الباحث القرآني

﴿فَتَقَطَّعُوا أمْرَهُمْ﴾ الضَّمِيرُ لِما دَلَّ عَلَيْهِ الأُمَّةُ مِن أرْبابِها إنْ كانَتْ بِمَعْنى المِلَّةِ أوْ لَها وإنْ كانَتْ بِمَعْنى الجَماعَةِ، وجَوَّزَ أنْ يُرادَ بِالأُمَّةِ أوَّلًا المِلَّةُ وعِنْدَ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَيْها الجَماعَةُ عَلى أنَّ ذَلِكَ مِن بابِ الِاسْتِخْدامِ، والمُرادُ حِكايَةُ ما ظَهَرَ مِن أُمَمُ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ مِن مُخالَفَةِ الأمْرِ، والفاءُ لِتَرْتِيبِ عِصْيانِهِمْ عَلى الأمْرِ لِزِيادَةِ تَقْبِيحِ حالِهِمْ، وتَقْطَعُ بِمَعْنى قَطْعٍ كَتَقَدُّمٍ بِمَعْنى قِدَمَ والمُرادُ بِأمْرِهِمْ أمْرِ دِينِهِمْ إمّا عَلى تَقْدِيرِ مُضافٍ أوْ عَلى جَعْلِ الإضافَةِ عَهْدِيَّةٍ أيْ قَطَعُوا أمْرَ دِينِهِمْ وجَعَلُوهُ أدْيانًا مُخْتَلِفَةً مَعَ اتِّحادِهِ، وجَوَّزَ أنْ يُرادَ بِالتَّقَطُّعِ التَّفَرُّقُ، و«أمَرَهُمْ» مَنصُوبٌ بِنَزْعِ الخافِضِ أيْ فَتَفَرَّقُوا وتَحَزَّبُوا في أمْرِهِمْ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ﴿أمْرَهُمْ﴾ عَلى هَذا نَصْبًا عَلى التَّمْيِيزِ عِنْدَ الكُوفِيِّينَ المُجَوَّزِينَ تَعْرِيفَ التَّمْيِيزِ ﴿بَيْنَهم زُبُرًا﴾ أيْ قَطْعًا جَمْعُ زَبُورٍ بِمَعْنى فُرْقَةٍ، ويُؤَيِّدُهُ (p-42)أنَّهُ قُرِئَ «زُبَرًا» بِضَمُ الزّايِ وفَتْحِ الباءِ فَإنَّهُ مَشْهُورٌ ثابِتٌ في جَمْعِ زُبْرَةٍ بِمَعْنى قِطْعَةٍ وهو حالٌ مِن «أمْرِهِمْ» أوْ مِن واوِ ( تَقْطَعُوا ) أوْ مَفْعُولٌ ثانٍ لَهُ فَإنَّهُ مُضَمَّنُ مَعْنى جُعِلُوا، وقِيلَ: جَمْعُ زَبُورٍ بِمَعْنى كِتابٍ مِن زَبَرَتْ بِمَعْنى كَتَبَتْ وهو مَفْعُولٌ ثانٍ لِتَقْطَعُوا المُضَمِّنَ مَعْنى الجَعْلِ أيْ قَطَعُوا أمْرَ دِينِهِمْ جاعِلِينَ لَهُ كُتُبًا. وجَوَّزَ أنْ يَكُونَ حالًا مِن ﴿أمْرَهُمْ﴾ عَلى اعْتِبارِ تَقْطَعُوا لازِمًا أيْ تَفَرَّقُوا في أمْرِهِمْ حالَ كَوْنِهِ مِثْلَ الكُتُبِ السَّماوِيَّةِ عِنْدَهم. وقِيلَ: إنَّها حالٌ مُقَدَّرَةٌ أوْ مَنصُوبٌ بِنَزْعِ الخافِضِ أيْ في كُتُبٍ، وتَفْسِيرُ ﴿زُبُرًا﴾ بِكُتُبٍ رَواهُ جَماعَةٌ عَنْ قَتادَةَ كَما في الدُّرِّ المَنثُورِ، ولا يَخْفى خَفاءُ المَعْنى عَلَيْهِ ولا يَكادُ يَسْتَقِيمُ إلّا بِتَأْوِيلٍ فَتَدَبَّرْ. وقُرِئَ «زُبَرًا» بِإسْكانِ الباءِ لِلتَّخْفِيفِ كَرُسُلٍ في رُسُلٍ، وجاءَ ﴿فَتَقَطَّعُوا﴾ هُنا بِالفاءِ إيذانًا بِأنَّ ذَلِكَ اعْتَقِبِ الأمْرَ وفِيهِ مُبالَغَةٌ في الذَّمِّ كَما أشَرْنا إلَيْهِ، وجاءَ في سُورَةِ الأنْبِياءِ بِالواوِ فاحْتَمَلَ مَعْنى الفاءِ واحْتَمَلَ تَأخُّرَ تَقَطُّعِهِمْ عَنِ الأمْرِ، وجاءَ هُنا ﴿وأنا رَبُّكم فاتَّقُونِ﴾ وهو أبْلَغُ في التَّخْوِيفِ والتَّحْذِيرِ مِمّا جاءَ هُناكَ مِن قَوْلِهِ تَعالى هُناكَ: ﴿وأنا رَبُّكم فاعْبُدُونِ﴾ [الأنْبِياءُ: 92] لِأنَّ هَذِهِ جاءَتْ عُقَيْبَ إهْلاكِ طَوائِفَ كَثِيرِينَ قَوْمِ نُوحٍ والأُمَمُ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وفي تِلْكَ السُّورَةِ وإنْ تَقَدَّمَتْ أيْضًا قِصَّةُ نُوحٍ وما قَبْلُها فَإنَّهُ جاءَ بَعْدَها ما يَدُلُّ عَلى الإحْسانِ واللُّطْفِ التّامِّ في قِصَّةِ أيُّوبٍ وزَكَرِيّا ومَرْيَمَ فَناسَبَ الأمْرَ بِالعِبادَةِ لِمَن هَذِهِ صَفَتُهُ عَزَّ وجَلَّ قالَهُ أبُو حَيّانَ، وما ذَكَرَهُ أوَّلًا غَيْرُ وافٍ بِالمَقْصُودِ، وما ذَكَرَهُ ثانِيًا قِيلَ عَلَيْهِ: إنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلى أنَّ الآيَةَ تَذْيِيلٌ لِلْقِصَصِ السّابِقَةِ أوْ لِقِصَّةِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ لِابْتِداءِ كَلامٍ فَإنَّهُ حِينَئِذٍ لا يُفِيدُ ذَلِكَ إلّا أنْ يُرادَ أنَّهُ وقَعَ في الحِكايَةِ لِهَذِهِ المُناسَبَةِ فَتَأمَّلْ. ﴿كُلُّ حِزْبٍ﴾ مِن أُولَئِكَ المُتَحَزِّبِينَ ﴿بِما لَدَيْهِمْ﴾ مِنَ الأمْرِ الَّذِي اخْتارُوهُ ﴿فَرِحُونَ﴾ مَسْرُورُونَ مُنْشَرِحُو الصَّدْرِ، والمُرادُ أنَّهم مُعْجَبُونَ بِهِ مُعْتَقِدُونَ أنَّهُ الحَقُّ، وفي هَذا مِن ذَمِّ أُولَئِكَ المُتَحَزِّبِينَ ما فِيهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب