الباحث القرآني

﴿وإذْ أخَذْنا مِيثاقَكم لا تَسْفِكُونَ دِماءَكم ولا تُخْرِجُونَ أنْفُسَكم مِن دِيارِكُمْ﴾ عَلى نَحْوِ ما سَبَقَ في ﴿لا تَعْبُدُونَ﴾ والمُرادُ أنْ لا يَتَعَرَّضَ بَعْضُكم بَعْضًا بِالقَتْلِ والإجْلاءِ، وجَعَلَ قَتْلَ الرَّجُلِ غَيْرَهُ قَتْلَ نَفْسِهِ، لِاتِّصالِهِ نَسَبًا أوْ دِينًا أوْ لِأنَّهُ يُوجِبُهُ قِصاصًا، فَفي الآيَةِ مَجازٌ، إمّا في ضَمِيرِ (كُمْ) حَيْثُ عَبَّرَ بِهِ عَمَّنْ يَتَّصِلُ بِهِ، أوْ في (تَسْفِكُونَ) حَيْثُ أُرِيدَ بِهِ ما هو سَبَبُ السَّفْكِ، وقِيلَ: مَعْناهُ لا تَرْتَكِبُوا ما يُبِيحُ سَفْكَ دِمائِكُمْ، وإخْراجَكم مِن دِيارِكُمْ، أوْ لا تَفْعَلُونَ ما يُرْدِيكم ويَصْرِفُكم عَنْ لَذّاتِ الحَياةِ الأبَدِيَّةِ، فَإنَّهُ القَتْلُ في الحَقِيقَةِ، ولا تَقْتَرِفُوا ما تُمْنَعُونَ بِهِ (p-311)عَنِ الجَنَّةِ الَّتِي هي دارُكُمْ، ولَيْسَ النَّفْيُ في الحَقِيقَةِ جَلاءُ الأوْطانِ بَلِ البُعْدُ مِن رِياضِ الجِنانِ، ولَعَلَّ ما يُساعِدُهُ سِياقُ النَّظْمِ الكَرِيمِ هو الأوَّلُ، والدِّماءُ جَمْعُ دَمٍ، مَعْرُوفٌ، وهو مَحْذُوفُ اللّامِ، وهي ياءٌ عِنْدَ بَعْضٍ لِقَوْلِهِ: جَرى الدَّمَيانِ بِالخَبَرِ اليَقِينِ وواوٌ عِنْدَ آخَرِينَ لِقَوْلِهِمْ: دَمَوانِ، ووَزْنُهُ فَعُلٌ، أوْ فَعِلٌ، وقَدْ سُمِعَ مَقْصُورًا، وكَذا مُشَدَّدًا، وقَرَأ طَلْحَةُ وشُعَيْبٌ (تَسْفُكُونَ) بِضَمِّ الفاءِ، وأبُو نَهِيكٍ بِضَمِّ التّاءِ، وفَتْحِ السِّينِ، وكَسْرِ الفاءِ مُشَدَّدَةً، وابْنُ أبِي إسْحاقَ كَذَلِكَ، إلّا أنَّهُ سَكَّنَ السِّينَ، وخَفَّفَ الفاءَ، ﴿ثُمَّ أقْرَرْتُمْ﴾ أيْ بِالمِيثاقِ، واعْتَرَفْتُمْ بِلُزُومِهِ خَلَفًا بَعْدَ سَلَفٍ، فالإقْرارُ ضِدُّ الجَحْدِ، ويَتَعَدّى بِالباءِ، قِيلَ: ويُحْتَمَلُ أنَّهُ بِمَعْنى إبْقاءِ الشَّيْءِ عَلى حالِهِ مِن غَيْرِ اعْتِرافٍ بِهِ، ولَيْسَ بِشَيْءٍ، إذْ لا يُلائِمُهُ حِينَئِذٍ، ﴿وأنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ حالٌ مُؤَكِّدَةٌ رافِعَةٌ احْتِمالَ أنْ يَكُونَ الإقْرارُ ذِكْرَ أمْرٍ آخَرَ، لَكِنَّهُ يَقْتَضِيهِ، ولا يَجُوزُ العَطْفُ لِكَمالِ الِاتِّصالِ، ولا الِاعْتِراضِ، إذْ لَيْسَ المَعْنى: وأنْتُمْ عادَتُكُمُ الشَّهادَةُ، بَلِ المَعْنى عَلى التَّقْيِيدِ، وقِيلَ: وأنْتُمْ لَها أيُّها المَوْجُودُونَ تَشْهَدُونَ عَلى إقْرارِ أسْلافِكُمْ، فَيَكُونُ إسْنادُ الإقْرارِ إلَيْهِمْ مَجازًا، وضُعِّفَ بِأنْ يَكُونَ حِينَئِذٍ اسْتِبْعادُ القَتْلِ والإجْلاءِ مِنهُمْ، مَعَ أنَّ أخْذَ المِيثاقِ والإقْرارُ كانَ مِن أسْلافِهِمْ لِاتِّصالِهِمْ بِهِمْ نَسَبًا ودِينًا، بِخِلافِ ما إذا اعْتُبِرَ نِسْبَةُ الإقْرارِ إلَيْهِمْ عَلى الحَقِيقَةِ، فَإنَّهُ يَكُونُ بِسَبَبِ إقْرارِهِمْ وشَهادَتِهِمْ، وهو أبْلَغُ في بَيانِ قَبِيحِ صَنِيعِهِمْ، وادَّعى بَعْضُهم أنَّ الأظْهَرَ أنَّ المُرادَ أقْرَرْتُمْ حالَ كَوْنِكم شاهِدِينَ عَلى إقْرارِكم بِأنْ شَهِدَ كُلُّ أحَدٍ عَلى إقْرارِ غَيْرِهِ، كَما هو طَرِيقُ الشَّهادَةِ، ولا يَخْفى انْحِطاطُ المُبالَغَةِ حِينَئِذٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب