الباحث القرآني

﴿ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ حِكايَةً لِبَعْضِ أباطِيلِ المُشْرِكِينَ وأحْوالِهِمُ الدّالَّةِ عَلى كَمالِ سَخافَةِ عُقُولِهِمْ ورَكاكَةِ آرائِهِمْ وهي بِناءُ أمْرِهِمْ عَلى غَيْرِ مَبْنى دَلِيلٍ سَمْعِيٍّ أوْ عَقْلِيٍّ وإعْراضُهم عَمّا أُلْقِيَ إلَيْهِمْ مِن سُلْطانٍ بَيِّنٍ هو أساسُ الدِّينِ أيْ يَعْبُدُونَ مُتَجاوِزِينَ عِبادَةَ اللَّهِ تَعالى ﴿ما لَمْ يُنَزِّلْ﴾ أيْ بِجَوازِ عِبادَتِهِ ﴿سُلْطانًا﴾ أيْ حُجَّةً، والتَّنْكِيرُ لِلتَّقْلِيلِ، وهَذا إشارَةٌ إلى الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ الحاصِلِ مِن جِهَةِ الوَعْيِ. وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿وما لَيْسَ لَهم بِهِ عِلْمٌ﴾ إشارَةٌ إلى الدَّلِيلِ العَقْلِيِّ أيْ ما لَيْسَ لَهم بِجَوازِ عِبادَتِهِ عِلْمٌ مِن ضَرُورَةِ العَقْلِ أوِ اسْتِدْلالِهِ، والحاصِلُ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ما لا دَلِيلَ مِن جِهَةِ السَّمْعِ ولا مِن جِهَةِ العَقْلِ عَلى جَوازِ عِبادَتِهِ، وتَقْدِيمُ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ لِأنَّ الِاسْتِنادَ في أكْثَرِ العِباداتِ إلَيْهِ مَعَ أنَّ التَّمَسُّكَ بِهِ في هَذا المَقامِ أرْجى في الخَلاصِ إنْ حَصَلَ لَوْمٌ مِنَ التَّمَسُّكِ بِالدَّلِيلِ العَقْلِيِّ، وإنْ شَكَكْتَ فارْجِعْ إلى نَفْسِكَ فِيما إذْ لامَكَ شَخْصٌ عَلى فِعْلٍ فَإنَّكَ تَجِدُها مائِلَةً إلى الجَوابِ بِأنِّي فَعَلْتُ كَذا لِأنَّكَ أخْبَرْتَنِي بِرِضاكَ بِأنْ أفْعَلَهُ أكْثَرَ مِن مَيْلِها إلى الجَوابِ بِأنَّ فِعْلَتَهُ لِقِيامِ الدَّلِيلِ العَقْلِيِّ وهو كَذا عَلى رِضاكَ بِهِ وإنْكارُ ذَلِكَ مُكابَرَةٌ، وقَدْ يُقالُ: إنَّما قُدِّمَ هُنا ما يُشِيرُ إلى الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ لِأنَّهُ إشارَةٌ إلى دَلِيلٍ سَمْعِيٍّ يَدُلُّ عَلى جَوازِ تِلْكَ العِبادَةِ مُنَزَّلٌ مِن جِهَتِهِ تَعالى غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِقَيْدٍ بِخِلافِ ما يُشِيرُ إلى الدَّلِيلِ العَقْلِيِّ فَإنَّ فِيهِ إشارَةً إلى دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ خاصٍّ بِهِمْ، وحاصِلُهُ أنَّ التَّقْدِيمَ والتَّأْخِيرَ لِلْإطْلاقِ (p-199)والتَّقْيِيدِ وإنْ لَمْ يَكُونا لِشَيْءٍ واحِدٍ فافْهَمْ، وقالَ العَلّامَةُ الطَّيِّبِيُّ: في اخْتِصاصِ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ بِالسُّلْطانِ والتَّنْزِيلِ ومُقابِلُهُ بِالعِلْمِ دَلِيلٌ واضِحٌ عَلى أنَّ الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ هو الحُجَّةُ القاطِعَةُ ولَهُ القَهْرُ والغَلَبَةُ وعِنْدَ ظُهُورِهِ تَضْمَحِلُّ الآراءُ وتَتَلاشى الأقْيِسَةُ ومَن عَكَسَ ضَلَّ الطَّرِيقَ وحُرِمَ التَّوْفِيقَ وبَقِيَ مُتَزَلْزِلًا في ورَطاتِ الشُّبَهِ وإنْ شِئْتَ فانْظُرْ إلى التَّنْكِيرِ في ( سُلْطانا وعِلْمٌ ) وقِسْهُما عَلى قَوْلِ الشّاعِرِ: ؎لَهُ حاجِبٌ في كُلِّ أمْرٍ يَشِينُهُ ولَيْسَ لَهُ عَنْ طالِبِ العُرْفِ حاجِبُ لِتَعْلَمَ الفَرْقَ إلى آخِرِ ما قالَ، ومِنهُ يُعْلَمُ وجْهٌ لِلتَّقْدِيمِ واحْتِمالٌ آخَرُ في تَنْوِينِ ( سُلْطانا ) غَيْرَ ما قَدَّمْنا، وظاهِرُهُ أنَّ الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ يُفِيدُ اليَقِينَ مُطْلَقًا وأنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلى الدَّلِيلِ العَقْلِيِّ، ومَذْهَبُ المُعْتَزِلَةِ وجُمْهُورُ الأشاعِرَةِ أنَّهُ لا يُفِيدُ اليَقِينَ مُطْلَقًا لِتَوَقُّفِ ذَلِكَ عَلى أُمُورٍ كُلُّها ظَنِّيَّةٌ فَتَكُونُ دَلالَتُهُ أيْضًا ظَنِّيَّةً لِأنَّ الفَرْعَ لا يَزِيدُ عَلى الأصْلِ في القُوَّةِ، والحَقُّ أنَّهُ قَدْ يُفِيدُ اليَقِينَ في الشَّرْعِيّاتِ دُونَ العَقْلِيّاتِ بِقَرائِنَ مُشاهَدَةٍ أوْ مُتَواتِرَةٍ تَدُلُّ عَلى انْتِفاءِ الِاحْتِمالاتِ. وذَكَرَ الفاضِلُ الرُّومِيُّ في حَواشِيهِ عَلى شَرْحِ المَواقِفِ بَعْدَ بَحْثٍ أنَّ الحَقَّ أنَّهُ قَدْ يُفِيدُ اليَقِينَ في العَقْلِيّاتِ أيْضًا وأمّا أنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلى الدَّلِيلِ العَقْلِيِّ فالَّذِي عَلَيْهِ عُلَماؤُنا خِلافُهُ، وأنَّهُ مَتى عارَضَ الدَّلِيلُ العَقْلِيُّ الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ وجَبَ تَأْوِيلُ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ إلى ما لا يُعارِضُهُ الدَّلِيلُ العَقْلِيُّ إذْ لا يُمْكِنُ العَمَلُ بِهِما ولا بِنَقِيضِهِما، وتَقَدُّمُ السَّمْعِ عَلى العَقْلِ إبْطالٌ لِلْأصْلِ بِالفَرْعِ وفِيهِ إبْطالُ الفَرْعِ وإذا أدّى إثْباتُ الشَّيْءِ إلى إبْطالِهِ كانَ مُناقِضًا لِنَفْسِهِ وكانَ باطِلًا لَكِنَّ ظاهِرَ كَلامِ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ العَرَبِيِّ قُدِّسَ سِرُّهُ في مَواضِعَ مِن فُتُوحاتِهِ القَوْلُ بِأنَّهُ مُقَدَّمٌ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُهُ في البابِ الثَّلاثِمِائَةِ والثَّمانِيَةِ والخَمْسِينَ مِن أبْياتٍ: ؎كُلُّ عِلْمٍ يَشْهَدُ الشَّرْعُ لَهُ ∗∗∗ هو عِلْمٌ فَبِهِ فَلْتَعْتَصِمْ ؎وإذا خالَفَهُ العَقْلُ فَقُلْ ∗∗∗ طَوْرَكَ الزَمْ ما لَكم فِيهِ قَدَمْ وقَوْلُهُ في البابِ الأرْبَعِمِائَةِ والِاثْنَيْنِ والسَّبْعِينَ: ؎عَلى السَّمْعِ عَوَّلْنا فَكُنّا أُولِي النُّهى ∗∗∗ ولا عِلْمَ فِيما لا يَكُونُ عَنِ السَّمْعِ إلى غَيْرِ ذَلِكَ وهو كَأكْثَرِ كَلامِهِ مِن وراءِ طَوْرِ العَقْلِ ﴿وما لِلظّالِمِينَ﴾ أيْ وما لَهم إلّا أنَّهُ عَدْلٌ إلى الظّاهِرِ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِالظُّلْمِ مَعَ تَعْلِيلِ الحُكْمِ بِهِ، وجُوِّزَ أنْ لا يَكُونَ هُناكَ عُدُولٌ، والمُرادُ ما يَعُمُّهم وغَيْرَهم ودُخُولُهم أوْلى، ( ومِن ) في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِن نَصِيرٍ﴾ سَيْفٍ خَطِيبٍ، والمُرادُ نَفْيُ أنْ يَكُونَ لَهم بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ مَن يُساعِدُهم في الدُّنْيا بِنُصْرَةِ مَذْهَبِهِمْ وتَقْرِيرِ رَأْيِهِمْ ودَفْعِ ما يُخالِفُهُ وفي الآخِرَةِ بِدَفْعِ العَذابِ عَنْهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب