الباحث القرآني

(p-231)﴿قالَ﴾ أيْ فِرْعَوْنُ لِلسَّحَرَةِ ﴿آمَنتُمْ لَهُ﴾ أيْ لِمُوسى كَما هو الظّاهِرُ. والإيمانُ في الأصْلِ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ ثُمَّ شاعَ تَعَدِّيهِ بِالباءِ لِما فِيهِ مِنَ التَّصْدِيقِ حَتّى صارَ حَقِيقَةً. وإنَّما عُدِّيَ هُنا بِاللّامِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنى الِانْقِيادِ وهو يُعَدّى بِها يُقالُ: انْقادَ لَهُ لا الِاتِّباعَ كَما قِيلَ: لِأنَّهُ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ يُقالُ: اتَّبَعَهُ ولا يُقالُ: اتَّبَعَ لَهُ، وفي البَحْرِ إنَّ آمَنَ يُوصَلُ بِالباءِ إذا كانَ مُتَعَلِّقُهُ اللَّهَ عَزَّ اسْمُهُ وبِاللّامِ إنْ كانَ مُتَعَلِّقُهُ غَيْرَهُ تَعالى في الأكْثَرِ نَحْوَ ﴿يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ويُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ . فَما آمَنَ لِمُوسى إلَخْ. ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ﴾، ﴿وما أنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا﴾، ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾، وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ اللّامُ تَعْلِيلِيَّةً والتَّقْدِيرُ آمَنتُمْ بِاللَّهِ تَعالى لِأجْلِ مُوسى وما شاهَدَتْهم مِنهُ، واخْتارَهُ بَعْضُهم ولا تَفْكِيكَ فِيهِ كَما تُوُهِّمَ، وقِيلَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ضَمِيرُ ( لَهُ ) لِلرَّبِّ عَزَّ وجَلَّ، وفي الآيَةِ حِينَئِذٍ تَفْكِيكٌ ظاهِرٌ. وقَرَأ الأكْثَرُ ( أآمَنتُمْ ) عَلى الِاسْتِفْهامِ التَّوْبِيخِيِّ. والتَّوْبِيخُ هو المُرادُ مِنَ الجُمْلَةِ عَلى القِراءَةِ الأُولى أيْضًا لا فائِدَةُ الخَبَرِ أوْ لازِمُها ﴿قَبْلَ أنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ أيْ: مِن غَيْرِ إذْنِي لَكم في الإيمانِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي﴾ لا إنَّ إذْنَهُ لَهم في ذَلِكَ واقِعٌ بَعْدُ أوْ مُتَوَقَّعٌ، وفَرَّقَ الطَّبَرَسِيُّ بَيْنَ الإذْنِ والأمْرِ بِأنَّ الأمْرَ يَدُلُّ عَلى إرادَةِ الآمِرِ الفِعْلَ المَأْمُورَ بِهِ ولَيْسَ في الإذْنِ ذَلِكَ (إنَّهُ) يَعْنِي مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿لَكَبِيرُكُمُ﴾ لَعَظِيمُكم في فَنِّكم وأعْلَمُكم بِهِ وأُسْتاذُكم ﴿الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ كَأنَّ اللَّعِينَ وبَّخَهم أوَّلًا عَلى إيمانِهِمْ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن غَيْرِ إذْنِهِ لَهم لِيَرى قَوْمُهُ أنَّ إيمانَهم غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ حَيْثُ كانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ. ثُمَّ اسْتَشْعَرَ أنْ يَقُولُوا: أيُّ حاجَةٍ إلى الإذْنِ بَعْدَ أنْ صَنَعْنا ما صَنَعْنا وصَدَرَ مِنهُ عَلَيْهِ السَّلامُ ما صَدَرَ فَأجابَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (إنَّهُ) إلَخْ أيْ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ أيْضًا لِأنَّهُ أُسْتاذُكم في السِّحْرِ فَتَواطَأْتُمْ مَعَهُ عَلى ما وقَعَ أوْ عَلَّمَكم شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ فَلِذَلِكَ غَلَبَكم فالجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَحْذُوفٍ، وقِيلَ: هي تَعْلِيلٌ لِلْمَذْكُورِ قَبْلُ. وبِالجُمْلَةِ قالَ ذَلِكَ لِما اعْتَراهُ مِنَ الخَوْفِ مِنِ اقْتِداءِ النّاسِ بِالسَّحَرَةِ في الإيمانِ لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ثُمَّ أقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالوَعِيدِ المُؤَكَّدِ حَيْثُ قالَ: ﴿فَلأُقَطِّعَنَّ﴾ أيْ: إذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَأُقْسِمُ لَأُقَطِّعَنَّ ﴿أيْدِيَكم وأرْجُلَكم مِن خِلافٍ﴾ أيِ: اليَدُ اليُمْنى والرِّجْلُ اليُسْرى وعَلَيْهِ عامَّةُ المُفَسِّرِينَ وهو تَخْصِيصٌ مِن خارِجٍ وإلّا فَيُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ غَيْرُ ذَلِكَ. (ومِن) ابْتِدائِيَّةٌ. وقالَ الطَّبَرَسِيُّ: بِمَعْنى عَنْ أوْ عَلى ولَيْسَ بِشَيْءٍ. والمُرادُ مِنَ الخِلافِ الجانِبُ المُخالِفُ أوِ الجِهَةُ المُخالِفَةُ. والجارُّ والمَجْرُورُ حَسْبَما يَظْهَرُ مُتَعَلِّقٌ بِأُقَطِّعَنَّ، وقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ صِفَةَ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أيْ تَقْطِيعَ مُبْتَدَأٍ مِن جانِبٍ مُخالِفٍ أوْ مِن جِهَةٍ مُخالِفَةٍ، وابْتِداءُ التَّقْطِيعِ مِن ذَلِكَ ظاهِرٌ، ويَجُوزُ أنْ يَبْقى الخِلافُ عَلى حَقِيقَتِهِ أعْنِي المُخالَفَةَ وجَعْلَهُ مُبْتَدَأً عَلى التَّجَوُّزِ فَإنَّهُ عارِضٌ ما هو مَبْدَأُ حَقِيقَةٍ، وجَعَلَ بَعْضُهُمُ الجارَّ والمَجْرُورَ في حَيِّزِ النَّصْبِ عَلى الحالِيَّةِ، والمُرادُ لَأُقَطِّعَنَّها مُخْتَلِفاتٍ فَتَأمَّلْ، وتَعْيِينُ هَذِهِ الكَيْفِيَّةِ قِيلَ لِلْإيذانِ بِتَحْقِيقِ الأمْرِ وإيقاعِهِ لا مَحالَةَ بِتَعْيِينِ كَيْفِيَّتِهِ المَعْهُودَةِ في بابِ السِّياسَةِ. ولَعَلَّ اخْتِيارَها فِيها دُونَ القَطْعِ مِن وِفاقٍ لِأنَّ فِيهِ إهْلاكًا وتَفْوِيتًا لِلْمَنفَعَةِ، وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّها أفْظَعُ ﴿ولأُصَلِّبَنَّكم في جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ أيْ: عَلَيْها. وإيثارُ كَلِمَةِ في لِلدَّلالَةِ عَلى إبْقائِهِمْ عَلَيْها زَمانًا مَدِيدًا تَشْبِيهًا لِاسْتِمْرارِهِمْ عَلَيْها بِاسْتِقْرارِ الظَّرْفِ في المَظْرُوفِ المُشْتَمِلِ عَلَيْهِ. وعَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ: ؎وهم صَلَبُوا العَبْدِيَّ في جِذْعِ نَخْلَةٍ فَلا عَطَسَتْ شَيْبانُ إلّا بِأجْدَعا (p-232)وفِيهِ اسْتِعارَةٌ تَبَعِيَّةٌ. والكَلامُ في ذَلِكَ شَهِيرٌ، وقِيلَ: لا اسْتِعارَةَ أصْلًا لِأنَّ فِرْعَوْنَ نَقَرَ جُذُوعَ النَّخْلِ وصَلَبَهم في داخِلِها لِيَمُوتُوا جُوعًا وعَطَشًا ولا يَكادُ يَصِحُّ بَلْ في أصْلِ الصَّلْبِ كَلامٌ. فَقالَ بَعْضُهم: إنَّهُ أنْفَذَ فِيهِمْ وعِيدَهُ وصَلَبَهم وهو أوَّلُ مَن صَلَبَ. ولا يُنافِيهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أنْتُما ومَنِ اتَّبَعَكُما الغالِبُونَ﴾ لِأنَّ المُرادَ الغَلَبَةُ بِالحُجَّةِ. وقالَ الإمامُ: لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ في الأخْبارِ. وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ الظّاهِرَ السَّلامَةُ. وصِيغَةُ التَّفْعِيلِ في الفِعْلَيْنِ لِلتَّكْثِيرِ. وقُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ فِيهِما. ﴿ولَتَعْلَمُنَّ أيُّنا أشَدُّ عَذابًا وأبْقى﴾ يُرِيدُ مِن- نا- نَفْسَهُ ومُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِقَرِينَةِ تَقَدُّمِ ذِكْرِهِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿آمَنتُمْ لَهُ﴾ بِناءً عَلى الظّاهِرِ فِيهِ. واخْتارَ ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ وجَماعَةٌ وهَذا إمّا لِقَصْدِ تَوْضِيعِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ والهَزْءُ بِهِ لِأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَكُنْ مِنَ التَّعْذِيبِ في شَيْءٍ، وإمّا لِأنَّ إيمانَهم لَمْ يَكُنْ بِزَعْمِهِ عَنْ مُشاهَدَةِ المُعْجِزَةِ ومُعايَنَةِ البُرْهانِ بَلْ كانَ عَنْ خَوْفٍ مِن قِبَلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ حَيْثُ رَأوُا ابْتِلاعَ عَصاهُ لِحِبالِهِمْ وعِصِيِّهِمْ فَخافُوا عَلى أنْفُسِهِمْ أيْضًا. واخْتارَ أبُو حَيّانَ أنَّ المُرادَ مِنَ الغَيْرِ الَّذِي أشارَ إلَيْهِ الضَّمِيرُ رَبُّ مُوسى عَزَّ وجَلَّ الَّذِي آمَنُوا بِهِ بِقَوْلِهِمْ ﴿آمَنّا بِرَبِّ هارُونَ ومُوسى﴾ . ﴿ولَتَعْلَمُنَّ﴾ هُنا مُعَلَّقٌ و﴿أيُّنا أشَدُّ﴾ جُمْلَةٌ اسْتِفْهامِيَّةٌ مِن مُبْتَدَأٍ وخَبَرٍ في مَوْضِعِ نَصْبٍ سادَةٌ مَسَدَّ مَفْعُولَيْهِ إنْ كانَ العِلْمُ عَلى بابِهِ أوْ في مَوْضِعِ مَفْعُولٍ واحِدٍ لَهُ إنْ كانَ بِمَعْنى المَعْرِفَةِ، ويَجُوزُ عَلى هَذا الوَجْهِ أنْ يَكُونَ ﴿أيُّنا﴾ مَفْعُولًا وهو مَبْنِيٌّ عَلى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ (وأشَدُّ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أيْ هو أشَدُّ. والجُمْلَةُ صِلَةُ (أيُّ) والعائِدُ الصَّدْرُ، ﴿وعَذابًا﴾ تَمْيِيزٌ. وقَدِ اسْتَغْنى بِذِكْرِهِ مَعَ ﴿أشَدُّ﴾ عَنْ ذِكْرِهِ مَعَ ﴿أبْقى﴾ وهو مُرادٌ أيْضًا. واشْتِقاقُ أبْقى مِنَ البَقاءِ بِمَعْنى الدَّوامِ. وقِيلَ: لا يَبْعُدُ- واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ- أنْ يَكُونَ مِنَ البَقاءِ بِمَعْنى العَطاءِ فَإنَّ اللَّعِينَ كانَ يُعْطِي لِمَن يَرْضاهُ العَطايا فَيَكُونُ لِلْآيَةِ شَبَهٌ بِقَوْلِ نُمْرُوذَ ( أنا أُحْيِي وأُمِيتُ ) وهو في غايَةِ البُعْدِ عِنْدَ مَن لَهُ ذَوْقٌ سَلِيمٌ. ثُمَّ لا يَخْفى أنَّ اللَّعِينَ في غايَةِ الوَقاحَةِ ونِهايَةِ الجَلادَةِ حَيْثُ أوْعَدَ وهَدَّدَ وأبْرَقَ وأرْعَدَ مَعَ قُرْبِ عَهْدِهِ بِما شاهَدَ مِنِ انْقِلابِ العَصا حَيَّةً وما لَها مِنَ الآثارِ الهائِلَةِ حَتّى إنَّها قَصَدَتِ ابْتِلاعَ قُبَّتِهِ فاسْتَغاثَ بِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، ولا يَبْعُدُ نَحْوُ ذَلِكَ مِن فاجِرٍ طاغٍ مِثْلِهِ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب