الباحث القرآني

﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ﴾ إلَخْ، ودَلِيلُ الِاخْتِصاصِ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿ويَوْمَ يُحْشَرُ أعْداءُ اللَّهِ﴾ [فُصِّلَتْ: 19] إلى آخَرِ الآياتِ الثَّلاثِ، ومِن هُنا قِيلَ: إنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يُرادَ بِالمُحْصَناتِ إلَخِ المُتَّصِفاتِ بِالصِّفاتِ المَذْكُورَةِ أُمَّهاتِ المُؤْمِنِينَ وغَيْرِهِنَّ مِن نِساءِ الأُمَّةِ لِأنَّهُ لا رَيْبَ في أنَّ رَمْيَ غَيْرِ أُمَّهاتِ المُؤْمِنِينَ لَيْسَ بِكُفْرٍ، والَّذِي يَنْبَغِي أنْ يُعَوِّلَ الحُكْمَ عَلَيْهِ بِكُفْرِ مَن رَمى إحْدى أُمَّهاتِ المُؤْمِنِينَ بَعْدَ نُزُولِ الآياتِ وتَبَيَّنَ أنَّهُنَّ طَيِّباتٍ سَواءً اسْتَباحَ الرَّمْيَ أمْ قَصَدَ الطَّعْنَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ أمْ لَمْ يَسْتَبِحْ ولَمْ يَقْصِدْ، وأمّا مَن رَمى قَبْلُ فالحُكْمُ بِكُفْرِهِ مُطْلَقًا غَيْرُ ظاهِرٍ. والظّاهِرُ أنَّهُ يَحْكُمُ بِكُفْرِهِ إنْ كانَ مُسْتَبِيحًا أوْ قاصِدًا الطَّعْنَ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كابْنِ أبِيّ لَعَنَهُ اللَّهُ تَعالى فَإنَّ ذَلِكَ مِمّا يَقْتَضِيهِ إمْعانُهُ في عَداوَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ولا يَحْكُمُ بِكُفْرِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَحَسّانٍ ومُسَطَّحٍ وحَمْنَةَ فَإنَّ الظّاهِرَ أنَّهم لَمْ يَكُونُوا مُسْتَحِلِّينَ ولا قاصِدِينَ الطَّعْنِ بِسَيِّدِ المُرْسَلِينَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ أجْمَعِينَ وإنَّما قالُوا ما قالُوا تَقْلِيدًا فَوُبِّخُوا عَلى ذَلِكَ تَوْبِيخًا شَدِيدًا، ومِمّا يَدُلُّ دَلالَةً واضِحَةً عَلى عَدَمِ كُفْرِ الرّامِينَ قَبْلُ بِالرَّمْيِ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لَمْ يُعامِلْهم مُعامَلَةَ المُرْتَدِّينَ بِالإجْماعِ وإنَّما أقامَ عَلَيْهِمْ حَدَّ القَذْفِ عَلى ما جاءَ في بَعْضِ الرِّواياتِ فالآيَةُ بِناءً عَلى القَوْلِ بِخُصُوصِ المُحْصَناتِ وهو الَّذِي تُعَضِّدُهُ أكْثَرُ الرِّواياتِ إنْ كانَتْ لِبَيانِ حُكْمِ مَن يَرْمِي عائِشَةَ أوْ إحْدى أُمَّهاتِ المُؤْمِنِينَ مُطْلَقًا بَعْدَ تِلْكَ القِصَّةِ كَما هو ظاهِرُ الفِعْلِ المُضارِعِ الواقِعِ صِلَةَ المَوْصُولِ فَأمَرَ الوَعِيدَ المَذْكُورَ فِيها عَلى القَوْلِ بِأنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالكُفّارِ والمُنافِقِينَ ظاهِرٌ لِما سَمِعْتُ مِنَ القَوْلِ بِكُفْرِ الرّامِي لِإحْدى أُمَّهاتِ المُؤْمِنِينَ بَعْدُ مُطْلَقًا، وإنْ كانَتْ لِبَيانِ حُكْمِ مَن رَمى قَبْلُ احْتاجَ أمْرَ الوَعِيدِ إلى القَوْلِ بِأنَّ المُرادَ بِالمَوْصُولِ أُناسٌ مَخْصُوصُونَ رَمَوْا عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها اسْتِباحَةً لِعِرْضِها وقَصَدَ إلى الطَّعْنِ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ كابْنِ أبِيّ وإخْوانِهِ المُنافِقِينَ عَلَيْهِمُ اللَّعْنَةُ، وعَلى هَذا يَكُونُ التَّعْبِيرُ بِالمُضارِعِ لِاسْتِحْضارِ الصُّورَةِ الَّتِي هي مِن أغْرَبِ الغَرائِبِ أوْ لِلْإشارَةِ كَما قِيلَ إلى أنَّ شَأْنَهُمُ الرَّمْيُ وأنَّهُ يَتَجَدَّدُ مِنهم آنًا فَآنًا. وعَلى هَذا يُمْكِنُ أنْ يُقالَ المُرادُ بَيانُ حُكْمِ مَن لَمْ يَتُبْ مِنَ الرَّمْيِ فَإنَّ التّائِبَ مِن فِعْلٍ قَلَّما يُقالُ فِيهِ إنَّ شَأْنَهُ ذَلِكَ الفِعْلُ فَيَكُونُ الوَعِيدُ مَخْصُوصًا بِمَن لَمْ يَتُبْ. والَّذِي تَقْتَضِيهِ الأخْبارُ أنَّ كُلَّ مِن وقَعَ في تِلْكَ المَعْصِيَةِ تابَ سِوى اللَّعِينِ ابْنِ أبِيّ وأشْياعِهِ مِنَ المُنافِقِينَ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّها نَزَلَتْ فِيهِ خاصَّةً ولا يُخْفى وجْهُ الجَمْعِ عَلَيْهِ، وقِيلَ المُرادُ بَيانُ حُكْمِ مَن رَمى والوَعِيدُ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ التَّوْبَةِ ولَمْ يَذْكُرْ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنَ القَواعِدِ المُسْتَقِرَّةِ إذِ الذَّنْبُ كَيْفَما كانَ يُغْفَرُ بِالتَّوْبَةِ، فَلا حاجَةَ إلى أنْ يُقالَ: المُرادُ إنَّ الَّذِينَ شَأْنُهُمُ الرَّمْيِ لِيَشْعُرَ بِعَدَمِ التَّوْبَةِ، والظّاهِرُ أنَّ مَن لَمْ يَتُبْ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الآياتِ كافِرٌ ولَيْسَ هو إلّا اللَّعِينُ وأشْياعُهُ المُنافِقِينَ. (p-128)واخْتارَ جَمْعٌ وقالَ النُّحاسُ: هو أحْسَنُ ما قِيلَ أنَّ الحُكْمَ عامٌّ فِيمَن يَرْمِي المَوْصُوفاتِ بِالصِّفاتِ المَذْكُورَةِ مِن نِساءِ الأُمَّةِ، ورَمْيِهِنَّ إنْ كانَ مَعَ اسْتِحْلالٍ فَهو كُفْرٌ فَيَسْتَحِقُّ فاعِلُهُ الوَعِيدَ المَذْكُورَ وإنْ لَمْ يَتُبْ عَلى ما عَلِمَ مِنَ القَواعِدِ وإنْ كانَ بِدُونِ اسْتِحْلالٍ فَهو كَبِيرَةٌ ولَيْسَ بِكُفْرٍ، ويَحْتاجُ إلى مَنعِ اخْتِصاصِ تِلْكَ العُقُوباتِ والأحْوالِ بِالكُفّارِ والمُنافِقِينَ أوِ التِزامِ القَوْلِ بِأنَّ ذَلِكَ ثابِتٌ لِلْجِنْسِ ويَكْفِي في ثُبُوتِهِ لِبَعْضِ أفْرادِهِ ولا شَكَّ أنَّ فِيها مَن يَمُوتُ كافِرًا. وفي البَحْرِ يُناسِبُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الآيَةُ كَما قِيلَ نَزَلَتْ في مُشْرِكِي مَكَّةَ كانَتِ المَرْأةُ إذا خَرَجَتْ إلى المَدِينَةِ مُهاجِرَةً قَذَفُوها وقالُوا: خَرَجَتْ لِتَفْجُرَ قالَهُ أبُو حَمْزَةَ اليَمانِيُّ، ويُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ﴾ إلَخِ اهْـ. وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ الأوْفَقَ بِالسِّياقِ والسَّبّاقِ ما عَلَيْهِ الأكْثَرُ مِن نُزُولِها في شَأْنِ أُمِّ المُؤْمِنِينَ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها وحُكْمِ رَمْيِ سائِرِ أُمَّهاتِهِمْ حُكْمَ رَمْيِها وكَذا حُكْمُ رَمْيِ سائِرِ أزْواجِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ وكَذا أُمَّهاتُهُمْ، وعِنْدِي أنَّ حُكْمَ رَمْيِ بَناتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كَذَلِكَ لا سِيَّما بِضْعَتُهُ الطّاهِرَةُ الكَرِيمَةُ فاطِمَةُ الزَّهْراءُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلى أبِيها وعَلَيْها وسَلَّمَ ولَمْ أرَ مَن تَعَرَّضَ لِذَلِكَ فَتَدَبَّرْ، واعْلَمْ أنَّهُ لا خِلافَ في جَوازِ لَعْنِ كافِرٍ مُعَيَّنٍ تَحَقَّقَ مَوْتُهُ عَلى الكُفْرِ إنْ لَمْ يَتَضَمَّنْ إيذاءَ مُسْلِمٍ أوْ ذِمِّيٍّ إذا قُلْنا بِاسْتِوائِهِ مَعَ المُسْلِمِ في حُرْمَةِ الإيذاءِ أمّا إنْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ حُرِّمَ. ومِنَ الحَرامِ لَعْنُ أبِي طالِبٍ عَلى القَوْلِ بِمَوْتِهِ كافِرًا بَلْ هو مِن أعْظَمِ ما يَتَضَمَّنُ ما فِيهِ إيذاءُ مَن يُحَرَّمُ إيذاؤُهُ، ثُمَّ إنَّ لَعْنَ مَن يَجُوزُ لَعْنَهُ لا أرى أنَّهُ يُعَدُّ عِبادَةً إلّا إذا تَضَمَّنَ مَصْلَحَةً شَرْعِيَّةً، وأمّا لَعْنُ كافِرٍ مُعَيَّنٍ حَيٍّ فالمَشْهُورُ أنَّهُ حَرامٌ ومُقْتَضى كَلامِ حُجَّةِ الإسْلامِ الغَزالِيِّ أنَّهُ كَفَرَ لِما فِيهِ مِن سُؤالِ تَثْبِيتِهِ عَلى الكُفْرِ الَّذِي هو سَبَبُ اللَّعْنَةِ وسُؤالِ ذَلِكَ كُفْرٌ ونَصَّ الزَّرْكَشِيُّ عَلى ارْتِضائِهِ حَيْثُ قالَ عَقَبَةُ: فَتَفْطَنُ لِهَذِهِ المَسْألَةِ فَإنَّها غَرِيبَةٌ وحُكْمُها مُتَّجِهٌ وقَدْ زَلَّ فِيهِ جَماعَةٌ، وقالَ العَلّامَةُ ابْنُ حَجَرٍ في ذَلِكَ: يَنْبَغِي أنْ يُقالَ: إنْ أرادَ بِلَعْنِهِ الدُّعاءَ عَلَيْهِ بِتَشْدِيدِ الأمْرِ أوْ أطْلَقَ لَمْ يَكْفُرْ وإنْ أرادَ سُؤالَ بَقائِهِ عَلى الكُفْرِ أوِ الرِّضى بِبَقائِهِ عَلَيْهِ كُفْرٌ: ثُمَّ قالَ: فَتَدَبَّرْ ذَلِكَ حَقَّ التَّدَبُّرِ فَإنَّهُ تَفْصِيلٌ مُتَّجِهٌ قَضَتْ بِهِ كَلِماتُهُمُ اهْـ. وكَلَعْنِ الكافِرِ الحَيِّ المُعَيَّنِ بِالشَّخْصِ في الحُرْمَةِ لَعَنَ الفاسِقَ كَذَلِكَ، وقالَ السِّراجُ البَلْقِينِيُّ: بِجَوازِ لَعْنِ العاصِي المُعِينِ واحْتَجَّ عَلى ذَلِكَ بِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ ««إذا دَعا الرَّجُلُ امْرَأتَهُ إلى فِراشِهِ فَأبَتْ أنْ تَجِيءَ فَباتَ غَضْبانَ لَعَنَتْها المَلائِكَةُ حَتّى تُصْبِحَ»» وهُوَ ظاهِرٌ فِيما يَدَّعِيهِ وقَوْلُ ولَدِهِ الجَلالُ البَلْقِينِيُّ في بَحْثِهِ مَعَهُ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لَعْنُ المَلائِكَةِ لَها لَيْسَ بِالخُصُوصِ بَلْ بِالعُمُومِ بِأنْ يَقُولُوا: لَعَنَ اللَّهُ مَن دَعاها زَوْجُها إلى فِراشِهِ فَأبَتْ فَباتَ غَضْبانَ بَعِيدَ جِدًّا. ومِمّا يُؤَيِّدُ قَوْلَ السِّراجِ خَبَرُ مُسْلِمٍ «أنَّهُ ﷺ مَرَّ بِحِمارٍ وسُمٍّ في وجْهِهِ فَقالَ: «لَعَنَ اللَّهُ مَن فَعَلَ هَذا»» وهُوَ أبْعَدُ عَنِ الِاحْتِمالِ الَّذِي ذَكَرَهُ ولَدُهُ، وقَدْ صَحَّ أنَّهُ ﷺ لَعَنَ قَبائِلَ مِنَ العَرَبِ بِأعْيانِهِمْ فَقالَ: ««اللَّهُمَّ العَنْ رَعْلًا وذَكْوانَ وعَصِيَّةَ عَصَوُا اللَّهَ تَعالى ورَسُولَهُ»»، وفِيهِ نَوْعُ تَأْيِيدٍ لِذَلِكَ أيْضًا، لَكِنْ قِيلَ: إنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مَوْتَهم أوْ مَوْتَ أكْثَرِهِمْ عَلى الكُفْرِ فَلَمْ يَلْعَنْ ﷺ إلّا مَن عَلِمَ مَوْتَهُ عَلَيْهِ، ولا يَخْفى عَلَيْكَ الأحْوَطُ في هَذا البابِ، فَقَدْ صَحَّ ««مَن لَعَنَ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ بِأهْلٍ رَجَعَتِ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ»» وأرى الدُّعاءَ لِلْعاصِي المُعِينِ بِالصَّلاحِ أحَبُّ مِن لَعْنِهِ عَلى القَوْلِ بِجَوازِهِ، وأرى لَعْنَ مَن لَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالوَصْفِ (p-129)أوْ بِالشَّخْصِ عِبادَةً مِن حَيْثُ إنَّ فِيهِ اقْتِداءً بِرَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وكَذا لَعَنَ مَن لَعَنَهُ اللَّهُ تَعالى عَلى الوَجْهِ الَّذِي لَعَنَهُ سُبْحانَهُ بِهِ، هَذا وقَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ﴾ إلَخْ إمّا مُتَّصِلٌ بِما قَبْلَهُ مُسَوِّقٌ لِتَقْرِيرِ العَذابِ العَظِيمِ بِتَعْيِينِ وقْتِ حُلُولِهِ وتَهْوِيلِهِ بِبَيانِ ظُهُورِ جِنايَةِ الرّامِينَ المُسْتَتْبَعَةِ لِعُقُوباتِها عَلى كَيْفِيَّةٍ هائِلَةٍ وهَيْئَةٍ خارِقَةٍ لِلْعاداتِ فَيَوْمُ ظَرْفٌ لِما في ( لَهم ) مِن مَعْنى الِاسْتِقْرارِ لا لِعَذابٍ كَما ذَهَبَ إلَيْهِ الحَوْفِيُّ لِما في جَوازِ إعْمالِ المَصْدَرِ المَوْصُوفِ مِنَ الخِلافِ، وقِيلَ: لِإخْلالِهِ بِجَزالَةِ المَعْنى وفِيهِ نَظَرٌ، وإمّا مُنْقَطِعٌ عَنْهُ عَلى أنَّهُ ظَرْفٌ لا ذُكِرَ مَحْذُوفًا أوْ لِيُوَفِّيَهُمُ الآتِي كَما قِيلَ بِكُلٍّ، واخْتِيرَ أنَّهُ ظَرْفٌ لِفِعْلٍ مُؤَخَّرٍ وقَدْ ضَرَبَ عَنْهُ الذِّكْرَ صَفْحًا لِلْإيذانِ بِأنَّ العَبّارَةَ لا تَكادُ تُحِيطُ بِتَفْصِيلِ ما يَقَعُ فِيهِ مِنَ العَظائِمِ والكَلامُ مَسُوقٌ لِتَهْوِيلِ اليَوْمِ بِتَهْوِيلِ ما يَحْوِيهِ كَأنَّهُ قِيلَ: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ ألْسِنَتُهم وأيْدِيهِمْ وأرْجُلُهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ يَظْهَرُ مِنَ الأحْوالِ والأهْوالِ ما لا يُحِيطُ بِهِ نِطاقُ المَقالِ عَلى أنَّ المَوْصُولَ المَذْكُورَ عِبارَةً عَنْ جَمْعِ أعْمالِهِمُ السَّيِّئَةِ وجِناياتِهِمُ القَبِيحَةِ لا عَنْ جِناياتِهِمُ المَعْهُودَةِ فَقَطْ. ومَعْنى شَهادَةِ الجَوارِحِ المَذْكُورَةِ بِها أنَّهُ عَزَّ وجَلَّ يَنْطِقُها بِقُدْرَتِهِ فَتُخْبَرُ كُلُّ جارِحَةٍ مِنها بِما صَدَرَ عَنْها مِن أفاعِيلِ صاحِبِها لا أنَّ كُلًّا مِنها يُخْبِرُ بِجِنايَتِهِمُ المَعْهُودَةِ فَحَسْبُ. والمَوْصُولُ المَحْذُوفُ عِبارَةٌ عَنْها وعَنْ فُنُونِ العُقُوباتِ المُتَرَتِّبَةِ عَلَيْها كافَّةً لا عَنْ إحْداها خاصَّةً فَفِيهِ مِن ضُرُوبِ التَّهْوِيلِ بِالإجْمالِ والتَّفْصِيلِ ما لا مَزِيدَ عَلَيْهِ قالَهُ شَيْخُ الإسْلامِ، ثُمَّ قالَ: وجَعَلَ المَوْصُولَ المَذْكُورَ عِبارَةً عَنْ جِناياتِهِمُ المُعَوِّدَةِ وحَمَلَ شَهادَةَ الجَوارِحِ عَلى إخْبارِ الكُلِّ بِها فَقَطْ تَحْجِيرٌ لِلْواسِعِ وتَهْوِينٌ لِلْأمْرِ الرّادِعِ. والجَمْعُ بَيْنَ صِيغَتَيِ الماضِي والمُسْتَقْبَلِ لِلدَّلالَةِ عَلى اسْتِمْرارِهِمْ عَلى هاتَيْكِ الأعْمالِ في الدُّنْيا وتَجَدُّدِها مِنهم آنًا فَآنًا. وتَقْدِيمُ ﴿عَلَيْهِمْ﴾ عَلى الفاعِلِ لِلْمُسارَعَةِ إلى كَوْنِ الشَّهادَةِ ضارَّةٌ لَهم مَعَ ما فِيهِ مِنَ التَّشْوِيقِ إلى المُؤَخَّرِ اهْـ ولا يَخْلُو عَنْ حُسْنٍ. وجَوَّزَ أنْ تَكُونَ الشَّهادَةُ بِما ذَكَرَ مَجازًا عَنْ ظُهُورِ آثارِهِ عَلى هاتَيْكِ الأعْضاءِ بِحَيْثُ يُعْلَمُ مَن يُشاهِدُهم ما عَمِلُوهُ وذَلِكَ بِكَيْفِيَّةٍ يَعْلَمُها اللَّهُ تَعالى. واعْتَرَضَ بِأنَّهُ مُعارِضٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنْطَقَنا اللَّهُ الَّذِي أنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [فُصِّلَتْ: 21] . وأُجِيبُ بِأنَّ مُجَوِّزَ ما ذَكَرَ يَجْعَلُ النُّطْقَ مَجازًا عَنِ الدَّلالَةِ الواضِحَةِ كَما قِيلَ بِهِ في قَوْلِهِمْ نَطَقَتِ الحالُ أوْ يَقُولُ: هَذا في حالٍ وذاكَ في حالٍ أوْ كُلٌّ مِنهُما في قَوْمٍ. ولا يَخْفى أنَّ الظّاهِرَ بَقاءُ الشَّهادَةِ عَلى حَقِيقَتِها إلّا أنَّهُ اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ بِأنَّهُ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ التَّعارُضَ بَيْنَ ما هُنا وقَوْلُهُ تَعالى في سُورَةِ يَسِ ﴿اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أفْواهِهِمْ﴾ الآيَةُ [يَسِ: 65] لِأنَّ الخَتْمَ عَلى الأفْواهِ يُنافِي شَهادَةَ الألْسُنِ. وأُجِيبُ بِأنَّ المُرادَ مِنَ الخَتْمِ عَلى الأفْواهِ مَنعَهم عَنِ التَّكَلُّمِ بِالألْسِنَةِ الَّتِي فِيها وذَلِكَ لا يُنافِي الألْسِنَةَ نَفْسَها الَّذِي هو المُرادُ مِنَ الشَّهادَةِ كَما أشَرْنا إلَيْها فَإنَّ الألْسِنَةَ في الأوَّلِ آلَةٌ لِلْفِعْلِ وفي الثّانِي فاعِلَةٌ لَهُ فَيَجْتَمِعُ الخَتْمُ عَلى الأفْواهِ وشَهادَةُ الألْسُنِ بِأنْ يَمْنَعُوا عَنِ التَّكَلُّمِ بِالألْسِنَةِ وتَجْعَلَ الألْسِنَةَ نَفْسَها ناطِقَةً مُتَكَلِّمَةً كَما جَعَلَ سُبْحانَهُ الذِّراعَ المَسْمُومَ ناطِقًا مُتَكَلِّمًا حَتّى أخْبَرَ النَّبِيَّ ﷺ بِأنَّهُ مَسْمُومٌ ولِلْمُعْتَزِلَةِ في ذَلِكَ كَلامٌ، وقِيلَ في التَّوْفِيقِ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الخَتْمِ والشَّهادَةِ في مَوْطِنٍ وحالٍ، وأنَّ يَكُونَ الشَّهادَةُ في حَقِّ الرّامِينَ والخَتْمُ في حَقِّ الكَفَرَةِ، وكَأنَّهُ لَمّا كانَتْ هَذِهِ الآيَةُ في حَقِّ القاذِفِ بِلِسانِهِ وهو مُطالَبٌ مَعَهُ بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ ذَكَرَ فِيها خَمْسَةً أيْضًا وصَرَّحَ بِاللِّسانِ الَّذِي بِهِ عَمَلُهُ لِيَفْضَحَهُ جَزاءً لَهُ مِن جِنْسِ عَمَلِهِ قالَهُ الخَفاجِيُّ وقالَ: إنَّها نُكْتَةٌ (p-130)سِرِّيَّةٌ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِأسْرارِ كِتابِهِ فَتَدَبَّرْ. وقَرَأ الأخَوانِ والزَّعْفَرانِيُّ وابْنُ مُقْسِمٍ وابْنُ سَعْدانَ «يَشْهَدُ» بِالياءِ آخِرَ الحُرُوفِ ووَجْهُهُ ظاهِرٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب