الباحث القرآني

﴿لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ خَلْقًا ومِلْكًا وتَصَرُّفًا فاللّامُ لِلِاخْتِصاصِ التّامِّ ﴿وإنَّ اللَّهَ لَهو الغَنِيُّ﴾ الَّذِي لا يَفْتَقِرُ إلى شَيْءٍ أصْلًا ﴿الحَمِيدُ﴾ الَّذِي حَمِدَهُ بِصِفاتِهِ وأفْعالِهِ جَمِيعُ خَلْقِهِ قالًا أوْ حالًا. ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكم ما في الأرْضِ﴾ أيْ جَعَلَ ما فِيها مِنَ الأشْياءِ مُذَلَّلَةً لَكم مُعَدَّةً لِمَنافِعِكم تَتَصَرَّفُونَ فِيها كَيْفَ شِئْتُمْ، وتَقْدِيمُ الجارِّ والمَجْرُورِ عَلى المَفْعُولِ الصَّرِيحِ لِما مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ ومِنَ الِاهْتِمامِ بِالمُقَدَّمِ والتَّشْوِيقِ إلى المُؤَخَّرِ ﴿والفُلْكَ﴾ بِالنَّصْبِ وإسْكانِ اللّامِ، وقَرَأ ابْنُ مُقْسِمٍ والكِسائِيُّ عَنِ الحَسَنِ بِضَمِّها وهو مَعْطُوفٌ عَلى ما عَطْفَ الخاصِّ عَلى العامِّ تَنْبِيهًا عَلى غَرابَةِ تَسْخِيرِها وكَثْرَةِ مَنافِعِها. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلى الِاسْمِ الجَلِيلِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿تَجْرِي في البَحْرِ بِأمْرِهِ﴾ عَلى الأوَّلِ حالٌ مِنهُ وعَلى الثّانِي خَبَرٌ لِأنَّ وتَكُونُ الواوُ قَدْ عَطَفَتِ الِاسْمَ عَلى الِاسْمِ والخَبَرَ عَلى الخَبَرِ وهو خِلافُ الظّاهِرِ وفي البَحْرِ هو إعْرابٌ بَعِيدٌ عَنِ الفَصاحَةِ، وقَرَأ السُّلَمِيُّ والأعْرَجُ وطَلْحَةُ وأبُو حَيْوَةَ والزَّعْفَرانِيُّ «والفُلْكُ» بِالرَّفْعِ عَلى الِابْتِداءِ وما بَعْدَهُ خَبَرُهُ والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ. وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ حالِيَّةً، وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الرَّفْعُ بِالعَطْفِ عَلى مَحَلِّ أنَّ مَعَ اسْمِها وهو عَلى طُرُزِ العَطْفِ عَلى الِاسْمِ ﴿ويُمْسِكُ السَّماءَ أنْ تَقَعَ عَلى الأرْضِ﴾ أيْ عَنْ أنْ تَقَعَ عَلَيْها فالكَلامُ عَلى حَذْفِ حَرْفِ الجَرِّ وأنَّ وما بَعْدَها في تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ مَنصُوبٍ أوْ مَجْرُورٍ عَلى القَوْلَيْنِ المَشْهُورَيْنِ في ذَلِكَ، وجَعَلَ بَعْضُهم ذَلِكَ في مَوْضِعِ المَفْعُولِ لِأجْلِهِ بِتَقْدِيرِ كَراهَةِ أنْ تَقَعَ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ، والكُوفِيُّونَ يُقَدِّرُونَ لِئَلّا تَقَعَ. وقالَ أبُو حَيّانَ: الظّاهِرُ أنَّ ﴿تَقَعَ﴾ في مَوْضِعِ نَصْبٍ بَدَلُ اشْتِمالٍ مِنَ السَّماءِ أيْ ويَمْنَعُ وُقُوعَ السَّماءِ عَلى الأرْضِ، ورُدَّ بِأنَّ الإمْساكَ بِمَعْنى اللُّزُومِ يَتَعَدّى بِالباءِ وبِمَعْنى الكَفِّ بِعْنَ وكَذا بِمَعْنى الحِفْظِ والبُخْلِ كَما في تاجِ المَصادِرِ وأمّا بِمَعْنى المَنعِ فَهو غَيْرُ مَشْهُورٍ، وتُعُقِّبَ بِأنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأنَّهُ مَشْهُورٌ مُصَرَّحٌ بِهِ في كُتُبِ اللُّغَةِ، قالَ الرّاغِبُ: يُقالُ أمْسَكْتُ عَنْهُ كَذا أيْ مَنَعْتُهُ قالَ تَعالى: ﴿هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ﴾ [الزُّمُرَ: 38] وكَنّى عَنِ البُخْلِ بِالإمْساكِ اهَـ، وصَرَّحَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ والبَيْضاوِيُّ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ والأرْضَ أنْ تَزُولا﴾ [فاطِرَ: 41] نَعَمِ الأظْهَرُ هو الإعْرابُ الأوَّلُ، والمُرادُ بِإمْساكِها عَنِ الوُقُوعِ عَلى الأرْضِ حِفْظُ تَماسُكِها بِقُدْرَتِهِ تَعالى بَعْدَ أنْ خَلَقَها مُتَماسِكَةً آنًا فَآنًا. وعَدَمُ تَعَلُّقِ إرادَتِهِ سُبْحانَهُ بِوُقُوعِها قِطَعًا قِطَعًا، وقِيلَ إمْساكُهُ تَعالى إيّاها عَنْ ذَلِكَ بِجَعْلِها مُحِيطَةً لا ثَقِيلَةً ولا خَفِيفَةً، وهَذا مَبْنِيٌّ عَلى اتِّحادِ السَّماءِ والفُلْكِ وعَلى قَوْلِ الفَلاسِفَةِ المَشْهُورِ (p-194)بِأنَّ الفُلْكَ لا ثَقِيلَ ولا خَفِيفَ: وبَنَوْا ذَلِكَ عَلى زَعْمِهِمُ اسْتِحالَةَ قَبُولِهِ الحَرَكَةَ المُسْتَقِيمَةَ وفَرَّعُوا عَلَيْهِ أنَّهُ لا حارَّ ولا بارِدَ ولا رَطْبَ ولا يابِسَ، واسْتَدَلُّوا عَلى اسْتِحالَةِ قَبُولِ الحَرَكَةِ المُسْتَقِيمَةِ بِما أبْطَلَهُ المُتَكَلِّمُونَ في كُتُبِهِمْ. والمَعْرُوفُ مِن مَذْهَبِ سَلَفِ المُسْلِمِينَ أنَّ السَّماءَ غَيْرُ الفُلْكِ وأنَّ لَها أطِيطًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ««أطَّتِ السَّماءُ وحُقَّ لَها أنْ تَئِطَّ ما فِيها مَوْضُوعُ قَدَمٍ إلّا وفِيهِ مَلَكٌ قائِمٌ أوْ ساجِدٌ»» وأنَّها ثَقِيلَةٌ مَحْفُوظَةٌ عَنِ الوُقُوعِ بِمَحْضِ إرادَتِهِ سُبْحانَهُ وقُدْرَتِهِ الَّتِي لا يَتَعاصاها شَيْءٌ لا لِاسْتِمْساكِها بِذاتِها. وذَكَرَ بَعْضُ المُتَكَلِّمِينَ لِنَفْيِ ذَلِكَ أنَّها مُشارَكَةٌ في الجِسْمِيَّةِ لِسائِرِ الأجْسامِ القابِلَةِ لِلْمَيْلِ الهابِطِ فَتَقْبَلُهُ كَقَبُولِ غَيْرِها ولِلْبَحْثِ فِيهِ عَلى زَعْمِ الفَلاسِفَةِ مَجالٌ، والتَّعْبِيرُ بِالمُضارِعِ لِإفادَةِ الِاسْتِمْرارِ التَّجْدُّدِيِّ أيْ يُمْسِكُها آنًا فَآنًا مِنَ الوُقُوعِ ﴿إلا بِإذْنِهِ﴾ أيْ بِمَشِيئَتِهِ، والِاسْتِثْناءُ مُفَرَّغٌ مِن أعَمِّ الأسْبابِ، وصَحَّ ذَلِكَ في المُوجَبِ قِيلَ لِصِحَّةِ إرادَةِ العُمُومِ أوْ لِكَوْنِ ( يُمْسِكُ ) فِيهِ مَعْنى النَّفْيِ أيْ لا يَتْرُكُها تَقَعُ بِسَبَبٍ مِنَ الأسْبابِ كَمَزِيدِ مُرُورِ الدُّهُورِ عَلَيْها وكَثِقَلِها بِما فِيها إلّا بِسَبَبِ مَشِيئَتِهِ وُقُوعَها، وقِيلَ: اسْتِثْناءٌ مِن أعَمِّ الأحْوالِ أيْ لا يَتْرُكُها تَقَعُ في حالٍ مِنَ الأحْوالِ إلّا في كَوْنِها مُتَلَبِّسَةً بِمَشِيئَتِهِ تَعالى ولَعَلَّ ما ذَكَرْناهُ أظْهَرُ، وفي البَحْرِ أنَّ الجارَّ والمَجْرُورَ مُتَعَلِّقٌ بِتَقَعَ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِيُمْسِكُ لِأنَّ الكَلامَ يَقْتَضِي بِغَيْرِ عَمْدٍ ونَحْوِهِ فَكَأنَّهُ أرادَ إلّا بِإذْنِهِ فَبِهِ يُمْسِكُها ولَوْ كانَ كَما قالَ لَكانَ التَّرْكِيبُ بِدُونِ إلّا انْتَهى، ولَعَمْرِي إنَّ ما قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ لا يَقُولُهُ مَن لَهُ أدْنى رَوِيَّةٍ كَما لا يَخْفى، ثُمَّ إنَّهُ لا دَلالَةَ في الآيَةِ عَلى وُقُوعِ الإذْنِ بِالوُقُوعِ، وقِيلَ فِيها إشارَةٌ إلى الوُقُوعِ وذَلِكَ يَوْمُ القِيامَةِ فَإنَّ السَّماءَ فِيهِ تَتَشَقَّقُ وتَقَعُ عَلى الأرْضِ، وأنا لَيْسَ في ذِهْنِي مِنَ الآياتِ أوِ الأخْبارِ ما هو صَرِيحٌ في وُقُوعِ السَّماءِ عَلى الأرْضِ في ذَلِكَ اليَوْمِ وإنَّما هي صَرِيحَةٌ في المَوْرِ والِانْشِقاقِ والطَّيِّ والتَّبَدُّلِ وكُلُّ ذَلِكَ لا يَدُلُّ عَلى الوُقُوعِ عَلى الأرْضِ فَضْلًا عَنْ أنْ يَكُونَ صَرِيحًا فِيهِ، والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ بِالسَّماءِ جِنْسُها الشّامِلُ لِلسَّماواتِ السَّبْعِ، ويُؤَيِّدُهُ ما أخْرَجَهُ الطَّبَرانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: إذا أتَيْتَ سُلْطانًا مَهِيبًا تَخافُ أنْ يَسْطُوَ بِكَ فَقُلِ: اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ مِن خَلْقِهِ جَمِيعًا اللَّهُ أكْبَرُ مِمّا أخافُ وأحْذَرُ أعُوذُ بِاللَّهِ الَّذِي لا إلَهَ إلّا هو المُمْسِكِ السَّماواتِ السَّبْعِ أنْ يَقَعْنَ عَلى الأرْضِ إلّا بِإذْنِهِ مِن شَرِّ عَبْدِكَ فُلانٍ وجُنُودِهِ وأتْباعِهِ وأشْياعِهِ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ إلَهِي كُنْ لِي جارًا مِن شَرِّهِمْ جَلَّ ثَناؤُكَ وعَزَّ جارُكَ وتَبارَكَ اسْمُكَ لا إلَهَ غَيْرُكَ ثَلاثَ مَرّاتٍ. والظّاهِرُ أيْضًا أنَّ مَساقَ الآيَةِ لِلِامْتِنانِ لا لِلْوَعِيدِ كَما جَوَّزَهُ بَعْضُهم، ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ بِالنّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ حَيْثُ سَخَّرَ لَهم ما سَخَّرَ ومَنَّ عَلَيْهِمْ بِالأمْنِ مِمّا يَحُولُ بَيْنَهم وبَيْنَ الِانْتِفاعِ بِهِ مِن وُقُوعِ السَّماءِ عَلى الأرْضِ، وقِيلَ حَيْثُ هَيَّأ لَهم أسْبابَ مَعايِشِهِمْ وفَتَحَ عَلَيْهِمْ أبْوابَ المَنافِعِ وأوْضَحَ لَهم مَناهِجَ الِاسْتِدْلالِ بِالآياتِ التَّكْوِينِيَّةِ والتَّنْزِيلِيَّةِ، وجَعْلُ الجُمْلَةِ تَعْلِيلِيَّةً لِما في ضِمْنِ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب