الباحث القرآني
﴿ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ قالَ الحَسَنُ والفَرّاءُ: أيْ ما عَظَّمُوهُ سُبْحانَهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ فَإنَّ تَعْظِيمَهُ تَعالى حَقَّ تَعْظِيمِهِ أنْ يُوصَفَ بِما وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ ويُعْبَدَ كَما أمَرَ أنْ يُعْبَدَ وهَؤُلاءِ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ فَإنَّهم عَبَدُوا مِن دُونِهِ مَن لا يَصْلُحُ لِلْعِبادَةِ أصْلًا وفي ذَلِكَ وصْفُهُ سُبْحانَهُ بِما نُزِّهَ عَنْهُ سُبْحانَهُ مِن ثُبُوتِ شَرِيكٍ لَهُ عَزَّ وجَلَّ.
وقالَ الأخْفَشُ: أيْ ما عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ فَإنَّ مَعْرِفَتَهُ تَعالى حَقَّ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ سُبْحانَهُ مَوْصُوفًا بِما وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وهَؤُلاءِ لَمْ يُصَدِّقُوا بِهِ كَذَلِكَ لِشِرْكِهِمْ بِهِ وعِبادَتِهِمْ مِن دُونِهِ مَن سَمِعْتَ حالَهُ، وقِيلَ: حَقُّ المَعْرِفَةِ أنْ يُعْرَفَ سُبْحانَهُ بِكُنْهِهِ وهَذا هو المُرادُ في قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ««سُبْحانَكَ ما عَرَفْناكَ حَقَّ مَعْرِفَتِكَ»» .
وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ الظّاهِرَ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ما قَدَرُوا﴾ إلَخْ إخْبارٌ عَنِ المُشْرِكِينَ وذَمٌّ لَهم ومَتى كانَ المُرادُ مِنهُ نَفْيَ المَعْرِفَةِ بِالكُنْهِ كانَ الأمْرُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهم وبَيْنَ المُوَحِّدِينَ فَإنَّ المَعْرِفَةَ بِالكُنْهِ لَمْ تَقَعْ لِأحَدٍ مِنَ المُوَحِّدِينَ أيْضًا عِنْدَ المُحَقِّقِينَ ويُشِيرُ إلى ذَلِكَ الخَبَرُ المَذْكُورُ لِدَلالَتِهِ عَلى عَدَمِ حُصُولِها لِأكْمَلِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِ وعَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ وإذا لَمْ تَحْصُلْ لَهُ ﷺ فَعَدَمُ حُصُولِها لِغَيْرِهِ بِالطَّرِيقِ الأوْلى، واحْتِمالُ حَمْلِ المَعْرِفَةِ المَنفِيَّةِ فِيهِ عَلى اكْتِناهِ الصِّفاتِ لا يَخْفى حالُهُ، وكَذا احْتِمالُ حُصُولِ المَعْرِفَةِ بِالكُنْهِ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بَعْدَ الإخْبارِ المَذْكُورِ، وقَوْلُهُ ﷺ: ««تَفَكَّرُوا في آلاءِ اللَّهِ تَعالى ولا تَفَكَّرُوا في ذاتِهِ فَإنَّكم لَنْ تَقْدُرُوا قَدْرَهُ»» . والظّاهِرُ عُمُومُ الحُكْمِ دُونَ اخْتِصاصِهِ بِالمُخاطَبِينَ إذْ ذاكَ، وقَوْلُ الصِّدِّيقِ الأكْبَرِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ: العَجْزُ عَنْ دَرْكِ الإدْراكِ إدْراكٌ، وقَوْلُ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ مُتِمًّا لَهُ بَيْتًا: والبَحْثُ عَنْ سِرِّ ذاتِ اللَّهِ إشْراكٌ.
بَلْ قالَ حُجَّةُ الإسْلامِ الغَزالِيُّ وشَيْخُهُ إمامُ الحَرَمَيْنِ والصُّوفِيَّةُ والفَلاسِفَةُ بِامْتِناعِ مَعْرِفَتِهِ سُبْحانَهُ بِالكُنْهِ، ونُقِلَ عَنْ أرِسْطُو أنَّهُ قالَ في ذَلِكَ: كَما تَعْتَرِي العَيْنَ عِنْدَ التَّحْدِيقِ في جِرْمِ الشَّمْسِ ظُلْمَةٌ وكُدُورَةٌ تَمْنَعُها عَنْ تَمامِ الإبْصارِ كَذَلِكَ تَعْتَرِي العَقْلَ عِنْدَ إرادَةِ اكْتِناهِ ذاتِهِ تَعالى حَيْرَةٌ ودَهْشَةٌ تَمْنَعُهُ عَنِ اكْتِناهِهِ سُبْحانَهُ.
(p-203)ولا يَخْفى أنَّهُ لا يَصْلُحُ بُرْهانًا لِلِامْتِناعِ وغايَةُ ما يُقالُ: إنَّهُ خِطابِيٌّ لا يَحْصُلُ بِهِ إلّا الظَّنُّ الغَيْرُ الكافِي في مِثْلِ هَذا المَطْلَبِ، ومِثْلُهُ الِاسْتِدْلالُ بِأنَّ جَمِيعَ النُّفُوسِ المُجَرَّدَةِ البَشَرِيَّةِ وغَيْرِها مُهَذَّبَةً كانَتْ أوْ لا أنْقَصُ تَجَرُّدًا تَنَزُّهًا مِنَ الواجِبِ تَعالى والأنْقَصُ يَمْتَنِعُ لَهُ اكْتِناهُ مَن هو أشَدُّ تَجَرُّدًا وتَنَزُّهًا مِنهُ كامْتِناعِ اكْتِناهِ المادِّيّاتِ لِلْمُجَرَّداتِ، وكَذا الِاسْتِدْلالُ بِكَوْنِهِ تَعالى أقْرَبَ إلَيْنا مِن حَبْلِ الوَرِيدِ فَيَمْتَنِعُ إدْراكُهُ كَما يَمْتَنِعُ إدْراكُ البَصَرِ ما اتَّصَلَ بِهِ، وأحْسَنُ مِن ذَلِكَ كُلِّهِ ما قِيلَ: إنَّ مَعْرِفَةَ كُنْهِهِ لَيْسَتْ بَدِيهِيَّةً بِالضَّرُورَةِ بِالنِّسْبَةِ إلى شَخْصٍ وإلى وقْتٍ فَلا تَحْصُلُ لِأحَدٍ في وقْتٍ بِالضَّرُورَةِ فَتَكُونُ كَسَبِيَّةً والكَسْبُ إمّا بِحَدٍّ تامٌّ أوْ ناقِصٌ وهو مُحالٌ مُسْتَلْزِمٌ لِتَرَكُّبِ الواجِبِ لِوُجُوبِ تَرَكُّبِ الحَدِّ مِنَ الجِنْسِ القَرِيبِ أوِ البَعِيدِ ومِنَ الفَصْلِ مَعَ أنَّ الحَدَّ النّاقِصَ لا يُفِيدُ الكُنْهَ، وأمّا الحَدُّ البَسِيطُ بِمُفْرَدٍ فَمُحالٌ بَداهَةً فَإنَّ ذَلِكَ المُفْرَدَ إنْ كانَ عَيْنَ ذاتِهِ يَلْزَمُ تَوَقُّفُ مَعْرِفَةِ الشَّيْءِ عَلى مَعْرِفَةِ نَفْسِهِ مِن غَيْرِ مُغايَرَةٍ بَيْنَهُما ولَوْ بِالإجْمالِ والتَّفْصِيلِ كَما في الحَدِّ المُرَكَّبِ مَعَ حَدِّهِ التّامِّ، وإنْ كانَ غَيْرُهُ فَلا يَكُونُ حَدًّا بَلْ هو رَسْمٌ أوْ مَفْهُومٌ آخَرُ غَيْرَ مَحْمُولٍ عَلَيْهِ وإمّا بِرَسْمٍ تامٍّ أوْ ناقِصٍ ولا شَيْءَ مِنهُما مِمّا يُفِيدُ الكُنْهَ بِالضَّرُورَةِ.
واعْتُرِضَ بِأنَّ عَدَمَ إمْكانِ البَداهَةِ بِالنِّسْبَةِ إلى جَمِيعِ الأشْخاصِ وإلى جَمِيعِ الأوْقاتِ يَحْتاجُ إلى دَلِيلٍ فَرُبَّما تَحْصُلُ بَعْدَ تَهْذِيبِ النَّفْسِ بِالشَّرائِعِ الحَقَّةِ وتَجْرِيدِها عَنِ الكُدُوراتِ البَشَرِيَّةِ والعَوائِقِ الجُسْمانِيَّةِ، ولَوْ سَلَّمْنا عَدَمَ إمْكانِ البَداهَةِ كَذَلِكَ فَلَنا أنْ نَخْتارَ كَوْنَ المَعْرِفَةِ مِمّا تُكْتَسَبُ بِالحَدِّ التّامِّ المُرَكَّبِ مِنَ الجِنْسِ والفَصْلِ وغايَةُ ما يَلْزَمُ مِنهُ التَّرْكِيبُ العَقْلِيُّ ولَيْسَ بِمُحالٍ إلّا إنْ قُلْنا بِأنَّهُ يَسْتَلْزِمُ التَّرْكِيبَ الخارِجِيَّ المُسْتَلْزِمَ لِلِاحْتِياجِ إلى الأجْزاءِ المُنافِي لِوُجُوبِ الوُجُودِ، ونَحْنُ لا نَقُولُ بِذَلِكَ لِأنَّ المُخْتارَ عِنْدَ جَمْعٍ أنَّ أجْزاءَ الماهِيَّةِ مَأْخُوذَةٌ مِن أمْرٍ واحِدٍ بَسِيطٍ وهي مُتَّحِدَةٌ ماهِيَّةً ووُجُودًا فَتَكُونُ أُمُورًا انْتِزاعِيَّةً لا حَقِيقَتُهُ فَلا اسْتِلْزامَ، نَعَمْ يَكُونُ ذَلِكَ إنْ قُلْنا: إنَّ الأجْزاءَ مَأْخُوذَةٌ مِن أُمُورٍ مُتَغايِرَةٍ بِحَسَبِ الخارِجِ لَكِنْ لا نَقُولُ بِهِ لِأنَّهُ إنْ قِيلَ حِينَئِذٍ بِتَغايُرِ الأجْزاءِ أنْفُسِها ماهِيَّةً ووُجُودًا كَما ذَهَبَ إلَيْهِ طائِفَةٌ يَرِدُ لُزُومُ عَدَمِ صِحَّةِ الحَمْلِ بَيْنَها ضَرُورَةُ أنَّ المَوْجُودِينَ بِوُجُودَيْنِ مُتَغايِرَيْنِ لا يُحْمَلُ أحَدُهُما عَلى الآخَرِ كَزَيْدٍ وعَمْرٍ و، وإنْ قِيلَ بِتَغايُرِها ماهِيَّةً لا وُجُودًا لِيَصِحَّ الحَمْلُ كَما ذَهَبَ إلَيْهِ طائِفَةٌ أُخْرى يَرِدُ لُزُومُ قِيامِ الوُجُودِ الواحِدِ بِالشَّخْصِ بِمَوْجُوداتٍ مُتَعَدِّدَةٍ مُتَغايِرَةٍ بِالماهِيَّةِ، ولَوْ سَلَّمْنا الِاسْتِلْزامَ بَيْنَ التَّرْكِيبِ العَقْلِيِّ والتَّرَكُّبِ الخارِجِيِّ فَلَنا أنْ نَقُولَ: لا نُسَلِّمُ أنَّهُ لا شَيْءَ مِنَ الرَّسْمِ مِمّا يُفِيدُ الكُنْهَ بِالضَّرُورَةِ كَيْفَ وهو مُفِيدٌ فِيما إذْ كانَ الكُنْهُ لازِمًا لِلرَّسْمِ لُزُومًا بَيِّنًا بِالمَعْنى الأخَصِّ بَلْ يُمْكِنُ إفادَةُ كُلِّ رَسْمٍ إيّاهُ عَلى قاعِدَةِ الأشْعَرِيِّ مِنَ اسْتِنادِ جَمِيعِ المُمْكِناتِ إلَيْهِ تَعالى بِلا شَرْطٍ وإنْ لَمْ تَقَعْ تِلْكَ الإفادَةُ أصْلًا إذِ الكَلامُ في امْتِناعِ حُصُولِ الكُنْهِ بِالكَسْبِ كَذا قالُوا (: واسْتَدَلَّ المُلّا صَدْرا عَلى نَفْيِ الأجْزاءِ العَقْلِيَّةِ لَهُ تَعالى بِأنَّ حَقِيقَتَهُ سُبْحانَهُ آنِيَةٌ مَحْضَةٌ ووُجُودٌ بَحْتٌ فَلَوْ كانَ لَهُ عَزَّ وجَلَّ جِنْسٌ وفَصْلٌ لَكانَ جِنْسُهُ مُفْتَقِرًا إلى الفَصْلِ لا في مَفْهُومِهِ ومَعْناهُ بَلْ في أنْ يُوجَدَ ويَحْصُلَ بِالفِعْلِ فَحِينَئِذٍ يُقالُ: ذَلِكَ الجِنْسُ لا يَخْلُو إمّا أنْ يَكُونَ وُجُودًا مَحْضًا أوْ ماهِيَّةً غَيْرَ الوُجُودِ، فَعَلى الأوَّلِ يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ ما فَرَضْنا فَصْلًا لَيْسَ بِفَصْلٍ إذِ الفَصْلُ ما بِهِ يُوجَدُ الجِنْسُ وهَذا إنَّما يُتَصَوَّرُ إذا لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةُ الجِنْسِ حَقِيقَةَ الوُجُودِ، وعَلى الثّانِي يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ الواجِبُ تَعالى ذا ماهِيَّةٍ وقَدْ حُقِّقَ أنَّ نَفْسَ الوُجُودِ حَقِيقَتُهُ بِلا شُمُولٍ، وأيْضًا لَوْ كانَ لَهُ تَعالى جِنْسٌ لَكانَ مُنْدَرِجًا تَحْتَ مَقُولَةِ الجَوْهَرِ وكانَ أحَدَ الأنْواعِ الجَوْهَرِيَّةِ (p-204)فَيَكُونُ مُشارِكًا لِسائِرِها في الجِنْسِ وقَدْ بَرْهَنَ عَلى إمْكانِها وحَقَّقَ أنَّ إمْكانَ النَّوْعِ يَسْتَلْزِمُ إمْكانَ الجِنْسِ المُسْتَلْزِمِ لِإمْكانِ كُلِّ واحِدٍ مِن أفْرادِ ذَلِكَ الجِنْسِ مِن حَيْثُ كَوْنُهُ مِصْداقًا لَهُ إذْ لَوِ امْتَنَعَ الوُجُودُ عَلى الجِنْسِ مِن حَيْثُ هو جِنْسٌ أيْ مُطْلَقًا لَكانَ مُمْتَنِعًا عَلى كُلِّ فَرْدٍ فَإذًا يَلْزَمُ مِن ذَلِكَ إمْكانُ الواجِبِ تَعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، ومَبْنى هَذا أنَّ حَقِيقَةَ الواجِبِ تَعالى هو الوُجُودُ البَحْتُ وهو مِمّا ذَهَبَ الحُكَماءُ وأجِلَّةٌ مِنَ المُحَقِّقِينَ، ولَيْسَ المُرادُ مِن هَذا الوُجُودِ المَعْنى المَصْدَرِيَّ الَّذِي لا يَجْهَلُهُ أحَدٌ فَإنَّهُ مِمّا لا شَكَّ في اسْتِحالَةِ كَوْنِهِ حَقِيقَةَ الواجِبِ سُبْحانَهُ بَلْ هو بِمَعْنى مَبْدَأِ الآثارِ عَلى ما حَقَّقَهُ الجَلالُ الدَّوانِيُّ وأطالَ الكَلامَ فِيهِ في حَواشِيهِ عَلى شَرْحِ التَّجْرِيدِ وفي شَرْحِهِ لِلْهَياكِلِ النُّورِيَّةِ وفي غَيْرِهِما مِن رَسائِلِهِ، ولِلْمُلّا صَدْرًا في هَذا المَقامِ والبَحْثِ في كَلامِ الجَلالِ كَلامٌ طَوِيلٌ عَرِيضٌ وقَدْ حَقَّقَ الكَلامَ بِطَرْزٍ آخَرَ يُطْلَبُ مِن كِتابِهِ الأسْفارِ بَيْدَ أنّا نَذْكُرُ هُنا مِن كَلامِهِ سُؤالًا وجَوابًا يَتَعَلَّقانِ فِيما نَحْنُ فِيهِ فَنَقُولُ: قالَ فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَكُونُ ذاتُ البارِي سُبْحانَهُ عَيْنَ حَقِيقَةِ الوُجُودِ والوُجُودُ بَدِيهِيُّ التَّصَوُّرِ وذاتُ البارِي مَجْهُولُ الكُنْهِ؟ قُلْتُ: قَدْ مَرَّ أنَّ شِدَّةَ الظُّهُورِ وتَأكُّدَ الوُجُودِ هُناكَ مَعَ ضَعْفِ قُوَّةِ الإدْراكِ وضَعْفِ الوُجُودِ ها هُنا صارَ مَنشَأيْنِ لِاحْتِجابِهِ تَعالى عَنّا وإلّا فَذاتُهُ تَعالى في غايَةِ الإشْراقِ والإنارَةِ، فَإنْ رَجَعْتَ وقُلْتَ: إنْ كانَ ذاتُ البارِي نَفْسَ الوُجُودِ فَلا يَخْلُو إمّا أنْ يَكُونَ الوُجُودُ حَقِيقَةَ الذّاتِ كَما هو المُتَبادَرُ أوْ يَكُونَ صادِقًا عَلَيْها صِدْقًا عَرَضِيًّا كَما يَصْدُقُ عَلَيْهِ تَعالى مَفْهُومُ الشَّيْءِ، وعَلى الأوَّلِ إمّا أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهِ هَذا المَعْنى العامَّ البَدِيهِيَّ التَّصَوُّرِ المُنْتَزَعَ مِنَ المَوْجُوداتِ أوْ مَعْنًى آخَرَ والأوَّلُ ظاهِرُ الفَسادِ والثّانِي يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ حَقِيقَتُهُ تَعالى غَيْرَ ما يُفْهَمُ مِن لَفْظِ الوُجُودِ كَسائِرِ الماهِيّاتِ غَيْرَ أنَّكَ سَمَّيْتَ تِلْكَ الحَقِيقَةَ بِالوُجُودِ كَما إذا سُمِّيَ إنْسانٌ بِالوُجُودِ ومِنَ البَيْنِ أنَّهُ لا أثَرَ لِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ في الأحْكامِ وأنَّ هَذا القِسْمَ راجِعٌ إلى الواجِبِ لَيْسَ الوُجُودُ الَّذِي الكَلامُ فِيهِ ويَلْزَمُ أنْ يَكُونَ الواجِبُ تَعالى ذا ماهِيَّةٍ وقَدْ بَرْهَنَ أنَّ كُلَّ ذِي ماهِيَّةٍ مَعْلُولٌ، وعَنِ الثّانِي وهو أنْ يَصْدُقَ عَلَيْهِ تَعالى صِدْقًا عَرَضِيًّا فَلا يَخْفى أنَّ ذَلِكَ لا يُغْنِيهِ عَنِ السَّبَبِ بَلْ يَسْتَدْعِي أنْ يَكُونَ مَوْجُودًا ولِذَلِكَ ذَهَبَ جُمْهُورُ المُتَأخِّرِينَ مِنَ الحُكَماءِ إلى أنَّ الوُجُودَ مَعْدُومٌ فَأقُولُ: مَنشَأُ هَذا الإشْكالِ حُسْبانُ أنَّ مَعْنى كَوْنِ هَذا العامِّ المُشْتَرَكِ عَرَضِيًّا أنَّ لِلْمَعْرُوضِ مَوْجُودِيَّةً ولِلْعارِضِ مَوْجُودِيَّةً أُخْرى كالماشِي بِالنِّسْبَةِ إلى الحَيَوانِ والضّاحِكِ بِالقِياسِ إلى الإنْسانِ ولَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هَذا المَفْهُومُ عُنْوانٌ وحِكايَةٌ لِلْوُجُوداتِ العَيْنِيَّةِ ونِسْبَتُهُ إلَيْها نِسْبَةُ الإنْسانِيَّةِ إلى الإنْسانِ والحَيَوانِيَّةِ إلى الحَيَوانِ فَكَما أنَّ مَفْهُومَ الإنْسانِيَّةِ صَحَّ أنْ يُقالَ: إنَّها عَيْنُ الإنْسانِ لِأنَّها مِرْآةٌ لِمُلاحَظَتِهِ وحِكايَةٌ عَنْ جِهَتِهِ صَحَّ أنْ يُقالَ: إنَّها غَيْرُهُ لِأنَّها أمْرٌ نِسْبِيٌّ والإنْسانُ ماهِيَّةٌ جَوْهَرِيَّةٌ، وبِالجُمْلَةِ الوُجُودُ لَيْسَ كالإمْكانِ حَتّى لا يَكُونَ بِإزائِهِ شَيْءٌ يَكُونُ المَعْنى المَصْدَرِيُّ حِكايَةً عَنْهُ بَلْ كالسَّوادِ الَّذِي قَدْ يُرادُ بِهِ نَفْسُ المَعْنى النِّسْبِيِّ أعْنِي الأسْوَدِيَّةَ وقَدْ يُرادُ بِهِ ما يَكُونُ الشَّيْءُ أسْوَدَ أعْنِي الكَيْفِيَّةَ المَخْصُوصَةَ فَكَما أنَّ السَّوادَ إذا فُرِضَ قِيامُهُ بِذاتِهِ صَحَّ أنْ يُقالَ ذاتُهُ عَيْنُ الأسْوَدِيَّةِ وإذا فُرِضَ جِسْمٌ مُتَّصِفٌ بِهِ لَمْ يَجُزْ أنْ يُقالَ إنَّ ذاتَهُ عَيْنُ الأسْوَدِيَّةِ مَعَ أنَّ هَذا الأمْرَ لِكَوْنِهِ اعْتِبارًا ذِهْنِيًّا زائِدًا عَلى الجَمِيعِ، إذا تَقَرَّرَ هَذا قُلْنا في الجَوابِ في التَّرْدِيدِ الأوَّلِ: نَخْتارُ الشِّقَّ الأوَّلَ وهو أنَّ الوُجُودَ حَقِيقَةُ الذّاتِ قَوْلُكَ في التَّرْدِيدِ الثّانِي إمّا أنْ يَكُونَ ذَلِكَ الوُجُودُ ما يُفْهَمُ مِن لَفْظِ الوُجُودِ إلَخْ نَخْتارُ (p-205)مِنهُ ما بِإزاءِ ما يُفْهَمُ مِن هَذا اللَّفْظِ أعْنِي حَقِيقَةَ الوُجُودِ الخارِجِيِّ الَّذِي هَذا المَفْهُومُ حِكايَةٌ عَنْهُ فَإنَّ لِلْوُجُودِ عِنْدَنا حَقِيقَةً في كُلِّ مَوْجُودٍ كَما أنَّ لِلسَّوادِ حَقِيقَةً في كُلِّ أسْوَدَ لَكِنْ في بَعْضِ المَوْجُوداتِ مَخْلُوطٌ بِالنَّقائِصِ والإعْدامِ وفي بَعْضِها لَيْسَ كَذَلِكَ وكَما أنَّ السَّواداتِ مُتَفاوِتَةٌ في السَّوادِيَّةِ بَعْضُها أقْوى وأشَدُّ وبَعْضُها أضْعَفُ وأنْقَصُ كَذَلِكَ المَوْجُوداتُ بَلِ المَوْجُوداتُ مُتَفاوِتَةٌ في المَوْجُودِيَّةِ كَمالًا ونُقْصانًا، ولَنا أيْضًا أنْ نَخْتارَ الشِّقَّ الثّانِيَ مِن شَقَّيِ التَّرْدِيدِ الأوَّلِ إلّا أنَّ هَذا المَفْهُومَ الكُلِّيَّ وإنْ كانَ عَرَضِيًّا بِمَعْنى أنَّهُ لَيْسَ لَهُ بِحَسَبِ كَوْنِهِ مَفْهُومًا عُنْوانِيًّا وُجُودٌ في الخارِجِ حَتّى يَكُونَ عَيْنًا لِشَيْءٍ لَكِنَّهُ حِكايَةٌ عَنْ نَفْسِ حَقِيقَةِ الوُجُودِ القائِمِ بِذاتِهِ وصادِقٌ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَكُونُ مَنشَأُ صِدْقِهِ ومِصْداقُ حَمْلِهِ عَلَيْها نَفْسَ تِلْكَ الحَقِيقَةِ لا شَيْئًا آخَرَ يَقُومُ بِهِ كَسائِرِ العَرَضِيّاتِ في صِدْقِها عَلى الأشْياءِ فَصِدْقُ هَذا المَفْهُومِ عَلى الوُجُودِ الخاصِّ يُشْبِهُ صِدْقَ الذّاتِيّاتِ مِن هَذِهِ الجِهَةِ، فَعَلى هَذا لا يَرُدُّ عَلَيْنا قَوْلُكَ: صِدْقُ الوُجُودِ عَلَيْهِ لا يُغْنِيهِ عَنِ السَّبَبِ لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُغْنِيهِ عَنِ السَّبَبِ لَوْ كانَ مَوْجُودِيَّتُهُ بِسَبَبِ عُرُوضِ هَذا المَعْنى أوْ قِيامِ حِصَّةٍ مِنَ الوُجُودِ ولَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ ذَلِكَ الوُجُودُ الخاصُّ بِذاتِهِ مَوْجُودٌ كَما أنَّهُ بِذاتِهِ وُجُودٌ سَواءٌ حُمِلَ عَلَيْهِ مَفْهُومُ الوُجُودِ أوْ لَمْ يُحْمَلْ، والَّذِي ذَهَبَ الحُكَماءُ إلى أنَّهُ مَعْدُومٌ لَيْسَ هو الوُجُوداتِ الخاصَّةَ بَلْ هَذا الأمْرُ العامُّ الذِّهْنِيُّ الَّذِي يَصْدُقُ عَلى الأيْناتِ والخُصُوصِيّاتِ الوُجُودِيَّةِ انْتَهى، وما أشارَ إلَيْهِ مِن تَعَدُّدِ الوُجُوداتِ قالَ بِهِ المَشّاءُونَ وهي عِنْدَ الأكْثَرِينَ حَقائِقُ مُتَخالِفَةٌ مُتَكَثِّرَةٌ بِأنْفُسِها لا بِمُجَرَّدِ عارِضِ الإضافَةِ إلى الماهِيّاتِ لِتَكُونَ مُتَماثِلَةَ الحَقِيقَةِ ولا بِالفُصُولِ لِيَكُونَ الوُجُودُ المُطْلَقُ جِنْسًا لَها، وقالَ بَعْضُهم بِالِاخْتِلافِ بِالحَقِيقَةِ حَيْثُ يَكُونُ بَيْنَها مِنَ الِاخْتِلافِ ما بِالتَّشْكِيكِ كَوُجُودِ الواجِبِ ووُجُودِ المُمْكِنِ وكَذا وُجُودُ المُجَرَّداتِ ووُجُودُ الأجْسامِ وقالَتْ طائِفَةٌ مِنَ الحُكَماءِ المُتَأهِّلِينَ إنَّهُ لَيْسَ في الخارِجِ إلّا وُجُودٌ واحِدٌ شَخْصِيٌّ مَجْهُولُ الكُنْهِ وهو ذاتُ الواجِبِ تَعالى شَأْنُهُ وأمّا المُمْكِناتُ المُشاهَدَةُ فَلَيْسَ لَها وُجُودٌ بَلِ ارْتِباطٌ بِالوُجُودِ الحَقِيقِيِّ الَّذِي هو الواجِبُ بِالذّاتِ ونِسْبَةٌ إلَيْهِ، نَعَمْ يُطْلَقُ عَلَيْها إنَّها مَوْجُودَةٌ بِمَعْنى أنَّ لَها نِسْبَةً إلى الواجِبِ تَعالى فَمَفْهُومُ المَوْجُودِ أعَمُّ مِنَ المَوْجُودِ القائِمِ بِذاتِهِ ومِنَ الأُمُورِ المُنْتَسِبَةِ إلَيْهِ نَحْوًا مِنَ الِانْتِسابِ وصِدْقُ المُشْتَقِّ لا يُنافِي قِيامَ مَبْدَأِ الِاشْتِقاقِ بِذاتِهِ الَّذِي مَرْجِعُهُ إلى عَدَمِ قِيامِهِ بِالغَيْرِ ولا كَوْنُ ما صَدَقَ عَلَيْهِ أمْرًا مُنْتَسِبًا إلى المَبْدَأِ لا مَعْرُوضًا لَهُ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ كَما في الحِدادِ والمُشْمِسِ عَلى أنَّ أمْرَ إطْلاقِ أهْلِ اللُّغَةِ وأرْبابِ اللِّسانِ لا عِبْرَةَ بِهِ في تَصْحِيحِ الحَقائِقِ، وقالُوا: كَوْنُ المُشْتَقِّ مِنَ المَعْقُولاتِ الثّانِيَةِ والبَدِيهِيّاتِ الأوَّلِيَّةِ لا يُصادِمُ كَوْنَ المَبْدَأِ حَقِيقَةً مُتَأصِّلَةً مُتَشَخِّصَةً مَجْهُولَةَ الكُنْهِ وثانَوِيَّةَ المَعْقُولِ وتَأصُّلُهُ قَدْ يَخْتَلِفُ بِالقِياسِ إلى الأُمُورِ ولا يَخْفى ما فِيهِ مِنَ الأنْظارِ، ومِثْلُهُ ما دارَ عَلى ألْسِنَةِ طائِفَةٍ مِنَ المُتَصَوِّفَةِ مِن أنَّ حَقِيقَةَ الواجِبِ هو الوُجُودُ المُطْلَقُ تَمَسُّكًا بِأنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَدَمًا أوْ مَعْدُومًا وهو ظاهِرٌ ولا ماهِيَّةَ مَوْجُودَةٌ بِالوُجُودِ أوْ مَعَ الوُجُودِ تَعْلِيلًا أوْ تَقْيِيدًا لِما في ذَلِكَ مِنَ الِاحْتِياجِ والتَّرْكِيبِ فَتَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ وُجُودًا ولَيْسَ هو الوُجُودَ الخاصَّ لِأنَّهُ إنْ أُخِذَ مَعَ المُطْلَقِ فَمُرَكَّبٌ أوْ مُجَرَّدُ المَعْرُوضِ فَمُحْتاجٌ ضَرُورَةً احْتِياجَ المُقَيَّدِ إلى المُطْلَقِ، ومُتَمَسَّكُهم هَذا أوْهَنُ مِن بَيْتِ العَنْكَبُوتِ، والَّذِي حَقَّقْتُهُ مِن كُتُبِ الشَّيْخِ الأكْبَرِ قُدِّسَ سِرُّهُ وكُتُبِ أصْحابِهِ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ لَيْسَ عِبارَةً عَنِ الوُجُودِ المُطْلَقِ بِمَعْنى الكُلِّيِّ الطَّبِيعِيِّ المَوْجُودِ في الخارِجِ في ضِمْنِ أفْرادِهِ ولا بِمَعْنى أنَّهُ مَعْقُولٌ في النَّفْسِ مُطابِقٌ لِكُلِّ واحِدٍ مِن جُزْئِيّاتِهِ في الخارِجِ عَلى مَعْنى أنَّ ما في النَّفْسِ لِوُجُودٍ في أيِّ شَخْصٍ مِنَ الأشْخاصِ الخارِجِيَّةِ لَكانَ ذَلِكَ الشَّخْصُ بِعَيْنِهِ مِن غَيْرِ تَفاوُتٍ أصْلًا (p-206)بَلْ بِمَعْنى عَدَمِ التَّقَيُّدِ بِغَيْرِهِ مَعَ كَوْنِهِ مَوْجُودًا بِذاتِهِ، فَفي البابِ الثّانِي مِنَ الفُتُوحاتِ أنَّ الحَقَّ تَعالى مَوْجُودٌ بِذاتِهِ لِذاتِهِ مُطْلَقُ الوُجُودِ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِغَيْرِهِ ولا مَعْلُولٍ مِن شَيْءٍ ولا عِلَّةٍ لِشَيْءٍ بَلْ هو خالِقُ المَعْلُولاتِ والعِلَلِ، والمَلِكُ القُدُّوسُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ، وفي النُّصُوصِ لِلصَّدْرِ القَوْنَوِيِّ تَصَوُّرُ إطْلاقِ الحَقِّ يُشْتَرَطُ فِيهِ أنْ يُتَعَقَّلَ بِمَعْنى أنَّهُ وصْفٌ سَلْبِيٌّ لا بِمَعْنى أنَّهُ إطْلاقٌ ضِدُّهُ القَيْدُ بَلْ هو إطْلاقٌ عَنِ الوَحْدَةِ والكَثْرَةِ المَعْلُومَتَيْنِ وعَنِ الحَصْرِ أيْضًا في الإطْلاقِ والتَّقْيِيدِ وفي الجَمْعِ بَيْنَ كُلِّ ذَلِكَ والتَّنْزِيهِ عَنْهُ فَيَصِحُّ في حَقِّهِ كُلُّ ذَلِكَ حالَ تَنَزُّهِهِ عَنِ الجَمِيعِ.
وذَكَرَ بَعْضُ الأجِلَّةِ أنَّ اللَّهَ تَعالى عِنْدَ السّادَةِ الصُّوفِيَّةِ هو الوُجُودُ الخاصُّ الواجِبُ الوُجُودِ لِذاتِهِ القائِمُ بِذاتِهِ المُتَعَيَّنُ بِذاتِهِ الجامِعُ لِكُلِّ كَمالٍ المُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ المُتَجَلِّي فِيما يَشاءُ مِنَ المَظاهِرِ مَعَ بَقاءِ التَّنْزِيهِ ثُمَّ قالَ: وهَذا ما يَقْتَضِيهِ أيْضًا قَوْلُ الأشْعَرِيِّ بِأنَّ الوُجُودَ عَيْنُ الذّاتِ مَعَ قَوْلِهِ الأخِيرِ في كِتابِهِ الإبانَةِ بِإجْراءِ المُتَشابِهاتِ عَلى ظَواهِرِها مَعَ التَّنْزِيهِ بِلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.
وتَحْقِيقُ ذَلِكَ أنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالبُرْهانِ أنَّ الواجِبَ الوُجُودِ لِذاتِهِ مَوْجُودٌ فَهو إمّا الوُجُودُ المُجَرَّدُ عَنِ الماهِيَّةِ المُتَعَيَّنُ بِذاتِهِ أوِ الوُجُودُ المُقْتَرِنُ بِالماهِيَّةِ المُتَعَيَّنِ بِحَسَبِها أوِ الماهِيَّةُ المَعْرُوضَةُ لِلْوُجُودِ المُتَعَيَّنُ بِحَسَبِها أوِ المَجْمُوعُ المُرَكَّبُ مِنَ الماهِيَّةِ والوُجُودِ المُتَعَيَّنُ بِحَسَبِها لا سَبِيلَ إلى الرّابِعِ لِأنَّ التَّرْكِيبَ مِن لَوازِمِهِ الِاحْتِياجُ ولا إلى الثّالِثِ لِاحْتِياجِ الماهِيَّةِ في تَحَقُّقِها الخارِجِيِّ إلى الوُجُودِ ولا إلى الثّانِي لِاحْتِياجِ الوُجُودِ إلى الماهِيَّةِ في تَشَخُّصِهِ بِحَسَبِها والِاحْتِياجُ في الجَمِيعِ يُنافِي الوُجُوبَ الذّاتِيَّ فَتَعَيَّنَ الأوَّلُ فالواجِبُ سُبْحانَهُ المَوْجُودُ لِذاتِهِ هو الوُجُودُ المُجَرَّدُ عَنِ الماهِيَّةِ المُتَعَيَّنُ بِذاتِهِ، ثُمَّ هو إمّا أنْ يَكُونَ مُطْلَقًا بِالإطْلاقِ الحَقِيقِيِّ وهو الَّذِي لا يُقابِلُهُ تَقْيِيدُ القابِلِ لِكُلِّ إطْلاقٍ وتَقْيِيدٍ وإمّا أنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِقَيْدٍ مَخْصُوصٍ لا سَبِيلَ إلى الثّانِي لِأنَّ المُرَكَّبَ مِنَ القَيْدِ ومَعْرُوضَهُ مِن لَوازِمِهِ لِاحْتِياجِ المُنافِي لِلْوُجُوبِ الذّاتِيِّ فَتَعَيَّنَ الأوَّلُ فَواجِبُ الوُجُودِ لِذاتِهِ هو الوُجُودُ المُجَرَّدُ عَنِ الماهِيَّةِ القائِمُ بِذاتِهِ المُتَعَيَّنُ بِذاتِهِ المُطْلَقُ بِالإطْلاقِ الحَقِيقِيِّ، وأهْلُ هَذا القَوْلِ ذَهَبُوا إلى أنَّهُ لَيْسَ في الخارِجِ إلّا وُجُودٌ واحِدٌ وهو الوُجُودُ الحَقِيقِيُّ وأنَّهُ لا مَوْجُودَ سِواهُ وماهِيّاتُ المُمْكِناتِ أُمُورٌ مَعْدُومَةٌ مُتَمَيَّزَةٌ في أنْفُسِها تَمَيُّزًا ذاتِيًّا وهي ثابِتَةٌ في العِلْمِ لَمْ تَشُمَّ رائِحَةَ الوُجُودِ ولا تَشُمُّهُ أبَدًا لَكِنْ تَظْهَرُ أحْكامُها في الوُجُودِ المَفْرُوضِ وهو النُّورُ المُضافُ ويُسَمّى العَماءَ والحَقَّ المَخْلُوقَ بِهِ وهَؤُلاءِ هُمُ المَشْهُورُونَ بِأهْلِ الوَحْدَةِ، ولَعَلَّ القَوْلَ الَّذِي نَقَلْناهُ عَنْ بَعْضِ الحُكَماءِ المُتَأهِّلِينَ يَرْجِعُ إلى قَوْلِهِمْ هو طَوْرٌ ما وراءَ طَوْرِ العَقْلِ وقَدْ ضَلَّ بِسَبَبِهِ أقْوامٌ وخَرَجُوا مِن رِبْقَةِ الإسْلامِ، وبِالجُمْلَةِ إنَّ القَوْلَ بِأنَّ حَقِيقَةَ الواجِبِ تَعالى غَيْرُ مَعْلُومَةٍ لِأحَدٍ عِلْمًا اكْتِناهِيًّا إحاطِيًّا عَقْلِيًّا أوْ حِسِّيًّا مِمّا لا شُبْهَةَ عِنْدِي في صِحَّتِهِ وإلَيْهِ ذَهَبَ المُحَقِّقُونَ حَتّى أهْلُ الوَحْدَةِ، والقَوْلُ بِخِلافِ ذَلِكَ المَحْكِيِّ عَنْ بَعْضِ المُتَكَلِّمِينَ لا يَنْبَغِي أنْ يُلْتَفَتَ إلَيْهِ أصْلًا، ولا أدْرِي هَلْ تُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الحَقِيقَةِ أوْ لا تُمْكِنُ ولَعَلَّ القَوْلَ بِعَدَمِ إمْكانِها أوْفَقُ بِعَظَمَتِهِ تَعالى شَأْنُهُ وجَلَّ عَنْ إحاطَةِ العُقُولِ سُلْطانَهُ، وأمّا شُهُودُ الواجِبِ بِالبَصَرِ فَفي وُقُوعِهِ في هَذِهِ النَّشْأةِ خِلافٌ بَيْنَ أهْلِ السُّنَّةِ وأمّا في النَّشْأةِ الآخِرَةِ فَلا خِلافَ فِيهِ سِوى أنَّ بَعْضَ الصُّوفِيَّةِ قالُوا: إنَّهُ لا يَقَعُ إلّا بِاعْتِبارِ مَظْهَرٍ ما وأمّا بِاعْتِبارِ الإطْلاقِ الحَقِيقِيِّ فَلا، وأمّا شُهُودُهُ سُبْحانَهُ بِالقَلْبِ فَقَدْ قِيلَ بِوُقُوعِهِ في هَذِهِ النَّشْأةِ لَكِنَّ عَلى مَعْنى شُهُودِ نُورِهِ القُدْسِيِّ ويَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلافِ الِاسْتِعْدادِ لا عَلى مَعْنى شُهُودِ نَفْسِ الذّاتِ والحَقِيقَةِ ومَنِ ادَّعى ذَلِكَ فَقَدِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الأمْرُ فادَّعى ما ادَّعى.
(p-207)هَذا ومِنَ النّاسِ مَن قالَ: لا مانِعَ مِن أنْ يُرادَ مِن ﴿حَقَّ قَدْرِهِ﴾ حَقُّ مَعْرِفَتِهِ ويُرادَ مِن حَقِّ مَعْرِفَتِهِ المُعَرَّفَةُ بِالكُنْهِ وكَوْنُها غَيْرَ حاصِلَةٍ لِأحَدٍ مُؤْمِنًا كانَ أوْ غَيْرَهُ لا يَضُرُّ فِيما نَحْنُ فِيهِ لِأنَّ المُرادَ إثْباتُ عَظَمَتِهِ تَعالى المُنافِيَةِ لِما عَلَيْهِ المُشْرِكُونَ وكَوْنُ سُبْحانَهُ لا يَعْرِفُ أحَدٌ كُنْهَ حَقِيقَتِهِ يَسْتَدْعِي العَظَمَةَ عَلى أتَمِّ وجْهٍ فَتَأمَّلْ جَمِيعَ ذَلِكَ واللَّهُ تَعالى المُوَفِّقُ لِلصَّوابِ.
﴿إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ﴾ عَلى جَمِيعِ المُمْكِناتِ ﴿عَزِيزٌ﴾ غالِبٌ عَلى جَمِيعِ الأشْياءِ وقَدْ عَلِمْتَ حالَ آلِهَتِهِمُ المَقْهُورَةِ لِأذَلِّ العَجَزَةِ، والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِما قَبْلَها
{"ayah":"مَا قَدَرُوا۟ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِیٌّ عَزِیزٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق