الباحث القرآني

﴿مَن كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ ومَلائِكَتِهِ ورُسُلِهِ وجِبْرِيلَ ومِيكالَ فَإنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ﴾ العَدُوُّ لِلشَّخْصِ ضِدُّ الصَّدِيقِ، يَسْتَوِي فِيهِ المُذَكَّرُ والمُؤَنَّثُ والتَّثْنِيَةُ والجَمْعُ، وقَدْ يُؤَنَّثُ ويُثَنّى ويُجْمَعُ، وهو الَّذِي يُرِيدُ إنْزالَ المَضارِّ بِهِ، وهَذا المَعْنى لا يَصِحُّ إلّا فِينا دُونَهُ تَعالى، فَعَداوَةُ اللَّهِ هُنا مَجازٌ، إمّا عَنْ مُخالَفَتِهِ تَعالى، وعَدَمِ القِيامِ بِطاعَتِهِ لِما أنَّ ذَلِكَ لازِمٌ لِلْعَداوَةِ، وإمّا عَنْ عَداوَةِ أوْلِيائِهِ، وأمّا عَداوَتُهم لِجِبْرِيلَ والرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ فَصَحِيحَةٌ، لِأنَّ الإضْرارَ جارٍ عَلَيْهِمْ، غايَةُ ما في البابِ أنَّ عَداوَتَهم لا تُؤَثِّرُ لِعَجْزِهِمْ عَنِ الأُمُورِ المُؤَثِّرَةِ فِيهِمْ، وصَدَرَ الكَلامُ عَلى الِاحْتِمالِ الأخِيرِ بِذِكْرِهِ لِتَفْخِيمِ شَأْنِ أُولَئِكَ الأوْلِياءِ، حَيْثُ جَعَلَ عَداوَتَهم عَداوَتَهُ تَعالى، وأفْرَدَ المَلَكانِ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا (p-334)لَهُما، وتَفْضِيلًا، كَأنَّهُما مِن جِنْسٍ آخَرَ، تَنْزِيلًا لِلتَّغايُرِ في الوَصْفِ مَنزِلَةَ التَّغايُرِ في الذّاتِ، كَقَوْلِهِ: ؎فَإنْ تَفُقِ الأنامَ وأنْتَ مِنهم فَإنَّ المِسْكَ بَعْضُ دَمِ الغَزالِ وقِيلَ: لِأنَّ اليَهُودَ ذَكَرُوهُما، ونَزَلَتِ الآيَةُ بِسَبَبِهِما، وقِيلَ: لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ مُعاداةَ الواحِدِ، والكُلِّ سَواءٌ في الكُفْرِ، واسْتِجْلابُ العَداوَةِ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وإنَّ مَن عادى أحَدَهم فَكَأنَّما عادى الجَمِيعَ، لِأنَّ المُوجِبَ لِمَحَبَّتِهِمْ وعَداوَتِهِمْ عَلى الحَقِيقَةِ واحِدٌ، وإنِ اخْتَلَفَ بِحَسَبِ التَّوَهُّمِ والِاعْتِقادِ، ولِهَذا أحَبَّ اليَهُودُ مِيكائِيلَ، وأبْغَضُوا جِبْرِيلَ، واسْتَدَلَّ بَعْضُهم بِتَقْدِيمِ جِبْرِيلَ عَلى مِيكائِيلَ عَلى أنَّهُ أفْضَلُ مِنهُ، وهو المَشْهُورُ، واسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ أيْضًا بِأنَّهُ يَنْزِلُ بِالوَحْيِ والعِلْمِ، وهو مادَّةُ الأرْواحِ، ومِيكائِيلُ بِالخِصْبِ والأمْطارِ، وهي مادَّةُ الأبْدانِ، وغِذاءُ الأرْواحِ أفْضَلُ مِن غِذاءِ الأشْباحِ، واعْتُرِضَ بِأنَّ التَّقْدِيمَ في الذِّكْرِ لا يَدُلُّ عَلى التَّفْضِيلِ إذْ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِلتَّرَقِّي، أوْ لِنُكْتَةٍ أُخْرى، كَما قُدِّمَتِ المَلائِكَةُ عَلى الرُّسُلِ، ولَيْسُوا أفْضَلَ مِنهم عِنْدَنا، وكَذا نُزُولُهُ بِالوَحْيِ لَيْسَ قَطْعِيًّا بِالأفْضَلِيَّةِ، إذْ قَدْ يُوجَدُ في المَفْضُولِ ما لَيْسَ في الفاضِلِ، فَلا بُدَّ في التَّفْضِيلِ مِن نَصٍّ جَلِيٍّ واضِحٍ، وأنا أقُولُ بِالأفْضَلِيَّةِ، ولَيْسَ عِنْدِي أقْوى دَلِيلًا عَلَيْها مِن مَزِيدِ صُحْبَتِهِ لِحَبِيبِ الحَقِّ بِالِاتِّفاقِ، وسَيِّدِ الخَلْقِ عَلى الإطْلاقِ ﷺ، وكَثْرَةِ نُصْرَتِهِ وحُبِّهِ لَهُ ولِأُمَّتِهِ، ولا أرى شَيْئًا يُقابِلُ ذَلِكَ، وقَدْ أثْنى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلامُ بِما لَمْ يُثْنِ بِهِ عَلى مِيكائِيلَ، بَلْ ولا عَلى إسْرافِيلَ وعِزْرائِيلَ وسائِرِ المَلائِكَةِ أجْمَعِينَ، وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ لَكِنْ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «(ألا أُخْبِرُكم بِأفْضَلِ المَلائِكَةِ جَبْرائِيلُ)،» وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنْ مُوسى بْنِ عائِشَةَ قالَ: «(بَلَغَنِي أنَّ جِبْرِيلَ إمامُ أهْلِ السَّماءِ)،» (ومَن) شَرْطِيَّةٌ، والجَوابُ قِيلَ: مَحْذُوفٌ، وتَقْدِيرُهُ: فَهو كافِرٌ، مَجْزِيٌّ بِأشَدِّ العَذابِ، وقِيلَ: فَإنَّ اللَّهَ إلَخْ، عَلى نَمَطِ ما عَلِمْتَ، وأتى بِاسْمِ اللَّهِ ظاهِرًا، ولَمْ يَقُلْ: فَإنَّهُ عَدُوٌّ دَفْعًا لِانْفِهامِ غَيْرِ المَقْصُودِ، أوِ التَّعْظِيمِ والتَّفْخِيمِ، والعَرَبُ إذا فَخَّمَتْ شَيْئًا كَرَّرَتْهُ بِالِاسْمِ الَّذِي تَقَدَّمَ لَهُ، ومِنهُ: (لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ، إنَّ اللَّهَ)، وقَوْلُهُ: لا أرى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْءٌ وألْ في الكافِرِينَ لِلْعَهْدِ، وإيثارُ الِاسْمِيَّةِ لِلدِّلالَةِ عَلى التَّحْقِيقِ والثَّباتِ، ووَضْعُ المُظْهَرِ مَوْضِعَ المُضْمَرِ لِلْإيذانِ بِأنَّ عَداوَةَ المَذْكُورِينَ كُفْرٌ، وأنَّ ذَلِكَ بَيِّنٌ لا يَحْتاجُ إلى الإخْبارِ بِهِ، وأنَّ مَدارَ عَداوَتِهِ تَعالى لَهُمْ، وسُخْطَهُ المُسْتَوْجِبَ لِأشَدِّ العُقُوبَةِ والعَذابِ، هو كُفْرُهُمُ المَذْكُورُ، وقِيلَ: يَحْتَمِلُ أنَّهُ تَعالى عَدَلَ عَنِ الضَّمِيرِ لِعِلْمِهِ أنَّ بَعْضَهم يُؤْمِنُ فَلا يَنْبَغِي أنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ عَداوَةُ اللَّهِ تَعالى لِلْمَآلِ، وهو احْتِمالٌ أبْعَدُ مِنَ العَيُّوقِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ ألْ لِلْجِنْسِ كَما تَقَدَّمَ، ومِنَ النّاسِ مَن رَوى أنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ نَطَقَ بِهَذِهِ الآيَةِ مُجاوِبًا بِالبَعْضِ اليَهُودَ في قَوْلِهِ: ذاكَ عَدُوُّنا، يَعْنِي جِبْرِيلَ، فَنَزَلَتْ عَلى لِسانِ عُمَرَ، وهو خَبَرٌ ضَعِيفٌ كَما نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ، والكَلامُ في مَنعِ صَرْفِ مِيكائِيلَ، كالكَلامِ في جِبْرِيلَ، واشْتُهِرَ أنَّ مَعْناهُ عُبَيْدُ اللَّهِ، وقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ، وفِيهِ لُغاتٌ: الأُولى مِيكالُ، كَمِفْعالٍ، وبِها قَرَأ أبُو عَمْرٍو وحَفْصٌ، وهي لُغَةُ الحِجازِ، الثّانِيَةُ كَذَلِكَ، إلّا أنَّ بَعْدَ الألِفِ هَمْزَةً، وقَرَأ بِها نافِعٌ، وابْنُ شَنْبُوذَ، لِقُنْبُلٍ، الثّالِثَةُ كَذَلِكَ، إلّا أنَّهُ بِياءٍ بَعْدَ الهَمْزَةِ، وبِها قَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ، وابْنُ عامِرٍ، وأبُو بَكْرٍ، وغَيْرُ ابْنِ شَنْبُوذَ لِقُنْبُلٍ، والبَزِّيُّ، الرّابِعَةُ مِيكَئِيلُ كَمِيكَفِيلَ، وبِها قَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ، الخامِسَةُ كَذَلِكَ إلّا أنَّهُ لا ياءَ بَعْدَ الهَمْزَةِ، وقُرِئَ بِها، السّادِسَةُ مِيكايِيلُ، بِياءَيْنِ بَعْدَ الألِفِ، أوَّلُهُما مَكْسُورَةٌ وبِها قَرَأ الأعْمَشُ. ولِساداتِنا الصُّوفِيَّةِ قَدَّسَ اللَّهُ تَعالى أسْرارَهم في هَذَيْنِ المَلَكَيْنِ بَلْ وفي أخَوَيْهِما إسْرافِيلَ وعِزْرائِيلَ عَلَيْهِما السَّلامُ أيْضًا كَلامٌ مَبْسُوطٌ، والمَشْهُورُ أنَّ جَبْرائِيلَ هو العَقْلُ الفَعّالُ، ومِيكائِيلَ هو رُوحُ الفَلَكِ السّادِسِ، وعَقْلُهُ المُفِيضُ لِلنَّفْسِ النَّباتِيَّةِ الكُلِّيَّةِ المُوَكَّلَةِ بِأرْزاقِ الخَلائِقِ، وإسْرافِيلَ هو رُوحُ الفَلَكِ الرّابِعِ، وعَقْلُهُ المُفِيضُ لِلنَّفْسِ الحَيَوانِيَّةِ الكُلِّيَّةِ المُوَكَّلَةِ بِالحَيَواناتِ، وعِزْرائِيلَ هو رُوحُ الفَلَكِ السّابِعِ المُوَكَّلُ بِالأرْواحِ الإنْسانِيَّةِ كُلِّها، بَعْضُها بِالوَسائِطِ الَّتِي هي (p-335)أعْوانُهُ، وبَعْضُها بِنَفْسِهِ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الحالِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب