الباحث القرآني

﴿ثُمَّ خَلَقْنا النُّطْفَةَ عَلَقَةً﴾ أيْ دَمًا جامِدًا وذَلِكَ بِإفاضَةِ أعْراضِ الدَّمِ عَلَيْها (p-14)فَتَصِيرُها دَمًا بِحَسْبِ الوَصْفِ، وهَذا مِن بابِ الحَرَكَةِ في الكَيْفِ ﴿فَخَلَقْنا العَلَقَةَ مُضْغَةً﴾ أيْ قِطْعَةِ لَحْمٍ بِقَدْرِ ما يَمْضُغُ لا اسْتِبانَةَ ولا تَمايُزَ فِيها، وهَذا التَّصْيِيرُ عَلى ما قِيلَ بِحَسْبِ الذّاتِ كَتَصْيِيرِ الماءِ حَجَرًا وبِالعَكْسِ، وحَقِيقَتُهُ إزالَةُ الصُّورَةِ الأُولى عَنِ المادَّةِ وإفاضَةُ صُورَةٍ أُخْرى عَلَيْها وهو مِن بابِ الكَوْنِ والفَسادِ ولا يَخْلُو ذَلِكَ مِنَ الحَرَكَةِ في الكَيْفِيَّةِ الِاسْتِعْدادِيَّةِ فَإنَّ اسْتِعْدادَ الماءِ مَثَلًا لِلصُّورَةِ الأُولى الفاسِدَةِ يَأْخُذُ في الِانْتِقاصِ واسْتِعْدادِهِ لِلصُّورَةِ الثّانِيَةِ الكائِنَةِ يَأْخُذُ في الِاشْتِدادِ ولا يَزالُ الأوَّلُ يَنْقُصُ والثّانِي يَشْتَدُّ إلى أنَّ تَنْتَهِيَ المادَّةُ إلى حَيْثُ تَزُولُ عَنْها الصُّورَةُ الأُولى فَتَحْدُثُ فِيها الثّانِيَةُ دُفْعَةً فَتَتَوارَدُ هَذِهِ الِاسْتِعْداداتُ الَّتِي هي مِن مَقُولَةِ الكَيْفِ عَلى مَوْضُوعٍ واحِدٍ ﴿فَخَلَقْنا المُضْغَةَ﴾ غالِبَها ومُعْظَمَها أوْ كُلَّها ﴿عِظامًا﴾ صِغارًا وعِظامًا حَسْبَما تَقْتَضِيهِ الحِكْمَةُ وذَلِكَ التَّصْيِيرُ بِالتَّصْلِيبِ لِما يُرادُ جَعْلُهُ عِظامًا مِنَ المُضْغَةِ وهَذا أيْضًا تَصْيِيرٌ بِحَسْبِ الوَصْفِ فَيَكُونُ مِنَ البابِ الأوَّلِ. وفِي كَلامُ العَلّامَةِ البَيْضاوِيِّ إشارَةٌ ما إلى مَجْمُوعِ ما ذَكَرْنا وهو يَسْتَلْزِمُ القَوْلَ بِأنَّ النُّطْفَةَ والعَلَقَةَ مُتَّحِدانِ في الحَقِيقَةِ وإنَّما الِاخْتِلافُ بِالأعْراضِ كالحُمْرَةِ والبَياضِ مَثَلًا وكَذا المُضْغَةُ والعِظامُ مُتَّحِدانِ في الحَقِيقَةِ وإنَّما الِاخْتِلافُ بِنَحْوِ الرَّخاوَةِ والصَّلابَةِ وأنَّ العَلَقَةَ والمُضْغَةَ مُخْتَلِفانِ في الحَقِيقَةِ كَما أنَّهُما مُخْتَلِفانِ بِالأعْراضِ. والظّاهِرُ أنَّهُ تَتَعاقَبُ في جَمِيعِ هَذِهِ الأطْوارِ عَلى مادَّةٍ واحِدَةٍ صُوَرٌ حَسَبِ تَعاقُبِ الِاسْتِعْداداتِ إلى أنْ تَنْتَهِيَ إلى الصُّورَةِ الإنْسانِيَّةِ، ونَحْنُ نَقُولُ بِهِ إلى أنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلى خِلافِهِ فَتَدَبَّرَ ﴿فَكَسَوْنا العِظامَ﴾ المَعْهُودَةَ ﴿لَحْمًا﴾ أيْ جَعَلْنا ساتِرًا لِكُلٍّ مِنها كاللِّباسِ، وذَلِكَ اللَّحْمُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن لَحْمُ المُضْغَةِ بِأنْ لَمْ تُجْعَلْ كُلُّها عِظامًا بَلْ بَعْضُها ويَبْقى البَعْضُ فَيَمُدُّ عَلى العِظامِ حَتّى يَسْتُرَها، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لَحْمًا آخَرَ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعالى عَلى العِظامِ مِن دَمٍ في الرَّحِمِ. وجَمَعَ ( العِظامَ ) دُونَ غَيْرِها مِمّا في الأطْوارِ لِأنَّها مُتَغايِرَةُ هَيْئَةٍ وصَلابَةٍ بِخِلافِ غَيْرِها ألا تَرى عَظْمَ السّاقِ وعَظْمَ الأصابِعِ وأطْرافَ الأضْلاعِ، وعِدَّةَ العِظامِ مُطْلَقًا عَلى ما قِيلَ مِائَتانِ وثَمانِيَةٌ وأرْبَعُونَ عَظْمًا وهي عِدَّةُ رَحِمٍ بِالجَمَلِ الكَبِيرِ، وجَعَلَ بَعْضُهم هَذِهِ عِدَّةَ أجْزاءِ الإنْسانِ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ وأبانَ والمُفَضَّلِ والحَسَنِ وقَتادَةَ وهارُونَ والجَعْفِيِّ ويُونُسَ عَنْ أبِي عَمْرٍو وزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما بِإفْرادِ ( العِظامَ ) في المَوْضِعَيْنِ اكْتِفاءً بِاسْمِ الجِنْسِ الصّادِقِ عَلى القَلِيلِ والكَثِيرِ مَعَ عَدَمُ اللَّبْسِ كَما في قَوْلِهِ: «كُلُوا في بَعْضِ بَطْنِكم تَعْفُوا» . واخْتِصاصُ مِثْلِ ذَلِكَ بِالضَّرُورَةِ عَلى ما نُقِلَ عَنْ سِيبَوَيْهَ لا يَخْلُو عَنْ نَظَرٍ، وفي الإفْرادِ هُنا مُشاكَلَةٌ لِما ذُكِرَ قَبْلُ في الأطْوارِ كَما ذَكَرَهُ ابْنُ جِنِّيٍّ. وقَرَأ السِّلْمِيُّ وقَتادَةُ أيْضًا والأعْرَجُ والأعْمَشُ ومُجاهِدٌ وابْنُ مُحَيْصِنٍ بِإفْرادِ الأوَّلِ وجَمْعِ الثّانِي. وقَرَأ أبُو رَجاءَ وإبْراهِيمُ بْنُ أبِي بَكْرٍ ومُجاهِدٌ أيْضًا بِجَمْعِ الأوَّلِ وإفْرادِ الثّانِي ﴿ثُمَّ أنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ مُبايِنًا لِلْخَلْقِ الأوَّلِ مُبايَنَةً ما أبْعَدَها حَيْثُ جَعَلَ حَيَوانًا ناطِقًا سَمِيعًا بَصِيرًا وأوْدَعَ كُلَّ عُضْوٍ مِنهُ وكُلَّ جُزْءٍ عَجائِبَ وغَرائِبَ لا تُدْرَكُ بِوَصْفٍ ولا تُبْلَغُ بِشَرْحٍ، ومِن هُنا قِيلَ: ؎وتَزْعُمُ أنَّكَ جِرْمٌ صَغِيرٌ وفِيكَ انْطَوى العالِمُ الأكْبَرُ (p-15)وقِيلَ الخَلْقُ الآخَرُ الرُّوحُ والمُرادُ بِها النَّفْسُ النّاطِقَةُ. والمَعْنى أنْشَأْنا لَهُ أوْ فِيهِ خَلْقًا آخَرَ، والمُتَبادِرُ مِن إنْشاءِ الرُّوحِ خَلَقَها وظاهِرُ العَطْفِ بِثُمَّ يَقْتَضِي حُدُوثَ البَدَنِ وهو قَوْلُ أكْثَرِ الإسْلامِيِّينَ وإلَيْهِ ذَهَبَ أرِسْطُو، وقِيلَ إنْشاؤُها نَفْخُها في البَدَنِ وهو عِنْدُ بَعْضٍ عِبارَةٌ عَنْ جَعْلِها مُتَعَلِّقَةٍ بِهِ، وعِنْدَ أكْثَرِ المُسْلِمِينَ جَعَلَها سارِيَةً فِيهِ، وإذا أُرِيدَ بِالرُّوحِ الرُّوحَ الحَيَوانِيَّةَ فَلا كَلامَ في حُدُوثِها بَعْدَ البَدَنِ وسَرَيانِها فِيهِ، وقِيلَ: الخَلْقُ الآخَرُ القُوى الحَسّاسَةُ، وقالَ الضَّحّاكُ ويَكادُ يَضْحَكُ مِنهُ فِيما أخْرَجَهُ عَنْهُ عَبْدُ بْنُ حَمِيدٍ: الخَلْقُ الآخَرُ الأسْنانُ والشَّعْرُ فَقِيلَ لَهُ: ألَيْسَ يُولَدُ وعَلى رَأْسِهِ الشَّعْرُ؟ فَقالَ: فَأيْنَ العانَةُ والإبِطُ، وما أشَرْنا إلَيْهِ مِن كَوْنِ ﴿ثُمَّ﴾ لِلتَّرْتِيبِ الزَّمانِيِّ هو ما يَقْتَضِيهِ أكْثَرُ اسْتِعْمالاتِها، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ لِلتَّرْتِيبِ الرَّتْبِيِّ فَإنَّ الخَلْقَ الثّانِيَ أعْظَمُ مِنَ الأوَّلِ ورُتْبَتُهُ أعْلى وجاءَتِ المَعْطُوفاتُ الأوَّلُ بَعْضُها بِثُمَّ وبَعْضُها بِالفاءِ ولَمْ يَجِئْ جَمِيعُها بِثُمَّ أوْ بِالفاءِ مَعَ صِحَّةِ ذَلِكَ في مِثْلِها لِلْإشارَةِ إلى تَفاوُتِ الِاسْتِحالاتِ فالمَعْطُوفُ بِثُمَّ مُسْتَبْعَدٌ حُصُولُهُ مِمّا قَبْلَهُ فَجَعَلَ الِاسْتِبْعادَ عَقْلًا أوْ رُتْبَةً بِمَنزِلَةِ التَّراخِي والبُعْدِ الحِسِّيِّ لِأنَّ حُصُولَ النُّطْفَةِ مِن أجْزاءٍ تُرابِيَّةٍ غَرِيبٌ جِدًّا وكَذا جَعَلَ النُّطْفَةَ البَيْضاءَ السَّيّالَةَ دَمًا أحْمَرَ جامِدًا بِخِلافِ جَعْلِ الدَّمِ لَحْمًا مُشابِهًا لَهُ في اللَّوْنِ والصُّورَةِ وكَذا تَصْلِيبُ المُضْغَةِ حَتّى تَصِيرَ عَظْمًا وكَذا مَدَّ لَحْمِها عَلَيْهِ لِيَسْتُرَهُ كَذا قِيلَ ولا يَخْلُو عَنْ قِيلٍ وقالَ. واسْتَدَلَّ الإمامُ أبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ أنْشَأْناهُ﴾ إلَخْ عَلى أنَّ مِن غَصْبِ بَيْضَةٍ فَأفْرَخَتْ عِنْدَهُ لَزِمَهُ ضَمانُ البَيْضَةِ لا الفَرْخُ لِأنَّهُ خَلْقٌ آخَرُ، قالَ في الكَشْفِ: وفي هَذا الِاسْتِدْلالِ نَظَرٌ عَلى أصْلِ مُخالِفِيهِ لِأنَّ مُبايَنَتَهُ لِلْأوَّلِ لا تُخْرِجُهُ عَنْ مُلْكِهِ عِنْدَهُمْ، وقالَ صاحِبُ التَّقْرِيبِ: إنَّ تَضْمِينَهُ لِلْفَرْخِ لِكَوْنِهِ جُزْءًا مِنَ المَغْضُوبِ لا لِكَوْنِهِ عَيْنَهُ أوْ مُسَمًّى بِاسْمِهِ، وفي هَذا بَحْثٌ وفي المَسْألَةِ خِلافٌ كَثِيرٌ وكَلامٌ طَوِيلٌ يُطْلَبُ مِن كُتُبِ الفُرُوعِ المَبْسُوطَةِ. وقالَ الإمامُ: قالُوا في الآيَةِ دَلالَةً عَلى بُطْلانِ قَوْلِ النِّظامِ: إنَّ الإنْسانَ هو الرُّوحُ لا البَدَنُ فَإنَّهُ تَعالى بَيَّنَ فِيها أنَّ الإنْسانَ مُرَكَّبٌ مِن هَذِهِ الأشْياءِ، وعَلى بُطْلانِ قَوْلِ الفَلاسِفَةِ: إنَّ الإنْسانَ لا يَنْقَسِمُ وإنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وكَأنَّهم أرادُوا أنَّ الإنْسانَ هو النَّفْسُ النّاطِقَةُ والرُّوحُ الأمْرِيَّةُ المُجَرَّدَةُ فَإنَّها الَّتِي لَيْسَتْ بِجِسْمٍ عِنْدَهم ولا تَقْبَلُ الِانْقِسامَ بِوَجْهٍ ولَيْسَتْ داخِلَ البَدَنِ ولا خارِجَهُ ﴿فَتَبارَكَ اللَّهُ﴾ فَتَعالى وتَقَدَّسَ شَأْنُهُ سُبْحانَهُ في عِلْمِهِ الشّامِلِ وقُدْرَتِهِ الباهِرَةِ، (وتَبارَكَ) فِعْلٌ ماضٍ لا يَتَصَرَّفُ والأكْثَرُ إسْنادُهُ إلى غَيْرِ مُؤَنَّثٍ، والِالتِفاتُ إلى الِاسْمِ الجَلِيلِ لِتَرْبِيَةِ المَهابَةِ وإدْخالِ الرَّوْعَةِ والإشْعارِ بِأنَّ ما ذُكِرَ مِنَ الأفاعِيلِ العَجِيبَةِ مِن أحْكامُ الأُلُوهِيَّةِ ولِلْإيذانِ بِأنَّ حَقَّ كُلِّ مَن سَمِعَ ما فُصِّلَ مِن آثارِ قُدْرَتِهِ عَزَّ وجَلَّ أوْ لاحَظَهُ أنْ يُسارِعَ إلى التَّكَلُّمِ بِهِ إجْلالًا وإعْظامًا لِشُؤُونِهِ جَلَّ وعَلا ﴿أحْسَنُ الخالِقِينَ﴾ نَعْتٌ لِلِاسْمِ الجَلِيلِ، وإضافَةُ أفْعَلِ التَّفْضِيلِ مَحْضَةٌ فَتُفِيدُهُ تَعْرِيفًا إذا أُضِيفَ إلى مَعْرِفَةٍ عَلى الأصَحِّ. وقالَ أبُو البَقاءِ: لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ نَعْتًا لِأنَّهُ نَكِرَةٌ وإنْ أُضِيفَ لِأنَّ المُضافَ إلَيْهِ عِوَضٌ عَنْ- مِن- وهَكَذا جَمِيعُ بابِ أفْعَلَ مِنكَ وجَعَلَهُ بَدَلًا وهو يَقِلُّ في المُشْتَقّاتِ أوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُقَدَّرٍ أيْ هو أحْسَنُ الخالِقِينَ والأصْلُ عَدَمُ التَّقْدِيرِ، وتُمَيَّزُ أفْعَلُ مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ الخالِقِينَ عَلَيْهِ أيْ أحْسَنِ الخالِقِينَ خَلْقًا فالحُسْنُ لِلْخَلْقِ قِيلَ: نَظِيرُهُ قَوْلُهُ ﷺ: ««إنَّ اللَّهَ تَعالى جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ»» أيْ جَمِيلٌ فِعْلُهُ فَحُذِفَ المُضافُ وأُقِيمَ المُضافُ إلَيْهِ مَقامَهُ فانْقَلَبَ مَرْفُوعًا فاسْتَتَرَ، والخَلْقُ بِمَعْنى التَّقْدِيرِ وهو وصْفٌ يُطْلَقُ عَلى غَيْرِهِ تَعالى كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذْ (p-16)تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ [المائِدَةُ: 110] وقَوْلُ زُهَيْرٍ: ؎ولَأنْتَ تَفِرِّي ما خَلَقَتْ ∗∗∗ وبَعْضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لا يَفْرِي وفِي مَعْنى ذَلِكَ تَفْسِيرُهُ بِالصُّنْعِ كَما فَعَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ، ولا يَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِالإيجادِ عِنْدَنا إذْ لا خالِقَ بِذَلِكَ المَعْنى غَيْرُهُ تَعالى إلّا أنْ يَكُونَ عَلى الفَرْضِ والتَّقْدِيرِ. والمُعْتَزِلَةُ يُفَسِّرُونَهُ بِذَلِكَ لِقَوْلِهِمْ بِأنَّ العَبْدَ خالِقٌ لِأفْعالِهِ ومُوجِدٌ لَها اسْتِقْلالًا فالخالِقُ المُوجِدُ مُتَعَدِّدٌ عِنْدَهُمْ، وقَدْ تَكَفَّلَتِ الكُتُبُ الكَلامِيَّةُ بِرَدِّهِمْ. ومَعْنى حُسْنِ خَلْقِهِ تَعالى إتْقانُهُ وإحْكامُهُ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِالحُسْنِ مُقابِلَ القُبْحِ وكُلُّ شَيْءٍ مِنهُ عَزَّ شَأْنُهُ حَسَنٌ لا يَتَّصِفُ بِالقُبْحِ أصْلًا مِن حَيْثُ إنَّهُ مِنهُ فَلا دَلِيلَ فِيهِ لِلْمُعْتَزِلَةِ بِأنَّهُ تَعالى لا يَخْلُقُ الكُفْرَ والمَعاصِيَ كَما لا يَخْفى. رُوِيَ «أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعِيدِ بْنِ أبِي سَرْحٍ كانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأمْلى عَلَيْهِ ﷺ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ﴾ حَتّى إذا بَلَغَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ﴿ثُمَّ أنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ نَطَقَ عَبْدُ اللَّهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَتَبارَكَ اللَّهُ﴾ إلَخْ قَبْلَ إمْلائِهِ فَقالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: هَكَذا نَزَلَتْ فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ: إنْ كانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا يُوحى إلَيْهِ فَأنا نَبِيٌّ يُوحى إلَيَّ فارْتَدَّ ولَحِقَ بِمَكَّةَ كافِرًا ثُمَّ أسْلَمَ قَبْلَ وفاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وحَسُنَ إسْلامُهُ، وقِيلَ: ماتَ كافِرًا،» وطَعَنَ بَعْضُهم في صِحَّةِ هَذِهِ الرِّوايَةِ بِأنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وارْتِدادَهُ بِالمَدِينَةِ كَما تَقْتَضِيهِ الرِّوايَةُ، وأُجِيبُ بِأنَّهُ يُمْكِنُ الجَمْعُ بِأنْ تَكُونَ الآيَةُ نازِلَةً بِمَكَّةَ واسْتَكْتَبَها ﷺ إيّاهُ بِالمَدِينَةِ فَكانَ ما كانَ أوْ يَلْتَزِمُ كَوْنُ الآيَةِ مَدَنِيَّةً لِهَذا الخَبَرِ، وقَوْلُهُ: إنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ بِاعْتِبارِ الأكْثَرِ وعَلى هَذا يَكُونُ اقْتِصارُ الجَلالِ السُّيُوطِيِّ عَلى اسْتِثْناءِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿حَتّى إذا أخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ﴾ إلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿مُبْلِسُونَ﴾ قُصُورًا فَتَذَكَّرْ. وتُرْوى هَذِهِ المُوافَقَةُ عَنْ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ. أخْرَجَ ابْنُ راهَوَيْهٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والطَّبَرانِيُّ في الأوْسَطِ وابْنُ مَرْدُويَهٍ «عَنْ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: أمْلى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هَذِهِ الآيَةُ ﴿ولَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ مِن سُلالَةٍ مِن طِينٍ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿خَلْقًا آخَرَ﴾ فَقالَ مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ ﴿فَتَبارَكَ اللَّهُ أحْسَنُ الخالِقِينَ﴾ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقالَ لَهُ مُعاذٌ: مِمَّ ضَحِكْتَ يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قالَ: «بِها خَتَمْتُ»» ورُوِيَتْ أيْضًا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ، وأبُو نَعِيمٍ في فَضائِلِ الصَّحابَةِ وابْنُ مَرْدُويَهٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما قالَ: لَمّا نَزَلَتْ ﴿ولَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ مِن سُلالَةٍ مِن طِينٍ﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ قالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ: ﴿فَتَبارَكَ اللَّهُ أحْسَنُ الخالِقِينَ﴾ فَنَزَلَتْ كَما قالَ. وأخْرَجَ ابْنُ عَساكِرَ، وجَماعَةٌ عَنْ أنَسٍ أنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ كانَ يَفْتَخِرُ بِذَلِكَ ويَذْكُرُ أنَّها إحْدى مُوافِقاتِهِ الأرْبَعِ لِرَبِّهِ عَزَّ وجَلَّ، ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ مِن حُسْنِ نَظْمُ القُرْآنِ الكَرِيمِ حَيْثُ تَدُلُّ صُدُورُ كَثِيرٍ مِن آياتِهِ عَلى إعْجازِها، وقَدْ مَدَحْتُ بَعْضَ الأشْعارِ بِذَلِكَ فَقِيلَ: ؎قَصائِدُ إنْ تَكُنْ تُتْلى عَلى مَلَإ ∗∗∗ صُدُورِها عَلِمَتْ مِنها قَوافِيها لا يُقالُ: فَقَدْ تَكَلَّمَ البَشَرُ ابْتِداءً بِمِثْلِ نَظْمُ القُرْآنِ الكَرِيمِ وذَلِكَ قادِحٌ في إعْجازِهِ لِما أنَّ الخارِجَ عَنْ قُدْرَةِ البَشَرِ عَلى الصَّحِيحِ ما كانَ مِقْدارَ أقْصَرِ سُورَةٍ مِنهُ عَلى أنَّ إعْجازَ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ مَنُوطٌ بِما قَبْلَها كَما تُعْرِبُ عَنْهُ الفاءُ فَإنَّها اعْتِراضٌ تَذْيِيلِيٌّ مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِ ما قَبْلَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب