الباحث القرآني

﴿وجاهِدُوا في اللَّهِ﴾ أيْ لِلَّهِ تَعالى أوْ في سَبِيلِهِ سُبْحانَهُ، والجِهادُ كَما قالَ الرّاغِبُ اسْتِفْراغُ الوُسْعِ في مُدافَعَةِ العَدُوِّ وهو ثَلاثَةُ أضْرُبٍ. مُجاهَدَةُ العَدُوِّ الظّاهِرِ كالكُفّارِ ومُجاهَدَةُ الشَّيْطانِ ومُجاهَدَةُ النَّفْسِ وهي أكْبَرُ مِن مُجاهَدَةِ العَدُوِّ الظّاهِرَةِ كَما يَشْعُرُ بِهِ ما أخْرَجَ البَيْهَقِيُّ وغَيْرُهُ عَنْ جابِرٍ قالَ: «قَدِمَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَوْمٌ غُزاةٌ فَقالَ: «قَدِمْتُمْ خَيْرَ مَقْدَمٍ مِنَ الجِهادِ الأصْغَرِ إلى الجِهادِ الأكْبَرِ قِيلَ وما الجِهادُ الأكْبَرُ؟ قالَ مُجاهَدَةُ العَبْدِ هَواهُ»» وفي إسْنادِهِ ضَعْفٌ مُغْتَفَرٌ في مِثْلِهِ. والمُرادُ هُنا عِنْدَ الضَّحّاكِ جِهادُ الكُفّارِ حَتّى يَدْخُلُوا في الإسْلامِ، ويَقْتَضِيَ ذَلِكَ أنْ تَكُونَ الآيَةُ مَدَنِيَّةً لِأنَّ الجِهادَ إنَّما أُمِرَ بِهِ بَعْدَ الهِجْرَةِ وعِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ المُبارَكِ جِهادُ الهَوى والنَّفْسِ، والأوْلى أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهِ ضُرُوبَهُ الثَّلاثَةَ ولَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الجَمْعِ بَيْنَ الحَقِيقَةِ والمَجازِ في شَيْءٍ، وإلى هَذا يُشِيرُ ما رَوى جَماعَةٌ عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ قَرَأ الآيَةَ وقالَ: إنَّ الرَّجُلَ لَيُجاهِدُ في اللَّهِ تَعالى وما ضَرَبَ بِسَيْفٍ، ويَشْمَلُ ذَلِكَ جِهادَ المُبْتَدِعَةِ والفَسَقَةِ فَإنَّهم أعْداءٌ أيْضًا ويَكُونُ بِزَجْرِهِمْ عَنِ الِابْتِداعِ والفِسْقِ ﴿حَقَّ جِهادِهِ﴾ أيْ جِهادًا فِيهِ حَقًّا فَقَدَّمَ حَقًّا وأُضِيفَ عَلى حَدِّ جَرْدِ قَطِيفَةٍ وحُذِفَ حَرْفُ الجَرِّ وأُضِيفَ جِهادٌ إلى ضَمِيرِهِ تَعالى عَلى حَدِّ قَوْلِهِ. ويَوْمَ شَهِدْناهُ سَلِيمًا وعامِرًا. وفِي الكَشّافِ الإضافَةُ تَكُونُ لِأدْنى مُلابَسَةٍ واخْتِصاصٍ فَلَمّا كانَ الجِهادُ مُخْتَصًّا بِاللَّهِ تَعالى مِن حَيْثُ إنَّهُ مَفْعُولٌ لِوَجْهِهِ سُبْحانَهُ ومِن أجْلِهِ صَحَّتْ إضافَتُهُ إلَيْهِ، وأيًّا ما كانَ فَنُصِبَ ( حَقَّ ) عَلى المَصْدَرِيَّةِ، وقالَ أبُو البَقاءِ: إنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أيْ جِهادًا حَقَّ جِهادِهِ، وفِيهِ أنَّهُ مَعْرِفَةٌ فَكَيْفَ يُوصَفُ بِهِ النَّكِرَةُ ولا أظُنُّ أنَّ أحَدًا يَزْعُمُ أنَّ الإضافَةَ إذا كانَتْ عَلى الِاتِّساعِ لا تُفِيدُ تَعْرِيفًا فَلا يَتَعَرَّفُ بِها المُضافُ ولا المُضافُ إلَيْهِ، والآيَةُ تَدُلُّ عَلى الأمْرِ بِالجِهادِ عَلى أتَمِّ وجْهٍ بِأنْ يَكُونَ خالِصًا لِلَّهِ تَعالى لا يَخْشى فِيهِ لَوْمَةَ لائِمٍ وهي مُحْكَمَةٌ. ومَن قالَ كَمُجاهِدٍ والكَلْبِيِّ: إنَّها مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التَّغابُنَ: 16] فَقَدْ أرادَ بِها أنْ يُطاعَ سُبْحانَهُ فَلا يُعْصى أصْلًا وفِيهِ بَحْثٌ لا يَخْفى، وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: قالَ لِي عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ «ألَسْنا كُنّا نَقْرَأُ وجاهِدُوا في اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ في آخِرِ الزَّمانِ كَما جاهَدْتُمْ في أوَّلِهِ» ؟ قُلْتُ: بَلى فَمَتى هَذا يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ ؟ قالَ: إذا كانَتْ بَنُو أُمَيَّةَ الأُمَراءَ وبَنُو المُغِيرَةِ الوُزَراءَ، وأخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ عَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: قالَ عُمَرُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَذَكَرَهُ، ولا يَخْفى عَلَيْكَ حُكْمُ هَذِهِ القِراءَةِ، وقالَ النَّيْسابُورِيُّ: قالَ العُلَماءُ لَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوايَةُ فَلَعَلَّ هَذِهِ الزِّيادَةَ مِن تَفْسِيرِهِ ﷺ ولَيْسَتْ مِن نَفْسِ القُرْآنِ إلّا لَتَواتَرَتْ وهو كَما تَرى ﴿هُوَ اجْتَباكُمْ﴾ أيْ هو جَلَّ شَأْنُهُ اخْتارَكم لا غَيْرُهُ سُبْحانَهُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيانِ عِلَّةِ الأمْرِ بِالجِهادِ فَإنَّ المُخْتارَ إنَّما يَخْتارُ مَن يَقُومُ بِخِدْمَتِهِ ومِن قُرْبِهِ العَظِيمَ يَلْزَمُهُ دَفْعُ أعْدائِهِ ومُجاهَدَةُ نَفْسِهِ بِتَرْكِ ما لا يَرْضاهُ فَفِيها تَنْبِيهٌ عَلى المُقْتَضى لِلْجِهادِ، وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ﴾ أيْ في جَمِيعِ أُمُورِهِ ويَدْخُلُ فِيهِ الجِهادُ دُخُولًا أوَّلِيًّا ﴿مِن حَرَجٍ﴾ أيْ ضِيقٌ بِتَكْلِيفِ ما يَشْتَدُّ القِيامُ بِهِ عَلَيْكم إشارَةً إلى أنَّهُ لا مانِعَ لَهم عَنْهُ، والحاصِلُ أنَّهُ تَعالى أمَرَهم بِالجِهادِ وبَيَّنَ أنَّهُ لا عُذْرَ لَهم في تَرْكِهِ حَيْثُ وُجِدَ المُقْتَضِي وارْتَفَعَ المانِعُ. (p-210)ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ هَذا إشارَةً إلى الرُّخْصَةِ في تَرْكِ بَعْضِ ما أمَرَهم سُبْحانَهُ بِهِ حَيْثُ شَقَّ عَلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ ﷺ: ««إذا أمَرْتُكم بِشَيْءٍ فَأتَوْا مِنهُ ما اسْتَطَعْتُمْ»» فانْتِفاءُ الحَرَجِ عَلى هَذا بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِالتَّرْخِيصِ في التَّرْكِ بِمُقْتَضى الشَّرْعِ وعَلى الأوَّلِ انْتِفاءُ الحَرَجِ ابْتِداءً، وقِيلَ: عَدَمُ الحَرَجِ بِأنْ جَعَلَ لَهم مِن كُلِّ ذَنْبٍ مَخْرَجًا بِأنْ رَخَّصَ لَهم في المَضايِقِ وفَتَحَ عَلَيْهِمْ بابَ التَّوْبَةِ وشَرَعَ لَهُمُ الكَفّاراتِ في حُقُوقِهِ والأُرُوشَ والدِّياتِ في حُقُوقِ العِبادِ، ولا يَخْفى أنَّ تَعْمِيمَهُ لِلتَّوْبَةِ ونَحْوِها خِلافُ الظّاهِرِ وإنْ رُوِيَ ذَلِكَ مِن طَرِيقِ ابْنِ شِهابٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما. وفِي الحَواشِي الشِّهابِيَّةِ أنَّ الظّاهِرَ حَقُّ جِهادِهِ تَعالى لِما كانَ مُتَعَسَّرًا ذَيَّلَهُ بِهَذا لِيُبَيِّنَ أنَّ المُرادَ ما هو بِحَسَبِ قُدْرَتِهِمْ لا ما يَلِيقُ بِهِ جَلَّ وعَلا مِن كُلِّ الوُجُوهِ. وذَكَرَ الجَلالُ السُّيُوطِيُّ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ أصْلُ قاعِدَةِ المَشَقَّةِ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ وهو أوْفَقُ بِالوَجْهِ الثّانِي فِيها. ﴿مِلَّةَ أبِيكم إبْراهِيمَ﴾ نُصِبَ عَلى المَصْدَرِيَّةِ بِفِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ ما قَبْلَهُ مِن نَفْيِ الحَرَجِ بَعْدَ حَذْفِ مُضافٍ أيْ وسِعَ دِينُكم تَوْسِعَةَ مِلَّةِ أبِيكم أوْ عَلى الِاخْتِصاصِ بِتَقْدِيرِ أعْنِي بِالدِّينِ ونَحْوِهِ وإلَيْهِما ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ وقالَ الحَوْفِيُّ وأبُو البَقاءِ: نُصِبَ عَلى الإغْراءِ بِتَقْدِيرِ اتَّبِعُوا أوِ الزَمُوا أوْ نَحْوِهِ، وقالَ الفَرّاءُ: نُصِبَ بِنَزْعِ الخافِضِ أيْ كَمِلَّةِ أبِيكم، والمُرادُ بِالمِلَّةِ إمّا ما يَعُمُّ الأُصُولَ والفُرُوعَ أوْ ما يَخُصُّ الأُصُولَ فَتَأمَّلْ ولا تَغْفُلْ، ( وإبْراهِيمَ ) مَنصُوبٌ بِمُقَدَّرٍ أيْضًا أوْ مَجْرُورٌ بِالفَتْحِ عَلى أنَّهُ بَدَلٌ أوْ عَطْفُ بَيانٍ، وجَعَلَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أباهم لِأنَّهُ أبُو رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وهو كالأبِ لِأُمَّتِهِ مِن حَيْثُ إنَّهُ سَبَبٌ لِحَياتِهِمُ الأبَدِيَّةِ ووُجُودِهِمْ عَلى الوَجْهِ المُعْتَدِّ بِهِ في الآخِرَةِ أوْ لِأنَّ أكْثَرَ العَرَبِ كانُوا مِن ذُرِّيَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ فَغُلِّبُوا عَلى جَمِيعِ أهْلِ مِلَّتِهِ ﷺ ( هو ) أيِ اللَّهُ تَعالى كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ والضَّحّاكِ وقَتادَةَ وسُفْيانَ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ ما سَيَأْتِي بَعْدُ في الآيَةِ وقِراءَةِ أُبَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ ( اللَّهِ سَمّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ ) أيْ مِن قَبْلِ نُزُولِ القُرْآنِ وذَلِكَ في الكُتُبِ السَّماوِيَّةِ كالتَّوْراةِ والإنْجِيلِ ﴿وفِي هَذا﴾ أيْ في القُرْآنِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، وقِيلَ إنَّها كالبَدَلِ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿هُوَ اجْتَباكُمْ﴾ ولِذا لَمْ تُعْطَفْ، وعَنِ ابْنِ زَيْدٍ والحَسَنِ أنَّ الضَّمِيرَ لِإبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ واسْتَظْهَرَهُ أبُو حَيّانَ لِلْقُرْبِ وتَسْمِيَتُهُ إيّاهم بِذَلِكَ مِن قَبْلُ في قَوْلِهِ: ﴿رَبَّنا واجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ومِن ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ [البَقَرَةَ: 128] وقَوْلُهُ هَذا سَبَبٌ لِتَسْمِيَتِهِمْ بِذَلِكَ في هَذا لِدُخُولِ أكْثَرِهِمْ في الذُّرِّيَّةِ فَجُعِلَ مُسَمِّيًا لَهم فِيهِ مَجازًا، ويَلْزَمُ عَلَيْهِ الجَمْعُ بَيْنَ الحَقِيقَةِ والمَجازِ وفي جَوازِهِ خِلافٌ مَشْهُورٌ، وقالَ أبُو البَقاءِ: المَعْنى عَلى هَذا وفي هَذا بَيانُ تَسْمِيَتِهِ إيّاكم بِهَذا الِاسْمِ حَيْثُ حَكى في القُرْآنِ مَقالَتَهُ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُقَدَّرُ عَلَيْهِ وسَمَّيْتُكم في هَذا المُسْلِمِينَ، ولا يَخْفى ما في كُلِّ ذَلِكَ مِنَ التَّكَلُّفِ. واسْتَدَلَّ بِالآيَةِ مَن قالَ: إنَّ التَّسْمِيَةَ بِالمُسْلِمِينَ مَخْصُوصٌ بِهَذِهِ الأُمَّةِ وفِيهِ نَظَرٌ. ﴿لِيَكُونَ الرَّسُولُ﴾ يَوْمَ القِيامَةِ ﴿شَهِيدًا عَلَيْكُمْ﴾ أنَّهُ قَدْ بَلَّغَكم، ويَدُلُّ عَلى هَذا القَوْلِ مِنهُ تَعالى عَلى قَبُولِ شَهادَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِنَفْسِهِ اعْتِمادًا عَلى عِصْمَتِهِ ولَعَلَّ هَذا مِن خَواصِّهِ ﷺ في ذَلِكَ اليَوْمِ وإلّا فالمَعْصُومُ يُطالَبُ في الدُّنْيا بِشاهِدَيْنِ إذا ادَّعى شَيْئًا لِنَفْسِهِ كَما يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ قِصَّةُ الفَرَسِ وشَهادَةُ خُزَيْمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، وأيْضًا لَوْ كانَ كُلُّ مَعْصُومٍ تُقْبَلُ شَهادَتُهُ لِنَفْسِهِ في ذَلِكَ لَما احْتِيجَ إلى شَهادَةِ هَذِهِ الأُمَّةِ عَلى الأُمَمِ حِينَ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أنْبِياؤُهم (p-211)فَيُنْكِرُونَ كَما ذَكَرَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ﴾ ورُدَّ أنَّهُ يُؤْتى بِالأُمَمِ وأنْبِيائِهِمْ فَيُقالُ لَأنْبِيائِهِمْ: هَلْ بَلَّغْتُمْ أُمَمَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ بَلَّغْناهم فَيُنْكِرُونَ فَيُؤْتى بِهَذِهِ الأُمَّةِ فَيَشْهَدُونَ أنَّهم قَدْ بَلَّغُوا فَتَقُولُ الأُمَمُ لَهم: مِن أيْنَ عَرَفْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: عَرَفْنا ذَلِكَ بِإخْبارِ اللَّهِ تَعالى في كِتابِهِ النّاطِقِ عَلى لِسانِ نَبِيِّهِ الصّادِقِ أوْ شَهِيدًا عَلَيْكم بِإطاعَةِ مَن أطاعَ وعِصْيانِ مَن عَصى، ولَعَلَّ عِلْمَهُ ﷺ بِذَلِكَ بِتَعْرِيفِ اللَّهِ تَعالى بِعَلاماتٍ تَظْهَرُ لَهُ في ذَلِكَ الوَقْتِ تُسَوِّغُ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ الشَّهادَةَ، وكَوْنُ أعْمالِ أُمَّتِهِ تُعْرَضُ عَلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو في البَرْزَخِ كُلَّ أُسْبُوعٍ أوْ أكْثَرَ أوْ أقَلَّ إذا صَحَّ لا يُفِيدُ العِلْمَ بِأعْيانِ ذَوِي الأعْمالِ المَشْهُودِ عَلَيْهِمْ وإلّا أشْكَلَ ما رَواهُ أحْمَدُ في مُسْنَدِهِ والشَّيْخانِ عَنْ أنَسٍ، وحُذَيْفَةُ قالا: ««قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ ناسٌ مِن أصْحابِي الحَوْضَ حَتّى إذا رَأيْتُهم وعَرَفْتُهُمُ اخْتَلَجُوا دُونِي فَأقُولُ: يا رَبِّ أُصَيْحابِي أُصَيْحابِي فَيُقالُ لِي: إنَّكَ لا تَدْرِي ما أحْدَثُوا بَعْدَكَ»» ورُبَّما أشْكَلَ هَذا عَلى تَقْدِيرِ صِحَّةِ حَدِيثِ العَرْضِ سَواءٌ أفادَ العِلْمَ بِالأعْيانِ أمْ لا، وإذا التَزَمَ صِحَّةَ ذَلِكَ الحَدِيثِ وأنَّهُ ﷺ لَمْ يَسْتَحْضِرْ أعْمالَ أُولَئِكَ الأقْوامِ حِينَ عَرَفَهم فَقالَ ما قالَ وأنَّ المُرادَ مِن- إنَّكَ لا تَدْرِي- إلَخْ مُجَرَّدُ تَعْظِيمِ أمْرِ ما أحْدَثُوهُ بَعْدَ وفاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لا نَفْيُ العِلْمِ بِهِ يَبْقى مَن ماتَ مِن أُمَّتِهِ طائِعًا أوْ عاصِيًا في زَمانِ حَياتِهِ ﷺ ولَمْ يَكُنْ عِلْمٌ بِحالِهِ أصْلًا كَمَن آمَنَ وماتَ ولَمْ يَسْمَعْ ﷺ بِهِ فَإنَّ عَرْضَ الأعْمالِ في حَقِّهِ لِمَ يَجِئْ في خَبَرٍ أصْلًا، والقَوْلُ بِعَدَمِ وُجُودِ شَخْصٍ كَذَلِكَ بِعِيدٌ، ومَن زَعَمَ أنَّهُ ﷺ يَعْلَمُ أعْمالَ أُمَّتِهِ ويَعْرِفُهم واحِدًا حَيًّا ومَيِّتًا ولِذا ساغَتْ شَهادَتُهُ عَلَيْهِمْ بِالطّاعَةِ والمَعْصِيَةِ يَوْمَ القِيامَةِ لَمْ يَأْتِ بِدَلِيلٍ، والآيَةُ لا تَصْلُحُ دَلِيلًا لَهُ إلّا بِهَذا التَّفْسِيرِ وهو مَحَلُّ البَحْثِ، عَلى أنَّ في حَدِيثِ الإفْكِ ما يَدُلُّ عَلى خِلافِهِ. وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ مَعْرِفَتَهُ ﷺ لِلطّائِعِ والعاصِي مِن أُمَّتِهِ لِما أنَّهُ يَحْضُرُ سُؤالَهم في القَبْرِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كَما يُؤْذِنُ بِذَلِكَ ما ورَدَ أنَّهُ يُقالُ لِلْمَقْبُورِ: ما تَقُولُ في هَذا الَّذِي بُعِثَ إلَيْكُمْ؟ واسْمُ الإشارَةِ يَسْتَدْعِي مُشارًا إلَيْهِ مَحْسُوسًا مُشاهَدًا وهو كَما تَرى، واخْتارَ بَعْضٌ أنَّ الشَّهادَةَ بِذَلِكَ عَلى بَعْضِ الأُمَّةِ وهُمُ الَّذِينَ كانُوا مَوْجُودِينَ في وقْتِهِ ﷺ وعَلِمَ حالَهم مِن طاعَةٍ وعِصْيانٍ، والخِطابُ في ( عَلَيْكم ) إمّا خاصٌّ بِهِمْ أوْ عامٌّ عَلى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ وفِيهِ ما فِيهِ فَتَدَبَّرْ، وقِيلَ عَلى في ( عَلَيْكم ) بِمَعْنى اللّامِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما ذُبِحَ عَلى النُّصُبِ﴾ [المائِدَةَ: 3] فالمَعْنى شَهِيدًا لَكم، والمُرادُ بِشَهادَتِهِ لَهم تَزْكِيَتُهُ إيّاهم إذا شَهِدُوا عَلى الأُمَمِ ولا يَخْفى بُعْدُهُ، واللّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِسَمّاكم عَلى الوَجْهَيْنِ في الضَّمِيرِ وهي لِلْعاقِبَةِ عَلى ما قِيلَ، وقالَ الخَفاجِيُّ: لا مانِعَ مِن كَوْنِها لِلتَّعْلِيلِ فَإنَّ تَسْمِيَةَ اللَّهِ تَعالى أوْ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَهم بِالمُسْلِمِينَ حُكْمٌ بِإسْلامِهِمْ وعَدالَتِهِمْ وهو سَبَبٌ لِقَبُولِ شَهادَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ الدّاخِلِ فِيهِمْ دُخُولًا أوَّلِيًّا وقَبُولِ شَهادَتِهِمْ عَلى الأُمَمِ وفِيهِ نَوْعُ خَفاءٍ. ﴿فَأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ﴾ أيْ فَتَقَرَّبُوا إلَيْهِ تَعالى لِما خَصَّكم بِهَذا الفَضْلِ والشَّرَفِ بِأنْواعِ الطّاعاتِ، وتَخْصِيصُ هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ بِالذِّكْرِ لِإنافَتِهِما وفَضْلِهِما ﴿واعْتَصِمُوا بِاللَّهِ﴾ أيْ ثِقُوا بِهِ تَعالى في جَمِيعِ أُمُورِكم ﴿هُوَ مَوْلاكُمْ﴾ ناصِرُكم ومُتَوَلِّي أُمُورِكم ﴿فَنِعْمَ المَوْلى ونِعْمَ النَّصِيرُ﴾ هو إذْ لا مَثِيلَ لَهُ تَعالى في الوِلايَةِ والنُّصْرَةِ فَإنَّ مَن تَوَلّاهُ لَمْ يَضِعْ ومَن نَصَرَهُ لَمْ يُخْذَلْ بَلْ لا ولِيَّ ولا ناصِرَ في الحَقِيقَةِ سِواهُ عَزَّ وجَلَّ، وفي (p-212)هَذا إشارَةٌ إلى أنَّ قُصارى الكَمالِ الِاعْتِصامُ بِاللَّهِ تَعالى وتَحْقِيقُ مَقامِ العُبُودِيَّةِ وهو وراءُ التَّسْمِيَةِ والِاجْتِباءِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ ﴿هُوَ مَوْلاكُمْ﴾ تَتْمِيمًا لِلِاجْتِباءِ ولَيْسَ بِذاكَ هَذا. * * * ومِن بابِ الإشارَةِ في الآياتِ ﴿إنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ كَيْدَ عَدُوِّهِمْ مِنَ الشَّيْطانِ والنَّفْسِ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوّانٍ كَفُورٍ﴾ ويَدْخُلُ في ذَلِكَ الشَّيْطانُ والنَّفْسُ، وصِدْقُ الوَصْفَيْنِ عَلَيْهِما ظاهِرٌ جِدًّا بَلْ لا خَوّانَ ولا كَفُورَ مِثْلُهُما ﴿الَّذِينَ إنْ مَكَّنّاهم في الأرْضِ أقامُوا الصَّلاةَ﴾ إلَخْ فِيهِ إشارَةٌ إلى حالِ أهْلِ التَّمْكِينِ وأنَّهم مَهْدِيُّونَ هادُونَ فَلا شَطْحَ عِنْدَهم ولا يَضِلُّ أحَدٌ بِكَلِماتِهِمْ ﴿فَكَأيِّنْ مِن قَرْيَةٍ أهْلَكْناها وهي ظالِمَةٌ فَهي خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وقَصْرٍ مَشِيدٍ﴾ قِيلَ: في القَرْيَةِ الظّالِمَةِ إشارَةٌ إلى القَلْبِ الغافِلِ عَنِ اللَّهِ تَعالى، وفي البِئْرِ المُعَطَّلَةِ إشارَةٌ إلى الذِّهْنِ الَّذِي لَمْ يُسْتَخْرَجْ مِنهُ الأفْكارُ الصّافِيَةُ، وفي القَصْرِ المَشِيدِ إشارَةٌ إلى البَدَنِ المُشْتَمِلِ عَلى حُجُراتِ القُوى. ﴿فَإنَّها لا تَعْمى الأبْصارُ ولَكِنْ تَعْمى القُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ﴾ فِيهِ إشارَةٌ إلى سُوءِ حالِ المَحْجُوبِينَ المُنْكِرِينَ فَإنَّ قُلُوبَهم عُمْيٌ عَنْ رُؤْيَةِ أنْوارِ أهْلِ اللَّهِ تَعالى فَإنَّ لَهم أنْوارًا لا تُرى إلّا بِعَيْنِ القَلْبِ وبِهَذِهِ العَيْنِ تُدْرَكُ حَقائِقُ المُلْكِ ودَقائِقُ المَلَكُوتِ، وفي الحَدِيثِ ««اتَّقُوا فِراسَةَ المُؤْمِنِ فَإنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ»» ﴿وإنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَألْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ﴾ قَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ في اليَوْمِ وانْقِسامِهِ فَتَذَكَّرْ ﴿فالَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهم مَغْفِرَةٌ﴾ أيْ سَتْرٌ عَنِ الأغْيارِ مِن أنْ يَقِفُوا عَلى حَقِيقَتِهِمْ كَما يُشِيرُ ما يَرْوُونَهُ مِنَ الحَدِيثِ القُدُسِيِّ ««أوْلِيائِي تَحْتَ قُبابِي لا يَعْرِفُهم أحَدٌ غَيْرِي»» ﴿ورِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ وهو العِلْمُ اللَّدْنِيُّ الَّذِي بِهِ غِذاءُ الأرْواحِ. وقالَ بَعْضُهم: رِزْقُ القُلُوبِ حَلاوَةُ العِرْفانِ ورِزْقُ الأسْرارِ مُشاهَدَةُ الجَمالِ ورِزْقُ الأرْواحِ مُكاشَفَةُ الجَلالِ وإلى هَذا الرِّزْقِ يُشِيرُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِقَوْلِهِ: ««أبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي ويَسْقِينِي»» والإشارَةُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ ولا نَبِيٍّ إلا إذا تَمَنّى ألْقى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ﴾ الآياتِ عَلى قَوْلِ مَن زَعَمَ صِحَّةَ حَدِيثِ الغَرانِيقِ إلى أنَّهُ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ العَبْدُ فَناءً في إرادَةِ مَوْلاهُ عَزَّ وجَلَّ وإلّا ابْتُلِيَ بِتَلْبِيسِ الشَّيْطانِ لِيَتَأدَّبَ ولا يَبْقى ذَلِكَ التَّلْبِيسُ لِمُنافاتِهِ الحِكْمَةَ ﴿والَّذِينَ هاجَرُوا في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ عَنْ أوْطانِ الطَّبِيعَةِ في طَلَبِ الحَقِيقَةِ ﴿ثُمَّ قُتِلُوا﴾ بِسَيْفِ الصِّدْقِ والرِّياضَةِ ﴿أوْ ماتُوا﴾ بِالجَذْبَةِ عَنْ أوْصافِ البَشَرِيَّةِ ﴿لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا﴾ هو رِزْقُ دَوامِ الوَصْلَةِ كَما قِيلَ: أوْ هو كالرِّزْقِ الكَرِيمِ ﴿ومَن عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ﴾ فِيهِ إشارَةٌ إلى نَصْرِ السّالِكِ الَّذِي عاقَبَ نَفْسَهُ بِالمُجاهَدَةِ بَعْدَ أنْ عاقَبَتْهُ بِالمُخالَفَةِ ثُمَّ ظَلَمَتْهُ بِاسْتِيلاءِ صِفاتِها ﴿وإنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ﴾ أخَذَ الصُّوفِيَّةُ مِنهُ تَرْكَ الجِدالِ مَعَ المُنْكِرِينَ. وذَكَرَ بَعْضُهم أنَّ الجِدالَ مَعَهم عَبَثٌ كالجِدالِ مَعَ العِنِّينِ في لَذَّةِ الجِماعِ ﴿وإذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ في وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا المُنْكَرَ﴾ الآيَةُ فِيهِ إشارَةٌ إلى ذَمِّ المُتَصَوِّفَةِ الَّذِينَ إذا سَمِعُوا الآياتِ الرّادَّةَ عَلَيْهِمْ ظَهَرَ عَلَيْهِمُ التَّجَهُّمُ والبُسُورُ وهم في زَمانِنا كَثِيرُونَ فَإنّا لِلَّهِ وإنّا إلَيْهِ راجِعُونَ، وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا﴾ إلَخْ إشارَةٌ إلى ذَمِّ الغالِينَ في أوْلِياءِ اللَّهِ تَعالى حَيْثُ يَسْتَغِيثُونَ بِهِمْ في الشِّدَّةِ غافِلِينَ عَنِ اللَّهِ تَعالى ويُنْذِرُونَ لَهُمُ النُّذُورَ والعُقَلاءُ مِنهم يَقُولُونَ: إنَّهم وسائِلُنا إلى اللَّهِ تَعالى وإنَّما نُنْذِرُ لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ ونَجْعَلُ ثَوابَهُ لِلْوَلِيِّ، ولا يَخْفى أنَّهم في دَعْواهُمُ الأُولى أشْبَهُ النّاسِ بِعَبَدَةِ الأصْنامِ القائِلِينَ إنَّما نَعْبُدُهم لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ زُلْفى، ودَعْواهُمُ الثّانِيَةِ لا بَأْسَ بِها لَوْ لَمْ يَطْلُبُوا مِنهم ذَلِكَ شِفاءَ مَرِيضِهِمْ أوْ رَدَّ غائِبِهِمْ أوْ نَحْوَ (p-213)ذَلِكَ، والظّاهِرُ مِن حالِهِمُ الطَّلَبُ، ويُرْشِدُ إلى ذَلِكَ أنَّهُ لَوْ قِيلَ: أنْذِرُوا لِلَّهِ تَعالى واجْعَلُوا ثَوابَهُ لِوالِدَيْكم فَإنَّهم أحْوَجُ مِن أُولَئِكَ الأوْلِياءِ لَمْ يَفْعَلُوا، ورَأيْتُ كَثِيرًا مِنهم يَسْجُدُ عَلى أعْتابِ حُجَرِ قُبُورِ الأوْلِياءِ ومِنهم مَن يُثْبِتُ التَّصَرُّفَ لَهم جَمِيعًا في قُبُورِهِمْ لَكِنَّهم مُتَفاوِتُونَ فِيهِ حَسَبَ تَفاوُتِ مَراتِبِهِمْ، والعُلَماءُ مِنهم يَحْصُرُونَ التَّصَرُّفَ في القُبُورِ في أرْبَعَةٍ أوْ خَمْسَةٍ وإذا طُولِبُوا بِالدَّلِيلِ قالُوا: ثَبَتَ ذَلِكَ بِالكَشْفِ قاتَلَهُمُ اللَّهُ تَعالى ما أجْهَلَهم وأكْثَرَ افْتِرائِهِمْ، ومِنهم مَن يَزْعُمُ أنَّهم يَخْرُجُونَ مِنَ القُبُورِ ويَتَشَكَّلُونَ بِأشْكالٍ مُخْتَلِفَةٍ، وعُلَماؤُهم يَقُولُونَ: إنَّما تَظْهَرُ أرْواحُهم مُتَشَكِّلَةً وتَطُوفُ حَيْثُ شاءَتْ ورُبَّما تَشَكَّلَتْ بِصُورَةِ أسَدٍ أوْ غَزالٍ أوْ نَحْوِهِ وكُلُّ ذَلِكَ باطِلٌ لا أصْلَ لَهُ في الكِتابِ والسُّنَّةِ وكَلامِ سَلَفِ الأُمَّةِ، وقَدْ أفْسَدَ هَؤُلاءِ عَلى النّاسِ دِينَهم وصارُوا ضُحَكَةً لِأهْلِ الأدْيانِ المَنسُوخَةِ في اليَهُودِ والنَّصارى، وكَذا لِأهْلِ النِّحَلِ والدَّهْرِيَّةِ، نَسْألُ اللَّهَ تَعالى العَفْوَ والعافِيَةَ. ﴿وجاهِدُوا في اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ﴾ شامِلٌ لِجَمِيعِ أنْواعِ المُجاهَدَةِ، ومِنها جِهادُ النَّفْسِ وهو بِتَزْكِيَتِها بِأداءِ الحُقُوقِ وتَرْكِ الحُظُوظِ، وجِهادُ القَلْبِ بِتَصْفِيَتِهِ وقَطْعِ تَعَلُّقِهِ عَنِ الكَوْنَيْنِ، وجِهادُ الرُّوحِ بِإفْناءِ الوُجُودِ، وقَدْ قِيلَ: وجُودُكَ ذَنْبٌ لا يُقاسِ بِهِ ذَنْبٌ. ﴿واعْتَصِمُوا بِاللَّهِ﴾ تَمَسَّكُوا بِهِ جَلَّ وعَلا في جَمِيعِ أحْوالِكم ﴿هُوَ مَوْلاكُمْ﴾ عَلى الحَقِيقَةِ ﴿فَنِعْمَ المَوْلى﴾ في إفْناءِ وجُودِكم ﴿ونِعْمَ النَّصِيرُ﴾ في إبْقائِكم، وما أعْظَمَ هَذِهِ الخاتِمَةَ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وسُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ وسَلامٌ عَلى المُرْسَلِينَ والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ. تَمَّ بِحَمْدِ اللَّهِ الجُزْءُ السّابِعَ عَشَرَ، ويَلِيهِ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى الجُزْءُ الثّامِنَ عَشَرَ، وأوَّلُهُ سُورَةُ المُؤْمِنِينَ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب