الباحث القرآني

﴿إذْ رَأى﴾ نارًا ولَمْ يُجَوِّزْ تَعَلُّقَهُ عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ اسْمًا لِلْكَلامِ والخَبَرُ لِأنَّهُ حِينَئِذٍ كالجَوامِدِ لا يَعْمَلُ، والأظْهَرُ أنَّهُ اسْمٌ لِما ذُكِرَ لِأنَّهُ هو المَعْرُوفُ مَعَ أنَّ وصْفَ القِصَّةِ بِالإتْيانِ أوْلى مِن وصْفِ التَّحَدُّثِ والتَّكَلُّمِ بِهِ، وأمْرُ التَّعَلُّقِ سَهْلٌ، فَإنَّ الظَّرْفَ يَكْفِي لِتَعَلُّقِهِ رائِحَةُ الفِعْلِ، ولِذا نَقَلَ الشَّرِيفُ عَنْ بَعْضِهِمْ أنَّ القِصَّةَ والحَدِيثَ والخَبَرَ والنَّبَأ يَجُوزُ إعْمالُها في الظُّرُوفِ خاصَّةً وإنْ لَمْ يُرَدْ بِها المَعْنى المَصْدَرِيُّ لِتَضَمُّنِ مَعْناها الحُصُولَ والكَوْنَ. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِمُضْمَرٍ مُؤَخَّرٍ أيْ حِينَ رَأى نارًا كانَ كَيْتَ وكَيْتَ، وأنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لِمُضْمَرٍ مُتَقَدِّمٍ أيْ فاذْكُرْ وقْتَ رُؤْيَتِهِ نارًا. رُوِيَ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ اسْتَأْذَنَ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلامُ في الخُرُوجِ مِن مَدْيَنَ إلى مِصْرَ لِزِيارَةِ أُمِّهِ وأخِيهِ، وقَدْ طالَتْ مُدَّةُ جِنايَتِهِ بِمِصْرَ ورَجا خَفاءَ أمْرِهِ، فَأُذِنَ لَهُ وكانَ عَلَيْهِ السَّلامُ رَجُلًا غَيُورًا، فَخَرَجَ بِأهْلِهِ ولَمْ يَصْحَبْ رُفْقَةً لِئَلّا تُرى امْرَأتُهُ، وكانَتْ عَلى أتانٍ وعَلى ظَهْرِها جُوالِقٌ فِيها أثاثُ البَيْتِ ومَعَهُ غَنَمٌ لَهُ وأخَذَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى غَيْرِ الطَّرِيقِ مَخافَةً مِن مُلُوكِ الشّامِ فَلَمّا وافى وادِي طُوًى وهو بِالجانِبِ الغَرْبِيِّ مِنَ الطُّورِ وُلِدَ لَهُ ابْنٌ في لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ شاتِيَةٍ مُثْلِجَةٍ، وكانَتْ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ وقَدْ ضَلَّ الطَّرِيقَ وتَفَرَّقَتْ ماشِيَتُهُ ولا ماءَ عِنْدَهُ وقَدَحَ فَصَلَدَ زَنْدَهُ فَبَيْنَما هو كَذَلِكَ إذْ رَأى نارًا عَلى يَسارِ الطَّرِيقِ مِن جانِبِ الطُّورِ ﴿فَقالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا﴾ أيْ أقِيمُوا مَكانَكم أمَرَهم عَلَيْهِ السَّلامُ بِذَلِكَ لِئَلّا يَتْبَعُوهُ فِيما عَزَمَ عَلَيْهِ مِنَ الذَّهابِ إلى النّارِ كَما هو المُعْتادُ لا لِئَلّا يَنْتَقِلُوا إلى مَوْضِعٍ آخَرَ فَإنَّهُ مِمّا لا يَخْطُرُ بِالبالِ، والخِطابُ قِيلَ: لِلْمَرْأةِ والوَلَدِ والخادَمِ، وقِيلَ: لِلْمَرْأةِ وحْدَها والجَمْعُ إمّا لِظاهِرِ لَفْظِ الأهْلِ أوْ لِلتَّفْخِيمِ كَما في قَوْلِ مَن قالَ: ؎وإنْ شِئْتَ حَرَّمْتَ النِّساءَ سِواكُمْ وقَرَأ الأعْمَشُ وطَلْحَةُ وحَمْزَةُ ونافِعٌ في رِوايَةٍ ( لِأهْلِهِ امْكُثُوا ) بِضَمِّ الهاءِ ﴿إنِّي آنَسْتُ﴾ نارًا أيْ أبْصَرْتُها إبْصارًا بَيِّنًا لا شُبْهَةَ فِيهِ، ومِن ذَلِكَ إنْسانُ العَيْنِ والإنْسُ خِلافُ الجِنِّ، وقِيلَ: الإيناسُ خاصٌّ بِإبْصارِ ما يُؤْنَسُ بِهِ، وقِيلَ: هو بِمَعْنى الوِجْدانِ، قالَ الحارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: ؎آنَسَتْ نَبْأةً وقَدْ راعَها القَنَّ ∗∗∗ اصُ يَوْمًا وقَدْ دَنا الإمْساءُ والجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلْأمْرِ والمَأْمُورِ بِهِ ولَمّا كانَ الإيناسُ مَقْطُوعًا مُتَيَقَّنًا حَقَّقَهُ لَهم بِكَلِمَةِ إنَّ لِيُوَطِّنَ أنْفُسَهم وإنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ تَرَدُّدٌ أوْ إنْكارٌ ﴿لَعَلِّي آتِيكم مِنها﴾ أيْ أجِيئُكم مِنَ النّارِ (بِقَبَسٍ) بِشُعْلَةٍ مُقْتَبَسَةٍ تَكُونُ عَلى رَأْسِ عَوْدٍ ونَحْوِهِ فَفِعْلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ وهو المُرادُ بِالشِّهابِ القَبَسِ وبِالجَذْوَةِ في مَوْضِعٍ آخَرَ (p-166)وتَفْسِيرُهُ بِالجَمْرَةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وهَذا الجارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِآتِيكم، وأمّا مِنها فَيُحْتَمَلُ لِأنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِهِ وأنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِن (قَبَسِ) عَلى ما قالَهُ أبُو البَقاءِ ﴿أوْ أجِدُ عَلى النّارِ هُدًى﴾ هادِيًا يَدُلُّنِي عَلى الطَّرِيقِ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ الفاعِلُ مُبالَغَةً أوْ حُذِفَ مِنهُ المُضافُ أيْ ذا هِدايَةٍ أوْ عَلى أنَّهُ إذا وُجِدَ الهادِي فَقَدْ وُجِدَ الهُدى، وعَنِ الزَّجّاجِ أنَّ المُرادَ هادِيًا يَدُلُّنِي عَلى الماءِ فَإنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قَدْ ضَلَّ عَنِ الماءِ، وعَنْ مُجاهِدٍ، وقَتادَةَ أنَّ المُرادَ هادِيًا يَهْدِينِي إلى أبْوابِ الدِّينِ، فَإنَّ أفْكارَ الأبْرارِ مَغْمُورَةٌ بِالهِمَمِ الدِّينِيَّةِ في عامَّةِ أحْوالِهِمْ لا يَشْغَلُهم عَنْها شاغِلٌ وهو بَعِيدٌ فَإنَّ مَساقَ النَّظْمِ الكَرِيمِ تَسْلِيَةُ أهْلِهِ مَعَ أنَّهُ قَدْ نَصَّ في سُورَةِ القَصَصِ عَلى ما يَقْتَضِي ما تَقَدَّمَ حَيْثُ قالَ: ﴿لَعَلِّي آتِيكم مِنها بِخَبَرٍ أوْ جَذْوَةٍ﴾ الآيَةَ، والمَشْهُورُ كِتابَةُ هَذِهِ الكَلِمَةِ بِالياءِ. وقالَ أبُو البَقاءِ: الجَيِّدُ أنْ تُكْتَبَ بِالألِفِ ولا تُمالَ لِأنَّ الألِفَ بَدَلُ التَّنْوِينِ في القَوْلِ المُحَقَّقِ، وقَدْ أمالَها قَوْمٌ وفِيهِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ، الأوَّلُ أنْ يَكُونَ شِبْهَ ألِفِ التَّنْوِينِ بِلامِ الكَلِمَةِ إذًا اللَّفْظُ بِهِما في المَقْصُورِ واحِدٌ، الثّانِي أنْ يَكُونَ لامَ الكَلِمَةِ ولَمْ يُبَدَّلْ مِنَ التَّنْوِينِ شَيْءٌ في النَّصْبِ، والثّالِثُ أنْ يَكُونَ عَلى رَأْيِ مَن وقَفَ في الأحْوالِ الثَّلاثَةِ مِن غَيْرِ إبْدالٍ انْتَهى، وكَلِمَةُ أوْ لِمَنعِ الخُلُوِّ دُونَ الجَمْعِ وعَلى عَلى بابِها مِنَ الِاسْتِعْلاءِ والِاسْتِعْلاءِ عَلى النّارِ مَجازٌ مَشْهُورٌ صارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً في الِاسْتِعْلاءِ عَلى مَكانٍ قَرِيبٍ مُلاصِقٍ لَها كَما قالَ سِيبَوَيْهِ في مَرَرْتُ بِزَيْدٍ: إنَّهُ لُصُوقٌ بِمَكانٍ يَقْرُبُ مِنهُ، وقالَ غَيْرُ واحِدٍ: إنَّ الجارَّ والمَجْرُورَ في مَوْضِعِ الحالِ مِن (هُدًى) وكانَ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لَهُ فَقُدِّمَ والتَّقْدِيرُ أوْ أجِدُ هادِيًا أوْ ذا هُدى مُشْرِفًا عَلى النّارِ، والمُرادُ مُصْطَلِيًا بِها وعادَةُ المُصْطَلِي الدُّنُوُّ مِنَ النّارِ والإشْرافُ عَلَيْها. وعَنِ ابْنِ الأنْبارِيِّ أنَّ عَلى هاهُنا بِمَعْنى عِنْدَ أوْ بِمَعْنى مَعَ أوْ بِمَعْنى الباءِ ولا حاجَةَ إلى ذَلِكَ وكانَ الظّاهِرُ عَلَيْها إلّا أنَّهُ جِيءَ بِالظّاهِرِ تَصْرِيحًا بِما هو كالعِلَّةِ لِوِجْدانِ الهُدى إذِ النّارُ لا تَخْلُو مِن أُناسٍ عِنْدَها، وصُدِّرَتِ الجُمْلَةُ بِكَلِمَةِ التَّرَجِّي لِما أنَّ الإتْيانَ وما عُطِفَ عَلَيْهِ لَيْسا مُحَقِّقِي الوُقُوعِ بَلْ هُما مُتَرَقَّبانِ مُتَوَقَّعانِ. وهي عَلى ما في إرْشادِ العَقْلِ السَّلِيمِ إمّا عِلَّةٌ لِفِعْلٍ قَدْ حُذِفَ ثِقَةً بِما يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الأمْرِ بِالمُكْثِ والإخْبارِ بِإيناسِ النّارِ وتَفادِيًا عَنِ التَّصْرِيحِ بِما يُوحِشُهم، وإمّا حالٌ مِن فاعِلِهِ أيْ فاذْهَبْ إلَيْها لِآتِيَكم أوْ كَيْ آتِيَكم أوْ راجِيًا أنْ آتِيَكم مِنها بِقَبَسٍ الآيَةَ، وقِيلَ: هي صِفَةٌ لَنارًا، ومَتى جازَ جُعِلَ جُمْلَةُ التَّرَجِّي صِلَةً كَما في قَوْلِهِ: ؎وإنِّي لَراجٍ نَظْرَةً قَبْلَ الَّتِي ∗∗∗ لَعَلِّي وإنْ شُطْتُ نَواها أزُورُها فَلْيَجُزْ جَعْلُها صِفَةً فَإنَّ الصِّلَةَ والصِّفَةَ مُتَقارِبانِ ولا يَخْفى ما فِيهِ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب