الباحث القرآني

وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلا اللَّهُ لَفَسَدَتا﴾ إبْطالٌ لِتَعَدُّدِ الإلَهِ وضَمِيرُ ( فِيهِما ) لِلسَّماءِ والأرْضِ والمُرادُ بِهِما العالَمُ كُلُّهُ عُلْوِيَّةً وسُفْلِيَّةً والمُرادُ بِالكَوْنِ فِيهِما التَّمَكُّنُ البالِغُ مِنَ التَّصَرُّفِ والتَّدْبِيرِ لا التَّمَكُّنُ والِاسْتِقْرارُ فِيهِما كَما تَوَهَّمَهُ الفاضِلُ الكَلَنْبَوِيُّ، والظَّرْفُ عَلى هَذا مُتَعَلِّقٌ بِمَكانٍ، وقالَ الطَّيِّبِيُّ: إنَّهُ ظَرْفٌ لِآلِهَةٍ عَلى حَدِّ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وهُوَ الَّذِي في السَّماءِ إلَهٌ وفي الأرْضِ إلَهٌ﴾ [الزُّخْرُفَ: 84] وقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وهُوَ اللَّهُ في السَّماواتِ وفي الأرْضِ﴾ [الأنْعامَ: 3] وجُعِلَ تَعَلُّقُ الظَّرْفِ بِما ذُكِرَ ها هُنا بِاعْتِبارِ تَضَمُّنِهِ مَعْنى الخالِقِيَّةِ والمُؤَثِّرِيَّةِ. وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ الظّاهِرَ ما ذُكِرَ أوَّلًا، و(إلّا ) المُغايِرَةُ ما بَعْدَها لِما قَبْلَها فَهي بِمَنزِلَةِ غَيْرٍ، وفي المَعْنى أنَّها تَكُونُ صِفَةً بِمَنزِلَةِ غَيْرٍ فَيُوصَفُ بِها وبِتالِيها جَمْعٌ مُنَكَّرٌ أوْ شَبَهُهُ ومُثِّلَ لِلْأوَّلِ بِهَذِهِ الآيَةِ، وقَدْ صَرَّحَ غَيْرُ واحِدٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ أنَّ المَعْنى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ غَيْرُ اللَّهِ وجَعَلَ ذَلِكَ الخَفاجِيُّ إشارَةً إلى أنَّ ( إلّا ) هُنا اسْمٌ بِمَعْنى صِفَةٍ لِما قَبْلَها وظَهَرَ إعْرابُها فِيما بَعْدَها لِكَوْنِها عَلى صُورَةِ الحَرْفِ كَما في ألِ المَوْصُولَةِ في اسْمِ الفاعِلِ مَثَلًا. وأنْكَرَ الفاضِلُ الشَّمْنِيُّ كَوْنَها بِمَنزِلَةِ غَيْرٍ في الِاسْمِيَّةِ لِما في حَواشِيِّ العَلّامَةِ الثّانِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا فارِضٌ﴾ [البَقَرَةَ: 68] مِن أنَّهُ لا قائِلَ بِاسْمِيَّةِ إلّا الَّتِي بِمَنزِلَةِ غَيْرٍ ثُمَّ ذَكَرَ أنَّ المُرادَ بِكَوْنِها بِمَنزِلَةِ غَيْرٍ أنَّها بِمَنزِلَتِها في مُغايَرَةِ ما بَعْدَها لِما قَبْلَها ذاتًا أوْ صِفَةً، فَفي شَرْحِ الكافِيَةِ لِلرَّضِيِّ أصْلُ غَيْرٍ أنْ تَكُونَ صِفَةً مُفِيدَةً لِمُغايَرَةِ مَجْرُورِها لِمَوْصُوفِها إمّا بِالذّاتِ نَحْوُ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ غَيْرِ زَيْدٍ وإمّا بِالصِّفَةِ نَحْوُ دَخَلْتُ بِوَجْهٍ غَيْرِ الَّذِي خَرَجْتُ بِهِ، وأصْلُ إلّا الَّتِي هي أُمُّ أدَواتِ الِاسْتِثْناءِ مُغايَرَةُ ما بَعْدَها لِما قَبْلَها نَفْيًا أوْ إثْباتًا فَلَمّا اجْتَمَعَ ما بَعْدَ إلّا وما بَعْدَ غَيْرٍ في مَعْنى المُغايَرَةِ حُمِلَتْ إلّا عَلى غَيْرٍ في الصِّفَةِ فَصارَ ما بَعْدَ إلّا مُغايِرًا لِما قَبْلَها ذاتًا أوْ صِفَةً مِن غَيْرِ اعْتِبارِ مُغايَرَتِهِ لَهُ نَفْيًا أوْ إثْباتًا وحُمِلَتْ غَيْرُ عَلى إلّا في الِاسْتِثْناءِ فَصارَ ما بَعْدَها مُغايِرًا لِما قَبْلَها نَفْيًا أوْ إثْباتًا مِن غَيْرِ مُغايَرَتِهِ لَهُ ذاتًا أوْ صِفَةً إلّا أنَّ حَمْلَ غَيْرٍ عَلى إلّا أكْثَرُ مِن حَمْلِ إلّا عَلى غَيْرٍ لِأنَّ غَيْرَ اسْمٌ والتَّصَرُّفُ في الأسْماءِ أكْثَرُ مِنهُ في الحُرُوفِ فَلِذَلِكَ تَقَعُ غَيْرُ في جَمِيعِ مَواقِعِ إلّا انْتَهى. وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ المُتَبادِرَ كَوْنُ إلّا حِينَ إفادَتِها مَعْنى غَيْرٍ اسْمًا وفي بَقائِها عَلى الحَرْفِيَّةِ مَعَ كَوْنِها وحْدَها أوْ مَعَ ما بَعْدَها بِجَعْلِهِما كالشَّيْءِ الواحِدِ صِفَةً لِما قَبْلَها نَظَرٌ ظاهِرٌ وهو في كَوْنِها وحْدَها كَذَلِكَ أظْهَرُ، ولَعَلَّ الخَفاجِيَّ لَمْ يَقُلْ ما قالَ إلّا وهو مُطَّلِعٌ عَلى قائِلٍ بِاسْمِيَّتِها، ويُحْتَمَلُ أنَّهُ اضْطَرَّهُ إلى القَوْلِ بِذَلِكَ ما يَرُدُّ عَلى القَوْلِ بِبَقائِها عَلى الحَرْفِيَّةِ، ولَعَمْرِي إنَّهُ أصابَ المَحْزُوَّ أنْ قالَ العَلّامَةُ ما قالَ، وكَلامُ الرَّضِيِّ لَيْسَ نَصًّا في أحَدِ الأمْرَيْنِ كَما لا يَخْفى عَلى المُنْصِفِ. ولا يَصِحُّ أنْ تَكُونَ لِلِاسْتِثْناءِ مِن جِهَةِ العَرَبِيَّةِ عِنْدَ الجُمْهُورِ لِأنَّ ( آلِهَةٌ ) جَمْعٌ مُنَكَّرٌ في الإثْباتِ ومَذْهَبُ الأكْثَرِينَ كَما صُرِّحَ بِهِ في التَّلْوِيحِ أنَّهُ لا اسْتِغْراقَ لَهُ فَلا يَدْخُلُ فِيهِ ما بَعْدَها حَتّى يَحْتاجَ لِإخْراجِهِ بِها وهم يُوجِبُونَ دُخُولَ المُسْتَثْنى في المُسْتَثْنى مِنهُ في الِاسْتِثْناءِ المُتَّصِلِ ولا يَكْتَفُونَ بِجَوازِ الدُّخُولِ كَما ذَهَبَ إلَيْهِ المُبَرِّدُ وبَعْضُ الأُصُولِيِّينَ فَلا يَجُوزُ عِنْدَهم قامَ رِجالٌ إلّا زَيْدًا عَلى كَوْنِ الِاسْتِثْناءِ مُتَّصِلًا وكَذا عَلى كَوْنِهِ مُنْقَطِعًا بِناءً عَلى أنَّهُ لا بُدَّ فِيهِ مِنَ الجَزْمِ بِعَدَمِ الدُّخُولِ وهو مَفْقُودٌ جَزْمًا، ومَن أجازَ الِاسْتِثْناءَ في مِثْلِ هَذا التَّرْكِيبِ كالمُبَرِّدِ جَعَلَ الرَّفْعَ في الِاسْمِ الجَلِيلِ عَلى البَدَلِيَّةِ، واعْتُرِضَ بِعَدَمِ تَقَدُّمِ النَّفْيِ، وأُجِيبَ بِأنَّ لَوْ لِلشَّرْطِ وهو كالنَّفْيِ، وعَنْهُ أنَّهُ أجابَ بِأنَّها تَدُلُّ عَلى الِامْتِناعِ وامْتِناعُ الشَّيْءِ انْتِفاؤُهُ وزُعِمَ أنَّ التَّفْرِيغَ بَعْدَها جائِزٌ وأنَّ نَحْوَ لَوْ كانَ (p-24)مَعَنا إلّا زَيْدٌ لَهَلَكْنا لَكانَ أجْوَدَ كَلامٍ وخالَفَ في ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ فَإنَّهُ قالَ لَوْ قُلْتَ لَوْ كانَ مَعَنا المِثالُ لَكُنْتَ قَدْ أحَلْتَ. ورُدَّ بِأنَّهم لا يَقُولُونَ لَوْ جاءَنِي دِيارٌ أكْرَمْتُهُ ولا لَوْ جاءَنِي مِن أحَدٍ أكْرَمْتُهُ ولَوْ كانَتْ بِمَنزِلَةِ النّافِي لَجازَ ذَلِكَ كَما يَجُوزُ ما فِيها دِيارٌ وما جاءَنِي مِن أحَدٍ، وتَعَقَّبَهُ الدَّمامِينِيُّ بِأنَّ لِلْمُبَرِّدِ أنْ يَقُولَ: قَدْ أجْمَعْنا عَلى إجْراءِ أبى مُجْرى النَّفْيِ الصَّرِيحِ وأجَزْنا التَّفْرِيغَ فِيهِ قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿فَأبى أكْثَرُ النّاسِ إلا كُفُورًا﴾ [الإسْراءَ: 89]، وقالَ سُبْحانَهُ: ﴿ويَأْبى اللَّهُ إلا أنْ يُتِمَّ نُورَهُ﴾ [التَّوْبَةَ: 32] مَعَ أنَّهُ لا يَجُوزُ أبى دِيارٌ المَجِيءَ وأبى مِن أحَدٍ الذَّهابَ فَما هو جَوابُكم عَنْ هَذا فَهو جَوابُنا. وقالَ الرَّضِيُّ: أجازَ المُبَرِّدُ الرَّفْعَ في الآيَةِ عَلى البَدَلِ لِأنَّ في لَوْ مَعْنى النَّفْيِ وهَذا كَما أجازَ الزَّجّاجُ البَدَلَ في ﴿قَوْمَ يُونُسَ﴾ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ﴾ [يُونُسَ: 98] الآيَةَ إجْراءً لِلتَّخْصِيصِ مُجْرى النَّفْيِ والأوْلى عَدَمُ إجْراءِ ذَيْنِكَ في جَوازِ الإبْدالِ والتَّفْرِيغِ مَعَهُما مُجْراهُ إذا لَمْ يُثْبَتِ انْتَهى. وذَكَرَ المالِكِيُّ في شَرْحِ التَّسْهِيلِ أنَّ كَلامَ المُبَرِّدِ في المُقْتَضَبِ مِثْلُ كَلامِ سِيبَوَيْهِ وأنَّ التَّفْرِيغَ والبَدَلَ بَعْدَ لَوْ غَيْرُ جائِزٍ، وكَذا لا يَصِحُّ الِاسْتِثْناءُ مِن جِهَةِ المَعْنى فَفي الكَشْفِ أنَّ البَدَلَ والِاسْتِثْناءَ في الآيَةِ مُمْتَنِعانِ مَعْنًى لِأنَّهُ إذْ ذاكَ لا يُفِيدُ ما سِيقَ لَهُ الكَلامُ مِنَ انْتِفاءِ التَّعَدُّدِ ويُؤَدِّي إلى كَوْنِ الآلِهَةِ بِحَيْثُ لا يَدْخُلُ في عِدادِهِمُ الإلَهُ الحَقُّ مُفْضٍ إلى الفَسادِ فَنَفْيُ الفَسادِ يَدُلُّ عَلى دُخُولِهِ فِيهِمْ وهو مِنَ الفَسادِ بِمَكانٍ ثُمَّ إنَّ الصِّفَةَ عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ هِشامٍ مُؤَكِّدَةٌ صالِحَةٌ لِلْإسْقاطِ مِثْلُها في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿نَفْخَةٌ واحِدَةٌ﴾ [الحاقَّةَ: 13] فَلَوْ قِيلَ لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ لَفَسَدَتا لَصَحَّ وتَأتّى المُرادُ. وقالَ الشَّلُوبِينُ. وابْنُ الصّائِغِ: لا يَصِحُّ المَعْنى حَتّى تَكُونَ إلّا بِمَعْنى غَيْرِ الَّتِي يُرادُ بِها البَدَلُ والعِوَضُ، ورُدَّ بِأنَّهُ يَصِيرُ المَعْنى حِينَئِذٍ لَوْ كانَ فِيهِما عَدَدٌ مِنَ الآلِهَةِ بَدَلٌ وعِوَضٌ مِنهُ تَعالى شَأْنُهُ لَفَسَدَتا وذَلِكَ يَقْتَضِي بِمَفْهُومِهِ أنَّهُ لَوْ كانَ فِيهِما اثْنانِ هو عَزَّ وجَلَّ أحَدُهُما لَمْ تَفْسَدا وذَلِكَ باطِلٌ. وأُجِيبَ بِأنَّ مَعْنى الآيَةِ حِينَئِذٍ لا يَقْتَضِي هَذا المَفْهُومَ لِأنَّ مَعْناها لَوْ كانَ فِيهِما عَدَدٌ مِنَ الآلِهَةِ دُونَهُ أوْ بِهِ سُبْحانَهُ بَدَلًا مِنهُ وحْدَهُ عَزَّ وجَلَّ لَفَسَدَتا وذَلِكَ مِمّا لا غُبارَ عَلَيْهِ فاعْرِفْ، والَّذِي عَلَيْهِ الجُمْهُورُ إرادَةُ المُغايَرَةِ، والمُرادُ بِالفَسادِ البُطْلانُ والِاضْمِحْلالُ أوْ عَدَمُ التَّكَوُّنِ، والآيَةُ كَما قالَ غَيْرُ واحِدٍ مُشِيرَةٌ إلى دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ عَلى نَفْيِ تَعَدُّدِ الإلَهِ وهو قِياسٌ اسْتِثْنائِيٌّ اسْتُثْنِيَ فِيهِ نَقِيضُ التّالِي لِيَنْتُجَ نَقِيضُ المُقَدَّمِ فَكَأنَّهُ قِيلَ لَوْ تَعَدَّدَ الإلَهُ في العالَمِ لَفَسَدَ لَكِنَّهُ لَمْ يَفْسَدْ يُنْتِجُ أنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّدِ الإلَهُ. وفي هَذا اسْتِعْمالٌ لِلَوْ غَيْرُ الِاسْتِعْمالِ المَشْهُورِ. قالَ السَّيِّدُ السَّنَدُ: إنَّ لَوْ قَدْ تُسْتَعْمَلُ في مَقامِ الِاسْتِدْلالِ فَيُفْهَمُ مِنها ارْتِباطُ وُجُودِ الحالِيِّ بِوُجُودِ المُقَدَّمِ مَعَ انْتِفاءِ التّالِي فَيُعْلَمُ مِنهُ انْتِفاءُ المُقَدَّمِ وهو عَلى قِلَّتِهِ مَوْجُودٌ في اللُّغَةِ يُقالُ: لَوْ كانَ زَيْدٌ في البَلَدِ لَجاءَنا لِيُعْلَمَ مِنهُ أنَّهُ لَيْسَ فِيهِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلا اللَّهُ لَفَسَدَتا﴾: وقالَ العَلّامَةُ الثّانِي: إنَّ أرْبابَ المَعْقُولِ قَدْ جَعَلُوا لَوْ أداةً لِلتَّلازُمِ دالَّةً عَلى لُزُومِ الجَزاءِ لِلشَّرْطِ مِن غَيْرِ قَصْدٍ إلى القَطْعِ بِانْتِفائِهِما ولِهَذا صَحَّ عِنْدَهُمُ اسْتِثْناءُ عَيْنِ المُقَدَّمِ فَهم يَسْتَعْمِلُونَها لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ العِلْمَ بِانْتِفاءِ الثّانِي عِلَّةٌ لِلْعِلْمِ بِانْتِفاءِ الأوَّلِ ضَرُورَةُ انْتِفاءِ المَلْزُومِ بِانْتِفاءِ اللّازِمِ مِن غَيْرِ التِفاتٍ إلى أنَّ عِلَّةَ انْتِفاءِ الجَزاءِ في الخارِجِ ما هي لِأنَّهم يَسْتَعْمِلُونَها في القِياساتِ لِاكْتِسابِ العُلُومِ والتَّصْدِيقاتِ ولا شَكَّ أنَّ العِلْمَ بِانْتِفاءِ المَلْزُومِ لا يُوجِبُ العِلْمَ بِانْتِفاءِ اللّازِمِ بَلِ الأمْرُ بِالعَكْسِ وإذا تَصَفَّحْنا وجَدْنا اسْتِعْمالَها عَلى قاعِدَةِ اللُّغَةِ أكْثَرَ لَكِنْ قَدْ تُسْتَعْمَلُ عَلى قاعِدَتِهِمْ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما﴾ إلَخْ لِظُهُورِ أنَّ الغَرَضَ مِنهُ التَّصْدِيقُ بِانْتِفاءِ تَعَدُّدِ الآلِهَةِ لا بَيانُ سَبَبِ انْتِفاءِ الفَسادِ اهَـ. وفِيهِ بَحْثٌ يَدْفَعُ بِالعِنايَةِ، ولا يَخْفى عَلَيْكَ أنَّ لِبَعْضِ النَّحْوِيِّينَ نَحْوَ هَذا القَوْلِ فَقَدْ قالَ الشَّلُوبِينُ، وابْنُ عُصْفُورٍ: إنَّ لَوْ (p-25)لِمُجَرَّدِ التَّعْلِيقِ بَيْنَ الحُصُولَيْنِ في الماضِي مِن غَيْرِ دَلالَةٍ عَلى امْتِناعِ الأوَّلِ والثّانِي كَما أنَّ إنَّ لِمُجَرَّدِ التَّعْلِيقِ في الِاسْتِقْبالِ والظّاهِرُ أنَّ خُصُوصِيَّةَ المُضِيِّ ها هُنا غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ. وزَعَمَ بَعْضُهم: أنَّ لَوْ هُنا لِانْتِفاءِ الثّانِي لِانْتِفاءِ الأوَّلِ كَما هو المَشْهُورُ فِيها ويَتِمُّ الِاسْتِدْلالُ ولا يَخْفى ما فِيهِ عَلى مَن دَقَّقَ النَّظَرَ، ثُمَّ إنَّ العَلّامَةَ قالَ في شَرْحِ العَقائِدِ: إنَّ الحُجَّةَ إقْناعِيَّةٌ والمُلازَمَةَ عادِيَّةٌ عَلى ما هو اللّائِقُ بِالخِطابِيّاتِ فَإنَّ العادَةَ جارِيَةٌ بِوُقُوعِ التَّمانُعِ والتَّغالُبِ عِنْدَ تَعَدُّدِ الحاكِمِ وإلّا فَإنْ أُرِيدَ الفَسادُ بِالفِعْلِ أيْ خُرُوجُهُما عَنْ هَذا النِّظامِ المُشاهَدِ فَمُجَرَّدُ التَّعَدُّدِ لا يَسْتَلْزِمُهُ لِجَوازِ الِاتِّفاقِ عَلى هَذا النِّظامِ وإنْ أُرِيدَ إمْكانُ الفَسادِ فَلا دَلِيلَ عَلى انْتِفائِهِ بَلِ النُّصُوصُ شاهِدَةٌ بِطَيِّ السَّماواتِ ورَفْعِ هَذا النِّظامِ فَيَكُونُ مُمْكِنًا لا مَحالَةَ. وكَذا لَوْ أُرِيدَ بِفَسادِهِما عَدَمُ تَكَوُّنِهِما بِمَعْنى أنَّهُ لَوْ فُرِضَ صانِعانِ لَأمْكَنَ بَيْنَهُما تَمانَعٌ في الأفْعالِ فَلَمْ يَكُنْ أحَدُهُما صانِعًا فَلَمْ يُوجَدْ مَصْنُوعٌ لا تَكُونُ المُلازَمَةُ قَطْعِيَّةً لِأنَّ إمْكانَ التَّمانُعِ لا يَسْتَلْزِمُ إلّا عَدَمَ تَعَدُّدِ الصّانِعِ وهو لا يَسْتَلْزِمُ انْتِفاءَ المَصْنُوعِ عَلى أنَّهُ يُرَدُّ مَنعُ المُلازَمَةِ إنْ أُرِيدَ عَدَمُ التَّكَوُّنِ بِالفِعْلِ ومَنعُ انْتِفاءِ اللّازِمِ إنْ أُرِيدَ بِالإمْكانِ انْتَهى. فَنُفِيَ أنْ تَكُونَ الآيَةُ بُرْهانًا سَواءٌ حُمِلَ الفَسادُ عَلى الخُرُوجِ عَنِ النِّظامِ أوْ عَلى عَدَمِ التَّكَوُّنِ، وفِيهِ قَدْحٌ لِما أشارَ إلَيْهِ في شَرْحِ المَقاصِدِ مِن كَوْنِ كَوْنِها بُرْهانًا عَلى الثّانِي فَإنَّهُ بَعْدَ ما قَرَّرَ بُرْهانَ التَّمانُعِ قالَ: وهَذا البُرْهانُ يُسَمّى بُرْهانَ التَّمانُعِ وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ﴾ فَإنْ أُرِيدَ عَدَمُ التَّكَوُّنِ فَتَقْرِيرُهُ أنْ يُقالَ: لَوْ تَعَدَّدَ الآلِهَةُ لَمْ تَتَكَوَّنِ السَّماءُ والأرْضُ لَأنَّ تَكَوُّنَهُما إمّا بِمَجْمُوعِ القُدْرَتَيْنِ أوْ بِكُلٍّ مِنهُما أوْ بِأحَدِهِما والكُلُّ باطِلٌ أمّا الأوَّلُ فَلِأنَّ مِن شَأْنِ الإلَهِ كَمالُ القُدْرَةِ وأمّا الأخِيرانِ فَلِما مَرَّ مِنَ التَّوارُدِ والرُّجْحانِ مِن غَيْرِ مُرَجَّحٍ، وإنْ أُرِيدَ بِالفَسادِ الخُرُوجُ عَمّا هُما عَلَيْهِ مِنَ النِّظامِ فَتَقْرِيرُهُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ لَوْ تَعَدَّدَتِ الآلِهَةُ لَكانَ بَيْنَهُما التَّنازُعُ والتَّغالُبُ وتَمْيِيزُ صَنِيعِ كُلٍّ مِنهُما عَنِ الآخَرِ بِحُكْمِ اللُّزُومِ العادِيِّ فَلَمْ يَحْصُلْ بَيْنَ أجْزاءِ العالَمِ هَذا الِالتِئامِ الَّذِي بِاعْتِبارِهِ صارَ الكُلُّ بِمَنزِلَةِ شَخْصٍ واحِدٍ ويَخْتَلُّ أمْرُ النِّظامِ الَّذِي فِيهِ بَقاءُ الأنْواعِ وتَرَتُّبُ الآثارِ انْتَهى، وذَلِكَ القَدْحُ بِأنْ يُقالَ: تَعَدُّدُ الإلَهِ لا يَسْتَلْزِمُ التَّمانُعَ بِالفِعْلِ بِطَرِيقِ إرادَةِ كُلٍّ مِنهُما وُجُودَ العالَمِ بِالِاسْتِقْلالِ مِن غَيْرِ مَدْخَلِيَّةِ قُدْرَةِ الآخَرِ بَلْ إمْكانُ ذَلِكَ التَّمانُعِ والإمْكانُ لا يَسْتَلْزِمُ الوُقُوعَ فَيَجُوزُ أنْ لا يَقَعَ بَلْ يَتَّفِقانِ عَلى الإيجادِ بِالِاشْتِراكِ أوْ يُفَوِّضُ أحَدُهُما إلى الآخَرِ، وبَحَثَ فِيهِ المَوْلى الخَيالِيُّ بِغَيْرِ ذَلِكَ أيْضًا ثُمَّ قالَ: التَّحْقِيقُ في هَذا المَقامِ أنَّهُ إنْ حُمِلَتِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ عَلى نَفْيِ تَعَدُّدِ الصّانِعَ مُطْلَقًا فَهي حُجَّةٌ إقْناعِيَّةٌ لَكِنَّ الظّاهِرَ مِنَ الآيَةِ نَفْيُ تَعَدُّدِ الصّانِعِ المُؤَثِّرِ في السَّماءِ والأرْضِ إذْ لَيْسَ المُرادُ مِنَ الكَوْنِ فِيهِما التَّمَكُّنَ فِيهِما بَلِ التَّصَرُّفُ والتَّأثُّرُ فالحَقُّ أنَّ المُلازَمَةَ قَطْعِيَّةٌ إذِ التَّوارُدُ باطِلٌ فَتَأْثِيرُهُما إمّا عَلى سَبِيلِ الِاجْتِماعِ أوِ التَّوْزِيعِ فَيَلْزَمُ انْعِدامُ الكُلِّ أوِ البَعْضِ عِنْدَ عَدَمِ كَوْنِ أحَدِهِما صانِعًا لِأنَّهُ جُزْءُ عِلَّةٍ أوْ عِلَّةٌ تامَّةٌ فَيَفْسَدُ العالَمُ أيْ لا يُوجَدُ هَذا المَحْسُوسُ كُلًّا أوْ بَعْضًا، ويُمْكِنُ أنْ تُوَجَّهَ المُلازَمَةُ بِحَيْثُ تَكُونُ قَطْعِيَّةً عَلى الإطْلاقِ وهو أنْ يُقالَ: لَوْ تَعَدَّدَ الإلَهُ لَمْ يَكُنِ العالَمُ مُمْكِنًا فَضْلًا عَنِ الوُجُودِ وإلّا لَأمْكَنَ التَّمانُعُ بَيْنَهُما المُسْتَلْزِمُ لِلْمُحالِ لِأنَّ إمْكانَ التَّمانُعِ لازِمٌ لِمَجْمُوعِ الأمْرَيْنِ مِنَ التَّعَدُّدِ وإمْكانُ شَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ فَإذا فُرِضَ التَّعَدُّدِ يَلْزَمُ أنْ لا يُمْكِنُ شَيْءٌ مِنَ الأشْياءِ حَتّى لا يُمْكِنَ التَّمانُعُ المُسْتَلْزِمُ لِلْمُحالِ انْتَهى. وأوْرَدَ الفاضِلُ الكَلَنْبَوِيُّ عَلى الأوَّلِ خَمْسَةَ أبْحاثٍ فِيها الغَثُّ والسَّمِينُ ثُمَّ قالَ: فالحَقُّ أنَّ تَوْجِيهَهُ الثّانِيَ لِقَطْعِيَّةِ المُلازَمَةِ صَحِيحٌ دُونَ الأوَّلِ، ولِلْعَلّامَةِ الدَّوانِيِّ كَلامٌ في هَذا المَقامِ قَدْ ذَكَرَ الفاضِلُ المَذْكُورُ ما لَهُ وما عَلَيْهِ مِنَ (p-26)النَّقْضِ والإبْرامِ، ثُمَّ ذَكَرَ أنَّ لِلتَّمانُعِ عِنْدَهم مَعْنَيَيْنِ، أحَدُهُما إرادَةُ أحَدِ القادِرِينَ وُجُودَ المَقْدُورِ والآخَرِ عَدَمَهُ وهو المُرادُ بِالتَّمانُعِ في البُرْهانِ المَشْهُورِ بِبُرْهانِ التَّمانُعِ، وثانِيهِما إرادَةُ كُلٍّ مِنهُما إيجادَهُ بِالِاسْتِقْلالِ مِن غَيْرِ مَدْخَلِيَّةِ قُدْرَةِ الآخَرِ فِيهِ وهو التَّمانُعُ الَّذِي اعْتَبَرُوهُ في امْتِناعِ مَقْدُورٍ بَيْنَ قادِرِينَ، وقَوْلُهم: لَوْ تَعَدَّدَ الإلَهُ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنَ المُمْكِناتِ لِاسْتِلْزامِهِ أحَدَ المُحالَيْنِ إمّا وُقُوعُ مَقْدُورٍ بَيْنَ قادِرِينَ وإمّا التَّرْجِيحُ بِلا مُرَجَّحٍ مَبْنِيٍّ عَلى هَذا، وحاصِلُ البُرْهانِ عَلَيْهِ أنَّهُ لَوْ وُجِدَ إلَهانِ قادِرانِ عَلى الكَمالِ لَأمْكَنَ بَيْنَهُما تُمانُعٌ واللّازِمُ باطِلٌ إذْ لَوْ تُمانَعا وأرادَ كُلٌّ مِنهُما الإيجادَ بِالِاسْتِقْلالِ يَلْزَمُ إمّا أنْ لا يَقَعَ مَصْنُوعٌ أصْلًا أوْ يَقَعَ بِقُدْرَةِ كُلٍّ مِنهُما أوْ بِأحَدِهِما والكُلُّ باطِلٌ ووُقُوعُهُ بِمَجْمُوعِ القُدْرَتَيْنِ مَعَ هَذِهِ الإرادَةِ يُوجِبُ عَجْزَهُما لِتَخْلُّفِ مُرادِ كُلٍّ مِنهُما عَنْ إرادَتِهِ فَلا يَكُونانِ إلَهَيْنِ قادِرَيْنِ عَلى الكَمالِ وقَدْ فُرِضا كَذَلِكَ ومِن هُنا ظَهَرَ أنَّهُ عَلى تَقْدِيرِ التَّعَدُّدِ لَوْ وُجِدَ مَصْنُوعٌ لَزِمَ إمْكانُ أحَدِ المُحالَيْنِ إمّا إمْكانُ التَّوارُدِ وإمّا إمْكانُ الرُّجْحانِ مِن غَيْرِ مُرَجَّحٍ والكُلُّ مُحالٌ، وبِهَذا الِاعْتِبارِ مَعَ حَمْلِ الفَسادِ عَلى عَدَمِ الكَوْنِ قِيلَ بِقَطْعِيَّةِ المُلازَمَةِ في الآيَةِ فَهي دَلِيلٌ إقْناعِيٌّ مِن وجْهٍ ودَلِيلٌ قَطْعِيٌّ مِن وجْهٍ آخَرَ والأوَّلُ أنْسَبُ إلى العَوامِّ والثّانِي بِالنِّسْبَةِ إلى الخَواصِّ، وقالَ مُصْلِحُ الدِّينِ اللّارِّيُّ بَعْدَ كَلامٍ طَوِيلٍ وقالَ وقِيلَ أقُولُ أُقَرِّرُ الحُجَّةَ المُسْتَفادَةَ مِنَ الآيَةِ الكَرِيمَةِ عَلى وجْهٍ أوْجَهَ مِمّا عَداهُ وهو أنَّ الإلَهَ المُسْتَحِقَّ لِلْعِبادَةِ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ واجِبَ الوُجُودِ، وواجِبُ الوُجُودِ وجُودُهُ عَيْنُ ذاتِهِ عِنْدَ أرْبابِ التَّحْقِيقِ إذْ لَوْ غايَرَهُ لَكانَ مُمْكِنًا لِاحْتِياجِهِ في مَوْجُودِيَّتِهِ إلى غَيْرِهِ الَّذِي هو الوُجُودُ فَلَوْ تَعَدَّدَ لَزِمَ أنْ لا يَكُونَ وُجُودًا فَلا تَكُونُ الأشْياءُ مَوْجُودَةً لِأنَّ مَوْجُودِيَّةَ الأشْياءِ بِارْتِباطِها بِالوُجُودِ فَظَهْرَ فَسادُ السَّماءِ والأرْضِ بِالمَعْنى الظّاهِرِ لا بِمَعْنى عَدَمِ التَّكَوُّنِ لِأنَّهُ تَكَلُّفٌ ظاهِرٌ انْتَهى. وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ إرادَةَ عَدَمِ التَّكَوُّنِ أظْهَرُ عَلى هَذا الِاسْتِدْلالِ، ثُمَّ إنَّ هَذا النَّحْوَ مِنَ الِاسْتِدْلالِ مِمّا ذَهَبَ إلَيْهِ الحُكَماءُ بَلْ أكْثَرُ بَراهِينِهِمُ الدّالَّةِ عَلى التَّوْحِيدِ الَّذِي هو أجَلُّ المَطالِبِ الإلَهِيَّةِ بَلْ جَمِيعُها يَتَوَقَّفُ عَلى أنَّ حَقِيقَةَ الواجِبِ تَعالى هو الوُجُودُ البَحْتُ القائِمُ بِذاتِهِ المُعَبَّرُ عَنْهُ بِالوُجُوبِ الذّاتِيِّ والوُجُودِ المُتَأكِّدِ وأنَّ ما يَعْرِضُهُ الوُجُوبُ أوِ الوُجُودُ فَهو في حَدِّ نَفْسِهِ مُمْكِنٌ ووُجُودُهُ كَوُجُوبِهِ يُسْتَفادُ مِنَ الغَيْرِ فَلا يَكُونُ واجِبًا ومِن أشْهَرِها أنَّهُ لَوْ فَرَضْنا مَوْجُودَيْنِ واجِبِي الوُجُودِ لَكانا مُشْتَرِكَيْنِ في وُجُوبِ الوُجُودِ ومُتَغايِرَيْنِ بِأمْرٍ مِنَ الأُمُورِ وإلّا لَمْ يَكُونا اثْنَيْنِ، وما بِهِ الِامْتِيازُ إمّا أنْ يَكُونَ تَمامَ الحَقِيقَةِ أوْ جُزْءَها لا سَبِيلَ إلى الأوَّلِ لِأنَّ الِامْتِيازَ لَوْ كانَ بِتَمامِ الحَقِيقَةِ لَكانَ وُجُوبُ الوُجُودِ المُشْتَرَكِ بَيْنَهُما خارِجًا عَنْ حَقِيقَةِ كُلٍّ مِنهُما أوْ عَنْ حَقِيقَةِ أحَدِهِما وهو مُحالٌ لِما تَقَرَّرَ مِن أنَّ وُجُوبَ الوُجُودِ نَفْسُ حَقِيقَةِ واجِبِ الوُجُودِ لِذاتِهِ، ولا سَبِيلَ إلى الثّانِي لِأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما يَكُونُ مُرَكَّبًا مِمّا بِهِ الِاشْتِراكُ وما بِهِ الِامْتِيازُ وكُلُّ مُرَكَّبٍ مُحْتاجٌ فَلا يَكُونُ واجِبًا لِإمْكانِهِ فَيَكُونُ كُلٌّ مِنَ الواجِبَيْنِ أوْ أحَدِهِما مُمْكِنًا هَذا خُلْفٌ، واعْتُرِضَ بِأنَّ مَعْنى قَوْلِهِمْ وُجُوبُ الوُجُودِ نَفْسُ حَقِيقَةِ واجِبِ الوُجُودِ أنَّهُ يَظْهَرُ مِن نَفْسِ تِلْكَ الحَقِيقَةِ أثَرُ صِفَةِ وُجُوبِ الوُجُودِ لا أنَّ تِلْكَ الحَقِيقَةَ عَيْنُ هَذِهِ الصِّفَةِ فَلا يَكُونُ اشْتِراكُ مَوْجُودَيْنِ واجِبِي الوُجُودِ في وُجُوبِ الوُجُودِ إلّا أنْ يَظْهَرَ مِن نَفْسِ كُلٍّ مِنهُما أثَرُ صِفَةِ الوُجُوبِ فَلا مُنافاةَ بَيْنَ اشْتِراكِهِما في وُجُوبِ الوُجُودِ وتَمايُزِهِما بِتَمامِ الحَقِيقَةِ، وأُجِيبَ بِأنَّ المُرادَ العَيْنِيَّةُ، ومَعْنى قَوْلِهِمْ إنَّ وُجُوبَ الوُجُودِ عَيْنُ حَقِيقَةِ الواجِبِ هو أنَّ ذاتَهُ بِنَفْسِ ذاتِهِ مِصْداقُ هَذا الحُكْمِ ومَنشَأُ انْتِزاعِهِ مِن دُونِ انْضِمامِ أمْرٍ آخَرَ ومِن غَيْرِ مُلاحَظَةِ حَيْثِيَّةٍ أُخْرى غَيْرِ ذاتِهِ تَعالى أيَّةُ حَيْثِيَّةٍ كانَتْ حَقِيقِيَّةً أوْ إضافِيَّةً أوْ سَلْبِيَّةً، وكَذَلِكَ قِياسُ سائِرِ صِفاتِهِ (p-27)سُبْحانَهُ عِنْدَ القائِلِينَ بِعَيْنِيَّتِها مِن أهْلِ التَّحْقِيقِ، وتَوْضِيحُ ذَلِكَ عَلى مَشْرَبِهِمْ أنَّكَ كَما قَدْ تَعْقِلُ المُتَّصِلَ مَثَلًا نَفْسُ المُتَّصِلِ كالجُزْءِ الصُّورِيِّ لِلْجِسْمِ مِن حَيْثُ هو جِسْمٌ وقَدْ تَعْقِلُ شَيْئًا ذَلِكَ الشَّيْءُ هو المُتَّصِلُ كالمادَّةِ فَكَذَلِكَ قَدْ تَعْقِلُ واجِبَ الوُجُودِ بِما هو واجِبُ الوُجُودِ وقَدْ تَعْقِلُ شَيْئًا ذَلِكَ الشَّيْءُ هو واجِبُ الوُجُودِ ومِصْداقُ الحُكْمِ بِهِ ومُطابِقُهُ في الأوَّلِ حَقِيقَةُ المَوْضُوعِ وذاتُهُ فَقَطْ، وفي الثّانِي هي مَعَ حَيْثِيَّةٍ أُخْرى هي صِفَةٌ قائِمَةٌ بِالمَوْضُوعِ حَقِيقِيَّةً أوِ انْتِزاعِيَّةً وكُلُّ واجِبِ الوُجُودِ لَمْ يَكُنْ نَفْسَ واجِبِ الوُجُودِ بَلْ يَكُونُ لَهُ حَقِيقَةٌ تِلْكَ الحَقِيقَةُ مُتَّصِفَةٌ بِكَوْنِها واجِبَةَ الوُجُودِ فَفي اتِّصافِها تَحْتاجُ إلى عُرُوضِ هَذا الأمْرِ وإلى جاعِلٍ يَجْعَلُها بِحَيْثُ يَنْتَزِعُ مِنها هَذا الأمْرَ فَهي في حَدِّ ذاتِها مُمْكِنَةُ الوُجُودِ وبِهِ صارَتْ واجِبَةَ الوُجُودِ فَلا تَكُونُ واجِبَ الوُجُودِ بِذاتِهِ فَهو نَفْسُ واجِبِ الوُجُودِ بِذاتِهِ ولْيُقَسْ عَلى ذَلِكَ سائِرُ صِفاتِهِ تَعالى الحَقِيقِيَّةِ الكَمالِيَّةِ كالعِلْمِ والقُدْرَةِ وغَيْرِهِما. واعْتُرِضَ أيْضًا بِأنَّهُ لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ما بِهِ الِامْتِيازُ أمْرًا عارِضًا لا مُقَوَّمًا حَتّى يَلْزَمَ التَّرْكِيبُ. وأُجِيبَ بِأنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أنْ يَكُونَ التَّعَيُّنُ عارِضًا وهو خِلافُ ما ثَبَتَ بِالبُرْهانِ، ولِابْنِ كَمُّونَةَ في هَذا المَقامِ شُبْهَةٌ شاعَ أنَّها عَوِيصَةُ الدَّفْعِ عَسِيرَةُ الحَلِّ حَتّى أنَّ بَعْضَهم سَمّاهُ لِإبْدائِها بِافْتِخارِ الشَّياطِينِ وهي أنَّهُ لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ هُناكَ هُوِيَّتانِ بَسِيطَتانِ مَجْهُولَتا الكُنْهِ مُخْتَلِفَتانِ بِتَمامِ الماهِيَّةِ يَكُونُ كُلٌّ مِنهُما واجِبًا بِذاتِهِ ويَكُونُ مَفْهُومُ واجِبِ الوُجُودِ مُنْتَزَعًا مِنهُما مَقُولًا عَلَيْها قَوْلًا عَرَضِيًّا، وقَدْ رَأيْتَ في مُلَخَّصِ الإمامِ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ نَحْوَها، ولَعَلَّكَ إذا أحَطْتَ خَبَرًا بِحَقِيقَةِ ما ذَكَرْنا يَسْهُلُ عَلَيْكَ حَلُّها وإنْ أرَدْتَ التَّوْضِيحَ فاسْتَمِعْ لِما قِيلَ في ذَلِكَ إنَّ مَفْهُومَ واجِبِ الوُجُودِ لا يَخْلُو إمّا أنْ يَكُونَ انْتِزاعُهُ عَنْ نَفْسِ ذاتِ كُلٍّ مِنهُما مِن دُونِ اعْتِبارِ حَيْثِيَّةٍ خارِجَةٍ أيَّةُ حَيْثِيَّةٍ كانَتْ أوْ مَعَ اعْتِبارِ تِلْكَ الحَيْثِيَّةِ وكِلا الشِّقَّيْنِ مُحالٌ، أمّا الثّانِي فَلِما تَقَرَّرَ أنَّ كُلَّ ما لَمْ يَكُنْ ذاتُهُ مُجَرَّدَ حَيْثِيَّةِ انْتِزاعِ الوُجُوبِ فَهو مُمْكِنٌ مِن ذاتِهِ، وأمّا الأوَّلُ فَلِأنَّ مِصْداقَ حَمْلِ مَفْهُومٍ واحِدٍ ومُطابِقٍ صِدْقُهُ بِالذّاتِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ أيَّةِ حَيْثِيَّةٍ كانَتْ لا يُمْكِنُ أنْ يُكَوِّنَ حَقائِقَ مُتَخالِفَةً مُتَبايِنَةً بِالذّاتِ غَيْرَ مُشْتَرِكَةٍ في ذاتِي أصْلًا، ولَعَلَّ كُلَّ سَلِيمِ الفِطْرَةِ يَحْكُمُ بِأنَّ الأُمُورَ المُتَخالِفَةَ مِن حَيْثُ كَوْنُها مُتَخالِفَةً بِلا حَيْثِيَّةٍ جامِعَةٍ لا تَكُونُ مِصْداقًا لِحُكْمٍ واحِدٍ ومَحْكِيًّا عَنْها بِهِ نَعَمْ يَجُوزُ ذَلِكَ إذا كانَتْ تِلْكَ الأُمُورُ مُتَماثِلَةً مِن جِهَةِ كَوْنِها مُتَماثِلَةً ولَوْ في أمْرٍ سَلْبِيٍّ بَلْ نَقُولُ لَوْ نَظَرْنا إلى نَفْسِ مَفْهُومِ الوُجُودِ المَصْدَرِيِّ المَعْلُومِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ بَدِيهَةً أدّانا النَّظَرُ والبَحْثُ إلى أنَّ حَقِيقَتَهُ وما يُنْتَزَعُ هو مِنهُ أمْرٌ قائِمٌ بِذاتِهِ هو الواجِبُ الحَقُّ الوُجُودُ المُطْلَقُ الَّذِي لا يَشُوبُهُ عُمُومٌ ولا خُصُوصٌ ولا تَعَدُّدٌ إذْ كَلُّ ما وُجُودُهُ هَذا الوُجُودِ لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وبَيْنَ شَيْءٍ آخَرَ لَهُ أيْضًا هَذا الوُجُودُ فَرْضًا مُبايَنَةٌ أصْلًا ولا تَغايُرٌ فَلا يَكُونُ اثْنانِ بَلْ يَكُونُ هُناكَ ذاتٌ واحِدَةٌ ووُجُودٌ واحِدٌ كَما لَوَّحَ إلَيْهِ صاحِبُ التَّلْوِيحاتِ بِقَوْلِهِ: صَرِّفِ الوُجُودَ الَّذِي لا أتَمَّ مِنهُ كُلَّما فَرَضْتَهُ ثانِيًا فَإذا نَظَرْتَ فَهو هو إذْ لا مَيْزَ في صَرْفِ شَيْءٍ فَوُجُوبُ وُجُودِهِ تَعالى الَّذِي هو ذاتُهُ سُبْحانَهُ تَدُلُّ عَلى وحْدَتِهِ جَلَّ وعَلا انْتَهى فَتَأمَّلْ. ولا يَخْفى عَلَيْكَ أنَّ أكْثَرَ البَراهِينِ عَلى هَذا المَطْلَبِ الجَلِيلِ الشَّأْنِ يُمْكِنُ تَخْرِيجُ الآيَةِ الكَرِيمَةِ عَلَيْهِ ويُحْمَلُ حِينَئِذٍ الفَسادُ عَلى عَدَمِ التَّكَوُّنِ فَعَلَيْكَ بِالتَّخْرِيجِ وإنْ أحْوَجَكَ إلى بَعْضِ تَكَلُّفٍ وإيّاكَ أنْ تَقْنَعَ بِجَعْلِها حُجَّةً إقْناعِيَّةً كَما ذَهَبَ إلَيْهِ كَثِيرٌ فَإنَّ هَذا المَطْلَبَ الجَلِيلَ أجَلُّ مِن أنْ يُكْتَفى فِيهِ بِالإقْناعاتِ المَبْنِيَّةِ عَلى الشُّهْرَةِ والعادَةِ، ولِصاحِبِ الكَشْفِ طابَ ثَراهُ كَلامٌ يَلُوحُ عَلَيْهِ مَخايِلُ التَّحْقِيقِ في هَذا المَقامِ سَنَذْكُرُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى كَما اخْتارَهُ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إذًا لَذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِما خَلَقَ ولَعَلا بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ﴾ [المُؤْمِنُونَ: 91] ثُمَّ لا تَتَوَهَّمَنَّ أنَّهُ لا يَلْزَمُ مِنَ الآيَةِ نَفْيُ الِاثْنَيْنِ والواحِدِ لِأنَّ نَفْيَ آلِهَةٍ تُغايِرُ الواحِدَ المُعِيَّنَ شَخْصًا يَسْتَلْزِمُ بِالضَّرُورَةِ أنَّ كُلَّ واحِدٍ واحِدٍ (p-28)مِنهم يُغايِرُهُ شَخْصًا وهو أبْلَغُ مِن نَفْيِ واحِدٍ يُغايِرُ المُعَيَّنَ في الشَّخْصِ عَلى أنَّهُ طُوبِقَ بِهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ﴾ وقِيامُ المُلازَمَةِ كافٍ في نَفْيِ الواحِدِ والِاثْنَيْنِ أيْضًا واسْتُشْكِلَ سِياقُ الآيَةِ الكَرِيمَةِ بِأنَّ الظّاهِرَ أنَّها إنَّما سِيقَتْ لِإبْطالِ عِبادَةِ الأصْنامِ المُشارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هم يُنْشِرُونَ﴾ لِذِكْرِها بَعْدَهُ، وهي لا تُبْطِلُ إلّا تَعَدُّدَ الإلَهِ الخالِقِ القادِرِ المُدَبِّرِ التّامِّ الأُلُوهِيَّةَ وهو غَيْرُ مُتَعَدِّدٍ عِنْدَ المُشْرِكِينَ، ( ولَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) [لُقْمانَ: 25، الزُّمَرَ: 38] وهم يَقُولُونَ في آلِهَتِهِمْ ﴿ما نَعْبُدُهم إلا لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ زُلْفى﴾ [الزُّمُرَ: 3] فَما قالُوا بِهِ لا تُبْطِلُهُ الآيَةُ وما تُبْطِلُهُ الآيَةُ لَمْ يَقُولُوا بِهِ ومِن هُنا قِيلَ مَعْنى الآيَةِ لَوْ كانَ في السَّماءِ والأرْضِ آلِهَةٌ كَما يَقُولُ عَبَدَةُ الأوْثانِ: لَزِمَ فَسادُ العالَمِ لِأنَّ تِلْكَ الآلِهَةَ الَّتِي يَقُولُونَ بِها جَماداتٌ لا تَقْدِرُ عَلى تَدْبِيرِ العالَمِ فَيَلْزَمُ فَسادُ العالَمِ، وأُجِيبَ بِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿أمِ اتَّخَذُوا﴾ إلَخْ مَسُوقٌ لِلزَّجْرِ عَنْ عِبادَةِ الأصْنامِ وإنْ لَمْ تَكُنْ لَها الأُلُوهِيَّةُ التّامَّةُ لِأنَّ العِبادَةَ إنَّما تَلِيقُ لِمَن لَهُ ذَلِكَ وبَعْدَ الزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ أشارَ سُبْحانَهُ إلى أنَّ مَن لَهُ ما ذُكِرَ لا يَكُونُ إلّا واحِدًا عَلى أنَّ شَرْحَ اسْمِ الإلَهِ هو الواجِبُ الوُجُودَ لِذاتِهِ الحَيُّ العالِمُ المُرِيدُ القادِرُ الخالِقُ المُدَبِّرُ فَمَتى أطْلَقُوهُ عَلى شَيْءٍ لَزِمَهم وصْفُهُ بِذَلِكَ شاؤُوا أوْ أبَوْا فالآيَةُ لِإبْطالِ ما يَلْزَمُ قَوْلُهم عَلى أتَمِّ وجْهٍ ﴿فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ العَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ﴾ أيْ نَزِّهُوهُ أكْمَلَ تَنْزِيهٍ عَنْ أنْ يَكُونَ مِن دُونِهِ تَعالى آلِهَةٌ كَما يَزْعُمُونَ فالفاءُ لِتَرْتِيبِ ما بَعْدَهُ عَلى ما قَبْلَها مِن ثُبُوتِ الوَحْدانِيَّةِ، وإبْرازِ الجَلالَةِ في مَوْقِعِ الإضْمارِ لِلْإشْعارِ بِعِلَّةِ الحُكْمِ فَإنَّ الأُلُوهِيَّةَ مَناطٌ لِجَمِيعِ صِفاتِ الكَمالِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها تَنَزُّهُهُ تَعالى عَنِ الشَّرِكَةِ لِتَرْبِيَةِ المَهابَةِ وإدْخالِ الرَّوْعَةِ، والوَصْفُ بِرَبِّ العَرْشِ لِتَأْكِيدِ التَّنَزُّهِ مَعَ ما في ذَلِكَ مِن تَرْبِيَةِ المَهابَةِ، والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ حَقِيقَةُ الأمْرِ بِالتَّنْزِيهِ، وقِيلَ: المُرادُ بِالتَّعْجِيبِ مِمَّنْ عَبَدَ تِلْكَ المَعْبُوداتِ الخَسِيسَةَ وعَدَّها شَرِيكًا مَعَ وُجُودِ المَعْبُودِ العَظِيمِ الخالِقِ لِأعْظَمِ الأشْياءِ، والكَلامُ عَلَيْهِ أيْضًا كالنَّتِيجَةِ لِما قَبْلَهُ مِنَ الدَّلِيلِ،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب