الباحث القرآني

﴿وجَعَلْنا في الأرْضِ رَواسِيَ﴾ أيْ جِبالًا ثَوابِتَ جَمْعُ راسِيَةٍ مِن رَسا الشَّيْءُ إذا ثَبَتَ ورَسَخَ، ووَصْفُ جَمْعِ المُذَكِّرِ بِجَمْعِ المُؤَنَّثِ في غَيْرِ العُقَلاءِ مِمّا لا رَيْبَ في صِحَّتِهِ ﴿أنْ تَمِيدَ بِهِمْ﴾ أيْ كَراهَةَ أنْ تَتَحَرَّكَ وتَضْطَرِبَ بِهِمْ أوْ لِئَلّا تَمِيدَ فَحَذْفُ اللّامِ ولا لِعَدَمِ الإلْباسِ، وهَذا مَذْهَبُ الكُوفِيِّينَ والأوَّلُ أوْلى، وفي الِانْتِصافِ أوْلى مِن هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ أنْ يَكُونَ مِثْلَ قَوْلِكَ أعْدَدْتُ هَذِهِ الخَشَبَةَ أنْ يَمِيلَ الحائِطُ عَلى ما قالَ سِيبَوَيْهِ مِن أنَّ مَعْناهُ أنْ أُدَعِّمَ الحائِطَ بِها إذا مالَ، وقُدِّمَ ذِكْرُ المَيْدِ عِنايَةً بِأمْرِهِ ولِأنَّهُ السَّبَبُ في الإدْعامِ والإدْعامُ سَبَبُ إعْدادِ الخَشَبَةِ فَعُومِلَ سَبَبُ السَّبَبِ مُعامَلَةَ السَّبَبِ فَكَذا فِيما نَحْنُ فِيهِ يَكُونُ الأصْلُ وجَعَلْنا في الأرْضِ رَواسِيَ أنْ نُثَبِّتَها إذا مادَتْ بِهِمْ فَجُعِلَ المَيْدُ هو السَّبَبُ كَما جُعِلَ المَيْلُ في المِثالِ سَبَبًا وصارَ الكَلامُ وجَعَلْنا في الأرْضِ رَواسِيَ أنْ تَمِيدَ بِهِمْ فَنُثَبِّتُها ثُمَّ حُذِفَ فَنُثَبِّتُها لِأمْنِ الإلْباسِ إيجازًا، وهَذا أقْرَبُ إلى الواقِعِ مِمّا ذُكِرَ أوَّلًا فَإنَّ مُقْتَضاهُ أنْ لا تَمِيدَ الأرْضُ بِأهْلِها لِأنَّ اللَّهَ تَعالى كَرِهَ ذَلِكَ ومُحالٌ أنْ يَقَعَ ما يَكْرَهُهُ سُبْحانَهُ والمُشاهَدَةُ بِخِلافِهِ فَكَمْ مِن زَلْزَلَةٍ أمادَتِ الأرْضَ حَتّى كادَتْ تَنْقَلِبُ وعَلى ما ذَكَرْنا يَكُونُ المُرادُ أنَّ اللَّهَ تَعالى يُثَبِّتُ الأرْضَ بِالجِبالِ إذا مادَتْ، وهَذا لا يَأْبى وُقُوعَ المَيْدِ لَكِنَّهُ مَيْدٌ يَسْتَعْقِبُهُ التَّثْبِيتُ، وكَذَلِكَ الواقِعُ مِنَ الزِّلْزالِ إنَّما هو كاللَّمْحَةِ ثُمَّ يُثَبِّتُها اللَّهُ تَعالى انْتَهى. وفِي الكَشْفِ أنَّ قَوْلَهم كَراهَةَ أنْ تَمِيدَ بَيانٌ لِلْمَعْنى لا أنَّ هُناكَ إضْمارٌ ألْبَتَّةَ ولِهَذا كانَ مَذْهَبُ الكُوفِيِّينَ خَلِيقًا بِالرَّدِّ، وما في الِانْتِصافِ مِن أنَّ الأوْلى أنْ يَكُونَ مِن بابِ أعْدَدْتُ الخَشَبَةَ أنْ يَمِيلَ الحائِطُ عَلى ما قُرِّرَ راجِعٌ إلى ما ذَكَرْناهُ ولا مُخالِفَ لَهُ، أمّا ما ذَكَرَهُ مِنَ الرَّدِّ بِمُخالَفَةِ الواقِعِ المُشاهَدَ فَلَيْسَ بِالوَجْهِ لِأنَّ مَيْدُودَةَ الأرْضِ غَيْرُ كائِنَةٍ ألْبَتَّةَ ولَيْسَتْ هَذِهِ الزَّلازِلُ مِنها في شَيْءٍ انْتَهى، وهو كَلامٌ رَصِينٌ كَما لا يَخْفى، وقَدْ طَعَنَ بَعْضُ الكَفَرَةِ المُعاصِرِينَ فِيما دَلَّتْ عَلَيْهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ بِأنَّ الأرْضَ لِطَلَبِها المَرْكَزَ طَبْعًا ساكِنَةٌ لا يُتَصَوَّرُ فِيها المَيْدُ ولَوْ لَمْ يَكُنْ فِيها الجِبالُ. وأُجِيبَ أوَّلًا بَعْدَ الإغْماضِ عَمّا في دَعْوى طَلَبِها المَرْكَزَ طَبْعًا وسُكُونِها عِنْدَهُ مِنَ القِيلِ والقالِ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعالى قَدْ خَلَقَ الأرْضَ يَوْمَ خَلَقَها عُرْيَةً عَنِ الجِبالِ مُخْتَلِفَةَ الأجْزاءِ ثِقَلًا وخِفَّةً اخْتِلافًا تامًّا أوْ عَرَضَ لَها الِاخْتِلافُ المَذْكُورُ ومَعَ هَذا لَمْ يَجْعَلْ سُبْحانَهُ لِمَجْمُوعِها مِنَ الثِّقَلِ ما لا يَظْهَرُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ ثِقَلُ ما عَلِمَ جَلَّ وعَلا أنَّهُ يَتَحَرَّكُ عَلَيْها مِنَ الأجْسامِ الثَّقِيلَةِ فَيَكُونُ لَها مَرْكَزانِ مُتَغايِرانِ مَرْكَزُ حَجْمٍ ومَرْكَزُ ثِقَلٍ وهي إنَّما تَطْلُبُ بِطَبْعِها عِنْدَهم أنْ يَنْطَبِقَ مَرْكَزُ ثِقَلِها عَلى مَرْكَزِ العالَمِ وذَلِكَ وإنِ اقْتَضى سُكُونَها إلّا أنَّهُ يُلْزِمُ أنْ تَتَحَرَّكَ بِتَحَرُّكَ هاتَيْكِ الأجْسامِ فَخَلَقَ جَلَّ جَلالُهُ الجِبالَ فِيها لِيَحْصُلَ لَها مِنَ الثِّقَلِ ما لا يَظْهَرُ مَعَهُ ثِقْلُ المُتَحَرِّكِ فَلا تَتَحَرَّكُ بِتَحَرُّكِهِ أصْلًا، وكَوْنُ نِسْبَةِ ارْتِفاعِ أعْظَمِ الجِبالِ إلى قُطْرِها كَنِسْبَةِ سَبْعٍ عَرْضُ شُعَيْرَةٍ إلى ذِراعٍ إنَّما يَنْفَعُ في أمْرِ الكِرْيَةِ الحِسِّيَّةِ وأمّا أنَّهُ يَلْزَمُ مِنهُ أنْ لا يَكُونَ لِمَجْمُوعِ الجِبالِ ثِقَلٌ مُعْتَدٍّ بِهِ بِالنِّسْبَةِ إلى ثِقَلِ الأرْضِ فَلا. ثُمَّ لَيْسَ خَلْقُ الجِبالِ لِهَذِهِ الحِكْمَةِ فَقَطْ بَلْ لِحِكَمٍ لا تُحْصى ومَنافِعَ لا تُسْتَقْصى فَلا يُقالُ إنَّهُ يُغْنِي عَنِ الجِبالِ (p-38)خَلْقُها بِحَيْثُ لا يَظْهَرُ لِلْأجْسامِ الثَّقِيلَةِ المُتَحَرِّكَةِ عَلَيْها أثَرٌ بِالنِّسْبَةِ إلى ثِقَلِها، وثانِيًا أنَّها بِحَسَبِ طَبْعِها تَقْتَضِي أنْ تَكُونَ مَغْمُورَةً بِالماءِ بِحَيْثُ تَكُونُ الخُطُوطُ الخارِجَةُ مِن مَرْكَزِها المُنْطَبِقِ عَلى مَرْكَزِ العالَمِ إلى مُحَدَّبِ الماءِ مُتَساوِيَةً مِن جَمِيعِ الجَوانِبِ فَبُرُوزُ هَذا المِقْدارِ المَعْمُورِ مِنها قَسْرِيٌّ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ لِلْجِبالِ مَدْخَلٌ في القَسْرِ بِاحْتِباسِ الأبْخِرَةِ فِيها وصَيْرُورَةِ الأرْضِ بِسَبَبِ ذَلِكَ كَزِقٍّ في الماءِ نَفَخَ نَفْخًا ظَهَرَ بِهِ شَيْءٌ مِنهُ عَلى وجْهِ الماءِ ولَوْلا ذَلِكَ لَمْ يَكُنِ القَسْرُ قَوِيًّا بِحَيْثُ لا يُعارِضُهُ ما يَكُونُ فَوْقَ الأرْضِ مِنَ الحَيَواناتِ وغَيْرِها وذَلِكَ يُوجِبُ المَيْدَ الَّذِي قَدْ يُفْضِي بِها إلى الِانْغِمارِ فَتَأمَّلْ، وقَدْ مَرَّ لَكَ ما يَتَعَلَّقُ بِهَذا المَطْلَبِ فَتَذَكَّرْ ﴿وجَعَلْنا فِيها﴾ أيْ في الأرْضِ، وتَكْرِيرُ الفِعْلِ لِاخْتِلافِ المَجْعُولِينَ مَعَ ما فِيهِ مِنَ الإشارَةِ إلى كَمالِ الِامْتِنانِ أوْ في الرَّواسِي عَلى ما أخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ والمُنْذِرُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ويُؤَيِّدُهُ أنَّها المُحْتاجَةُ لِأنْ يَجْعَلَ سُبْحانَهُ فِيها ﴿فِجاجًا﴾ جَمْعُ فَجٍّ قالَ الرّاغِبُ: هو شَقَّةٌ يَكْتَنِفُها جَبَلانِ، وقالَ الزَّجّاجُ: كُلُّ مُخْتَرِقٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ فَهو فَجٌّ، وقالَ بَعْضُهم: هو مُطْلَقُ الواسِعِ سَواءٌ كانَ طَرِيقًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ أمْ لا ولِذا يُقالُ جُرْحٌ فَجٌّ، والظّاهِرُ أنَّ (فِجاجًا ) نُصِبَ عَلى المَفْعُولِيَّةِ لِجَعَلَ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿سُبُلا﴾ بَدَلٌ مِنهُ فَيَدُلُّ ضِمْنًا عَلى أنَّهُ تَعالى خَلَقَها ووَسَّعَها لِلسّابِلَةِ مَعَ ما فِيهِ مِنَ التَّأْكِيدِ لِأنَّ البَدَلَ كالتَّكْرارِ وعَلى نِيَّةِ تَكْرارِ العامِلِ والمُبْدَلُ مِنهُ لَيْسَ في حُكْمِ السُّقُوطِ مُطْلَقًا وقالَ في الكَشّافِ: هو حالٌ مِن ( سُبُلًا ) ولَوْ تَأخَّرَ لَكانَ صِفَةً كَما في قَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ نُوحٍ ﴿لِتَسْلُكُوا مِنها سُبُلا فِجاجًا﴾ وإنَّما لَمْ يُؤْتَ بِهِ كَذَلِكَ بَلْ قُدِّمَ فَصارَ حالًا لِيَدُلَّ عَلى أنَّهُ في حالِ جَعْلِها سُبُلًا كانَتْ واسِعَةً ولَوْ أتى بِهِ صِفَةً لَمْ يَدُلَّ عَلى ذَلِكَ. وأوْجَبَ بَعْضُهم كَوْنَهُ مَفْعُولًا وكَوْنَ ( سُبُلًا ) بَدَلًا مِنهُ وكَذا أوْجَبَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِتَسْلُكُوا﴾ إلَخْ كَوْنَ ( سُبُلًا ) مَفْعُولًا وكَوْنَ ( فِجاجًا ) بَدَلًا قائِلًا: إنَّ الفَجَّ اسْمٌ لا صِفَةٌ لِدَلالَتِهِ عَلى ذاتٍ مُعَيَّنَةٍ وهو الطَّرِيقُ الواسِعُ والِاسْمُ يُوصَفُ ولا يُوصَفُ بِهِ ولِذا وقَعَ مَوْصُوفًا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ [الحَجَّ: 27] والحَمْلُ عَلى تَجْرِيدِهِ عَنْ دَلالَتِهِ عَلى ذاتٍ مُعَيَّنَةٍ لا قَرِينَةَ عَلَيْهِ. وتُعُقِّبَ بِأنّا لا نُسَلِّمُ أنَّ مَعْناهُ ذَلِكَ بَلْ مَعْناهُ مُطْلَقُ الواسِعِ وتَخْصِيصُهُ بِالطَّرِيقِ عارِضٌ وهو لا يَمْنَعُ الوَصْفِيَّةَ ولَوْ سُلِّمَ فَمُرادُ مَن قالَ إنَّهُ وصْفٌ أنَّهُ في مَعْنى الوَصْفِ بِالنِّسْبَةِ إلى السَّبِيلِ لِأنَّ السَّبِيلَ الطَّرِيقُ وهو الطَّرِيقُ الواسِعُ فَإذا قُدِّمَ عَلَيْهِ يَكُونُ ذِكْرُهُ بَعْدُ لَغْوًا لَوْ لَمْ يَكُنْ حالًا، وظاهِرُ كَلامِ الفاضِلِ اليَمَنِيِّ في المَطْلَعِ أنَّ ( سُبُلًا ) عَطْفُ بَيانٍ وهو سائِغٌ في النَّكِراتِ حَيْثُ قالَ: هو تَفْسِيرٌ لِلْفِجاجِ وبَيانُ أنَّ تِلْكَ الفِجاجَ نافِذَةٌ فَقَدْ يَكُونُ الفَجُّ غَيْرَ نافِذٍ وقُدِّمَ هُنا وأُخِّرَ في آيَةِ سُورَةِ نُوحٍ لِأنَّ تِلْكَ الآيَةَ وارِدَةٌ لِلِامْتِنانِ عَلى سَبِيلِ الإجْمالِ وهَذِهِ لِلِاعْتِبارِ والحَثِّ عَلى إمْعانِ النَّظَرِ وذَلِكَ يَقْتَضِي التَّفْصِيلَ، ومِن ثَمَّ ذُكِرَتْ عَقِبَ قَوْلِهِ تَعالى كانَتا ( رَتْقًا ) إلَخِ انْتَهى، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ الأظْهَرَ نَصْبُ ( فِجاجًا ) هُنا عَلى المَفْعُولِيَّةِ لِجَعَلَ ووَجْهُ التَّغايُرِ بَيْنَ الآيَتَيْنِ لا يَخْفى فَتَأمَّلْ ﴿لَعَلَّهم يَهْتَدُونَ﴾ إلى الِاسْتِدْلالِ عَلى التَّوْحِيدِ وكَمالِ القُدْرَةِ والحِكْمَةِ، وقِيلَ: إلى مَصالِحِهِمْ ومُهِمّاتِهِمْ. ورُدَّ عَلى ما تَقَدَّمَ بِأنَّهُ يُغْنِي عَنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى فِيما بَعْدُ ﴿وهم عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ﴾ وبِأنَّ خَلْقَ السُّبُلِ لا تَظْهَرُ دَلالَتُهُ عَلى ما ذُكِرَ انْتَهى، وفِيهِ ما فِيهِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ المُرادُ ما هو أعَمُّ مِنَ الِاهْتِداءِ إلى الِاسْتِدْلالِ والِاهْتِداءِ إلى المَصالِحِ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب