الباحث القرآني

﴿ولِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنسَكًا﴾ عُطِفَ عَلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿لَكم فِيها مَنافِعُ﴾ أوْ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومَن يُعَظِّمْ﴾ إلَخْ وما في البَيْنِ اعْتِراضٌ عَلى ما قِيلَ، وكَأنِّي بِكَ تَخْتارُ الأوَّلَ وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى تَمامُ الكَلامِ عَلَيْهِ عِنْدَ نَظِيرِ الآيَةِ، والمَنسَكُ مَوْضِعُ النُّسُكِ إذا كانَ اسْمَ مَكانٍ أوِ النُّسُكُ إذا كانَ مَصْدَرًا، وفَسَّرَهُ مُجاهِدٌ هُنا بِالذَّبْحِ وإراقَةِ الدِّماءِ عَلى وجْهِ التَّقَرُّبِ إلَيْهِ تَعالى فَجَعَلَهُ مَصْدَرًا وحُمِلَ النُّسُكُ عَلى عِبادَةٍ خاصَّةٍ وهو أحَدُ اسْتِعْمالاتِهِ وإنْ كانَ في الأصْلِ بِمَعْنى العِبادَةِ مُطْلَقًا وشاعَ في أعْمالِ الحَجِّ. وقالَ الفَرّاءُ: المَنسَكُ في كَلامِ العَرَبِ المَوْضِعُ المُعْتادُ في خَيْرٍ وبِرٍّ وفَسَّرَهُ هُنا بِالعِيدِ، وقالَ قَتادَةُ: هو الحَجُّ. وقالَ ابْنُ عَرَفَةَ ﴿مَنسَكًا﴾ أيْ مَذْهَبًا مِن طاعَتِهِ تَعالى. واخْتارَ الزَّمَخْشَرِيُّ ما رُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ وهو الأوْفَقُ أيْ شَرَعَ لِكُلِّ أهْلِ دِينٍ أنْ يَذْبَحُوا لَهُ تَعالى عَلى وجْهِ التَّقَرُّبِ لا لِبَعْضٍ مِنهم، فَتَقْدِيمُ الجارِّ والمَجْرُورِ عَلى الفِعْلِ لِلتَّخْصِيصِ. وقَرَأ الأخَوانِ وابْنُ سَعْدانَ وأبُو حاتِمٍ عَنْ أبِي عَمْرٍو ويُونُسَ ومَحْبُوبٍ وعَبْدِ الوارِثِ «مَنسِكًا» بِكَسْرِ السِّينِ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وهو في هَذا شاذٌّ ولا يَجُوزُ في القِياسِ ويُشْبِهُ أنْ يَكُونَ الكِسائِيُّ سَمِعَهُ مِنَ العَرَبِ، قالَ الأزْهَرِيُّ: الفَتْحُ والكَسْرُ (p-154)فِيهِ لُغَتانِ مَسْمُوعَتانِ ﴿لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ﴾ خاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ تَعالى كَما يُفْهِمُهُ السِّياقُ والسِّباقُ، وفي تَعْلِيلِ الجَعْلِ بِذَلِكَ فَقَطْ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ المَقْصُودَ الأهَمَّ مِن شَرْعِيَّةِ النُّسُكِ ذِكْرُهُ عَزَّ وجَلَّ ﴿عَلى ما رَزَقَهم مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ﴾ عِنْدَ ذَبْحِها، وفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ القُرْبانَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مِنَ الأنْعامِ فَلا يَجُوزُ بِالخَيْلِ ونَحْوِها. والفاءُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ﴾ قِيلَ لِلتَّعْلِيلِ وما بَعْدَها عِلَّةٌ لِتَخْصِيصِ اسْمِ اللَّهِ تَعالى بِالذِّكْرِ، والفاءُ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿فَلَهُ أسْلِمُوا﴾ لِتَرْتِيبِ ما بَعْدَها مِنَ الأمْرِ بِالإسْلامِ عَلى وحْدانِيَّتِهِ عَزَّ وجَلَّ، وقِيلَ: الفاءُ الأُولى لِتَرْتِيبِ ما بَعْدَها عَلى ما قَبْلَها أيْضًا فَإنَّ جَعْلَهُ تَعالى لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ مَنسَكًا يَدُلُّ عَلى وحْدانِيَّتِهِ جَلَّ وعَلا، ولا يَخْفى ما في وجْهِ الدَّلالَةِ مِنَ الخَفاءِ، وتَكَلَّفَ بَعْضُهم في بَيانِهِ بِأنَّ شَرْعَ المَنسَكِ لِكُلِّ أُمَّةٍ لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ تَعالى يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ سُبْحانَهُ إلَهًا لَهم لِئَلّا يَلْزَمَ السَّفَهُ ويَلْزَمُ مِن كَوْنِهِ تَعالى إلَهًا لَهم أنْ يَكُونَ عَزَّ وجَلَّ واحِدًا لِأنَّهُ لا يَسْتَحِقُّ الأُلُوهِيَّةَ أصْلًا مَن لَمْ يَتَفَرَّدْ بِها فَإنَّ الشَّرِكَةَ نَقْصٌ وهو كَما تَرى، وفي الكَشْفِ لَمّا كانَتِ العِلَّةُ لِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنسَكًا﴾ ذِكْرُ اسْمِهِ تَعالى عَلى المَناسِكِ ومَعْلُومٌ أنَّ الذِّكْرَ إنَّما يَكُونُ ذِكْرًا عِنْدَ مُواطَأةِ القَلْبِ اللِّسانَ وذِكْرُ القَلْبِ إشْعارٌ بِالتَّعْظِيمِ جاءَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَهُ أسْلِمُوا﴾ مُسَبَّبًا عَنْهُ تَسَبُّبًا حَسَنًا. واعْتُرِضَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ﴾ لِأنَّهُ يُؤَكِّدُ الأمْرَ بِالإخْلاصِ ويُقَوِّي السَّبَبَ تَقْوِيَةً بالِغَةً ويُؤَكِّدُ أيْضًا كَوْنَ الذِّكْرِ هو المَقْصُودُ مِن شَرْعِيَّةِ النُّسُكِ انْتَهى، وهو يُشْعِرُ بِأنَّ الفاءَ الأُولى لِلِاعْتِراضِ والفاءَ الثّانِيَةَ لِلتَّرْتِيبِ. ولَعَلَّ ما ذُكِرَ أوَّلًا أظْهَرُ، وأمّا ما قِيلَ مِن أنَّ الفاءَ الأُولى لِلتَّعْلِيلِ والمُعَلَّلُ مَحْذُوفٌ والمَعْنى إنَّما اخْتَلَفَتِ التَّكالِيفُ بِاخْتِلافِ الأزْمِنَةِ والأشْخاصِ لِاخْتِلافِ المَصالِحِ لا لِتَعَدُّدِ الإلَهِ فَإنَّ إلَهَكم إلَهٌ واحِدٌ فَما لا يَنْبَغِي أنْ يُخَرَّجَ عَلَيْهِ كَلامُ اللَّهِ تَعالى الجَلِيلُ كَما لا يَخْفى، وإنَّما قِيلَ: ( إلَهٌ واحِدٌ ) ولَمْ يَقُلْ واحِدٌ لِما أنَّ المُرادَ بَيانُ أنَّهُ تَعالى واحِدٌ في ذاتِهِ كَما أنَّهُ واحِدٌ في إلَهِيَّتِهِ وتَقْدِيمُ الجارِّ عَلى الأمْرِ لِلْقَصْرِ، والمُرادُ أخْلِصُوا لَهُ تَعالى الذِّكْرَ خاصَّةً واجْعَلُوهُ لِوَجْهِهِ سالِمًا خالِصًا لا تَشُوبُهُ بِإشْراكٍ ﴿وبَشِّرِ المُخْبِتِينَ﴾ خِطابٌ لَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، والمُخْبِتُونَ المُطْمَئِنُّونَ كَما رُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ أوِ المُتَواضِعُونَ كَما رُوِيَ عَنِ الضَّحّاكِ. وقالَ عَمْرُو بْنُ أوْسٍ: هُمُ الَّذِينَ لا يَظْلِمُونَ النّاسَ وإذا ظُلِمُوا لَمْ يَنْتَصِرُوا. وقالَ سُفْيانُ: هُمُ الرّاضُونَ بِقَضاءِ اللَّهِ. وقالَ الكَلْبِيُّ: هُمُ المُجْتَهِدُونَ في العِبارَةِ، وهو مِنَ الإخْباتِ وأصْلُهُ كَما قالَ الرّاغِبُ: نُزُولُ الخَبْتِ وهو المُطْمَئِنُّ مِنَ الأرْضِ، ولا يَخْفى حُسْنُ وقْعِ ذَلِكَ هُنا مِن حَيْثُ إنَّ نُزُولَ الخَبْتِ مُناسِبٌ لِلْحاجِّ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب