الباحث القرآني

﴿إنَّ لَكَ ألا تَجُوعَ فِيها ولا تَعْرى﴾ ﴿وأنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيها ولا تَضْحى﴾ أيْ ولا تُصِيبُكَ الشَّمْسُ يُقالُ: ضَحا كَسَعى وضَحِي كَرَضِيَ ضَحْوًا وضَحْيًا إذا أصابَتْهُ الشَّمْسُ، ويُقالُ ضُحًا وضَحْوًا وضُحُوًّا وضُحُيًّا إذا بَرَزَ لَها، وأنْشَدُوا قَوْلَ عَمْرِو بْنِ أبِي رَبِيعَةَ: ؎رَأتْ رَجُلًا أمّا إذا الشَّمْسُ عارَضَتْ فَيَضْحى وأمّا بِالعَشِيِّ فَيَخْصُرُ وفَسَّرَ بَعْضُهم ما في الآيَةِ بِذَلِكَ والتَّفْسِيرُ الأوَّلُ مَرْوِيٌّ عَنْ عِكْرِمَةَ، وأيًّا ما كانَ فالمُرادُ نَفْيُ أنْ يَكُونَ بِلا كُنْ، والجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِما يُوجِبُهُ النَّهْيُ فَإنَّ اجْتِماعَ أسْبابِ الرّاحَةِ فِيها مِمّا يُوجِبُ المُبالَغَةَ في الِاهْتِمامِ بِتَحْصِيلِ مَبادِئِ البَقاءِ فِيها والجِدِّ في الِانْتِهاءِ عَمّا يُؤَدِّي إلى الخُرُوجِ عَنْها، والعُدُولِ عَنِ التَّصْرِيحِ بِأنَّ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ فِيها تَنَعُّمًا بِفُنُونِ النِّعَمِ مِنَ المَآكِلِ والمَشارِبِ وتَمَتُّعًا بِأصْنافِ المَلابِسِ البَهِيَّةِ والمَساكِنِ المَرْضِيَّةِ مَعَ أنَّ فِيهِ مِنَ التَّرْغِيبِ في الإبْقاءِ فِيها ما لا يَخْفى إلى ما ذُكِرَ مِن نَفْيِ نَقائِضِها الَّتِي هي الجُوعُ والعَطَشُ والعُرْيُ والضَّحْوُ لِتَذْكِيرِ تِلْكَ الأُمُورِ المُنْكَرَةِ والتَّنْبِيهِ عَلى ما فِيها مِن أنْواعِ الشِّقْوَةِ الَّتِي حَذَّرَهُ سُبْحانَهُ عَنْها لِيُبالِغَ في التِحامِي عَنِ السَّبَبِ المُؤَدِّي إلَيْها، ومَعْنى ﴿ألا تَجُوعَ﴾ إلَخْ أنْ لا يُصِيبَهُ شَيْءٌ مِنَ الأُمُورِ الأرْبَعَةِ أصْلًا فَإنَّ الشِّبَعَ والرِّيَّ والكُسْوَةَ والكِنَّ قَدْ تَحْصُلُ بَعْدَ عُرُوضِ أضْدادِها ولَيْسَ الأمْرُ فِيها كَذَلِكَ بَلْ كُلَّما وقَعَ فِيها شَهْوَةٌ ومَيْلٌ إلى شَيْءٍ مِنَ الأُمُورِ المَذْكُورَةِ تَمَتَّعَ بِهِ مِن غَيْرِ أنْ يَصِلَ إلى حَدِّ الضَّرُورَةِ، عَلى أنَّ التَّرْغِيبَ قَدْ حَصَلَ بِما سُوِّغَ لَهُ مِنَ التَّمَتُّعِ بِجَمِيعِ ما فِيها سِوى الشَّجَرَةِ حَسْبَما يَنْطِقُ بِهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا آدَمُ اسْكُنْ أنْتَ وزَوْجُكَ الجَنَّةَ وكُلا مِنها رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُما﴾ وقَدْ طُوِيَ ذِكْرُهُ هاهُنا اكْتِفاءً بِذَلِكَ واقْتُصِرَ عَلى ما ذُكِرَ مِنَ التَّرْغِيبِ المُتَضَمِّنِ لِلتَّرْهِيبِ، وقالَ بَعْضُهم: إنَّ الِاقْتِصارَ عَلى ما ذُكِرَ لِما وقَعَ في سُؤالِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَإنَّهُ رُوِيَ أنَّهُ لَمّا أمَرَهُ سُبْحانَهُ بِسُكْنى الجَنَّةِ قالَ إلَهِي ألِي فِيها ما آكُلُ؟ ألِي فِيها ما ألْبَسُ؟ ألِي فِيها ما أشْرَبُ؟ ألِي فِيها ما أسْتَظِلُّ بِهِ؟ فَأُجِيبَ بِما ذُكِرَ، وفي القَلْبِ مِن صِحَّةِ الرِّوايَةِ شَيْءٌ. (p-272)ووَجْهُ إفْرادِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ بِما ذُكِرَ ما مَرَّ آنِفًا، وقِيلَ: كَوْنُهُ السّائِلَ وكانَ الظّاهِرُ عَدَمَ الفَصْلِ بَيْنَ الجُوعِ والظَّمَأِ والعُرْيِ والضَّحْوِ لِلتَّجانُسِ والتَّقارُبِ إلّا أنَّهُ عَدَلَ عَنِ المُناسَبَةِ المَكْشُوفَةِ إلى مُناسَبَةٍ أتَمَّ مِنها وهي أنَّ الجُوعَ خُلُوُّ الباطِنِ والعُرْيَ خُلُوُّ الظّاهِرِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ لا يَخْلُو باطِنُكَ وظاهِرُكَ عَمّا يُهِمُّهُما، وجَمَعَ بَيْنَ الظَّمَأِ المُوَرِّثِ حَرارَةَ الباطِنِ والبُرُوزِ لِلشَّمْسِ وهو الضَّحْوُ المُورِثُ حَرارَةَ الظّاهِرِ فَكَأنَّهُ قِيلَ: لا يُؤْلِمُكَ حَرارَةُ الباطِنِ والظّاهِرِ وذَلِكَ الوَصْلُ الخَفِيُّ وهو سِرٌّ بَدِيعٌ مِن أسْرارِ البَلاغَةِ، وفي الكَشْفِ إنَّما عَدَلَ إلى المَنزِلِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ الشِّبَعَ والكُسْوَةَ أصْلانِ وأنَّ الأخِيرَيْنِ مُتَمِّمانِ عَلى التَّرْتِيبِ فالِامْتِنانُ عَلى هَذا الوَجْهِ أظْهَرُ ولِهَذا فُرِّقَ بَيْنَ القَرِينَتَيْنِ فَقِيلَ أوَّلًا (إنَّ لَكَ) وثانِيًا (أنَّكَ)، وقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ العَلّامَةَ الطِّيبِيُّ أيْضًا ثُمَّ قالَ: وفي تَنْسِيقِ المَذْكُوراتِ الأرْبَعَةِ مُرَتَّبَةً هَكَذا مُقَدَّمًا ما هو الأهَمُّ فالأهَمُّ ثُمَّ في جَعْلِها تَفْصِيلًا لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقى﴾ وتَكْرِيرُ لَفْظَةٍ فِيها وإخْراجُها في صِيغَةِ النَّفْيِ مُكَرَّرَةَ الأداةِ الإيماءُ إلى التَّعْرِيضِ بِأحْوالِ الدُّنْيا وأنْ لا بُدَّ مِن مُقاساتِها (فِيها) لِأنَّها خُلِقَتْ لِذَلِكَ وأنَّ الجَنَّةَ ما خُلِقَتْ إلّا لِلتَّنَعُّمِ ولا يُتَصَوَّرُ فِيها غَيْرُهُ. وفي الِانْتِصافِ أنَّ في الآيَةِ سِرًّا بَدِيعًا مِنَ البَلاغَةِ يُسَمّى قَطْعَ النَّظِيرِ عَنِ النَّظِيرِ، والغَرَضُ مِن ذَلِكَ تَحْقِيقُ تَعْدادِ هَذِهِ النِّعَمِ ولَوْ قُرِنَ كُلٌّ بِشَكْلِهِ لَتُوُهِّمَ المَقْرُونانِ نِعْمَةً واحِدَةً، وقَدْ رَمَقَ أهْلُ البَلاغَةِ سَماءَ هَذا المَعْنى قَدِيمًا وحَدِيثًا فَقالَ الكِنْدِيُّ الأوَّلُ: ؎كَأنِّي لَمْ أرْكَبْ جَوادًا لِلَذَّةٍ ∗∗∗ ولَمْ أتَبَطَّنْ كاعِبًا ذاتَ خَلْخالِ ؎ولَمْ أسَبَأِ الزِّقَّ الرَّوِيَّ ولَمْ أقُلْ ∗∗∗ لِخَيْلِي كُرِّي كَرَّةً بَعْدَ إجْفالِ فَقَطَعَ رُكُوبَ الجَوادِ عَنْ قَوْلِهِ لِخَيْلِهِ: كُرِّي كَرَّةً وقَطَعَ تَبَطُّنَ الكاعِبِ عَنْ تَرَشُّفِ الكَأْسَ مَعَ التَّناسُبِ، وغَرَضُهُ أنْ يُعَدِّدَ مَلاذَهُ ومَفاخِرَهُ ويُكَثِّرَها، وتَبِعَهُ الكَنَدِيُّ الآخَرُ فَقالَ: ؎وقَفْتُ وما في المَوْتِ شَكٌّ لِواقِفٍ ∗∗∗ كَأنَّكَ في جَفْنِ الرَّدى وهو نائِمُ ؎تَمُرُّ بِكَ الأبْطالُ كَلْمى هَزِيمَةٍ ∗∗∗ ووَجْهُكَ ضَحّاكٌ وثَغْرُكَ باسِمُ وقَدِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إذْ قَطَعَ الشَّيْءَ عَنْ نَظِيرِهِ فَقالَ لَهُ: إنْ كُنْتَ أخْطَأْتَ بِذَلِكَ فَقَدْ أخْطَأ امْرُؤُ القَيْسِ بِقَوْلِهِ وأنْشَدَ البَيْتَيْنِ السّابِقَيْنِ، وفي الآيَةِ سِرٌّ لِذَلِكَ أيْضًا زائِدٌ عَلى ما ذُكِرَ وهو قَصْدٌ تُناسِبُ الفَواصِلَ ا هـ. وقَدْ يُقالُ في بَيْتِي الأوَّلِ: إنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ رُكُوبِ الخَيْلِ لِلَذَّةِ والنُّزْهَةِ وتَبَطُّنِ الكاعِبِ لِلَّذَّةِ الحاصِلَةِ فِيهِما، وجَمَعَ بَيْنَ سَبْءٍ الزَقْ وقَوْلِهِ لِخَيْلِهِ: كُرِّي لِما فِيهِما مِنَ الشَّجاعَةِ، ثُمَّ ما ذُكِرَ مِن قَصْدِ تَناسُبِ الفَواصِلِ في الآيَةِ ظاهِرٌ في أنَّهُ لَوْ عَدَلَ عَنْ هَذا التَّرْتِيبِ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ وهو غَيْرُ مُسَلَّمٍ. وقَرَأ شَيْبَةُ ونافِعٌ وحَفْصٌ وابْنُ سَعْدانَ ( إنَّكَ ) بِكَسْرِ الهَمْزَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ بِفَتْحِها عَلى أنَّ العَطْفَ عَلى أنْ لا تَجُوعَ وهو في تَأْوِيلِ مَصْدَرِ اسْمٍ لِأنْ وصِحَّةُ وُقُوعِ ما صَدَرَ بِأنِ المَفْتُوحَةَ اسْمًا لِأنَّ المَكْسُورَةَ المُشارِكَةَ لَها في إفادَةِ التَّحْقِيقِ مَعَ امْتِناعِ وُقُوعِها خَبَرًا لَها لِما أنَّ المَحْذُورَ وهو اجْتِماعُ حُرٍّ في التَّحْقِيقِ في مادَّةٍ واحِدَةٍ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيما نَحْنُ فِيهِ لِاخْتِلافِ مَناطِ التَّحْقِيقِ فِيما في حَيِّزِها بِخِلافِ ما لَوْ وقَعَتْ خَبَرًا فَإنَّ اتِّحادَ المَناطِ حِينَئِذٍ مِمّا لا رَيْبَ فِيهِ، وبَيانُهُ عَلى ما في إرْشادِ العَقْلِ السَّلِيمِ أنَّ كُلَّ واحِدَةٍ مِنَ الأداتَيْنِ مَوْضُوعَةٌ لِتَحْقِيقِ (p-273)مَضْمُونِ الجُمْلَةِ الخَبَرِيَّةِ المُنْعَقِدَةِ مِنِ اسْمِها وخَبَرِها ولا يَخْفى أنَّ مَرْجِعَ خَبَرِيَّتِها ما فِيها مِنَ الحِكَمِ وأنَّ مَناطَهُ الخَبَرُ لا الِاسْمُ فَمَدْلُولُ كُلٍّ مِنهُما تَحْقِيقُ ثُبُوتِ خَبَرِها لِاسْمِها لا ثُبُوتِ اسْمِها في نَفْسِهِ فاللّازِمُ مِن وُقُوعِ الجُمْلَةِ المُصَدَّرَةِ بِالمَفْتُوحَةِ اسْمًا لِلْمَكْسُورَةِ تَحْقِيقُ ثُبُوتِ خَبَرِها لِتِلْكَ الجُمْلَةِ المُؤَوَّلَةِ بِالمَصْدَرِ، وأمّا تَحْقِيقُ ثُبُوتِها في نَفْسِها فَهو مَدْلُولُ المَفْتُوحَةِ فَلا يَلْزَمُ اجْتِماعُ حُرٍّ في التَّحْقِيقِ في مادَّةٍ واحِدَةٍ قَطْعًا، وإنَّما لَمْ يَجُزْ أنْ يُقالَ: إنَّ أنَّ زَيْدًا قائِمُ حَقٍّ مَعَ اخْتِلافِ المَناطِ بَلْ شَرَطُوا الفَصْلَ بِالخَبَرِ كَقَوْلِنا: إنَّ عِنْدِي أنَّ زَيْدًا قائِمُ حَقٍّ لِلتَّجافِي عَنْ صُورَةِ الِاجْتِماعِ، والواوُ العاطِفَةُ وإنْ كانَتْ نائِبَةً عَنِ المَكْسُورَةِ الَّتِي يَمْتَنِعُ دُخُولُها عَلى المَفْتُوحَةِ بِلا فَصْلٍ وقائِمَةٌ مَقامَها في إفْضاءِ مَعْناها وإجْراءِ أحْكامِها عَلى مَدْخُولِها لَكِنَّها حَيْثُ لَمْ تَكُنْ حَرْفًا مَوْضُوعًا لِلتَّحْقِيقِ لَمْ يَلْزَمْ مِن دُخُولِها اجْتِماعُ حُرٍّ في التَّحْقِيقِ أصْلًا. فالمَعْنى إنَّ لَكَ عَدَمَ الجُوعِ وعَدَمَ العُرْيِ وعَدَمَ الظَّمَأِ خَلا أنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلى بَيانِ أنَّ الثّابِتَ لَهُ عَدَمُ الظَّمَأِ والضَّحْوِ مُطْلَقًا كَما فُعِلَ مِثْلُهُ في المَعْطُوفِ عَلَيْهِ بَلْ قُصِدَ بَيانُ أنَّ الثّابِتَ لَهُ تَحْقِيقُ عَدَمِهِما فَوُضِعَ مَوْضِعَ الحَرْفِ المَصْدَرِيِّ المَحْضِ أنْ المُفِيدَةُ لَهُ كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّ لَكَ فِيها عَدَمَ ظَمَئِكَ عَلى التَّحْقِيقِ انْتَهى. ويَحْتاجُ عَلَيْهِ إلى بَيانِ النُّكْتَةِ في عَدَمِ الِاقْتِصارِ عَلى بَيانِ أنَّ الثّابِتَ لَهُ عَدَمُ الظَّمَأِ مُطْلَقًا كَما فُعِلَ مِثْلُهُ في المَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَتَأمَّلْ ولا تَغْفُلْ. وقِيلَ: إنَّ الواوَ وإنْ كانَتْ نائِبَةً عَنْ إنَّ هُنا إلّا أنَّهُ يُلاحَظُ بَعْدَها (لَكَ) المَوْجُودُ بَعْدَ أنِ الَّتِي نابَتْ عَنْها فَيَكُونُ هُناكَ فاصِلٌ ولا يَمْتَنِعُ الدُّخُولُ مَعَهُ وهو كَما تَرى، ولا يَخْفى عَلَيْكَ أنَّ العَطْفَ عَلى قِراءَةِ الكَسْرِ عَلى أنَّ الأُولى مَعَ مَعْمُولَيْها لا عَلى اسْمِها ولا كَلامَ في ذَلِكَ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب