الباحث القرآني

﴿لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها ولا دِماؤُها﴾ أيْ لَنْ يُصِيبَ رِضا اللَّهِ تَعالى اللُّحُومُ المُتَصَدَّقُ بِها ولا الدِّماءُ المِهْراقَةُ بِالنَّحْرِ مِن حَيْثُ إنَّها لُحُومٌ ودِماءٌ ﴿ولَكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنكُمْ﴾ ولَكِنْ يُصِيبُهُ ما يَصْحَبُ ذَلِكَ مِن تَقْوى قُلُوبِكُمُ الَّتِي تَدْعُوكم إلى تَعْظِيمِهِ تَعالى والتَّقَرُّبِ لَهُ سُبْحانَهُ والإخْلاصِ لَهُ عَزَّ وجَلَّ. وقالَ مُجاهِدٌ: أرادَ المُسْلِمُونَ أنْ يَفْعَلُوا فِعْلَ المُشْرِكِينَ مِنَ الذَّبْحِ وتَشْرِيحِ اللَّحْمِ ونَصْبِهِ حَوْلَ الكَعْبَةِ ونَضْحِها بِالدِّماءِ تَعْظِيمًا لَها وتَقَرُّبًا إلَيْهِ تَعالى فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، ورُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وغَيْرِهِ. وقَرَأ يَعْقُوبُ وجَماعَةٌ «أنْ تَنالَ» . «ولَكِنْ تَنالُهُ» بِالتّاءِ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ الأوَّلَ بِالتّاءِ والثّانِيَ بِالياءِ آخِرِ الحُرُوفِ، وعَنْ يَحْيى بْنِ يَعْمُرَ والجَحْدَرِيِّ أنَّهُما قَرَآ بِعَكْسِ ذَلِكَ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما «لَنْ يُنالَ» «ولَكِنْ يُنالُهُ» بِالبِناءِ لِما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ في المَوْضِعَيْنِ ولُحُومَها ولا دِماءَها بِالنَّصْبِ ﴿كَذَلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ﴾ كَرَّرَهُ سُبْحانَهُ تَذْكِيرًا لِلنِّعْمَةِ وتَعْلِيلًا لَهُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ﴾ أيْ لِتَعْرِفُوا عَظَمَتَهُ تَعالى بِاقْتِدارِهِ عَلى ما لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ عَزَّ وجَلَّ فَتُوَحِّدُوهُ بِالكِبْرِياءِ، وقِيلَ: أيْ لِتَقُولُوا اللَّهُ أكْبَرُ عِنْدَ الإحْلالِ أوِ الذَّبْحِ ﴿عَلى ما هَداكُمْ﴾ أيْ عَلى هِدايَتِهِ وإرْشادِهِ إيّاكم إلى طَرِيقِ تَسْخِيرِها وكَيْفِيَّةِ التَّقَرُّبِ بِها، فَما مَصْدَرِيَّةٌ، وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ مَوْصُوفَةً وأنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً والعائِدُ مَحْذُوفٌ، ولا بُدَّ أنْ يُعْتَبَرَ مَنصُوبًا عِنْدَ مَن يَشْتَرِطُ في حَذْفِ العائِدِ المَجْرُورِ أنْ يَكُونَ مَجْرُورًا بِمِثْلِ ما جُرَّ بِهِ المَوْصُولُ لَفْظًا ومَعْنى ومُتَعَلَّقًا، و( عَلى ) مُتَعَلِّقَةٌ بِتُكَبِّرُوا لِتَضَمُّنِهِ مَعْنى الشُّكْرِ أوِ الحَمْدِ كَأنَّهُ قِيلَ: لِتُكَبِّرُوهُ تَعالى شاكِرِينَ أوْ حامِدِينَ عَلى ما هَداكم، وقالَ بَعْضُهم: عَلى بِمَعْنى اللّامِ التَّعْلِيلِيَّةِ ولا حاجَةَ إلى اعْتِبارِ التَّضْمِينِ، ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُ الدّاعِي عَلى الصَّفا: اللَّهُ أكْبَرُ عَلى ما هَدانا والحَمْدُ لِلَّهِ تَعالى عَلى ما أوْلانا، ولا يَخْفى أنَّ لِعَدَمِ اعْتِبارِ التَّضْمِينِ هُنا وجْهًا لَيْسَ فِيما نَحْنُ فِيهِ فافْهَمْ ﴿وبَشِّرِ المُحْسِنِينَ﴾ أيِ المُخْلِصِينَ في كُلِّ ما يَأْتُونَ ويَذَرُوَنَ في أُمُورِ دِينِهِمْ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ هُمُ المُوَحِّدُونَ. * * * ومِن بابِ الإشارَةِ في الآياتِ ﴿يا أيُّها النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ بِالإعْراضِ عَنِ السُّوى وطَلَبِ الجَزاءِ ﴿إنَّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ﴾ وهي مَبادِي القِيامَةِ الكُبْرى ﴿يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ﴾ وهي مَوادُّ الأشْياءِ فَإنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ مادَّةً مَلَكُوتِيَّةً تُرْضِعُ رَضِيعَها مِنَ المُلْكِ وتُرَبِّيهِ في مَهْدِ الِاسْتِعْدادِ ﴿وتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ﴾ وهي الهَيُولاتُ (p-159)﴿حَمْلَها﴾ وهي الصُّوَرُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ والسَّماواتُ ﴿وتَرى النّاسَ سُكارى﴾ الحَيْرَةَ ﴿وما هم بِسُكارى﴾ المَحَبَّةَ، قِيلَ سُكْرُ الأعْداءِ مِن رُؤْيَةِ القَهْرِيّاتِ. وسُكْرُ المُوافِقِينَ مِن رُؤْيَةِ بَدائِعِ الأفْعالِ. وسُكْرُ المُرِيدِينَ مِن لَمَعانِ الأنْوارِ. وسُكْرُ المُحِبِّينَ مِن كُشُوفِ الأسْرارِ. وسُكْرُ المُشْتاقِينَ مِن ظُهُورِ سَنى الصِّفاتِ. وسُكْرُ العاشِقِينَ مِن مُكاشَفَةِ الذّاتِ. وسُكْرُ المُقَرَّبِينَ مِنَ الهَيْبَةِ والجَلالِ. وسُكْرُ العارِفِينَ مِنَ الدُّخُولِ في حِجالِ الوِصالِ. وسُكْرُ المُوَحِّدِينَ مِنَ اسْتِغْراقِهِمْ في بِحارِ الأوْلِيَةِ. وسُكْرُ الأنْبِياءِ والمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ مِنَ اطِّلاعِهِمْ عَلى أسْرارِ الأزَلِيَّةِ: ؎ألَمَّ بِنا ساقٍ يَجِلُّ عَنِ الوَصْفِ وفي طَرْفِهِ خَمْرٌ وخَمْرٌ عَلى الكَفِّ ؎فَأسْكَرَ أصْحابِيَ بِخَمْرَةِ كَفِّهِ ∗∗∗ وأسْكَرَنِي واللَّهِ مِن خَمْرَةِ الطَّرْفِ ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ﴾ الآيَةَ يَدْخُلُ فِيهِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ تَعالى طَمَعًا في الكَراماتِ ومَحْمَدَةَ الخَلْقِ ونَيْلَ دُنْياهم فَإنْ رَأى شَيْئًا مِن ذَلِكَ سَكَنَ إلى العِبادَةِ وإنْ لَمْ يَرَ تَرَكَها وتَهاوَنَ فِيها ﴿خَسِرَ الدُّنْيا﴾ بِفِقْدانِ الجاهِ والقَبُولِ والِافْتِضاحِ عِنْدَ الخَلْقِ ﴿والآخِرَةَ﴾ بِبَقائِهِ في الحِجابِ عَنْ مُشاهَدَةِ الحَقِّ واحْتِراقِهِ بِنارِ البُعْدِ ﴿مَن كانَ يَظُنُّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السَّماءِ﴾ الآيَةَ فِيهِ إشارَةٌ إلى حُسْنِ مَقامِ التَّسْلِيمِ والرِّضى بِما فَعَلَ الحَكِيمُ جَلَّ جَلالُهُ ﴿وإذْ بَوَّأْنا لإبْراهِيمَ مَكانَ البَيْتِ أنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ والقائِمِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ فِيهِ مِن تَعْظِيمِ أمْرِ الكَعْبَةِ ما فِيهِ، وقَدْ جَعَلَها اللَّهُ تَعالى مِثالًا لِعَرْشِهِ وجَعَلَ الطّائِفِينَ بِها مِنَ البَشَرِ كالمَلائِكَةِ الحافِّينَ مِن حَوْلِ العَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ إلّا أنَّ تَسْبِيحَ البَشَرِ وثَناءَهم عَلَيْهِ عَزَّ وجَلَّ بِكَلِماتٍ إلَهِيَّةٍ قُرْآنِيَّةٍ فَيَكُونُونَ مِن حَيْثُ تَسْبِيحِهِمْ وثَنائِهِمْ بِتِلْكَ الكَلِماتِ مِن حَيْثُ إنَّها كَلِماتُهُ تَعالى نُوّابًا عَنْهُ عَزَّ وجَلَّ ذَلِكَ في ويَكُونُ أهْلُ القُرْآنِ وهم كَما في الحَدِيثِ أهْلُ اللَّهِ تَعالى وخاصَّتُهُ، ولِلْكَعْبَةِ أيْضًا امْتِيازٌ عَلى العَرْشِ وسائِرِ البُيُوتِ الأرْبَعَةَ عَشَرَ لِأمْرٍ ما نُقِلَ إلَيْنا أنَّهُ في العَرْشِ ولا في غَيْرِهِ مِن تِلْكَ البُيُوتِ وهو الحَجَرُ الأسْوَدُ الَّذِي جاءَ في الخَبَرِ أنَّهُ يَمِينُ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ ثُمَّ إنَّهُ تَعالى جَعَلَ لِبَيْتِهِ أرْبَعَةَ أرْكانٍ لِسِرٍّ إلَهِيٍّ وهي في الحَقِيقَةِ ثَلاثَةٌ لِأنَّهُ شَكْلٌ مُكَعَّبُ الرُّكْنِ الَّذِي يَلِي الحِجْرَ كالحِجْرِ في الصُّورَةِ مُكَعَّبُ الشَّكْلِ ولِذَلِكَ سَمّى الكَعْبَةَ تَشْبِيهًا بِالكَعْبِ، ولَمّا جَعَلَ اللَّهُ تَعالى لَهُ بَيْتًا في العالَمِ الكَبِيرِ جَعَلَ نَظِيرَهُ في العالَمِ الصَّغِيرِ وهو قَلْبُ المُؤْمِنِ، وقَدْ ذَكَرُوا أنَّهُ أشْرَفُ مِن هَذا البَيْتِ ««وما وسِعَنِي أرْضِي ولا سَمائِي ولَكِنْ وسِعَنِي قَلْبُ عَبْدِي المُؤْمِنِ»» وجَعَلَ الخَواطِرَ الَّتِي تَمُرُّ عَلَيْهِ كالطّائِفِينَ وفِيها مِثْلُهُمُ المَحْمُودُ والمَذْمُومُ، وجَعَلَ مَحَلَّ الخَواطِرِ فِيهِ كالأرْكانِ الَّتِي لَلَبَّيْتِ فَمَحَلُّ الخاطِرِ الإلَهِيِّ كَرُكْنِ الحَجَرِ ومَحَلُّ الخاطِرِ المَلَكِيِّ كالرُّكْنِ اليَمانِيِّ ومَحَلُّ الخاطِرِ النَّفْسِيِّ كالمُكَعَّبِ الَّذِي في الحِجْرِ لا غَيْرَ ولَيْسَ لِلْخاطِرِ الشَّيْطانِيِّ فِيهِ مَحَلٌّ، وعَلى هَذا قُلُوبُ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وقَدْ يُقالُ: مَحَلُّ الخاطِرِ النَّفْسِيِّ كالرُّكْنِ الشّامِيِّ ومَحَلُّ الخاطِرِ الشَّيْطانِيِّ كالرُّكْنِ العِراقِيِّ، وإنَّما جُعِلَ ذَلِكَ لِلرُّكْنِ العِراقِيِّ لِأنَّ الشّارِعَ شَرَّعَ أنْ يُقالَ عِنْدَهُ: أعُوذُ بِاللَّهِ تَعالى مِنَ الشِّقاقِ والنِّفاقِ وسُوءِ الأخْلاقِ، وعَلى هَذا قُلُوبُ المُؤْمِنِينَ ما عَدا الأنْبِياءَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وأوْدَعَ سُبْحانَهُ فِيهِ كَنْزًا أرادَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنْ يُخْرِجَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ لِمَصْلَحَةٍ رَآها، وكَذا أرادَ عُمَرُ فامْتَنَعَ اقْتِداءً بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ . وكَذَلِكَ أوْدَعَ جَلَّ وعَلا في قَلْبِ الكامِلِ كَنْزَ العِلْمِ بِهِ عَزَّ وجَلَّ. وارْتِفاعُ البَيْتِ عَلى ما مَرَّ سَبْعَةٌ وعِشْرُونَ ذِراعًا ورُبْعُ ذِراعٍ. وقالَ بَعْضُهم: ثَمانِيَةٌ وعِشْرُونَ ذِراعًا، (p-160)وعَلَيْهِ يَكُونُ ذَلِكَ نَظِيرَ مَنازِلِ القَلْبِ الَّتِي تَقْطَعُها كَواكِبُ الإيمانِ السَّيّارَةِ لِإظْهارِ حَوادِثَ تَجْرِي في النَّفْسِ كَما تَقْطَعُ السَّيّارَةُ مَنازِلَها في الفَلَكِ لِإظْهارِ الحَوادِثِ في العالَمِ العُنْصُرِيِّ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا لا يَعْرِفُهُ إلّا أهْلُ الكَشْفِ. ﴿لَكم فِيها مَنافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إلى البَيْتِ العَتِيقِ﴾ أيْ إلى ما يَلِيهِ فَإنَّ النَّحْرَ بِمِنًى وجُعِلَتْ مَحَلًّا لِلْقَرابِينِ عَلى ما ذَكَرَ الشَّيْخُ الأكْبَرُ مُحْيِي الدِّينِ قُدِّسَ سِرُّهُ لِأنَّها مِن بُلُوغِ الأُمْنِيَّةِ ومَن بَلَغَ المُنى المَشْرُوعَ فَقَدْ بَلَغَ الغايَةَ. وفي نَحْرِ القَرابِينِ إتْلافُ أرْواحٍ عَنْ تَدْبِيرِ أجْسامٍ حَيَوانِيَّةٍ لِتَتَغَذّى بِها أجْسامٌ إنْسانِيَّةٌ فَتَنْظُرَ أرْواحُها إلَيْها في حالِ تَفْرِيقِها فَتُدَبِّرُها إنْسانِيَّةً بَعْدَ ما كانَتْ تُدَبِّرُها إبِلًا أوْ بَقَرًا، وهَذِهِ مَسْألَةٌ دَقِيقَةٌ لَمْ يَفْطَنْ لَها إلّا مَن نَوَّرَ اللَّهُ تَعالى بَصِيرَتَهُ مِن أهْلِ اللَّهِ تَعالى انْتَهى. وتَعَقُّلُهُ مُفَوَّضٌ إلى أهْلِهِ فاجْهَدْ أنْ تَكُونَ مِنهم. ﴿وبَشِّرِ المُخْبِتِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللَّهُ وجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ حَسْبَما يَحْصُلُ لَهم مِنَ التَّجَلِّي عِنْدَ ذَلِكَ، وقَدْ يَحْصُلُ مِنَ الذِّكْرِ طُمَأْنِينَةُ القَلْبِ لِاقْتِضاءِ التَّجَلِّي إذْ ذَلِكَ، وذَكَرَ بَعْضُهم أنَّ لِكُلِّ اسْمٍ تَجَلِّيًا خاصًّا فَإذا ذُكِرَ اللَّهُ تَعالى حَصَلَ حَسَبَ الِاسْتِعْدادِ ومِن ها هُنا يَحْصُلُ تارَةً وجَلٌ وتارَةً طُمَأْنِينَةٌ ( وإذا ) لا تَقْتَضِي الكُلِّيَّةَ بَلْ كَثِيرًا ما يُؤْتى بِها في الشَّرْطِيَّةِ الجُزْئِيَّةِ، وقِيلَ العارِفُ مَتى سَمِعَ الذِّكْرَ مِن غَيْرِهِ تَعالى وجِلَ قَلْبُهُ ومَتى سَمِعَهُ مِنهُ عَزَّ وجَلَّ اطْمَأنَّ. ويُفْهَمُ مِن ظاهِرِ كَلامِهِمْ أنَّ السّامِعَ لِلذِّكْرِ إمّا وجِلٌ أوْ مُطْمَئِنٌّ ولَمْ يُصَرِّحْ بِقِسْمٍ آخَرَ فَإنْ كانَ فالباقِي عَلى حالِهِ قَبْلَ السَّماعِ، وأكْثَرُ مَشايِخِ زَمانِنا يَرْقُصُونَ عِنْدَ سَماعِ الذِّكْرِ فَما أدْرِي أيَنْشَأُ رَقْصُهم عَنْ وجِلٍ مِنهُ تَعالى أمْ عَنْ طُمَأْنِينَةٍ ؟ وسَيَظْهَرُ ذَلِكَ يَوْمَ تُبْلى السَّرائِرُ وتَظْهَرُ الضَّمائِرُ ﴿والبُدْنَ جَعَلْناها لَكم مِن شَعائِرِ اللَّهِ لَكم فِيها خَيْرٌ فاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ﴾ قَدْ تَقَدَّمَ لَكَ أنَّهم يَنْحَرُونَ البُدْنَ مَعْقُولَةَ اليَدِ اليُسْرى قائِمَةً عَلى ما بَقِيَ مِن قَوائِمِها، وذَكَرُوا في سِرِّ ذَلِكَ أنَّهُ لَمّا كانَ نَحْرُها قُرْبَةً أرادَ ﷺ المُناسَبَةَ في صِفَةِ نَحْرِها في الوَتْرِيَّةِ فَأقامَها عَلى ثَلاثِ قَوائِمَ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى وتْرٌ يُحِبُّ الوَتْرَ والثَّلاثَةُ أوِ الإفْرادُ فَلَها أوَّلُ المَراتِبِ في ذَلِكَ والأوَّلِيَّةُ وتْرِيَّةٌ أيْضًا، وجَعَلَها قائِمَةً لِأنَّ القَيُّومِيَّةَ مِثْلُ الوَتْرِيَّةِ صِفَةٌ إلَهِيَّةٌ فَيَذْكُرُ الَّذِي يَنْحَرُها مُشاهَدَةَ القائِمِ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ، وقَدْ صَحَّ أنَّ المَناسِكَ إنَّما شُرِعَتْ لِإقامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعالى، وشَفْعُ الرِّجْلَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والتَفَّتِ السّاقُ بِالسّاقِ﴾ [القِيامَةَ: 29] وهو اجْتِماعُ أمْرِ الدُّنْيا بِالآخِرَةِ، وأفْرَدَ اليَمِينَ مِن يَدِ البُدْنِ حَتّى لا تَعْتَمِدَ إلّا عَلى وتْرٍ لَهُ الِاقْتِدارُ. وكانَ العَقْلُ في اليَدِ اليُسْرى لِأنَّها خَلِيَّةٌ عَنِ القُوَّةِ الَّتِي لِلْيُمْنى والقِيامُ لا يَكُونُ إلّا عَنْ قُوَّةٍ. وقَدْ أخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: ««صَلّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الظُّهْرَ بِذِي الحُلَيْفَةِ ثُمَّ دَعا بِناقَتِهِ فَأشْعَرَها في صَفْحَةِ سَنامِها الأيْمَنِ وسَلَتَ عَنْها الدَّمَ وقَلَّدَها نَعْلَيْنِ ثُمَّ رَكِبَ راحِلَتَهُ»» الحَدِيثَ. والسِّرُّ في كَوْنِ هَدْيِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِنَ الإبِلِ مَعَ أنَّهُ جاءَ فِيها أنَّها شَياطِينُ ولِذا كُرِهَتِ الصَّلاةُ في مَعاطِنِها الإشارَةُ إلى أنَّ مَقامَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ رَدَّ البُعَداءَ مِنَ اللَّهِ تَعالى إلى حالِ التَّقْرِيبِ. وفي إشْعارِها في سَنامِها الَّذِي هو أرْفَعُ ما فِيها إشْعارٌ مِنهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أتى عَلَيْهِمْ مِن صِفَةِ الكِبْرِياءِ الَّذِي كانُوا عَلَيْهِ في نُفُوسِهِمْ فَلْيَتَجَنَّبُوها فَإنَّ الدّارَ الآخِرَةَ إنَّما جُعِلَتْ لِلَّذِينِ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الأرْضِ ولا فَسادًا، ووَقَعَ الإشْعارُ في الصَّفْحَةِ اليُمْنى لِأنَّ اليَمِينَ مَحَلُّ الِاقْتِدارِ والقُوَّةِ، والصَّفْحَةُ مِنَ الصَّفْحِ فَفي ذَلِكَ إشْعارٌ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى يَصْفَحُ عَمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ إذا طَلَبَ القُرْبَ مِنَ اللَّهِ تَعالى وزالَ عَنْ كِبْرِيائِهِ الَّذِي أوْجَبَ لَهُ البُعْدَ، وجَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ الدَّلالَةَ عَلى إزالَةِ الكِبْرِياءِ في شَيْطَنَةِ البُدْنِ في تَعْلِيقِ النِّعالِ في رِقابِها إذْ لا يُصْفَعُ بِالنِّعالِ إلّا أهْلُ الهُونِ والمَذَلَّةِ ومَن كانَ بِهَذِهِ المَثابَةِ فَما بَقِيَ فِيهِ كِبْرِياءُ تُشْهَدُ، وعَلَّقَ (p-161)النِّعالَ بِقَلائِدِ العِهْنِ لِيَتَذَكَّرَ بِذَلِكَ ما أرادَ اللَّهُ تَعالى وتَكُونُ الجِبالُ كالعِهْنِ المَنفُوشِ، وقَدْ ذَكَرُوا لِجَمِيعِ أفْعالِ الحَجِّ أسْرارًا مِن هَذا القَبِيلِ، وعِنْدِي أنَّ أكْثَرَها تَعَبُّدِيَّةٌ وأنَّ أكْثَرَ ما ذَكَرُوهُ مِن قَبِيلِ الشِّعْرِ واللَّهُ تَعالى المُوَفِّقُ لِلسَّدادِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب