الباحث القرآني

وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن في السَّماواتِ ومَن في الأرْضِ﴾ إلَخْ بَيانٌ لِما يُوجِبُ الفَصْلَ المَذْكُورَ مِن أعْمالِ الفِرَقِ مَعَ الإشارَةِ إلى كَيْفِيَّتِهِ وكَوْنِهِ بِطْرِيقِ التَّعْذِيبِ والإثابَةِ والإكْرامِ والإهانَةِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ تَنْوِيرًا لِكَوْنِهِ تَعالى شَهِيدًا عَلى كُلِّ شَيْءٍ، وقِيلَ: هو تَقْرِيعٌ عَلى اخْتِلافِ الكَفَرَةِ واسْتِبْعادٌ لَهُ لِوُجُوبِ الصّارِفِ، والمُرادُ بِالرُّؤْيَةِ العِلْمُ والخِطابُ لِكُلِّ مَن يَتَأتّى مِنهُ ذَلِكَ. والمُرادُ بِالسُّجُودِ دُخُولُ الأشْياءِ تَحْتَ تَسْخِيرِهِ تَعالى وإرادَتِهِ سُبْحانَهُ وقابِلِيَّتُها لِما يُحْدِثُ فِيها عَزَّ وجَلَّ، وظاهِرُ كَلامِ الآمِدِيِّ أنَّهُ مَعْنًى حَقِيقِيٌّ لِلسُّجُودِ. وفي مُفْرَداتِ الرّاغِبِ السُّجُودُ في الأصْلِ التَّطامُنُ والتَّذَلُّلُ وجُعِلَ ذَلِكَ عِبارَةً عَنِ التَّذَلُّلِ لِلَّهِ تَعالى وعِبادَتِهِ وهو عامٌّ في الإنْسانِ والحَيَوانِ والجَمادِ. وذَلِكَ ضَرْبانِ سُجُودٌ بِاخْتِيارٍ يَكُونُ لِلْإنْسانِ وبِهِ يَسْتَحِقُّ الثَّوابَ وسُجُودٌ بِتَسْخِيرٍ يَكُونُ لِلْإنْسانِ وغَيْرِهِ مِنَ الحَيَواناتِ والنَّباتاتِ. وخُصَّ في الشَّرِيعَةِ بِالرُّكْنِ المَعْرُوفِ مِنَ الصَّلاةِ وما جَرى مَجْراهُ مِن سُجُودِ التِّلاوَةِ وسُجُودِ الشُّكْرِ انْتَهى. وذَكَرَ بَعْضُهم أنَّهُ كَما خُصَّ في الشَّرِيعَةِ بِذَلِكَ خُصَّ في عُرْفِ اللُّغَةِ بِهِ. وقالَ ابْنُ كَمالٍ: إنَّ حَقِيقَتَهُ عَلى ما نُصَّ عَلَيْهِ في المُجْمَلِ وضْعُ الرَّأْسِ، وقالَ العَلّامَةُ الثّانِي: حَقِيقَتُهُ وضْعُ الجَبْهَةِ لا الرَّأْسِ حَتّى لَوْ وُضِعَ الرَّأْسُ مِن جانِبِ القَفا لَمْ يَكُنْ ساجِدًا، وعَلى هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ عَلى عِلّاتِهِما قِيلَ السُّجُودُ هُنا مَجازٌ عَنِ الدُّخُولِ تَحْتَ تَسْخِيرِهِ تَعالى والِانْقِيادِ لِإرادَتِهِ سُبْحانَهُ. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ مَجازًا عَنْ دَلالَةِ لِسانِ حالِ الأشْياءِ بِذِلَّتِها وافْتِقارِها عَلى صانِعِها وعَظَمَتِهِ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ، ووَجْهُ التَّنْوِيرِ عَلى هَذا ظاهِرٌ وكَذا التَّقْرِيعُ عَلى الِاخْتِلافِ. ( ومَن ) إمّا خاصَّةٌ بِالعُقَلاءِ وإمّا عامَّةٌ لَهم ولِغَيْرِهِمْ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ وهو الأوْلى لِأنَّهُ الأنْسَبُ بِالمَقامِ لِإفادَتِهِ شُمُولَ الحُكْمِ (p-131)لِكُلِّ ما فِيهِما بِطَرِيقِ القَرارِ فِيهِما أوْ بِطَرِيقِ الجُزْئِيَّةِ مِنهُما، ويَكُونُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والشَّمْسُ والقَمَرُ والنُّجُومُ والجِبالُ والشَّجَرُ والدَّوابُّ﴾ إفْرادًا لَها بِالذِّكْرِ لِشُهْرَتِها واسْتِبْعادِ ذَلِكَ مِنها بِحَسَبِ الظّاهِرِ في بادِئِ النَّظَرِ القاصِرِ كَما قِيلَ أوْ لِأنَّها قَدْ عُبِدَتْ مِن دُونِ اللَّهِ تَعالى إمّا بِاعْتِبارِ شَخْصِها أوْ جِنْسِها. فالشَّمْسُ عَبَدَتْها حِمْيَرُ والقَمَرُ عَبَدَتْهُ كِنانَةُ وعَبَدَ الدَّبَرانَ مِنَ النُّجُومِ تَمِيمٌ والشِّعْرى لَخْمٌ وقُرَيْشٌ، والثُّرَيّا طِيِّئٌ، وعُطارِدا أسَدٍ والمِرْزِمِ رَبِيعَةُ، وعَبَدَ أكْثَرُ العَرَبِ الأصْنامَ المَنحُوتَةَ مِنَ الجِبالِ. وعَبَدَتْ غَطَفانُ العُزّى وهي سَمُرَةٌ واحِدَةُ السَّمَرِ شَجَرٌ مَعْرُوفٌ، ومِنَ النّاسِ مَن عَبَدَ البَقَرَ. وقَرَأ الزُّهْرِيُّ وابْنُ وثّابٍ «الدَّوابَ» بِتَخْفِيفِ الباءِ. وخَصَّ ابْنُ جِنِّيٍّ في المُحْتَسَبِ هَذِهِ القِراءَةَ بِالزُّهْرِيِّ، وقالَ: لا أعْلَمُ مَن خَفَّفَها سَواءٌ وهو قَلِيلٌ ضَعِيفٌ قِياسًا وسَماعًا لِأنَّ التِقاءَ السّاكِنَيْنِ عَلى حَدِّهِ وعُذْرِهِ كَراهَةَ التَّضْعِيفِ ولِذا قالُوا في ظَلِلْتُ ظَلْتُ وقالُوا جانٌ بِالتَّخْفِيفِ وذَكَرَ لَهُ نَظائِرَ كَثِيرَةً. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ﴾ قِيلَ مَرْفُوعٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ المَذْكُورُ أيْ ويَسْجُدُ لَهُ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ سُجُودَ الطّاعَةِ المَعْرُوفَ. واعْتُرِضَ بِأنَّهُ صَرَّحَ في المُغْنِي بِأنَّ شَرْطَ الدَّلِيلِ اللَّفْظِيِّ عَلى المَحْذُوفِ أنْ يَكُونَ طَبَقَةً لَفْظًا ومَعْنًى أوْ مَعْنًى لا لَفْظًا فَقَطْ فَلا يَجُوزُ زَيْدٌ ضارِبٌ وعَمْرٌو عَلى أنَّ خَبَرَ عَمْرٍو مَحْذُوفٌ وهو ضارِبٌ مِنَ الضَّرْبِ في الأرْضِ أيْ مُسافِرٌ والمَذْكُورُ بِمَعْناهُ المَعْرُوفِ. وأجابَ الخَفاجِيُّ بِأنَّ ما ذَكَرَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِما ذَكَرَهُ النُّحاةُ مِن أنَّ المُقَدَّرَ قَدْ يَكُونُ لازِمًا لِلْمَذْكُورِ نَحْوَ زَيْدًا ضَرَبْتُ غُلامَهُ أيْ أهَنْتُ زَيْدًا ولا يَكُونُ مُشْتَرِكًا كالمِثالِ المَذْكُورِ إلّا أنْ يَكُونَ بَيْنَهُما مُلاءَمَةٌ فَيَصِحُّ إذا اتَّحَدا لَفْظًا وكانَ مِنَ المُشْتَرَكِ وبَيْنَهُما مُلازَمَةٌ تَدُلُّ عَلى المُقَدَّرِ ولِذا لَمْ يَصِحَّ المِثالُ المَذْكُورُ انْتَهى، وعَطَفَهُ بَعْضُهم عَلى المَذْكُوراتِ قَبْلَهُ وجَعَلَ السُّجُودَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ بِمَعْنى السُّجُودِ المَعْرُوفِ وفِيما تَقَدَّمَ بِمَعْنى الدُّخُولِ تَحْتَ التَّسْخِيرِ أوِ الدَّلالَةِ عَلى عَظَمَةِ الصّانِعِ جَلَّ شَأْنُهُ. واسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلى جَوازِ اسْتِعْمالِ المُشْتَرَكِ في مَعْنَيَيْهِ أوِ اسْتِعْمالِ اللَّفْظِ في حَقِيقَتِهِ ومَجازِهِ، والجَوابُ ما عَلِمْتَ، ولا يَجُوزُ العَطْفُ وجَعْلُ السُّجُودِ في الجَمِيعِ بِمَعْنى الدُّخُولِ تَحْتَ التَّسْخِيرِ أوِ الدَّلالَةِ عَلى العَظَمَةِ لِأنَّ ذَلِكَ عامٌّ لِجَمِيعِ النّاسِ فَلا يَلِيقُ حِينَئِذٍ ذِكْرُ ( كَثِيرٌ ) وغَيْرُ العامِّ إنَّما هو السُّجُودُ بِالمَعْنى المَعْرُوفِ فَيُفِيدُ ذِكْرُ ( كَثِيرٌ ) إذا أُرِيدَ أنَّ مِنهم مَن لَمْ يَتَّصِفْ بِذَلِكَ وهو كَذَلِكَ، وما قِيلَ: إنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَخْصِيصُ الكَثِيرِ عَلى إرادَةِ السُّجُودِ العامِّ لِلدَّلالَةِ عَلى شَرَفِهِمْ والتَّنْوِيهِ بِهِمْ لَيْسَ بِشَيْءٍ إذْ كَيْفَ يَتَأتّى التَّنْوِيهُ وقَدْ قُرِنَ بِهِمْ غَيْرُ العُقَلاءِ كالدَّوابِّ، وقالَ ابْنُ كَمالٍ: تَمَسَّكَ مَن جَوَّزَ حَمْلَ المُشْتَرَكِ في اسْتِعْمالِ واحِدٍ عَلى أكْثَرِ مِن مَعْنى بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن في السَّماواتِ ومَن في الأرْضِ﴾ الآيَةَ بِناءً عَلى أنَّ المُرادَ بِالسُّجُودِ المَنسُوبِ إلى غَيْرِ العُقَلاءِ الِانْقِيادُ لِتَعَذُّرِ السُّجُودِ المَعْهُودِ في حَقِّهِ ومِنَ المَنسُوبِ إلَيْهِمْ ما هو المَعْهُودُ دُونَ الِانْقِيادِ لِأنَّهُ شامِلٌ لِلْكُلِّ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِالكَثِيرِ ولا مُتَمَسَّكَ لَهم في ذَلِكَ لِأنَّ كُلًّا مِنَ التَّعْلِيلَيْنِ في مَعْرِضِ المَنعِ، أمّا الأوَّلُ فَلِأنَّ حَقِيقَةَ السُّجُودِ وضْعُ الرَّأْسِ ولا تَعَذُّرَ في نِسْبَتِهِ إلى غَيْرِ العُقَلاءِ ولا حاجَةَ إلى إثْباتِ حَقِيقَةِ الرَّأْسِ في الكُلِّ لِأنَّ التَّغْلِيبَ سائِغٌ شائِعٌ، وأمّا الثّانِي فَلِأنَّ الكَفّارَ لا سِيَّما المُتَكَبِّرِينَ مِنهم لا حَظَّ لَهم مِنَ الِانْقِيادِ لِأنَّ المُرادَ مِنهُ الإطاعَةُ بِما ورَدَ في حَقِّهِ مِنَ الأمْرِ تَكْلِيفِيًّا كانَ أوْ تَكْوِينِيًّا عَلى وجْهٍ ورَدَ بِهِ الأمْرُ وتَقْدِيرُ فِعْلٍ آخَرَ في هَذا المَقامِ مِن ضِيقِ العَطَنِ كَما لا يَخْفى عَلى أرْبابِ الفِطَنِ انْتَهى. وفِيهِ القَوْلُ بِجَوازِ العَطْفِ (p-132)عَلى كِلا مَعْنى السُّجُودِ وضْعِ الرَّأْسِ والِانْقِيادِ وبَيانُ فائِدَةِ تَخْصِيصِ الكَثِيرِ عَلى الثّانِي، ولا يَخْفى أنَّ المُتَبادَرَ مِن مُعْتَبَراتِ كُتُبِ اللُّغَةِ أنَّ السُّجُودَ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ في الخُضُوعِ مُطْلَقًا وأنَّ ما ذَكَرَهُ مِن حَدِيثِ التَّغْلِيبِ خِلافُ الظّاهِرِ وكَذا حُمِلَ الِانْقِيادُ عَلى ما ذَكَرَهُ، وقَدْ أخَذَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى كِلا المَعْنَيَيْنِ مِنَ التَّوْضِيحِ وقَدْ أسْقَطَ مِمّا فِيهِ ما عَنْهُ غِنًى، وما زَعَمَ أنَّهُ مِن ضِيقِ العَطَنِ هو الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ أكْثَرُ القَوْمِ وعَلَيْهِ يَكُونُ ( مِنَ النّاسِ ) صِفَةَ ( كَثِيرٌ ) وأوْرَدَ أنَّهُ حِينَئِذٍ يَرِدُ أنَّ سُجُودَ الطّاعَةِ المَعْرُوفَ لا يَخْتَصُّ بِكَثِيرٍ مِنَ النّاسِ فَإنَّ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ مُتَّصِفٌ بِهِ أيْضًا، وكَوْنُهم غَيْرَ مُكَلَّفِينَ خِلافُ القَوْلِ الأصَحِّ. نَعَمْ يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّهم لَمْ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِالسُّجُودِ عِنْدَ نُزُولِ الآيَةِ وعَلى مُدَّعِيهِ البَيانُ، والقَوْلُ بِأنَّهُ يَجُوزُ أنْ يُرادَ بِالنّاسِ ما يَعُمُّ الجِنَّ فَإنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ حَسَبَ إطْلاقِ النَّفَرِ والرِّجالِ عَلَيْهِمْ لَيْسَ بِشَيْءٍ. ومِنَ النّاسِ مَن أجابَ عَنْ ذَلِكَ بِأنَّ يَسْجُدُ المُقَدَّرَ داخِلٌ في الرُّؤْيَةِ وقَدْ قالُوا: المُرادُ بِها العِلْمُ والتَّعْبِيرُ بِها عَنْهُ لِلْإشْعارِ بِظُهُورِ المَعْلُومِ وظُهُورُ السُّجُودِ بِمَعْنى الدُّخُولِ تَحْتَ التَّسْخِيرِ في الأشْياءِ المَنسُوبِ هو إلَيْها مِمّا لا سُتْرَةَ عَلَيْها وكَذا ظُهُورُهُ بِمَعْنى السُّجُودِ المَعْرُوفِ في كَثِيرٍ مِنَ النّاسِ، وأمّا في الجِنِّ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَلِذا وصَفَ الكَثِيرَ بِكَوْنِهِ مِنَ النّاسِ. وتُعُقِّبَ بِأنَّ الخِطابَ في ( ألَمْ تَرَ ) لِمَن يَتَأتّى مِنهُ ذَلِكَ ولا سُتْرَةَ في ظُهُورِ أمْرِ السُّجُودِ مُطْلَقًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ. ورُدَّ بِأنَّ مُرادَ المُجِيبِ في أنَّ سُجُودَ الجِنِّ لَيْسَ بِظاهِرٍ في نَفْسِ الأمْرِ ومَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ المُخاطَبِ كائِنًا مَن كانَ ظُهُورُ دُخُولِ الأشْياءِ المَذْكُورَةِ أوَّلًا تَحْتَ التَّسْخِيرِ بِخِلافِ سُجُودِ كَثِيرٍ مِنَ النّاسِ فَإنَّهُ ظاهِرٌ ظُهُورَ ذَلِكَ في نَفْسِ الأمْرِ فَخُصَّ الكَثِيرُ بِكَوْنِهِ مِنَ النّاسِ لِيَكُونَ الدّاخِلُ في حَيِّزِ الرُّؤْيَةِ مِن صَقْعٍ واحِدٍ مِنَ الظُّهُورِ في نَفْسِ الأمْرِ. وقِيلَ المَقامُ يَقْتَضِي تَكْثِيرَ الرّائِينَ لِما يُذْكَرُ في حَيِّزِ الرُّؤْيَةِ والتَّخْصِيصُ أوْفَقُ بِذَلِكَ فَلِذا خُصَّ الكَثِيرُ بِكَوْنِهِمْ مِنَ النّاسِ والكُلُّ كَما تَرى، والأوْلى أنْ يُقالَ: تَخْصِيصُ الكَثِيرِ مِنَ النّاسِ بِنِسْبَةِ السُّجُودِ بِالمَعْنى المَعْرُوفِ إلَيْهِمْ عَلى القَوْلِ بِأنَّ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ كَذَلِكَ لِلتَّنْوِيهِ بِهِمْ، ولا يَرِدُ عَلَيْهِ ما مَرَّ لِأنَّهُ لَمْ يُقْرَنْ بِهِمْ في هَذا السُّجُودِ غَيْرُ العُقَلاءِ فَتَأمَّلْ، وقِيلَ: إنَّ ( كَثِيرٌ ) مَرْفُوعٌ عَلى الِابْتِداءِ حُذِفَ خَبَرُهُ ثِقَةً بِدَلالَةِ خَبَرِ قَسِيمِهِ عَلَيْهِ نَحْوَ حُقَّ لَهُ الثَّوابُ ويُفِيدُ الكَلامُ كَثْرَةَ الفَرِيقَيْنِ والأوَّلُ أوْلى لِما فِيهِ مِنَ التَّرْغِيبِ في السُّجُودِ والطّاعَةِ لِلْحَقِّ المَعْبُودِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ ( كَثِيرٌ ) مُبْتَدَأً ( ومِنَ النّاسِ ) خَبَرَهُ والتَّعْرِيفُ فِيهِ لِلْحَقِيقَةِ والجِنْسِ أيْ وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ الَّذِينَ هُمُ النّاسُ عَلى الحَقِيقَةِ وهُمُ الصّالِحُونَ المُتَّقُونَ، وقالَ الرّاغِبُ: قَدْ يَذْكَرُ النّاسُ ويُرادُ بِهِ الفُضَلاءُ دُونَ مَن يَتَناوَلُهُ اسْمُ النّاسِ تَجَوُّزًا، وذَلِكَ إذا اعْتُبِرَ مَعْنى الإنْسانِيَّةِ وهو وُجُودُ العَقْلِ والذِّكْرِ وسائِرِ القُوى المُخْتَصَّةِ بِهِ فَإنَّ كُلَّ شَيْءٍ عُدِمَ فِعْلُهُ المُخْتَصُّ بِهِ لا يَكادُ يَسْتَحِقُّ اسْمَهُ والمُخَصِّصُ لِلْمُبْتَدَأِ النَّكِرَةِ أنَّهُ صِفَةُ مَحْذُوفٍ بِالحَقِيقَةِ عَلى أنَّ المُعادَلَةَ مِنَ المُخَصَّصاتِ إذا قُلْتَ رِجالٌ مُكْرَمُونَ ورِجالٌ مُهانُونَ لِأنَّهُ تَفْصِيلٌ مُجْمَلٌ فَهو مَوْصُوفٌ تَقْدِيرًا ولِأنَّ كُلًّا مِنَ المُقابَلَيْنِ مَوْصُوفٌ بِمُغايَرَةِ الآخَرِ فَهَذا داخِلٌ في الوَصْفِ المَعْنَوِيِّ، وأنْ يَكُونَ ( كَثِيرٌ ) مُبْتَدَأً ( ومِنَ النّاسِ ) صِفَتَهُ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكَثِيرٌ﴾ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿حَقَّ عَلَيْهِ العَذابُ﴾ أيْ ثَبَتَ وتَقَرَّرَ خَبَرٌ، ويَكُونُ الكَلامُ عَلى حَدِّ قَوْلِكَ: عِنْدِي ألْفٌ وألْفٌ أيْ أُلُوفٌ كَثِيرَةٌ ومِثْلُهُ شائِعٌ في كَلامِهِمْ فَيُفِيدُ كَثْرَةَ مَن حَقِّ عَلَيْهِ العَذابُ مِنَ النّاسِ، وهَذانِ الوَجْهانِ بِعِيدانِ، وقالَ في البَحْرِ: ضَعِيفانِ. والظّاهِرُ أنَّ ( كَثِيرٌ ) الثّانِيَ مُبْتَدَأٌ والجُمْلَةُ بَعْدَهُ خَبَرُهُ وقَدْ أُقِيمَتْ مَقامَ لا يَسْجُدُ فَكَأنَّهُ قِيلَ ويَسْجُدُ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ (p-133)ولا يَسْجُدُ كَثِيرٌ مِنهم، ولا يَخْفى ما في تِلْكَ الإقامَةِ مِنَ التَّرْهِيبِ عَنْ تَرْكِ السُّجُودِ والطّاعَةِ، ولا يَخْفى ما في عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِتَقْيِيدِ الكَثِيرِ بِكَوْنِهِ مِنَ النّاسِ مِمّا يُقَوِّي دَعْوى أنَّ التَّقْيِيدَ فِيما تَقَدَّمَ لِلتَّنْوِيهِ، وحَمْلُ عَدَمِ التَّقْيِيدِ لِيَعُمَّ الكَثِيرَ مِنَ الجِنِّ خِلافُ الظّاهِرِ جِدًّا. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى مَن والسُّجُودُ بِأحَدِ المَعْنَيَيْنِ السّابِقَيْنِ وجُمْلَةُ ( حَقَّ ) إلَخْ صِفَتُهُ ويُقَدَّرُ وصْفٌ لِكَثِيرٍ الأوَّلِ بِقَرِينَةِ مُقابِلِهِ أيْ حَقَّ لَهُ الثَّوابُ ( ومِنَ النّاسِ ) صِفَةٌ لَهُ أيْضًا، ولا يَخْفى ما فِيهِ، وقُرِئَ «حُقَّ» بِضَمِّ الحاءِ و«حَقًّا» أيْ حَقَّ عَلَيْهِ العَذابُ حَقًّا فَهو مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ ﴿ومَن يُهِنِ اللَّهُ﴾ بِأنْ كَتَبَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ الشَّقاءَ حَسْبَما اسْتَعَدَّتْ لَهُ ذاتُهُ مِنَ الشَّرِّ، ومَن مَفْعُولٌ مُقَدَّرٌ لِيُهِنْ ﴿فَما لَهُ مِن مُكْرِمٍ﴾ يُكْرِمُهُ بِالسَّعادَةِ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ «مُكْرَمٍ» بِفَتْحِ الرّاءِ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ كَما في القامُوسِ أيْ مِمّا لَهُ إكْرامٌ، وقِيلَ اسْمُ مَفْعُولٍ بِمَعْنى المَصْدَرِ ولا حاجَةَ إلى التِزامِهِ، وقِيلَ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ باقِيًا عَلى ما هو الشّائِعُ في هَذِهِ الصِّيغَةِ مِن كَوْنِهِ اسْمَ مَفْعُولٍ، والمَعْنى ما لَهُ مَن يُكْرِمُ ويَشْفَعُ فِيهِ لِيَخْلُصَ مِنَ الإهانَةِ. ولا يَخْفى بُعْدُهُ ﴿إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ﴾ مِنَ الأشْياءِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها الإكْرامُ والإهانَةُ، وهَذا أوْلى مِن تَخْصِيصٍ ما بِقَرِينَةِ السِّياقِ بِهِما.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب