الباحث القرآني

﴿وإنَّ هَذِهِ﴾ أيِ المِلَّةُ والشَّرِيعَةُ، وأُشِيرُ إلَيْها بِهَذِهِ لِلْإشارَةِ إلى كَمالِ ظُهُورِ أمْرِها في الصِّحَّةِ والسَّدادِ وانْتِظامِها بِسَبَبِ ذَلِكَ في سِلْكِ الأُمُورِ المُشاهَدَةِ ﴿أُمَّتُكُمْ﴾ أيْ مِلَّتِكم وشَرِيعَتِكم والخِطابُ لِلرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ عَلى نَحْوِ ما مَرَّ وقِيلَ عامٌّ لَهم ولِغَيْرِهِمْ ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْمُجاهِدٍ، والجُمْلَةُ عَلى ما قالَ الخَفاجِيُّ عَطْفٌ عَلى الجُمْلَةِ ﴿إنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ فالواوُ مِنَ المَحْكِيِّ، وقِيلَ هي مِنَ الحِكايَةِ وقَدْ عَطَفْتُ قَوْلًا عَلى قَوْلٍ، والتَّقْدِيرُ قُلْنا يا أيُّها الرُّسُلُ كُلُوا إلَخْ وقُلْنا لَهم إنَّ هَذِهِ أمَتُّكم ولا يَخْفى بَعْدَهُ. وقِيلَ: الواوُ لَيْسَتْ لِلْعَطْفِ والجُمْلَةُ بَعْدَها مُسْتَأْنَفَةٌ غَيْرُ مَعْطُوفَةٍ عَلى ما قَبْلَها وهو كَما تَرى، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ﴿أُمَّةً واحِدَةً﴾ حالٌ مَبْنِيَّةٌ مِنَ الخَبَرِ والعامِلُ فِيها مَعْنى الإشارَةِ أيْ أُشِيرُ إلَيْها في حالِ كَوْنِها شَرِيعَةً مُتَّحِدَةً (p-41)فِي الأُصُولِ الَّتِي لا تَتَبَدَّلُ بِتَبَدُّلِ الأعْصارِ وقِيلَ ﴿هَذِهِ﴾ إشارَةٌ إلى الأُمَمِ الماضِيَةِ لِلرُّسُلِ، والمَعْنى أنَّ هَذِهِ جَماعَتُكم جَماعَةٌ واحِدَةٌ مُتَّفِقَةٌ عَلى الإيمانِ والتَّوْحِيدِ في العِبادَةِ ﴿وأنا رَبُّكُمْ﴾ أيْ مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ لِي شَرِيكٌ في الرُّبُوبِيَّةِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ «إنَّ هَذِهِ» إلَخِ المَعْطُوفَةُ عَلى ما تَقَدَّمَ وهُما داخِلانِ في حَيِّزِ التَّعْلِيلِ لِلْعَمَلِ الصّالِحِ لِأنَّ الظّاهِرَ أنَّ قَوْلَهُ سُبْحانَهُ: ﴿إنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ تَعْلِيلٌ لِذَلِكَ، ولَعَلَّ المُرادَ بِالعَمَلِ الصّالِحِ ما يَشْمَلُ العَقائِدَ الحَقَّةَ والأعْمالَ الصَّحِيحَةَ، واقْتِضاءُ المُجازاةِ والرُّبُوبِيَّةِ لِذَلِكَ ظاهِرٌ وأمّا اقْتِضاءُ اتِّحادِ الشَّرِيعَةِ في الأُصُولِ الَّتِي لا تَتَبَدَّلُ لِذَلِكَ فَبِاعْتِبارِ أنَّهُ دَلِيلُ حَقِيَةِ العَقائِدِ وحَقِيقَتُها تَقْتَضِي الإتْيانَ بِها والإتْيانُ بِها يَقْتَضِي الإتْيانَ بِغَيْرِها مِنَ الأعْمالِ الصّالِحَةِ بَلْ قِيلَ لا يَصِحُّ الِاعْتِقادُ مَعَ تَرْكِ العَمَلِ، وعَلى هَذا يَكُونُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاتَّقُونِ﴾ كالتَّصْرِيحِ بِالنَّتِيجَةِ فَيَكُونُ الكَلامُ نَظِيرَ قَوْلِكَ: العالَمُ حادِثٌ لِأنَّهُ مُتَغَيْرٌ وكُلُّ مُتَغَيْرٍ حادِثٌ فالعالَمُ حادِثٌ. وفِي إرْشادِ العَقْلِ السَّلِيمِ أنَّ ضَمِيرَ الخِطابِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿رَبُّكُمْ﴾ وفي قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿فاتَّقُونِ﴾ لِلرُّسُلِ والأُمَمِ جَمِيعًا عَلى أنَّ الأمْرَ في حَقِّ الرُّسُلِ لِلتَّهْيِيجِ والإلْهابِ وفي حَقِّ الأُمَّةِ لِلتَّحْذِيرِ والإيجابِ، والفاءُ لِتَرْتِيبِ الأمْرِ أوْ وُجُوبِ الِامْتِثالِ بِهِ عَلى ما قَبْلِهِ مِنِ اخْتِصاصِ الرُّبُوبِيَّةِ بِهِ سُبْحانَهُ واتِّحادِ الأُمَّةِ فَإنَّ كُلًّا مِنهُما مُوجَبٌ لِلِاتِّقاءِ حَتْمًا، والمَعْنى فاتَّقُونِ في شَقِّ العَصا والمُخالَفَةِ بِالإخْلالِ بِمُوجَبِ ما ذَكَرَ. وقَرَأ الحَرَمِيّانِ وأبُو عَمْرٍو «وأنَّ» بِفَتْحِ الهَمْزَةِ وتَشْدِيدِ النُّونِ، وخَرَجَ عَلى تَقْدِيرِ حَرْفِ الجَرِّ أيْ ولِأنَّ هَذِهِ إلَخْ، والجارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِاتَّقُونِ، قالَ الخَفاجِيُّ: والكَلامُ في الفاءِ الدّاخِلَةِ عَلَيْهِ كالكَلامِ في فاءِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإيّايَ فارْهَبُونِ﴾ وهي لِلسَّبَبِيَّةِ ولِلْعَطْفِ عَلى ما قَبْلَهُ وهو ( اعْمَلُوا ) والمَعْنى اتَّقُونِي لِأنَّ العُقُولَ مُتَّفِقَةٌ عَلى رُبُوبِيَّتِي والعَقائِدُ الحَقَّةُ المُوجِبَةُ لِلتَّقْوى انْتَهى، ولا يَخْلُو عَنْ شَيْءٍ، وجَوَّزَ أنْ تَكُونَ ( إنَّ هَذِهِ ) إلَخْ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ مَعْطُوفًا عَلى ما ﴿تَعْمَلُونَ﴾ والمَعْنى إنِّي عَلِيمٌ بِما تَعْمَلُونَ وبِأنَّ هَذِهِ أمَتُّكم أُمَّةٌ واحِدَةٌ إلَخْ فَهو داخِلٌ في حَيِّزِ المَعْلُومِ. وضَعَّفَ بِأنَّهُ لا جَزالَةَ في المَعْنى عَلَيْهِ، وقِيلَ: هو مَعْمُولٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أيْ واعْلَمُوا أنَّ هَذِهِ أمَتُّكم إلَخْ وهَذا المَحْذُوفُ مَعْطُوفٌ عَلى «اعْمَلُوا» ولا يَخْفى أنَّ هَذا التَّقْدِيرَ خِلافُ الظّاهِرِ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ «وأنَّ» بِفَتْحِ الهَمْزَةِ وتَخْفِيفِ النُّونِ عَلى أنَّها المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ ويَعْلَمُ تَوْجِيهَ الفَتْحِ مِمّا ذَكَرْنا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب