الباحث القرآني

وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلى الباطِلِ﴾ (p-20)إضْرابٌ عَنِ اتِّخاذِ اللَّهْوِ واللَّعِبِ بَلْ عَنْ إرادَةِ الِاتِّخاذِ كَأنَّهُ قِيلَ لَكِنّا لا نُرِيدُهُ بَلْ شَأْنُنا أنْ نُغَلِّبَ الحَقَّ الَّذِي مِن جُمْلَتِهِ الجِدُّ عَلى الباطِلِ الَّذِي مِن جُمْلَتِهِ اللَّهْوُ، وتَخْصِيصُ هَذا الشَّأْنِ مِن بَيْنِ سائِرِ شُؤُونِهِ تَعالى بِالذِّكْرِ لِلتَّخَلُّصِ لِما سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى مِنَ الوَعِيدِ، وعَنْ مُجاهِدٍ أنَّ الحَقَّ القُرْآنُ والباطِلَ الشَّيْطانُ، وقِيلَ الحَقُّ الحُجَّةُ والباطِلُ شَبَهُهم ووَصْفُهُمُ اللَّهَ تَعالى بِغَيْرِ صِفاتِهِ مِنَ الوَلَدِ وغَيْرِهِ، والعُمُومُ هو الأوْلى، وأصْلُ القَذْفِ الرَّمْيُ البَعِيدُ كَما قالَ الرّاغِبُ وهو مُسْتَلْزِمٌ لِصَلابَةِ الرَّمْيِ وقَدِ اسْتُعِيرَ لِلْإيرادِ أيْ نُورِدُ الحَقَّ عَلى الباطِلِ. ﴿فَيَدْمَغُهُ﴾ أيْ يَمْحَقُهُ بِالكُلِّيَّةِ كَما فَعَلْنا بِأهْلِ القُرى المُحْكَمَةِ، وأصْلُ الدَّمْغِ كَسْرُ الشَّيْءِ الرَّخْوِ الأجْوَفِ وقَدِ اسْتُعِيرَ لِلْمَحْقِ. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ هُناكَ تَمْثِيلٌ لِغَلَبَةِ الحَقِّ عَلى الباطِلِ حَتّى يُذْهِبَهُ بِرَمْيِ جِرْمٍ صُلْبٍ عَلى رَأْسِ دِماغِهِ رَخْوٍ لِيَشُقَّهُ، وفِيهِ إيماءٌ إلى عُلُوِّ الحَقِّ وتَسَفُّلِ الباطِلِ وأنَّ جانِبَ الأوَّلِ باقٍ والثّانِي فانٍ، وجُوِّزَ أيْضًا أنْ يَكُونَ اسْتِعارَةً مَكْنِيَّةً بِتَشْبِيهِ الحَقِّ بِشَيْءٍ صُلْبٍ يَجِيءُ مِن مَكانٍ عالٍ والباطِلِ بِجِرْمٍ رَخْوٍ أجْوَفَ سافِلٍ، ولَعَلَّ القَوْلَ بِالتَّمْثِيلِ أمْثَلُ، وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ (فَيَدْمَغَهُ ) بِالنَّصْبِ، وضَعُفَ بِأنَّ ما بَعْدَ الفاءِ إنَّما يَنْتَصِبُ بِإضْمارِ أنْ لا بِالفاءِ خِلافًا لِلْكُوفِيِّينَ في جَوابِ الأشْياءِ السِّتَّةِ وما هُنا لَيْسَ مِنها ولَمْ يُرَ مِثْلُهُ إلّا في الشِّعْرِ كَقَوْلِهِ: ؎سَأتْرُكُ مَنزِلِي لِبَنِي تَمِيمٍ وألْحَقُ بِالحِجازِ فَأسْتَرِيحا عَلى أنَّهُ قَدْ قِيلَ في هَذا إنَّ أسْتَرِيحا لَيْسَ مَنصُوبًا بَلْ مَرْفُوعٌ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الخَفِيفَةِ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ بِالألِفِ، ووُجِّهَ بِأنَّ النَّصْبَ في جَوابِ المُضارِعِ المُسْتَقْبَلِ وهو يُشْبِهُ التَّمَنِّيَ في التَّرَقُّبِ، ولا يَخْفى أنَّ المَعْنى في الآيَةِ لَيْسَ عَلى خُصُوصِ المُسْتَقْبَلِ، وقَدْ قالُوا إنَّ هَذا التَّوْجِيهَ في البَيْتِ ضَعِيفٌ فَيَكُونُ ما في الآيَةِ أضْعَفَ مِنهُ مَأْخَذًا والعَطْفُ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ عَلى الحَقِّ عِنْدَ أبِي البَقاءِ، والمَعْنى بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ فَنَدْمَغُهُ عَلى الباطِلِ أيْ نَرْمِي بِالحَقِّ فَإبْطالُهُ بِهِ. وذَكَرَ بَعْضُ الأفاضِلِ أنَّهُ لَوْ جُعِلَ مِن قَبِيلِ عَلَفْتُها تِبْنًا وماءً بارِدًا صَحَّ، واسْتُظْهِرَ أنَّ العَطْفَ عَلى المَعْنى أيْ نَفْعَلُ القَذْفَ فالدَّمْغَ، وقُرِئَ (فَيَدْمُغُهُ ) بِضَمِّ المِيمِ والغَيْنِ ﴿فَإذا هو زاهِقٌ﴾ أيْ ذاهِبٌ بِالكُلِّيَّةِ وفي إذا الفُجائِيَّةِ والجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى كَمالِ المُسارَعَةِ في الذَّهابِ والبُطْلانِ ما لا يَخْفى فَكَأنَّهُ زاهِقٌ مِنَ الأصْلِ. ﴿ولَكُمُ الوَيْلُ مِمّا تَصِفُونَ﴾ وعِيدٌ لِقُرَيْشٍ أوْ لِجَمِيعِ الكُفّارِ مِنَ العَرَبِ بِأنَّ لَهم أيْضًا مِثْلَ ما لِأُولَئِكَ مِنَ العَذابِ والعِقابِ، وما تَعْلِيلِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالِاسْتِقْرارِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الخَبَرُ أوْ بِمَحْذُوفٍ هو حالٌ مِنَ الوَيْلِ عَلى مَذْهَبِ بَعْضِهِمْ أوْ مِن ضَمِيرِهِ المُسْتَتِرِ في الخَبَرِ، وما إمّا مَصْدَرِيَّةٌ أوْ مَوْصُولَةٌ أوْ مَوْصُوفَةٌ أيْ ومُسْتَقِرٌّ لَكُمُ الوَيْلُ والهَلاكُ مِن أجْلِ وصْفِكم لَهُ تَعالى بِما لا يَلِيقُ بِشَأْنِهِ الجَلِيلِ تَعالى شَأْنُهُ أوْ بِالَّذِي تَصِفُونَهُ أوْ بِشَيْءٍ تَصِفُونَهُ بِهِ مِنَ الوَلَدِ ونَحْوِهِ أوْ كائِنًا مِمّا تَصِفُونَهُ عَزَّ وجَلَّ بِهِ، وكَوْنُ الخِطابِ لِمَن سَمِعْتَ مِمّا لا خَفاءَ فِيهِ ولا بُعْدَ، وأبْعَدُ كُلَّ البُعْدِ مَن قالَ: إنَّهُ خِطابٌ لِأهْلِ القُرى عَلى طَرِيقِ الِالتِفاتِ مِنَ الغَيْبَةِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ﴾ إلَيْهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب