الباحث القرآني

﴿ولَنْ يَتَمَنَّوْهُ أبَدًا﴾ الظّاهِرُ أنَّهُ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُعْتَرِضَةٌ غَيْرُ داخِلَةٍ تَحْتَ الأمْرِ سِيقَتْ مِن جِهَتِهِ تَعالى لِبَيانِ ما يَكُونُ مِنهم مِنَ الإحْجامِ الدّالِّ عَلى كَذِبِهِمْ في دَعْواهُمْ، والمُرادُ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ ما عاشُوا، وهَذا خاصٌّ بِالمُعاصِرِينَ لَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، عَلى ما رُوِيَ عَنْ نافِعٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: (خاصَمَنا يَهُودِيٌّ، وقالَ: إنَّ في كِتابِكم ﴿فَتَمَنَّوُا المَوْتَ﴾ إلَخْ، فَأنا أتَمَنّى المَوْتَ فَما لِي لا أمُوتُ؟ فَسَمِعَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، فَغَضِبَ، فَدَخَلَ بَيْتَهُ، وسَلَّ سَيْفَهُ وخَرَجَ، فَلَمّا رَآهُ اليَهُودِيُّ فَرَّ مِنهُ، وقالَ ابْنُ عُمَرَ: أما واللَّهِ لَوْ أدْرَكْتُهُ لَضَرَبْتُ عُنُقَهُ، تَوَهَّمَ هَذا الكَلْبُ اللَّعِينُ الجاهِلُ أنَّ هَذا لِكُلِّ يَهُودِيٍّ، أوْ لِلْيَهُودِ في كُلِّ وقْتٍ، لا، إنَّما هو لِأُولَئِكَ الَّذِينَ كانُوا يُعانِدُونَ، ويَجْحَدُونَ نُبُوَّةَ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بَعْدَ أنْ عَرَفُوا، وكانَتِ المُحاجَّةُ مَعَهم بِاللِّسانِ دُونَ السَّيْفِ، ويُؤَيِّدُ هَذا ما أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مَوْقُوفًا «(لَوْ تَمَنَّوْهُ يَوْمَ قالَ لَهم ذَلِكَ ما بَقِيَ عَلى وجْهِ الأرْضِ يَهُودِيٌّ إلّا ماتَ)،» وهَذِهِ الجُمْلَةُ إخْبارٌ بِالغَيْبِ، ومُعْجِزَةٌ لَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وفِيها دَلِيلٌ عَلى اعْتِرافِهِمْ بِنُبُوَّتِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، لِأنَّهم لَوْ لَمْ يَتَيَقَّنُوا ذَلِكَ ما امْتَنَعُوا مِنَ التَّمَنِّي، وقِيلَ: لا دَلِيلَ، بَلِ الِامْتِناعُ كانَ بِصَرْفِ الصِّرْفَةِ كَما قِيلَ في عَدَمِ مُعارَضَةِ القُرْآنِ، والقَوْلُ بِأنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ مُعْجِزَةً مَعَ أنَّهُ لا يُمْكِنُ أنْ يُعْلَمَ أنَّهُ لَمْ يَتَمَنَّ أحَدٌ، والتَّمَنِّي أمْرٌ قَلْبِيٌّ لا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ مُجابٌ عَنْهُ، بِأنّا لا نُسَلِّمُ أنَّ المُرادَ بِالتَّمَنِّي هُنا الأمْرُ القَلْبِيُّ بَلْ هو أنْ يَقُولَ: لَيْتَ كَذا، ونَحْوَهُ، كَما مَرَّ آنِفًا، ولَوْ سُلِّمَ أنَّهُ أمْرٌ قَلْبِيٌّ، فَهَذا مَذْكُورٌ عَلى طَرِيقِ المُحاجَّةِ، وإظْهارِ المُعْجِزَةِ، فَلا يُدْفَعُ إلّا بِالإظْهارِ والتَّلَفُّظِ، كَما إذا قالَ رَجُلٌ لِامْرَأتِهِ: أنْتِ طالِقٌ، إنْ شِئْتِ أوْ أحْبَبْتِ، فَإنَّهُ يُعَلِّقُ بِالإخْبارِ، لا بِالإضْمارِ، فَحَيْثُ ثَبَتَ عَدَمُ تَلَفُّظِهِمْ بِالإخْبارِ، وبِأنَّهُ لَوْ وقَعَ لَنُقِلَ، واشْتُهِرَ لِتَوَفُّرِ الدَّواعِي إلى نَقْلِهِ، لِأنَّهُ أمْرٌ عَظِيمٌ يَدُورُ عَلَيْهِ أمْرٌ (p-329)عَظِيمٌ يَدُورُ عَلَيْهِ أمْرُ النُّبُوَّةِ، فَإنَّهُ بِتَقْدِيرِ عَدَمِهِ يَظْهَرُ صِدْقُهُ، وبِتَقْدِيرِ حُصُولِهِ يَبْطُلُ القَوْلُ بِنُبُوَّتِهِ، ثَبَتَ كَوْنُهُ مُعْجِزَةً أيَّدَهُ بِها رَبُّهُ، ومَن حَمَلَ التَّمَنِّيَ عَلى المَجازِ لا يَرِدُ عِنْدَهُ هَذا السُّؤالُ، ولا يَحْتاجُ إلى هَذا الجَوابِ، وقَدْ عَلِمْتَ ما فِيهِ، وذَهَبَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ إلى عُمُومِ حُكْمِ الآيَةِ لِجَمِيعِ اليَهُودِ في جَمِيعِ الأعْصارِ، ولَسْتُ مِمَّنْ يَقُولُ بِذَلِكَ، وإنِ ارْتَضاهُ الجَمُّ الغَفِيرُ، وقالُوا: إنَّهُ المَشْهُورُ المُوافِقُ لِظاهِرِ النَّظْمِ الكَرِيمِ، اللَّهُمَّ إلّا أنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلى جَمِيعِ اليَهُودِ المُعْتَقِدِينَ نُبُوَّتَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، الجاحِدِينَ لَها في جَمِيعِ الأعْصارِ، لا بِالنِّسْبَةِ إلى اليَهُودِ مُطْلَقًا، في جَمِيعِها، ومَعَ هَذا لِي فِيهِ نَظَرٌ بَعْدُ، ﴿بِما قَدَّمَتْ أيْدِيهِمْ﴾ أيْ بِسَبَبِ ما عَمِلُوا مِنَ المَعاصِي المُوجِبَةِ لِلنّارِ، كالكُفْرِ بِمُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، والقُرْآنِ، وقَتْلِ الأنْبِياءِ، (وما) مَوْصُولَةٌ، والعائِدُ مَحْذُوفٌ، أوْ مَصْدَرِيَّةٌ، ولا حَذْفَ، واليَدُ كِنايَةٌ عَنْ نَفْسِ الشَّخْصِ، ويُكَنّى بِها عَنِ القُدْرَةِ أيْضًا، لِما أنَّها مِن بَيْنِ جَوارِحِ الإنْسانِ مَناطُ عامَّةِ صَنائِعِهِ، ومَدارُ أكْثَرِ مَنافِعِهِ، ولا يُجْعَلُ الإسْنادُ مَجازِيًّا، واليَدُ عَلى حَقِيقَتِها، فَيَكُونُ المَعْنى: بِما قَدَّمُوا بِأيْدِيهِمْ كَتَحْرِيفِ التَّوْراةِ لِيَشْمَلَ ما قَدَّمُوا بِسائِرِ الأعْضاءِ، وهو أبْلَغُ في الذَّمِّ، ﴿واللَّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ﴾ تَذْيِيلٌ لِلتَّهْدِيدِ، والتَّنْبِيهِ عَلى أنَّهم ظالِمُونَ في ادِّعاءِ ما لَيْسَ لَهُمْ، ونَفْيِهِ عَنْ غَيْرِهِمْ، والمُرادُ بِالعِلْمِ إمّا ظاهِرُ مَعْناهُ، أوْ أنَّهُ كَنّى بِهِ عَنِ المُجازاةِ، وألْ إمّا لِلْعَهْدِ، وإيثارُ الإظْهارِ عَلى الإضْمارِ لِلذَّمِّ، وإمّا لِلْجِنْسِ، فَيَدْخُلُ المَعْهُودُونَ فِيهِ عَلى طِرازِ ما تَقَدَّمَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب