الباحث القرآني
﴿ولَقَدْ أوْحَيْنا إلى مُوسى﴾ حِكايَةٌ إجْمالِيَّةٌ لِما انْتَهى إلَيْهِ أمْرُ فِرْعَوْنَ وقَوْمِهِ وقَدْ طُوِيَ في البَيْنِ ذِكْرُ ما جَرى عَلَيْهِمْ بَعْدَ أنْ غُلِبَتِ السَّحَرَةُ مِنَ الآياتِ المُفَصَّلَةِ الظّاهِرَةِ عَلى يَدِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ في نَحْوٍ مِن عِشْرِينَ سَنَةً حَسْبَما فُصِّلَ في سُورَةِ الأعْرافِ، وكانَ فِرْعَوْنُ كُلَّما جاءَتْ آيَةُ وعْدٍ أنْ يُرْسِلَ بَنِي إسْرائِيلَ عِنْدَ انْكِشافِ العَذابِ حَتّى إذا انْكَشَفَ نَكَثَ، فَلَمّا كَمُلَتِ الآياتُ أوْحى اللَّهُ تَعالى إلى مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿أنْ أسْرِ بِعِبادِي﴾ وتَصْدِيرُ الجُمْلَةِ بِالقَسَمِ لِإبْرازِ كَمالِ العِنايَةِ بِمَضْمُونِها.
وأنْ إمّا مُفَسِّرَةٌ لِما في الوَحْيِ مِن مَعْنى القَوْلِ، وإمّا مَصْدَرِيَّةٌ حُذِفَ عَنْها الجارُّ، والتَّعْبِيرُ عَنْ بَنِي إسْرائِيلَ (p-236)بِعُنْوانِ العُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعالى لِإظْهارِ الرَّحْمَةِ والِاعْتِناءِ بِأمْرِهِمْ والتَّنْبِيهِ عَلى غايَةِ قُبْحِ صَنِيعِ فِرْعَوْنَ بِهِمْ حَيْثُ اسْتَعْبَدَهم وهم عِبادُهُ عَزَّ وجَلَّ، وفَعَلَ بِهِمْ مِن فُنُونِ الظُّلْمِ ما فَعَلَ ولَمْ يُراقِبْ فِيهِمْ مَوْلاهُمُ الحَقِيقِيَّ جَلَّ جَلالُهُ، والظّاهِرُ أنَّ الإيحاءَ بِما ذُكِرَ وكَذا ما بَعْدَهُ كانَ بِمِصْرَ أيْ وبِاللَّهِ تَعالى لَقَدْ أوْحَيْنا إلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلامُ أنْ سِرْ بِعِبادِي الَّذِينَ أرْسَلْتُكَ لِإنْقاذِهِمْ مِن مُلْكَةِ فِرْعَوْنَ مِن مِصْرَ لَيْلًا ﴿فاضْرِبْ لَهُمْ﴾ بِعَصاكَ ﴿طَرِيقًا في البَحْرِ﴾ مَفْعُولٌ بِهِ لِاضْرِبْ عَلى الِاتِّساعِ وهو مَجازٌ عَقْلِيٌّ، والأصْلُ اضْرِبِ البَحْرَ لِيَصِيرَ لَهم طَرِيقًا ﴿يَبَسًا﴾ أيْ يابِسًا وبِذَلِكَ قَرَأ أبُو حَيْوَةَ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ جُعِلَ وصْفًا لِطَرِيقًا مُبالَغَةً وهو يَسْتَوِي فِيهِ الواحِدُ المُذَكَّرُ وغَيْرُهُ.
وقَرَأ الحَسَنُ ( يَبْسًا ) بِسُكُونِ الباءِ وهو إمّا مُخَفَّفٌ مِنهُ بِحَذْفِ الحَرَكَةِ فَيَكُونُ مَصْدَرًا أيْضًا أوْ صِفَةً مُشَبَّهَةً كَصَعْبٍ أوْ جَمْعُ يابِسٍ كَصَحْبٍ وصاحِبٍ. ووَصْفُ الواحِدِ بِهِ لِلْمُبالَغَةِ وذَلِكَ أنَّهُ جَعَلَ الطَّرِيقَ لِفَرْطِ يُبْسِها كَأشْياءَ يابِسَةٍ كَما قِيلَ في قَوْلِ القُطامِيِّ:
؎كَأنَّ قُتُودَ رَحْلِي حِينَ ضَمَّتْ حَوالِبَ غُرَّزًا ومِعًى جِياعًا
أنَّهُ جَعَلَ المِعى لِفَرْطِ جُوعِهِ كَجَماعَةٍ جِياعٍ أوْ قَدَّرَ كُلَّ جُزْءٍ مِن أجْزاءِ الطَّرِيقِ طَرِيقًا يابِسًا كَما قِيلَ في ﴿نُطْفَةٍ أمْشاجٍ﴾ وثَوْبٍ أخْلاقٍ أوْ حَيْثُ أُرِيدَ بِالطَّرِيقِ الجِنْسُ وكانَ مُتَعَدِّدًا حَسَبَ تَعَدُّدِ الأسْباطِ لا طَرِيقٌ واحِدَةٌ عَلى الصَّحِيحِ جاءَ وصْفُهُ جَمْعًا، وقِيلَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ اسْمَ جَمْعٍ، والظّاهِرُ أنَّهُ لا فَرْقَ هُنا بَيْنَ اليَبَسِ بِالتَّحْرِيكِ واليُبْسِ بِالتَّسْكِينِ مَعْنًى لِأنَّ الأصْلَ تَوافُقُ القِراءَتَيْنِ وإنْ كانَتْ إحْداهُما شاذَّةً، وفي القامُوسِ اليُبْسُ بِالإسْكانِ ما كانَ أصْلُهُ رَطْبًا فَجَفَّ وما أصْلُهُ اليُبُوسَةُ ولَمْ يُعْهَدْ رَطْبًا يَبَسٌ بِالتَّحْرِيكِ، وأمّا طَرِيقُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ في البَحْرِ فَإنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ طَرِيقًا لا رَطْبًا ولا يابِسًا إنَّما أظْهَرَهُ اللَّهُ تَعالى لَهم حِينَئِذٍ مَخْلُوقًا عَلى ذَلِكَ ا هـ.
وهَذا مُخالِفٌ لِما ذَكَرَهُ الرّاغِبُ مِن أنَّ اليُبْسَ بِالتَّحْرِيكِ ما كانَ فِيهِ رُطُوبَةٌ فَذَهَبَتْ، والمَكانُ إذا كانَ فِيهِ ماءٌ فَذَهَبَ، ورُوِيَ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا ضَرَبَ البَحْرَ وانْفَلَقَ حَتّى صارَتْ فِيهِ طُرُقٌ بَعَثَ اللَّهُ تَعالى رِيحَ الصَّبا فَجَفَّفَتْ تِلْكَ الطُّرُقَ حَتّى يَبِسَتْ. وذَهَبَ غَيْرُ واحِدٍ أنَّ الضَّرْبَ بِمَعْنى الجَعْلِ مِن قَوْلِهِمْ: ضَرَبَ لَهُ في مالِهِ سَهْمًا وضَرَبَ عَلَيْهِمُ الخَراجَ أوْ بِمَعْنى الِاتِّخاذِ فَيَنْصِبُ مَفْعُولَيْنِ أوَّلُهُما (طَرِيقًا) وثانِيهِما (لَهُمْ) .
واخْتارَ أبُو حَيّانَ بَقاءَهُ عَلى المَعْنى المَشْهُورِ وهو أوْفَقُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ البَحْرَ﴾، وزَعَمَ أبُو البَقاءِ أنَّ (طَرِيقًا) عَلى هَذا الوَجْهِ مَفْعُولٌ فِيهِ، وقالَ: التَّقْدِيرُ (فاضْرِبْ لَهُمْ) مَوْضِعَ طَرِيقٍ ﴿لا تَخافُ دَرَكًا﴾ في مَوْضِعِ الحالِ مِن ضَمِيرِ (فاضْرِبْ) أوِ الصِّفَةِ الأُخْرى لَطَرِيقًا والعائِدُ مَحْذُوفٌ أيْ فِيها أوْ هو اسْتِئْنافٌ كَما قالَ أبُو البَقاءِ وقَدَّمَهُ عَلى سائِرِ الِاحْتِمالاتِ. وقَرَأ الأعْمَشُ وحَمْزَةُ وابْنُ أبِي لَيْلى ( لا تَخَفْ ) بِالجَزْمِ عَلى جَوابِ الأمْرِ أعْنِي ( أسْرِ )، ويُحْتَمَلُ أنَّهُ نَهْيٌ مُسْتَأْنَفٌ كَما ذَكَرَهُ الزَّجّاجُ. وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ وطَلْحَةُ والأعْمَشُ ( دَرْكًا ) بِسُكُونِ الرّاءِ وهو اسْمٌ مِنَ الإدْراكِ أيِ اللُّحُوقِ كالدَّرَكِ بِالتَّحْرِيكِ، وقالَ الرّاغِبُ: الدَّرْكُ بِالتَّحْرِيكِ في الآيَةِ ما يَلْحَقُ الإنْسانَ مِن تَبِعَةٍ أيْ لا تَخافُ تَبِعَةً، والجُمْهُورُ عَلى الأوَّلِ أيْ لا تَخافُ أنْ يُدْرِكَكم فِرْعَوْنُ وجُنُودُهُ مِن خَلْفِكم ﴿ولا تَخْشى﴾ أنْ يُغْرِقَكُمُ البَحْرُ مِن قُدّامِكم وهو عَطْفٌ عَلى ﴿لا تَخافُ﴾، وذَلِكَ ظاهِرٌ عَلى الِاحْتِمالاتِ الثَّلاثَةِ في قِراءَةِ الرَّفْعِ، وأمّا عَلى قِراءَةِ الجَزْمِ فَقِيلَ هو اسْتِئْنافٌ أيْ وأنْتَ لا تَخْشى، وقِيلَ: (p-237)عَطْفٌ عَلى المَجْزُومِ والألِفُ جِيءَ بِها لِلْإطْلاقِ مُراعاةً لِأواخِرِ الآيِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأضَلُّونا السَّبِيلا﴾، ﴿وتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونا﴾ أوْ هو مَجْزُومٌ بِحَذْفِ الحَرَكَةِ المُقَدَّرَةِ كَما في قَوْلِهِ:
؎إذا العَجُوزُ غَضِبَتْ فَطَلِّقْ ∗∗∗ ولا تَرَضّاها ولا تَمَلَّقِ
وهَذا لُغَةٌ قَلِيلَةٌ عِنْدَ قَوْمٍ وضَرُورَةٌ عِنْدِ آخَرِينَ فَلا يَجُوزُ تَخْرِيجُ التَّنْزِيلِ الجَلِيلِ الشَّأْنِ عَلَيْهِ أوْ لا يَلِيقُ مَعَ وُجُودِ مِثْلِ الِاحْتِمالَيْنِ السّابِقَيْنِ أوِ الأوَّلِ مِنهُما. والخَشْيَةُ أعْظَمُ الخَوْفِ وكَأنَّهُ إنَّما اخْتِيرَتْ هُنا لِأنَّ الغَرَقَ أعْظَمُ مِن إدْراكِ فِرْعَوْنَ وجُنُودِهِ لِما أنَّ ذاكَ مَظِنَّةُ السَّلامَةِ، ولا يُنافِي ذَلِكَ أنَّهم إنَّما ذَكَرُوا أوَّلًا ما يَدُلُّ عَلى خَوْفِهِمْ مِنهُ حَيْثُ قالُوا: ﴿إنّا لَمُدْرَكُونَ﴾ ولِذا سُورِعَ في إزاحَتِهِ بِتَقْدِيمِ نَفْيِهِ كَما يَظْهَرُ بِالتَّأمُّلِ.
{"ayah":"وَلَقَدۡ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَىٰ مُوسَىٰۤ أَنۡ أَسۡرِ بِعِبَادِی فَٱضۡرِبۡ لَهُمۡ طَرِیقࣰا فِی ٱلۡبَحۡرِ یَبَسࣰا لَّا تَخَـٰفُ دَرَكࣰا وَلَا تَخۡشَىٰ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق