﴿حَتّى إذا أخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالعَذابِ﴾ حَتّى عَلى ما في الكَشّافِ هي الَّتِي يَبْتَدِأُ بَعْدَها الكَلامُ وهي مَعَ ذَلِكَ غايَةٌ لِما قَبْلَها كَأنَّهُ قِيلَ: لا يَزالُونَ يَعْمَلُونَ أعْمالَهم إلى حَيْثُ إذا أخَذَنا إلَخْ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هي ابْتِداءٌ لا غَيْرَ، ( وإذا ) الأُولى والثّانِيَةُ يَمْنَعانِ مِن أنْ تَكُونَ غايَةً لَعامِلُونَ وفِيهِ نَظَرٌ، ( وإذا ) شَرْطِيَّةٌ شَرْطُها ﴿أخَذْنا﴾ وهي مُضافَةٌ إلَيْهِ وجَزاؤُها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذا هم يَجْأرُونَ﴾ وهي مَعْمُولَةٌ لَهُ وإذا فِيهِ فُجائِيَّةٌ نائِبَةٌ مَنابَ الفاءِ، وقالَ الحَوْفِيُّ: حَتّى غايَةٍ وهي عاطِفَةٌ وإذا ظَرْفٌ يُضافُ إلى ما بَعْدَهُ فِيهِ مَعْنى الشَّرْطِ وإذا الثّانِيَةُ في مَوْضِعِ جَوابِ الأُولى ومَعْنى الكَلامِ عامِلٌ في إذا الأُولى والعامِلُ في الثّانِيَةِ ﴿أخَذْنا﴾ انْتَهى.
وهُوَ كَلامٌ مُخَبَّطٌ يَبْعُدُ صُدُورُهُ مِن مِثْلِ هَذا الفاضِلِ، والمُتْرَفُ المُتَوَسِّعُ في النِّعْمَةِ، والمُرادُ بِالعَذابِ ما أصابَهم يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ القَتْلِ والأسْرِ كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ وابْنِ جُبَيْرٍ وقَتادَةَ، وقَدْ قُتِلَ وأُسِرَ في ذَلِكَ اليَوْمِ كَثِيرٌ مِن صَنادِيدِهِمْ ورُؤَسائِهِمْ والجُؤارِ مِثْلِ الخُوارِ يُقالُ جَأرَ الثَّوْرُ يَجْأرُ إذا صاحَ وجَأرَ الرَّجُلُ إلى (p-48)اللَّهِ تَعالى إذا تَضَرَّعَ بِالدُّعاءِ كَما في الصِّحاحِ وفي الأساسِ جَأرَ الدّاعِي إلى اللَّهِ تَعالى ضَجَّ ورَفَعَ صَوْتَهُ والمُرادُ بِهِ الصُّراخُ إمّا مُطْلَقًا أوْ بِاسْتِغاثَةٍ.
وضَمِيرا الجَمْعِ راجِعانِ عَلى ما رَجَعَ إلَيْهِ الضَّمائِرُ السّابِقَةُ في ( مُتْرَفِيهِمْ ولَهم وقُلُوبُهم ) وغَيْرُها وهم كُفّارُ أهْلِ مَكَّةَ لَكِنْ بِإرادَةِ مَن بَقِيَ مِنهم بَعْدَ أخْذِ المُتْرَفِينَ بِالقَتْلِ. قالَ ابْنُ جُرَيْجٍ المُعَذَّبِينَ قَتْلى بَدْرٍ والَّذِينَ يَجْأرُونَ أهْلُ مَكَّةَ لِأنَّهم ناحُوا واسْتَغاثُوا، وفي إنْسانِ العُيُونِ أوْ قُرَيْشًا ناحُوا عَلى قَتْلاهم في بَدْرٍ شَهْرًا وجَزَّ نِساؤُهم شُعُورَهُنَّ وكُنَّ يَأْتِينَ بِفَرَسِ الرَّجُلِ أوْ راحِلَتِهِ ويَسْتُرْنَها بِالسُّتُورِ ويِنِحْنَ حَوْلَها ويَخْرُجْنَ بِها إلى الأزِقَّةِ إلى أنْ أُشِيرَ عَلَيْهِمْ بِتَرْكِ ذَلِكَ خَوْفَ الشَّماتَةِ، وقالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ: المُرادُ بِالجُؤارِ الجَزَعُ إذْ هو سَبَبُ الصُّراخِ وفِيهِ بَعْدٌ لِخَفاءِ قَرِينَةِ المَجازِ، وعَنِ الضَّحّاكِ أنَّ المُرادَ بِالعَذابِ عَذابُ الجُوعِ وذَلِكَ أنَّهُ ﷺ دَعا عَلَيْهِمْ
فَقالَ: اللَّهُمَّ اشْدُدْ وطَأتَكَ عَلى مُضَرٍ اللَّهُمَّ اجْعَلْها عَلَيْهِمْ سِنِينَ مِثْلَ سِنِي يُوسُفَ
فاسْتُجِيبَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فَأصابَتْهم سَنَةٌ أكَلُوا فِيها الجِيَفَ والجُلُودَ والعِظامَ المُحْرَقَةَ والعَلْهَزَ وفي الأخْبارِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ كانَ قَبْلَ الهِجْرَةِ. وفِيها أيْضًا ما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ قَبْلَها. ووُفِّقَ البَيْهَقِيُّ بِأنَّهُ لَعَلَّهُ كانَ مَرَّتَيْنِ، وسَيَأْتِي ذَلِكَ قَرِيبًا إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى وتَخْصِيصُ المُتْرَفِينَ بِالذِّكْرِ لِأنَّهُ إذا جاعَ المُتْرَفُ جاعَ غَيْرُهُ مِن بابِ أوْلى، وقِيلَ: المُرادُ بِالعَذابِ عَذابُ الآخِرَةِ، وتَخْصِيصُ المُتْرَفِينَ بِما ذَكَرَ لِغايَةِ ظُهُورِ انْعِكاسِ حالِهِمْ وانْتِكاسِ أمْرِهِمْ وكَوْنِ ذَلِكَ أشَقَّ عَلَيْهِمْ ولِأنَّهم مَعَ كَوْنِهِمْ مُتَمَنِّعِينَ مَحْمِيِّينَ بِحِمايَةِ غَيْرِهِمْ مِنَ المَنَعَةِ والحَشَمِ لَقُوا ما لَقُوا مِنَ الحالَةِ الفَظِيعَةِ فَلِأنْ يَلْقاها مَن عَداهم مِنَ الحَماةِ والخَدَمِ أُولى وأقْدَمُ.
وقالَ شَيْخُ الإسْلامِ: إنَّ هَذا القَوْلَ هو الحَقُّ لِأنَّ العَذابَ الأُخْرَوِيَّ هو الَّذِي يُفاجِئُونَ عِنْدَهُ الجُؤارَ فَيُجابُونَ بِالرَّدِّ والإقْناطِ مِنَ النَّصْرِ وأمّا عَذابُ يَوْمِ بَدْرٍ فَلَمْ يُوجَدْ لَهم عِنْدَهُ جُؤارٌ حَسْبَما يُنَبِّئُ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ أخَذْناهم بِالعَذابِ فَما اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وما يَتَضَرَّعُونَ﴾ [المُؤْمِنُونَ: 76] فَإنَّ المُرادَ بِهَذا العَذابِ ما جَرى عَلَيْهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ القَتْلِ والأسْرِ حَتْمًا وأمّا عَذابُ الجُوعِ فَإنَّ قُرَيْشًا وإنْ تَضَرَّعُوا فِيهِ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَكِنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِالإقْناطِ حَيْثُ
رَوِيَ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ دَعا بِكَشْفِهِ فَكُشِفَ عَنْهم ذَلِكَ
اِنْتَهى، وسَتَعْلَمُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى ما فِيهِ، نَعِمَ حَمْلِ العَذابِ عَلى ذَلِكَ أوْفَقُ بِجَعْلِ ما في حَيِّزِ ﴿حَتّى﴾ غايَةٌ لِما قَبْلَها.
{"ayah":"حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَخَذۡنَا مُتۡرَفِیهِم بِٱلۡعَذَابِ إِذَا هُمۡ یَجۡـَٔرُونَ"}