الباحث القرآني

﴿قُلْ﴾ لِأُولَئِكَ الكَفَرَةِ المُتَمَرِّدِينَ ﴿كُلٌّ﴾ أيْ: كُلُّ واحِدٍ مِنّا ومِنكم ﴿مُتَرَبِّصٌ﴾ أيْ: مُنْتَظِرٌ لِما يَؤُولُ إلَيْهِ أمْرُنا وأمْرُكم وهو خَبَرُ ﴿كُلٌّ﴾ وإفْرادُهُ حَمْلًا لَهُ عَلى لَفْظِهِ ﴿فَتَرَبَّصُوا﴾ وقُرِئَ ( فَتَمَتَّعُوا ) (فَسَتَعْلَمُونَ) عَنْ قَرِيبٍ ﴿مَن أصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ﴾ أيِ: المُسْتَقِيمِ. وقَرَأ أبُو مِجْلَزٍ وعُمْرانُ بْنُ حُدَيْرٍ ( السَّواءِ ) أيِ الوَسَطَ، والمُرادُ بِهِ الجَيِّدُ. وقَرَأ الجَحْدَرِيُّ وابْنُ يَعْمُرَ ( السُّوأى ) بِالضَّمِّ والقَصْرِ عَلى وزْنِ فُعْلى وهو تَأْنِيثُ الأسْوَأِ وأُنِّثَ لِتَأْنِيثِ الصِّراطِ وهو مِمّا يُذَكَّرُ ويُؤَنَّثُ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما ( السَّوْءِ ) بِفَتْحٍ وسُكُونٍ وهَمْزَةٍ آخِرَهُ بِمَعْنى الشَّرِّ. وقُرِئَ ( السُّوَيِّ ) بِضَمِّ السِّينِ وفَتْحِ الواوِ وتَشْدِيدِ الياءِ وهو تَصْغِيرُ سَوْءٍ بِالفَتْحِ، وقِيلَ: تَصْغِيرُ سُوءٍ بِالضَّمِّ، وقالَ أبُو حَيّانَ: الأجْوَدُ أنْ يَكُونَ تَصْغِيرُ سَواءٍ كَما قالُوا في عَطا عُطَيٌّ لِأنَّهُ لَوْ كانَ تَصْغِيرُ ذَلِكَ لَثَبَتَتْ هَمْزَتُهُ، وقِيلَ: سُوئِي وتُعُقِّبَ بِأنَّ إبْدالَ مِثْلِ هَذِهِ الهَمْزَةِ ياءَ جائِزٌ، وعَنِ الجَحْدَرِيِّ وابْنِ يَعْمُرَ أنَّهُما قَرَأ ( السُّوى ) بِالضَّمِّ والقَصْرِ وتَشْدِيدِ الواوِ، واخْتِيرَ في تَخْرِيجِهِ أنْ يَكُونَ أصْلُهُ السُّوأى كَما في الرِّوايَةِ الأُولى فَخُفِّفَتِ الهَمْزَةُ بِإبْدالِها واوًا وأُدْغِمَتِ الواوُ في الواوِ، وقَدْ رُوعِيَتِ المُقابَلَةُ عَلى أكْثَرِ هَذِهِ القِراءاتِ بَيْنَ ما تَقَدَّمَ وقَوْلِهِ تَعالى ﴿ومَنِ اهْتَدى﴾ أيْ: مِنَ الضَّلالَةِ ولَمْ تُراعَ عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ والأُولى مِنَ الشَّواذِّ. ومَن في المَوْضِعَيْنِ اسْتِفْهامِيَّةٌ في مَحَلِّ رَفْعٍ عَلى الِابْتِداءِ والخَبَرُ ما بَعْدَ العَطْفِ مِن عَطْفِ الجُمَلِ ومَجْمُوعُ الجُمْلَتَيْنِ المُتَعاطِفَتَيْنِ سادٌّ مَسَدَّ مَفْعُولَيِ العِلْمِ أوْ مَفْعُولُهُ إنْ كانَ بِمَعْنى المَعْرِفَةِ، وجُوِّزَ كَوْنُ مِنَ الثّانِيَةِ مَوْصُولَةً فَتَكُونُ مَعْطُوفَةً عَلى مَحَلِّ الجُمْلَةِ الأُولى الِاسْتِفْهامِيَّةِ المُعَلَّقِ عَنْها الفِعْلُ عَلى أنَّ العِلْمَ بِمَعْنى المَعْرِفَةِ المُتَعَدِّيَةِ لِواحِدٍ إذْ لَوْلاهُ لَكانَ المَوْصُولُ بِواسِطَةِ العَطْفِ أحَدَ المَفْعُولَيْنِ وكانَ المَفْعُولُ الآخَرُ مَحْذُوفًا اقْتِصارًا وهو غَيْرُ جائِزٍ. وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلى (أصْحابُ) فَتَكُونُ في حَيِّزِ مَنِ الِاسْتِفْهامِيَّةِ أيْ ومَنَ الَّذِي اهْتَدى أوْ عَلى ( الصِّراطِ ) فَتَكُونُ في حَيِّزِ أصْحابٍ أيْ ومَن (أصْحابُ) الَّذِي اهْتَدى يَعْنِي النَّبِيَّ ﷺ، وإذا عَنى بِالصِّراطِ السَّوِيِّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أيْضًا كانَ العَطْفُ مِن بابِ عَطْفِ الصِّفاتِ عَلى الصِّفاتِ مَعَ اتِّحادِ الذّاتِ. وأجازَ الفَرّاءُ أنْ تَكُونَ مَنَ الأُولى مَوْصُولَةً أيْضًا بِمَعْنى الَّذِينَ وهي في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى أنَّها مَفْعُولٌ لِلْعِلْمِ بِمَعْنى المَعْرِفَةِ (وأصْحابُ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وهو العائِدُ أيِ الَّذِينَ هم أصْحابُ الصِّراطِ وهَذا جائِزٌ عَلى مَذْهَبِ الكُوفِيِّينَ فَإنَّهم يُجَوِّزُونَ حَذْفَ مِثْلِ هَذا العائِدِ سَواءٌ كانَ في الصِّلَةِ طُولٌ أوْ لَمْ يَكُنْ وسَواءٌ كانَ المَوْصُولُ أيًّا أوْ غَيْرَهُ بِخِلافِ البَصْرِيِّينَ، وما أشَدَّ مُناسِبَةَ هَذِهِ الخاتِمَةِ لِلْفاتِحَةِ. وقَدْ ذَكَرَ الطِّيبِيُّ أنَّها خاتِمَةٌ شَرِيفَةٌ ناظِرَةٌ إلى الفاتِحَةِ وأنَّهُ إذا لاحَ أنَّ القُرْآنَ أُنْزِلَ لِتَحَمُّلِ تَعَبِ الإبْلاغِ ولا تُنْهِكْ نَفْسَكَ فَحَيْثُ بَلَغْتُ وبَلَغْتَ جُهْدَكَ فَلا عَلَيْكَ وعَلَيْكَ بِالإقْبالِ عَلى طاعَتِكَ قَدْرَ طاقَتِكَ، وأْمُرْ أهْلَكَ وهم أُمَّتُكَ المُتَّبِعُونَ بِذَلِكَ ودَعِ الَّذِينَ لا يَنْجَعُ فِيهِمُ الإنْذارُ فَإنَّهُ تَذْكِرَةٌ لِمَن يَخْشى وسَيَنْدَمُ المُخالِفُ حِينَ لا يَنْفَعُهُ النَّدَمُ انْتَهى. * * * ( ومِن بابِ الإشارَةِ في الآياتِ ) ﴿فَأوْجَسَ في نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى﴾ قِيلَ: إنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ رَأى أنَّ اللَّهَ تَعالى ألْبَسَ سِحْرَ السَّحَرَةِ لِباسَ القَهْرِ فَخافَ مِنَ القَهْرِ لِأنَّهُ لا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلّا القَوْمُ الخاسِرُونَ. (p-288)وسُئِلَ ابْنُ عَطاءٍ عَنْ ذَلِكَ فَقالَ: ما خافَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى نَفْسِهِ وإنَّما خافَ عَلى قَوْمِهِ أنْ يَفُوتَهم حَظُّهم مِنَ اللَّهِ تَعالى ﴿قُلْنا لا تَخَفْ إنَّكَ أنْتَ الأعْلى﴾ أيْ: إنَّكَ المَحْفُوظُ بِعُيُونِ الرِّعايَةِ وحَرَسِ اللُّطْفِ أوْ أنْتَ الرَّفِيعُ القَدِرُ الغالِبُ عَلَيْهِمْ غَلَبَةً تامَّةً بِحَيْثُ يَكُونُونَ بِسَبَبِها مِن أتْباعِكَ فَلا يَفُوتُهم حَظُّهم مِنَ اللَّهِ تَعالى ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا﴾ إلى آخِرِ ما كانَ مِنهم فِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّ اللَّهَ تَعالى يَمُنُّ عَلى مَن يَشاءُ بِالتَّوْفِيقِ والوُصُولِ إلَيْهِ سُبْحانَهُ في أقْصَرِ وقْتٍ فَلا يُسْتَبْعَدُ حُصُولُ الكَمالِ لِمَن تابَ وسَلَكَ عَلى يَدِ كامِلٍ مُكَمِّلٍ في مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ. وكَثِيرٌ مِنَ الجَهَلَةِ يُنْكِرُونَ عَلى السّالِكِينَ التّائِبِينَ إذا كانُوا قَرِيبِي العَهْدِ بِمُقارَفَةِ الذُّنُوبِ ومُفارَقَةِ العُيُوبِ حُصُولَ الكَمالِ لَهم وفَيَضانَ الخَيْرِ عَلَيْهِمْ ويَقُولُونَ: كَيْفَ يَحْصُلُ لَهم ذَلِكَ وقَدْ كانُوا بِالأمْسِ كَيْتَ وكَيْتَ، وقَوْلُهم: ﴿لَنْ نُؤْثِرَكَ﴾ إلَخْ كَلامٌ صادِرٌ مِن عِظَمِ الهِمَّةِ الحاصِلِ لِلنَّفْسِ بِقُوَّةِ اليَقِينِ فَإنَّهُ مَتى حَصَلَ ذَلِكَ لِلنَّفْسِ لَمْ تُبالِ بِالسَّعادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ والشَّقاوَةِ البَدَنِيَّةِ واللَّذّاتِ العاجِلَةِ الفانِيَةِ والآلامِ الحِسِّيَّةِ في جَنْبِ السَّعادَةِ الأُخْرَوِيَّةِ واللَّذَّةِ الباقِيَةِ الرُّوحانِيَّةِ ﴿ولَقَدْ أوْحَيْنا إلى مُوسى أنْ أسْرِ بِعِبادِي﴾ إلَخْ فِيهِ إشارَةٌ إلى اسْتِحْبابِ مُفارَقَةِ الأغْيارِ وتَرْكِ صُحْبَةِ الأشْرارِ ﴿ولا تَطْغَوْا فِيهِ﴾ عَدَّ مِنَ الطُّغْيانِ فِيهِ اسْتِعْمالَهُ مَعَ الغَفْلَةِ عَنِ اللَّهِ تَعالى وعَدَمِ نِيَّةِ التَّقْوى بِهِ عَلى تَقْواهُ عَزَّ وجَلَّ ﴿وما أعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى﴾ الإشارَةُ فِيهِ أنَّهُ يَنْبَغِي لِلرَّئِيسِ رِعايَةُ الأصْلَحِ في حَقِّ المَرْءُوسِ ولِلشَّيْخِ عَدَمُ فِعْلِ ما يُخْشى مِنهُ سُوءُ ظَنِّ المُرِيدِ لا سِيَّما إذا لَمْ يَكُنْ لَهُ رُسُوخٌ أصْلًا ﴿قالَ فَإنّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ﴾ . قالَ ابْنُ عَطاءٍ: إنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بَعْدَ أنْ أخْبَرَهُ بِذَلِكَ: أتَدْرِي مِن أيْنَ أُتِيتَ؟ قالَ: لا يا رَبِّ، قالَ سُبْحانَهُ: مِن قَوْلِكَ لِهارُونَ: اخْلُفْنِي في قَوْمِي وعَدَمِ تَفْوِيضِ الأمْرِ إلَيَّ والِاعْتِمادِ في الخِلافَةِ عَلَيَّ. وذَكَرَ بَعْضُهم أنَّ سِرَّ إخْبارِ اللَّهِ تَعالى إيّاهُ بِما ذُكِرَ مُباسَطَتُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ وشَغْلُهُ بِصُحْبَتِهِ عَنْ صُحْبَةِ الأضْدادِ وهو كَما تَرى ﴿وأضَلَّهُمُ السّامِرِيُّ﴾ صارَ سَبَبَ ضَلالِهِمْ بِما صَنَعَ قالَ بَعْضُ أهْلِ التَّأْوِيلِ: إنَّما ابْتَلاهُمُ اللَّهُ تَعالى بِما ابْتَلاهم لِيَتَمَيَّزَ مِنهُمُ المُسْتَعِدُّ القابِلُ لِلْكَمالِ بِالتَّجْرِيدِ مِنَ القاصِرِ الِاسْتِعْدادِ المُنْغَمِسِ في المَوادِّ الَّذِي لا يُدْرِكُ إلّا المَحْسُوسَ ولا يَتَنَبَّهُ لِلْمُجَرَّدِ المَعْقُولِ. ولِهَذا قالُوا: ﴿ما أخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا﴾ أيْ بِرَأْيِنا فَإنَّهم عَبِيدٌ بِالطَّبْعِ لا رَأْيَ لَهم ولا مَلَكَةَ ولَيْسُوا مُخْتارِينَ لا طَرِيقَ لَهم إلّا التَّقْلِيدُ والعَمَلُ لا التَّحْقِيقُ والعِلْمُ وإنَّما اسْتَعْبَدَهُمُ السّامِرِيُّ بِالطَّلْسَمِ المُفَرَّغِ مِنَ الحُلِيِّ لِرُسُوخِ مُحِبَّةِ الذَّهَبِ في نُفُوسِهِمْ لِأنَّها سُفْلِيَّةٌ مُنْجَذِبَةٌ إلى الطَّبِيعَةِ الجُسْمانِيَّةِ وتُزَيِّنُ الطَّبِيعَةَ الذَّهَبِيَّةَ وتُحِلِّي تِلْكَ الصُّورَةَ النَّوْعِيَّةَ فِيها لِلتَّناسُبِ الطَّبِيعِيِّ وكانَ ذَلِكَ مِن بابِ مَزْجِ القُوى السَّماوِيَّةِ الَّتِي هي أثَرُ النَّفْسِ الحَيَوانِيَّةِ الكُلِّيَّةِ السَّماوِيَّةِ المُشارِ إلَيْها بِحَيْزُومَ وفَرَسِ الحَياةِ وهي مَرْكَبُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ المُشارُ بِهِ إلى العَقْلِ الفَعّالِ بِالقُوى الأرْضِيَّةِ ولِذَلِكَ قالَ: ﴿بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ﴾ أيْ: مِنَ العِلْمِ الطَّبِيعِيِّ والرِّياضِيِّ اللَّذَيْنِ يُبْتَنى عَلَيْهِما عِلْمُ الطَّلْسَماتِ والسِّيمِياءِ ﴿قالَ فاذْهَبْ فَإنَّ لَكَ في الحَياةِ أنْ تَقُولَ لا مِساسَ﴾ قالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ السَّلامُ غَضَبًا عَلى السّامِرِيِّ وطَرْدًا لَهُ وكُلُّ مَن غَضِبَ عَلَيْهِ الأنْبِياءُ وكَذا الأوْلِياءُ لِكَوْنِهِمْ مَظاهِرَ صِفاتِ الحَقِّ تَعالى وقَعَ في قَهْرِهِ عَزَّ وجَلَّ وشَقِيَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ وكانَتْ صُورَةُ عَذابِ هَذا الطَّرِيدِ في التَّحَرُّزِ عَنِ المُماسَّةِ نَتِيجَةً بَعْدَهُ عَنِ الحَقِّ في الدَّعْوَةِ إلى الباطِلِ وأثَرِ لَعْنِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ إيّاهُ عِنْدَ إبْطالِ كَيْدِهِ وإزالَةِ مَكْرِهِ ﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ الجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفًا﴾ قالَ أهْلُ الوَحْدَةِ: أيْ يَسْألُونَكَ عَنْ وجُوداتِ الأشْياءِ فَقُلْ: يَنْسِفُها رَبِّي بِرِياحِ النَّفَحاتِ الإلَهِيَّةِ النّاشِئَةِ مِن مَعْدِنِ الأحَدِيَّةِ فَيَذْرُها في القِيامَةِ الكُبْرى قاعًا صَفْصَفًا وُجُودًا أحَدِيًّا ﴿لا تَرى فِيها عِوَجًا ولا أمْتًا﴾ اثْنَيْنِيَّةً ولا غَيْرِيَّةً ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدّاعِيَ﴾ (p-289)الَّذِي هو الحَقُّ سُبْحانَهُ لا عِوَجَ لَهُ إذْ هو تَعالى آخِذٌ بِنَواصِيهِمْ وهو عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿وخَشَعَتِ الأصْواتُ لِلرَّحْمَنِ﴾ إذْ لا فِعْلَ لِغَيْرِهِ عَزَّ وجَلَّ ﴿فَلا تَسْمَعُ إلا هَمْسًا﴾ أمْرًا خَفِيًّا بِاعْتِبارِ الإضافَةِ إلى المَظاهِرِ. انْتَهى. ولَكَمْ لَهم مِثْلُ هَذِهِ التَّأْوِيلاتِ واللَّهُ تَعالى العاصِمُ ﴿يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إلا مَن أذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ ورَضِيَ لَهُ قَوْلا﴾ قِيلَ: هو مَن صَحَّحَ فِعْلَهُ وعَقْدَهُ ولَمْ يَنْسُبْ لِنَفْسِهِ شَيْئًا ولا رَأى لَها عَمَلًا ﴿ولا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ لِكَمالِ تَقَدُّسِهِ وتَنَزُّهِهِ وجَلالِهِ سُبْحانَهُ عَزَّ وجَلَّ فَهَيْهاتَ أنْ تُحَلِّقَ بَعُوضَةُ الفِكْرِ في جَوِّ سَماءِ الجَبَرُوتِ ومِن أيْنَ لِنَحْلَةِ النَّفْسِ النّاطِقَةِ أنْ تَرْعى أزْهارَ رِياضِ بَيْداءِ اللّاهُوتِ، نَعَمْ يَتَفاوَتُ الخَلْقُ في العِلْمِ بِصِفاتِهِ عَزَّ وجَلَّ عَلى قَدْرِ تَفاوُتِ اسْتِعْداداتِهِمْ وهو العِلْمُ المُشارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ وقِيلَ: هَذا إشارَةٌ إلى العِلْمِ اللَّدُنِّيِّ، والإشارَةُ في قِصَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ إلى أنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإنْسانِ مَزِيدُ التَّحَفُّظِ عَنِ الوُقُوعِ في العِصْيانِ، ولِلَّهِ تَعالى دَرُّ مَن قالَ: ؎يا ناظِرًا يَرْنُو بِعَيْنَيْ راقِدٍ ومُشاهِدًا لِلْأمْرِ غَيْرَ مُشاهِدِ ؎مَنَّيْتَ نَفْسَكَ ضَلَّةً وأبَيْتَها ∗∗∗ طُرُقُ الرَّجاءِ وهُنَّ غَيْرُ قَواصِدِ ؎تَصِلُ الذُّنُوبَ إلى الذُّنُوبِ وتَرْتَجِي ∗∗∗ دَرَجَ الجِنانِ بِها وفَوْزِ العابِدِ ؎ونَسِيتَ أنَّ اللَّهَ أخْرَجَ آدَمًا ∗∗∗ مِنها إلى الدُّنْيا بِذَنْبٍ واحِدِ ورَوى الضَّحّاكُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: بَيْنا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ يَبْكِي جاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَبَكى آدَمُ وبَكى جِبْرِيلُ لِبُكائِهِ عَلَيْهِما السَّلامُ وقالَ: يا آدَمُ ما هَذا البُكاءُ؟ قالَ: يا جِبْرِيلُ وكَيْفَ لا أبْكِي وقَدْ حَوَّلَنِي رَبِّي مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ ومِن دارِ النِّعْمَةِ إلى دارِ البُؤْسِ فانْطَلَقَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِمَقالَةِ آدَمَ فَقالَ اللَّهُ تَعالى: يا جِبْرِيلُ انْطَلِقْ إلَيْهِ فَقُلْ لَهُ: يا آدَمُ يَقُولُ لَكَ رَبُّكَ: ألَمْ أخْلُقْكَ بِيَدِي؟ ألَمْ أنْفُخْ فِيكَ مِن رُوحِي؟ ألَمْ أُسْجِدْ لَكَ مَلائِكَتِي ألَمْ أُسْكِنْكَ جَنَّتِي ألَمْ آمُرْكَ فَعَصَيْتَنِي فَوَعِزَّتِي وجَلالِي لَوْ أنَّ مَلْءَ الأرْضِ رِجالًا مِثْلَكَ ثُمَّ عَصَوْنِي لَأنْزَلَتْهم مَنازِلَ العاصِينَ غَيْرَ أنَّهُ يا آدَمُ قَدْ سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي وقَدْ سَمِعْتُ تَضَرُّعَكَ ورَحِمْتَ بُكاءَكَ وأقَلْتَ عَثْرَتَكَ. ﴿ومَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾ أيْ بِالتَّوَجُّهِ إلى العالَمِ السُّفْلِيِّ ﴿فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ لِغَلَبَةِ شُحِّهِ وشِدَّةِ بُخْلِهِ فَإنَّ المُعْرِضَ عَنْ جَنابِ الحَقِّ سُبْحانَهُ انْجَذَبَتْ نَفْسُهُ إلى الزَّخارِفِ الدُّنْيَوِيَّةِ والمُقْتَنَياتِ المادِّيَّةِ لِمُناسَبَتِها إيّاهُ واشْتَدَّ حِرْصُهُ وكَلْبُهُ عَلَيْها وشَغَفُهُ بِها لِلْجِنْسِيَّةِ والِاشْتِراكِ في الظُّلْمَةِ والمِيلِ إلى الجِهَةِ السُّفْلِيَّةِ فَيَشِحُّ بِها عَنْ نَفْسِهِ وغَيْرِهِ، وكُلَّما اسْتَكْثَرَ مِنها ازْدادَ حِرْصُهُ عَلَيْها وشُحُّهُ بِها وتِلْكَ المَعِيشَةُ الضَّنْكُ. ولِهَذا قالَ بَعْضُهم: لا يُعْرِضُ أحَدٌ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ سُبْحانَهُ إلّا أظْلَمَ عَلَيْهِ وقْتَهُ وتَشَوَّشَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ بِخِلافِ الذّاكِرِ المُتَوَجِّهِ إلَيْهِ تَعالى فَإنَّهُ ذُو يَقِينٍ مِنهُ عَزَّ وجَلَّ وتَوَكُّلٍ عَلَيْهِ تَعالى في سِعَةٍ مِن عَيْشِهِ ورَغَدٍ يُنْفِقُ ما يَجِدُ ويَسْتَغْنِي بِرَبِّهِ سُبْحانَهُ عَمّا يَفْقِدُ ﴿والعاقِبَةُ لِلتَّقْوى﴾ أيِ: العاقِبَةُ الَّتِي تَعْتَبِرُ وتَسْتَأْهِلُ أنْ تُسَمّى عاقِبَةً لِأهْلِ التَّقْوى المُتَخَلِّينَ عَنِ الرَّذائِلِ النَّفْسانِيَّةِ المُتَحَلِّينَ بِالفَضائِلِ الرُّوحانِيَّةِ، نَسْألُ اللَّهَ تَعالى أنْ يَمُنَّ عَلَيْنا بِحُسْنِ العاقِبَةِ وصَفاءِ العُمْرِ عَنِ المُشاغَبَةِ ونَحْمَدُهُ سُبْحانَهُ عَلى آلائِهِ ونُصَلِّي ونُسَلِّمُ عَلى خَيْرِ أنْبِيائِهِ وعَلى آلِهِ خَيْرِ آلٍ ما طَلَعَ نَجْمٌ ولَمَعَ آلٌ. تَمَّ الجُزْءُ السّادِسَ عَشَرَ، ويَلِيهِ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى الجُزْءُ السّابِعَ عَشَرَ، وأوَّلُهُ سُورَةُ الأنْبِياءِ. .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب