حَقِّ اللَّهِ تَعالى لِأنَّ ما لِلْعَبْدِ مِنَ الحُقُوقِ يَتَوَلّى اسْتِيفاءَهُ مَوْلاهُ فَيَصِيرُ حَقُّ العَبْدِ مُوجِبًا لِتَغْلِيبِ حَقِّ اللَّهِ تَعالى لا مُهْدَرًا ولا كَذَلِكَ عَكْسُهُ أيْ لَوْ غَلَبَ حَقُّ العَبْدِ لَزِمَ أنْ لا يَسْتَوْفِيَ حَقَّ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ إلّا بِأنْ يَجْعَلَ وِلايَةَ اسْتِيفائِهِ إلَيْهِ وذَلِكَ لا يَجُوزُ إلّا بِدَلِيلٍ يَنْصِبُهُ الشَّرْعُ عَلى إنابَةِ العَبْدِ في الِاسْتِيفاءِ ولَمْ يُثْبِتْ ذَلِكَ بَلِ الثّابِتُ هو اسْتِنابَةُ الإمامِ حَتّى كانَ هو الَّذِي يَسْتَوْفِيهِ كَسائِرِ الحُدُودِ الَّتِي هي حَقُّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى. ويَتَفَرَّعُ عَلى الخِلافِ أنَّ مَن ثَبَتَ أنَّهُ قَذَفَ فَماتَ قَبْلَ إقامَةِ الحَدِّ عَلى القاذِفِ لا يُورِثُ عَنْهُ إقامَةَ الحَدّ عِنْدَنا إذِ الإرْثُ يَجْرِي في حُقُوقِ العِبادِ بِشَرْطِ كَوْنِها مالًا أوْ ما يَتَّصِلُ بِالمالِ أوْ ما يَنْقَلِبُ إلَيْهِ وتُورَثُ عِنْدَهُ، وأنَّ الحَدَّ لا يَسْقُطُ عِنْدَنا بَعْدَ ثُبُوتِهِ إلّا أنْ يَقُولَ المَقْذُوفُ: لَمْ يَقْذِفْنِي أوْ كَذِبَ شُهُودِي وحِينَئِذٍ يَظْهَرُ أنَّ القَذْفَ لَمْ يَقَعْ مُوجِبًا لِلْحَدِّ لا أنَّهُ وقَعَ ثُمَّ سَقَطَ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ وهو كَما إذا صَدَّقَهُ المَقْذُوفُ، وقالَ زَيْنُ الدِّينِ: إنَّ المَقْذُوفَ إذا عَفا لَمْ يَكُنْ لِلْإمامِ اسْتِيفاءُ الحَدِّ
لِعَدَمِ الطَّلَبِ فَإذا عادَ وطَلَبَ يُقِيمُهُ ويَلْغُو العَفْوَ، وعِنْدَ الشّافِعِيِّ يَصِحُّ العَفْوُ وعَنْ أبِي يُوسُفَ مِثْلُهُ، وكَأنَّ المُرادَ أنَّهُ إذا عَفا سَقَطَ الحَدُّ ولا يَنْفَعُ العَوْدُ إلى المُطالَبَةِ وأنَّهُ لا يَجُوزُ الِاعْتِياضُ عَنْهُ عِنْدَنا وبِهِ قالَ مالِكٌ، وعِنْدَهُ يَجُوزُ وهو قَوْلُ أحْمَدَ وأنَّهُ يَجْرِي فِيهِ التَّداخُلُ عِنْدَنا لا عِنْدُهُ وبِقَوْلِنا قالَ مالِكٌ والثَّوْرِيُّ والشَّعْبِيُّ والنَّخْعِيُّ والزَّهْرِيُّ وقَتادَةُ وطاوُسٌ وحَمّادٌ وأحْمَدُ في رِوايَةٍ حَتّى إذا حَدَّ إلّا سَوْطًا فَقَذَفَ آخَرُ فَإنَّهُ يَتِمُّ الأوَّلُ ولا شَيْءَ لِلثّانِي.
وكَذا إذا قَذَفَ واحِدًا مَرّاتٍ أوْ جَماعَةً بِكَلِمَةٍ مِثْلِ أنْتُمْ زُناةٌ أوْ بِكَلِماتٍ مِثْلِ أنْتِ يا زَيْدُ زانٍ وأنْتَ يا عَمْرُو زانٍ وأنْتَ يا بِشْرُ زانٍ في يَوْمٍ أوْ أيّامٍ يَحِدُّ حَدًّا واحِدًا إذا لَمْ يَتَخَلَّلْ حَدٌّ بَيْنَ القَذْفَيْنِ.
ووافَقَنا الشّافِعِيُّ في الحَدِّ الواحِدِ لِقاذِفِ جَماعَةٍ بِكَلِمَةٍ مَرَّةً واحِدَةً، وفي الظَّهِيرِيَّةِ مَن قَذَفَ إنْسانًا فَحَدَّ ثُمَّ قَذَفَهُ ثانِيًا لَمْ يَحُدَّ، والأصْلُ فِيهِ ما رُوِيَ أنَّ أبا بَكَرَةَ لَمّا شَهِدَ عَلى المُغِيِرَةِ فَحَدَّ لَمّا سَمِعْتُ كانَ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ في المَحافِلِ: أشْهَدُ إنَّ المُغَيِّرَةَ لِزانٍ فَأرادَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنْ يَحُدَّهُ ثانِيًا فَمَنَعَهُ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ فَرَجَعَ إلى قَوْلِهِ وصارَتِ المَسْألَةُ إجْماعًا اهْـ، والظّاهِرُ أنَّ هَذا فِيما إذا قَذَفَهُ ثانِيًا بِالزِّنا الأوَّلِ أوْ أطْلَقَ لِحَمْلِ إطْلاقِهِ عَلى الأوَّلِ لِأنَّ المَحْدُودَ بِالقَذْفِ يُكَرِّرُ كَلامَهُ لِإظْهارِ صِدْقِهِ فِيما حَدَّ بِهِ كَما فَعَلَ أبُو بَكَرَةَ فَإنَّهُ لَمْ يَرُدَّ أنَّ المُغِيرَةَ لَزانٍ أنَّهُ زانٍ غَيْرُ الزِّنا الأوَّلِ، أمّا إذا قَذَفَهُ بَعْدَ الحَدِّ بِزِنا آخَرَ فَإنَّهُ يَحُدُّ بِهِ كَما في الفَتْحِ.
وذَكَرَ صَدْرُ الإسْلامِ أبُو اليُسْرِ في مَبْسُوطِهِ الصَّحِيحِ أنَّ الغالِبَ في هَذا الحَدِّ حَقُّ العَبْدِ كَما قالَ الشّافِعِيُّ لِأنَّ أكْثَرَ الأحْكامِ تَدُلُّ عَلَيْهِ والمَعْقُولُ يَشْهَدُ لَهُ وهو أنَّ العَبْدَ يَنْتَفِعُ بِهِ عَلى الخُصُوصِ، وقَدْ نَصَّ مُحَمَّدٌ في الأصْلِ عَلى أنَّ حَدَّ القَذْفِ كالقَصاصِ حَقُّ العَبْدِ، وتَفْوِيضُهُ إلى الإمامِ لِأنَّ كُلَّ أحَدٍ لا يَهْتَدِي إلى إقامَتِهِ ولِأنَّهُ رُبَّما يُرِيدُ المَقْذُوفُ مَوْتَهُ لِحِنْقِهِ فَيَقَعُ مُتْلِفًا، وإنَّما لا يُورِثُ لِأنَّهُ مُجَرَّدُ حَقٍّ لَيْسَ مالًا ولا بِمَنزِلَتِهِ فَهو كَخِيارِ الشَّرْطِ وحَقِّ الشُّفْعَةِ بِخِلافِ القَصاصِ فَإنَّهُ يَنْقَلِبُ إلى المالِ، وأيْضًا هو في مَعْنى مِلْكِ العَيْنِ لِأنَّ مَن لَهُ القَصاصُ يَمْلِكُ إتْلافَ العَيْنِ ومِلْكِ الإتْلافِ مِلْكُ العَيْنِ عِنْدَ النّاسِ فَصارَ مَن عَلَيْهِ القَصّاصُ كالمَلِكِ لِمَن لَهُ القَصاصُ فَيَمْلِكُهُ (p-95)الوارِثُ في حَقِّ اسْتِيفاءِ القَصّاصِ، وإنَّما لا يَصِحُّ عَفْوُهُ لِأنَّهُ مُتَعَنِّتٌ فِيهِ لِأنَّهُ رَضا بِالعارِ والرِّضا بِالعارِ عارٌ ولا يُخْفى ما في ذَلِكَ مِنَ الأبْحاثِ.
والشّافِعِيُّ يَسْتَدِلُّ بِالآيَةِ لِعَدَمِ التَّدَخُّلِ فَإنَّ مُقْتَضاها تَرَتُّبُ الحُكْمِ عَلى الوَصْفِ المُشْعِرِ بِالعَلِيَّةِ فَيَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ ويُجابُ بِأنَّ الإجْماعَ لِما كانَ عَلى دَفْعِ الحُدُودِ بِالشُّبَهاتِ كانَ مُقَيَّدًا لِما اقْتَضَتْهُ الآيَةُ مِنَ التَّكَرُّرِ عِنْدَ التَّكَرُّرِ بِالتَّكَرُّرِ الواقِعِ مِن بَعْدِ الحَدِّ الأوَّلِ بَلْ هَذا ضَرُورِيٌّ لِظُهُورِ أنَّ المُخاطِبِينَ بِالإقامَةِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاجْلِدُوهُمْ﴾ هُمُ الحُكّامُ ولا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ هَذا الخِطابُ إلّا بَعْدَ الثُّبُوتِ عِنْدَهم فَكانَ حاصِلُ الآيَةِ إيجابَ الحَدِّ إذا ثَبَتَ عِنْدَهُمُ السَّبَبُ وهو الرَّمْيُ وهو أعَمُّ مِن كَوْنِهِ بِوَصْفِ الكَثْرَةِ أوِ القِلَّةِ فَإذا ثَبَتَ وُقُوعُهُ مِنهُ كَثِيرًا كانَ مُوجِبًا لِلْجِلْدِ ثَمانِينَ لَيْسَ غَيْرَ فَإذا جَلَدَ ذَلِكَ وقَعَ الِامْتِثالُ، ثُمَّ هو عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ تَرْكُ مُقْتَضى التَّكَرُّرِ بِالتَّكَرُّرِ فِيما إذا قَذَفَ واحِدًا مَرَّةً ثُمَّ قَذَفَهُ ثانِيًا بِذَلِكَ الزِّنا فَإنَّهُ لا يَحُدُّ مَرَّتَيْنِ عِنْدَهُ أيْضًا، وكَذا في حَدِّ الزِّنا والشُّرْبِ فَإنَّهُ إذا زَنى ألْفَ مَرَّةٍ أوْ شَرِبَ كَذَلِكَ لا يَحُدُّ إلّا مَرَّةً، فالحَقُّ أنَّ اسْتِدْلالَهُ بِالآيَةِ لا يُخَلِّصُ فَإنَّهُ مَلْجِئٌ إلى تَرْكٍ مِنها مِن آيَةٍ أُخْرى وهي آيَةُ حَدِّ الزِّنا فَيَعُودُ إلى أنَّ هَذا حَقٌّ آدَمِيٌّ بِخِلافِ الزِّنا فَكانَ المَبْنِيُّ هو إثْباتُ أنَّهُ حَقُّ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ أوْ حَقُّ العَبْدِ، والنَّظَرُ الدَّقِيقُ يَقْتَضِي أنَّ الغالِبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى فَتَدَبَّرْ.
ثُمَّ الظّاهِرُ أنَّ الرَّمْيَ المُرادَ في الآيَةِ لا يَتَوَقَّفُ عَلى حُضُورِ المَرْمِيِّ وخِطابِهِ ف َقَذْفُ المُحْصَنِ حاضِرًا أوْ غائِبًا لَهُ الحُكْمُ المَذْكُورُ كَما في التَّتارِخانِيَةٌ نَقْلًا عَنِ المُضْمِراتِ واعْتَمَدَهُ في الدُّرَرِ، ويَدُلُّ عَلى أنَّ الغَيْبَةَ كالحُضُورِ حَدَّهُ ﷺ أهْلُ الإفْكِ مَعَ أنَّهُ لَمْ يُشافِهْ أحَدٌ مِنهم بِهِ مَن نَزَّهَها اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، فَما في حاوِي الزّاهِدِيِّ سَمِعَ مِن أُناسٍ كَثِيرَةٍ أنَّ فُلانًا يَزْنِي بِفُلانَةٍ فَتَكَلَّمَ بِما سَمِعَهُ مِنهم مَعَ آخَرَ في غَيْبَةِ فُلانٍ لا يَجِبُ حَدُّ القَذْفِ لِأنَّهُ غَيْبَةٌ لا رَمْيَ وقَذْفَ بِالزِّنا لِأنَّ الرَّمْيَ والقَذْفَ بِهِ إنَّما يَكُونُ بِالخِطابِ كَقَوْلِهِ: يا زانِي يا زانِيَةَ ضَعِيفٍ لا يُعَوِّلُ عَلَيْهِ.
والظّاهِرُ أيْضًا أنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ رَمْيِ الحَيِّ ورَمْيِ المَيِّتِ فَإذا قالَ: أبُوكُ زانٍ أوْ أُمُّكَ زانِيَةٌ كانَ قاذِفًا ويَحُدُّ عِنْدَ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ لا لَوْ قالَ: جَدُّكَ زانٍ فَإنَّهُ لا حَدَّ عَلَيْهِ لِما في الظَّهِيرِيَّةِ مِن أنَّهُ لا يَدْرِي أيُّ جَدٍّ هُوَ، وفي الفَتْحِ لِأنَّ في أجْدادِهِ مَن هو كافِرٌ فَلا يَكُونُ قاذِفًا ما لَمْ يُعَيِّنْ مُحْصَنًا. ويُطالِبُ بِحَدِّ القَذْفِ لِلْمَيِّتِ مَن يَقَعُ القَدْحُ في نَسَبِهِ بِالقَذْفِ وهو الوالِدُ وإنْ عَلا والوَلَدُ وإنْ سَفَلَ، ولا يُطالِبانِ عَنْ غائِبٍ خِلافًا لِابْنِ أبِي لَيْلى لِعَدَمِ اليَأْسِ عَنْ مُطالَبَتِهِ ولِأنَّهُ يَجُوزُ أنْ يُصَدِّقَ القاذِفُ، ووَلَدُ البِنْتِ كَوَلَدِ الِابْنِ في هَذا الفَصْلِ خِلافًا لِما رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ، وتُثْبِتُ المُطالَبَةُ لِلْمَحْرُومِ عَنِ المِيراثِ بِقَتْلٍ أوْ رِقٍّ أوْ كُفْرٍ، نَعَمْ لَيْسَ لِلْعَبْدِ أنْ يُطالِبَ مَوْلاهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ الحُرَّةِ الَّتِي قَذَفَها في حالِ مَوْتِها، وعِنْدَ زَفْرٍ إذا كانَ الوَلَدُ عَبْدًا أوْ كافِرًا لا حَقَّ لَهُ فِيها مُطْلَقًا، وتُثْبِتُ لِلْأبْعَدِ مَعَ وُجُودِ الأقْرَبِ فَيُطالِبُ ولَدُ الوَلَدِ مَعَ وُجُودِ الوَلَدِ خِلافًا لِزَفْرٍ ولَوْ عَفا بَعْضُهم كانَ لِغَيْرِهِ المُطالَبَةُ لِأنَّها لِدَفْعِ العارِ عَنْ نَفْسِهِ، والأُمُّ كالأبِ تُطالِبُ بِحَدِّ قَذْفِ ولَدِها لا أُمَّ الأُمِّ وأبُوها، ولا يُطالِبُ الِابْنُ أباهُ وجَدَّهُ وإنْ عَلا بِقَذْفِ أُمِّهِ وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ وأحْمَدَ ورِوايَةٍ عَنْ مالِكٍ، والمَشْهُورُ عَنْهُ أنَّ لِلِابْنِ أنْ يُطالِبَ الأبَ بِقَذْفِ الأُمِّ فَيُقِيمُ عَلَيْهِ الحَدَّ وهو قَوْلُ أبِي ثَوْرٍ وابْنُ المُنْذِرِ لِعُمُومُ الآيَةِ أوْ إطْلاقِها ولِأنَّهُ حَدٌّ هو حَقُّ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ ولا يَمْنَعُ مِن إقامَتِهِ قُرابَةَ الوِلادِ.
وأُجِيبُ بِأنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ﴾ [الإسْراءُ: 23] مانِعٌ مِن إقامَةِ الوَلَدِ الحَدِّ عَلى أبِيهِ ولا فائِدَةَ لِلْمُطالِبَةِ سِوى ذَلِكَ والمانِعُ مُقَدَّمٌ
وقَدْ صَحَّ أنَّهُ ﷺ قالَ: ««لا يُقادُ الوالِدُ بِوَلَدِهِ ولا السَّيِّدِ بِعَبْدِهِ»»
وأجْمَعُوا عَلى أنَّهُ لا يَقْتَصُّ (p-96)مِنهُ بِقَتْلِ ولَدِهِ ولا شَكَّ أنَّ إهْدارَ جِنايَتِهِ عَلى نَفْسِ الوَلَدِ تُوجِبُ إهْدارَها في عَرْضِهِ بِطَرِيقِ الأُولى مَعَ أنَّ القَصّاصَ مُتَيَقِّنٌ سَبَبُهُ والمُغَلِّبُ فِيهِ حَقُّ العَبْدِ بِخِلافِ حَدِّ القَذْفِ فِيهِما، ولا حَقَّ لِأخِي المَيِّتِ وعَمِّهِ وعَمَّتِهِ وخالِهِ وخالَتِهِ في المُطالَبَةِ بِحَدِّ قَذْفِهِ.
وعِنْدَ الشّافِعِيِّ ومالِكٍ عَلَيْهِما الرَّحْمَةُ تَثْبُتُ المُطالِبَةُ لِكُلِّ وارِثٍ وهو رِوايَةٌ غَرِيبَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ، ولِلشّافِعِيَّةِ فِيمَن يَرِثُهُ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ، الأوَّلُ جَمِيعُ الوَرَثَةِ. والثّانِي غَيْرُ الوارِثِ بِالزَّوْجِيَّةِ. والثّالِثُ ذُكُورُ العَصِباتِ لا غَيْرَ. والظّاهِرُ أنَّ مُطالَبَةَ مَن لَهُ المُطالَبَةُ بِالحَدِّ غَيْرِ واجِبَةٍ عَلَيْهِ بَلْ في التَّتارِخانِيَةِ وحُسْنُ أنْ لا يَرْفَعُ القاذِفُ إلى القاضِي ولا يُطالِبُ بِالحَدِّ وحَسَّنَ مِنَ الإمامِ أنْ يَقُولَ لِلْمُطالَبِ أعْرَضَ عَنْهُ ودَّعَهُ اهْـ.
وكَأنَّهُ لا فَرْقَ في هَذا بَيْنَ أنْ يَعْلَمَ الطّالِبُ صِدْقَ القاذِفِ وأنْ يَعْلَمَ كَذِبَهُ وما نُقِلَ في القِنْيَةِ مِن أنَّ المَقْذُوفَ إذا كانَ غَيْرَ عَفِيفٍ في السِّرِّ لَهُ مُطالَبَةَ القاذِفِ دِيانَةً فِيهِ نَظَرٌ لا يَخْفى، وظاهِرُ الآيَةِ أنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ أنْ يَكُونَ الرّامِي حُرًّا وأنْ يَكُونَ عَبْدًا فَيَجْلِدُ كُلٌّ مِنهُما إذا قَذَفَ وتَحَقَّقَ الشَّرْطُ ثَمانِينَ جِلْدَةً، وبِذَلِكَ قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ والأوْزاعِيُّ وجُمْهُورُ الأئِمَّةِ عَلى أنَّ العَبْدَ يُنْصَفُ لَهُ الحَدُّ لِما عَلِمْتُ أوَّلَ السُّورَةِ وإذا أُرِيدَ إقامَةُ الحَدِّ عَلى القاذِفِ لا يُجَرَّدُ مِن ثِيابِهِ إلّا في قَوْلِ مالِكٍ لِأنَّ سَبَبَهُ هو النِّسْبَةُ إلى الزِّنا كَذِبًا غَيْرِ مَقْطُوعٍ بِهِ لِجَوازِ كَوْنِهِ صادِقًا غَيْرَ أنَّهُ عاجِزٌ عَنِ البَيانِ.
نَعَمْ يَنْزِعُ عَنْهُ الفَرْوَ والثَّوْبَ المَحْشُوَّ لِأنَّهُما يُمْنَعانِ مِن وُصُولِ الألَمِ إلَيْهِ كَذا في عامَّةِ الكُتُبِ، ومُقْتَضاهُ أنَّهُ لَوْ كانَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ ذُو بِطانَةٍ غَيْرُ مَحْشُوٍّ لا يُنْزَعُ، والظّاهِرُ كَما في الفَتْحِ أنَّهُ لَوْ كانَ هَذا الثَّوْبُ فَوْقَ قَمِيصٍ نُزِعَ لِأنَّهُ يَصِيرُ مَعَ القَمِيصِ كالمَحْشُوِّ أوْ قَرِيبًا مِن ذَلِكَ ويَمْنَعُ إيصالَ الألَمِ وكَيْفَ لا والضَّرْبُ هُنا أخَفُّ مِن ضَرْبِ الزِّنا، هَذا وقَرَأ أبُو زُرْعَةَ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ «بِأرْبَعَةٍ» بِالتَّنْوِينِ فَشُهَداءُ بَدَلٌ أوْ صِفَةٌ، وقِيلَ حالٌ أوْ تَمْيِيزٌ ولَيْسَ بِذاكَ، وهي قِراءَةٌ فَصِيحَةٌ ورَجَّحَها ابْنُ جِنِّيٍّ عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ بِناءً عَلى إطْلاقِ قَوْلِهِمْ: إنَّهُ إذا اجْتَمَعَ اسْمُ العَدَدِ والصِّفَةُ كانَ الإتْباعُ أجْوَدَ مِنَ الإضافَةِ.
وتَعَقَّبَ بِأنَّ ذاكَ إذا لَمْ تَجُرَّ الصِّفَةُ مَجْرى الأسْماءِ في مُباشَرَتِها العَوامِلِ وأمّا إذا جَرَتْ ذَلِكَ المَجْرى فَحُكْمُها حَكَمُها في العَدَدِ وغَيْرِهِ غايَةَ ما في البابِ أنَّهُ يَجُوزُ فِيها الإبْدالُ بَعْدَ العَدَدِ نَظَرًا إلى أنَّها غَيْرُ مُتَمَحِّضَةِ الِاسْمِيَّةِ ( وشُهَداءَ ) مِن ذَلِكَ القَبِيلِ. فَأرْبَعَةُ شُهَداءَ. بِالإضافَةِ أفْصَحُ مِن «أرْبَعَةِ شُهَداءَ» بِالتَّنْوِينِ والِاتِّباعِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وسِيبَوَيْهُ يَرى أنَّ تَنْوِينَ العَدَدِ وتَرْكَ إضافَتِهِ إنَّما يَجُوزُ في الشِّعْرِ انْتَهى، وكَأنَّهُ أرادَ الطَّعْنَ في هَذِهِ القِراءَةِ عَلى هَذا القَوْلِ، وفِيهِ أنَّ سِيبَوَيْهَ إنَّما يَرى ذَلِكَ في العَدَدِ الَّذِي بَعْدَهُ اسْمَ نَحْوِ ثَلاثَةِ رِجالٍ دُونَ الَّذِي بَعْدَهُ صِفَةً فَإنَّهُ عَلى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذُكِرَ كَما قالَ أبُو حَيّانَ.
وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿ولا تَقْبَلُوا لَهم شَهادَةً أبَدًا﴾ أيْ مُدَّةِ حَياتِهِمْ كَما هو الظّاهِرُ عَطْفٌ عَلى ﴿فاجْلِدُوا﴾ داخِلَ في حُكْمِهِ تَتِمَّةً لَهُ كَأنَّهُ قِيلَ: فاجْلِدُوهم ورَدُّوا شَهادَتَهم أيْ فاجْمَعُوا لَهُمُ الجَلْدَ والرَّدَّ، ورَدُّ شَهادَتِهِمْ عِنْدَ الإمامِ أبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ مُعَلَّقٌ بِاسْتِيفاءِ الجَلْدِ فَلَوْ شَهِدُوا قَبْلَ الجَلْدِ أوْ قَبْلَ تَمامِ اسْتِيفائِهِ قَبِلَتْ شَهادَتَهُمْ، وقِيلَ: تُرَدُّ إذا ضُرِبُوا سَوْطًا، وقِيلَ: تُرَدُّ إذا أُقِيمَ عَلَيْهِمُ الأكْثَرُ، ومِنَ الغَرِيبِ ما رَوى ابْنُ الهُمامِ عَنْ مالِكٍ أنَّهُ مَعَ قَوْلِهِ: إنَّ لِلِابْنِ أنْ يُطالِبَ بِحَدِّ والِدِهِ إذا قَذَفَ أُمَّهُ قالَ: إنَّهُ إذا حَدَّ الأبُ سَقَطَتْ عَدالَةُ الِابْنِ (p-97)لِمُباشَرَتِهِ سَبَبِ عُقُوبَةِ أبِيهِ أيْ وكَذا عَدالَةُ الأبِ وهَذا ظاهِرٌ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ كَلامٌ مُسْتَأْنِفٌ مُبَيِّنٌ لِسُوءِ حالِهِمْ في حُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وما في اسْمِ الإشارَةِ مِن مَعْنى البُعْدِ لِلْإيذانِ بِبُعْدِ مَنزِلَتِهِمْ في الشَّرِّ والفَسادِ أيْ أُولَئِكَ هُمُ المَحْكُومُ عَلَيْهِمْ بِالفِسْقِ والخُرُوجِ عَنِ الطّاعَةِ والتَّجاوُزِ عَنِ الحُدُودِ الكامِلُونَ فِيهِ كَأنَّهُمُ المُسْتَحِقُّونَ لِإطْلاقِ اسْمُ الفاسِقِ عَلَيْهِمْ لا غَيْرُهم مِنَ الفَسَقَةِ، ويَعْلَمُ مِمّا أشَرْنا إلَيْهِ أنَّهم فَسَقَةٌ عِنْدَ الشَّرْعِ الحاكِمِ بِالظّاهِرِ لا أنَّهم كَذَلِكَ في نَفْسِ الأمْرِ وعِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ العالَمُ بِالسَّرائِرِ لِاحْتِمالِ صِدْقِهِمْ مَعَ عَجْزِهِمْ عَنِ الإتْيانِ بِالشُّهَداءِ كَما لا يَخْفى، وصَرَّحَ بِهَذا بَعْضُ المُفَسِّرِينَ.
وجَوَّزَ أنْ يَكُونَ المُرادُ الإخْبارَ عَنْ فِسْقِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى وفي عِلْمِهِ، ووَجَّهَهُ إذا كانُوا كاذِبِينَ ظاهِرٌ، وأمّا وجْهُهُ إذا كانُوا صادِقِينَ فَهو أنَّهم هَتَكُوا سِتْرَ المُؤْمِنِينَ وأوْقَعُوا السّامِعَ في الشَّكِّ مِن غَيْرِ مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ بِذَلِكَ والعَرَضُ مِمّا أمَرَ اللَّهُ تَعالى بِصَوْنِهِ إذا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَتْكِهِ مَصْلَحَةٍ فَكانُوا فَسَقَةً غَيْرَ مُمْتَثِلِينَ أمْرَهُ عَزَّ وجَلَّ، ولا يُخْفى حُسْنُ حَمْلِ الآيَةِ عَلى هَذا المَعْنى وهو أوْفَقُ لِما ذَكَرَهُ الحَصْكَفِيُّ في شَرْحِ المُلْتَقى نَقْلًا عَنِ النَّجْمِ الغُزِيِّ مِن أنَّ الرَّمْيَ بِالزِّنا مِنَ الكَبائِرِ وإنْ كانَ الرّامِي صادِقًا ولا شُهُودَ لَهُ عَلَيْهِ ولَوْ مِنَ الوالِدِ لِوَلَدِهِ وإنْ لَمْ يَحُدَّ بِهِ بَلْ يُعَزِّرُ ولَوْ غَيْرُ مُحْصَنٍ وشَرْطُ الفُقَهاءِ الإحْصانُ إنَّما هو لِوُجُوبِ الحَدِّ لا لِكَوْنِهِ كَبِيرَةً،
وقَدْ رَوى الطَّبَرانِيُّ عَنْ واثِلَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: ««مَن قَذَفَ ذِمِّيًّا حَدَّ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ بِسِياطٍ مِن نارٍ»»
وهَذِهِ مَسْألَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيها، فَفي شَرْحِ جَمْعِ الجَوامِعِ لِلْعَلّامَةِ المَحَلِّيِّ قالَ الحَلِيمِيُّ:
قَذْفُ الصَّغِيرَةِ والمَمْلُوكَةُ والحُرَّةُ المُتَهَتِّكَةُ مِنَ الصَّغائِرِ لِأنَّ الإيذاءَ في قَذْفِهِنَّ دُونَهُ الحُرَّةُ الكَبِيرَةُ المُسْتَتِرَةُ، وقالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلامِ: قَذْفُ المُحْصَنِ في خَلْوَةٍ بِحَيْثُ لا يَسْمَعُهُ إلّا اللَّهُ تَعالى والحَفَظَةُ لَيْسَ بِكَبِيرَةٍ مُوجِبَةٍ لِلْحَدِّ لِانْتِفاءِ المَفْسَدَةِ أمّا قَذْفُ الرَّجُلِ زَوْجَتُهُ إذا أتَتْ بِوَلَدٍ يَعْلَمُ أنَّهُ لَيْسَ مِنهُ فَمُباحٌ، وكَذا جُرْحُ الرّاوِي والشّاهِدِ بِالزِّنا إذا عَلِمَ بَلْ هو واجِبٌ انْتَهى، وظاهَرَ ما نَقَلَ عَنِ ابْنِ عَبْدِ السَّلامِ فَفي إيجابِ الحَدِّ لا نَفْيَ كَوْنِهِ كَبِيرَةً أيْضًا لِشُيُوعِ تَوَجُّهِ النَّفْيِ إلى القَيْدِ في مِثْلِهِ، وإنْ قُلْنا: إنَّهُ هُنا لِنَفْيِ القَيْدِ والمُقَيَّدِ فَهو ظاهِرٌ كَما قالَ الزَّرْكَشِيُّ فِيما إذا كانَ صادِقًا لا فِيما إذا كانَ كاذِبًا لِجُرْأتِهِ عَلى اللَّهِ تَعالى جَلَّ شَأْنُهُ فَهو كَبِيرَةٌ وإنْ كانَ في الخَلْوَةِ، ولَعَلَّ ما ذَكَرَهُ مِن وُجُوبِ جُرْحِ الشّاهِدِ بِالزِّنا إذا عَلِمَ مُقَيِّدٍ بِما إذا قَدَرَ عَلى الإتْيانِ بِالشُّهُودِ، والأوْلى عِنْدِي فِيما إذا كانَ الضَّرَرُ في قَبُولِ شَهادَتِهِ عَلَيْهِ يَسِيرًا عَدَمُ الجَرْحِ بِذَلِكَ وإنْ قَدَرَ عَلى إثْباتِهِ، وما ذَكَرَهُ في جُرْحِ الرّاوِي لا يَتِمُّ فِيما أرى عَلى رَأْيِ مَن يَعْتَبِرُ الجُرْحَ المُجَرَّدَ عَنْ بَيانِ السَّبَبِ، ولا يَبْعُدُ القَوْلُ بِأنَّ الرَّمْيَ مِنهُ ما هو كُفْرٌ كَرَمْيِ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها سَواءً كانَ جَهْرًا أوْ سِرًّا وسَواءٌ كانَ بِخُصُوصِ الَّذِي بَرَّأها اللَّهُ تَعالى مِنهُ أوْ بِغَيْرِهِ وكَذا رَمْيِ سائِرِ أُمَّهاتِ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُنَّ وكَذا القَوْلُ في مَرْيَمَ عَلَيْها السَّلامُ، ومِنهُ ما هو كَبِيرَةٌ دُونَ الكُفْرِ ومِثالُهُ ظاهِرٌ، ومِنهُ ما هو صَغِيرَةٌ كَرَمْيِ المَمْلُوكَةِ والصَّغِيرَةِ، ومِنهُ ما هو واجِبٌ كَرَمْيِ شاهِدٍ عَلى مُسْلِمٍ مَعْصُومِ الدَّمِ بِما يَكُونُ سَبَبًا لِقَتْلِهِ لَوْ قُبِلَتْ شَهادَتُهُ وعُلِمَ كَوْنُها زُورًا وتُعِينُ ذَلِكَ لِرَدِّ شَهادَتِهِ وصِيانَةِ ذَلِكَ المُسْلِمِ مِنَ القَتْلِ ولَوْ كانَ رَمْيُهُ مَعَ إقامَةِ البَيِّنَةِ عَلَيْهِ بِالزِّنا مُوجِبًا لِرَجْمِهِ، ومِنهُ ما هو سَنَةٌ كَرَمْيٍ تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ دُونَ مَصْلَحَةِ الرَّمْيِ الواجِبِ، وقَوْلُهُ تَعالى:
{"ayah":"وَٱلَّذِینَ یَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَـٰتِ ثُمَّ لَمۡ یَأۡتُوا۟ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَاۤءَ فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَـٰنِینَ جَلۡدَةࣰ وَلَا تَقۡبَلُوا۟ لَهُمۡ شَهَـٰدَةً أَبَدࣰاۚ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡفَـٰسِقُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق