الباحث القرآني
﴿بَلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ جَوابٌ عَنْ قَوْلِهِمُ المَحْكِيِّ، وإبْطالٌ لَهُ عَلى وجْهٍ أعَمَّ شامِلٍ لَهُمْ، ولِسائِرِ الكَفَرَةِ، كَأنَّهُ قالَ: بَلْ تَمَسُّكم وغَيْرُكم دَهْرًا طَوِيلًا وزَمانًا مَدِيدًا لا كَما تَزْعُمُونَ، ويَكُونُ ثُبُوتُ الكُلِّيَّةِ كالبُرْهانِ عَلى إبْطالِ ذَلِكَ بِجَعْلِهِ كُبْرى لِصُغْرى سَهْلَةِ الحُصُولِ، فَبَلى داخِلَةٌ عَلى ما ذُكِرَ بَعْدَها، وإيجازُ الِاخْتِصارِ أبْلَغُ مِن إيجازِ الحَذْفِ، وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّها داخِلَةٌ عَلى مَحْذُوفٍ، وأنَّ المَعْنى عَلى تَمَسُّكِمْ أيّامًا مَعْدُودَةً، ولَيْسَ بِشَيْءٍ، وهي حَرْفُ جَوابٍ كَجَيْرِ ونَعَمْ، إلّا أنَّها لا تَقَعُ جَوابًا إلّا لِنَفْيٍ مُتَقَدِّمٍ سَواءٌ دَخَلَهُ اسْتِفْهامٌ أمْ لا، فَتَكُونُ إيجابًا لَهُ، وهي بَسِيطَةٌ، وقِيلَ: أصْلُها بَلْ، فَزِيدَتْ عَلَيْها الألِفُ، والكَسْبُ جَلْبُ النَّفْعِ، والسَّيِّئَةُ الفاحِشَةُ المُوجِبَةُ لِلنّارِ، قالَهُ السُّدِّيُّ، وعَلَيْهِ تَفْسِيرُ مَن فَسَّرَها بِالكَبِيرَةِ (p-306)لِأنَّها الَّتِي تُوجِبُ النّارَ، أيْ يَسْتَحِقُّ فاعِلُها النّارَ إنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ، وذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ إلى أنَّها هُنا الكُفْرُ، وتَعْلِيقُ الكَسْبِ بِالسَّيِّئَةِ عَلى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ، وقِيلَ: إنَّهم بِتَحْصِيلِ السَّيِّئَةِ اسْتَجْلَبُوا نَفْعًا قَلِيلًا فانِيًا، فَبِهَذا الِاعْتِبارِ أوْقَعَ عَلَيْهِ الكَسْبَ، والمُرادُ بِالإحاطَةِ الِاسْتِيلاءُ، والشُّمُولُ، وعُمُومُ الظّاهِرِ، والباطِنِ، والخَطِيئَةُ السَّيِّئَةُ، وغَلَبَتْ فِيما يُقْصَدُ بِالعَرَضِ، أيْ لا يَكُونُ مَقْصُودًا في نَفْسِهِ، بَلْ يَكُونُ القَصْدُ إلى شَيْءٍ آخَرَ، لَكِنْ تَوَلَّدَ مِنهُ ذَلِكَ الفِعْلُ كَمَن رَمى صَيْدًا، فَأصابَ إنْسانًا، وشَرِبَ مُسْكِرًا، فَجَنى جِنايَةً، قالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: ولِذَلِكَ أضافَ الإحاطَةَ إلَيْها إشارَةً إلى أنَّ السَّيِّئاتِ بِاعْتِبارِ وصْفِ الإحاطَةِ داخِلَةٌ تَحْتَ القَصْدِ بِالعَرَضِ، لِأنَّها بِسَبَبِ نِسْيانِ التَّوْبَةِ، ولِكَوْنِها راسِخَةً فِيهِ مُتَمَكِّنَةً حالَ الإحاطَةِ أضافَها إلَيْهِ بِخِلافِ حالِ الكَسْبِ، فَإنَّها مُتَعَلِّقُ القَصْدِ بِالذّاتِ، وغَيْرُ حاصِلَةٍ فِيهِ، فَضْلًا عَنِ الرُّسُوخِ، فَلِذا أضافَ الكَسْبَ إلى سَيِّئَةٍ ونَكَّرَها، وإضافَةُ الأصْحابِ إلى النّارِ عَلى مَعْنى المُلازَمَةِ، لِأنَّ الصُّحْبَةَ، وإنْ شَمِلَتِ القَلِيلَ والكَثِيرَ لَكِنَّها في العُرْفِ تُخَصُّ بِالكَثْرَةِ، والمُلازَمَةِ، ولِذا قالُوا: لَوْ حَلَفَ مَن لاقى زَيْدًا أنَّهُ لَمْ يَصْحَبْهُ لَمْ يَحْنَثْ، والمُرادُ بِالخُلُودِ الدَّوامُ، ولا حُجَّةَ في الآيَةِ عَلى خُلُودِ صاحِبِ الكَبِيرَةِ، لِأنَّ الإحاطَةَ إنَّما تَصِحُّ في شَأْنِ الكافِرِ، لِأنَّ غَيْرَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سِوى تَصْدِيقِ قَلْبِهِ، وإقْرارِ لِسانِهِ فَلَمْ تُحِطْ خَطِيئَتُهُ بِهِ، لِكَوْنِ قَلْبِهِ ولِسانِهِ مُنَزَّهًا عَنِ الخَطِيئَةِ، وهَذا لا يَتَوَقَّفُ عَلى كَوْنِ التَّصْدِيقِ والإقْرارِ حَسَنَتَيْنِ، بَلْ عَلى أنْ لا يَكُونا سَيِّئَتَيْنِ، فَلا يَرِدُ البَحْثُ بِأنَّ الخَصْمَ يَجْعَلُ العَمَلَ شَرْطًا لِكَوْنِهِما حَسَنَتَيْنِ، كَما يَجْعَلُ الِاعْتِقادَ شَرْطًا لِكَوْنِ الأعْمالِ حَسَناتٍ، فَلا يَتِمُّ عِنْدَهُ أنَّ الإحاطَةَ إنَّما تَصِحُّ في شَأْنِ الكافِرِ، ولا يَحْتاجُ إلى الدَّفْعِ، بِأنَّ المَقْصُودَ أنَّهُ لا حُجَّةَ لَهُ في الآيَةِ، وهَذا يَتِمُّ بِمُجَرَّدِ كَوْنِ الإحاطَةِ مَمْنُوعَةً في غَيْرِ الكافِرِ، فَلَوْ ثَبَتَ أنَّ العَمَلَ داخِلٌ في الإيمانِ صارَتِ الآيَةُ حُجَّةً، ودُونَ إثْباتِهِ خَرْطُ القَتادِ، ثُمَّ أنَّ نَفْيَ الحُجِّيَّةِ بِحَمْلِ الإحاطَةِ عَلى ما ذُكِرَ إنَّما يَحْتاجُ إلَيْهِ إذا كانَتِ السَّيِّئَةُ والخَطِيئَةُ بِمَعْنًى واحِدٍ، وهو مُطْلَقُ الفاحِشَةِ، أمّا إذا فُسِّرَتِ السَّيِّئَةُ بِالكُفْرِ أوِ الخَطِيئَةِ بِهِ، حَسْبَما أخْرَجَهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، وأبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، وابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أبِي وائِلٍ، ومُجاهِدٍ وقَتادَةَ وعَطاءٍ والرَّبِيعِ، فَنَفْيُ الحُجِّيَّةِ أظْهَرُ مِن نارٍ عَلى عَلَمٍ.
ومِنَ النّاسِ مَن نَفاها بِحَمْلِ الخُلُودِ عَلى أصْلِ الوَضْعِ، وهو اللُّبْثُ الطَّوِيلُ، ولَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأنَّ فِيهِ تَهْوِينَ الخَطْبِ في مَقامِ التَّهْوِيلِ مَعَ عَدَمِ مُلائَمَتِهِ حَمْلَ الخُلُودِ في الجَنَّةِ عَلى الدَّوامِ، وكَذا لا حُجَّةَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقالُوا لَنْ تَمَسَّنا النّارُ﴾ إلَخْ، بِناءً عَلى ما زَعَمَهُ الجُبّائِيُّ حَيْثُ قالَ: دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّهُ تَعالى ما وعَدَ مُوسى، ولا سائِرَ الأنْبِياءِ بَعْدَهُ بِإخْراجِ أهْلِ الكَبائِرِ والمَعاصِي مِنَ النّارِ بَعْدَ التَّعْذِيبِ، وإلّا لَما أنْكَرَ عَلى اليَهُودِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ أتَّخَذْتُمْ﴾ إلَخْ، وقَدْ ثَبَتَ أنَّهُ تَعالى أوْعَدَ العُصاةَ بِالعَذابِ زَجْرًا لَهم عَنِ المَعاصِي، فَقَدْ ثَبَتَ أنْ يَكُونَ عَذابُهم دائِمًا، وإذا ثَبَتَ في سائِرِ الأُمَمِ، وجَبَ ثُبُوتُهُ في هَذِهِ الأُمَّةِ، إذِ الوَعِيدُ لا يَجُوزُ أنْ يَخْتَلِفَ في الأُمَمِ، إذا كانَ قَدْرُ المَعْصِيَةِ واحِدًا، لِأنَّ ما أنْكَرَ اللَّهَ عَلَيْهِمْ جَزْمُهم بِقِلَّةِ العَذابِ لِانْقِطاعِهِ مُطْلَقًا، عَلى أنَّ ذَلِكَ في حَقِّ الكُفّارِ لا العُصاةِ، كَما لا يَخْفى، (ومَن) تَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً، وتَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، والمُسَوِّغاتُ لِجَوازِ دُخُولِ الفاءِ في الخَبَرِ إذا كانَ المُبْتَدَأُ مَوْصُولًا مَوْجُودَةٌ، ويُحَسِّنُ المَوْصُولِيَّةَ مَجِيءُ المَوْصُولِ في قَسِيمِهِ، وإيرادُ اسْمِ الإشارَةِ المُنْبِئِ عَنِ اسْتِحْضارِ المُشارِ إلَيْهِ بِما لَهُ مِنَ الأوْصافِ لِلْإشْعارِ بِعِلِّيَّتِها لِصاحِبِيَّةِ النّارِ، وما فِيهِ مِن مَعْنى البُعْدِ لِلتَّنْبِيهِ عَلى بُعْدِ مَنزِلَتِهِمْ في الكُفْرِ، والخَطايا، وإنَّما أُشِيرَ إلَيْهِمْ بِعُنْوانِ الجَمْعِيَّةِ مُراعاةً لِجانِبِ المَعْنى في كَلِمَةٍ (مَن) بَعْدَ مُراعاةِ جانِبِ اللَّفْظِ في الضَّمائِرِ الثَّلاثَةِ، لِما أنَّ ذَلِكَ هو المُناسِبُ لِما أُسْنِدَ إلَيْهِمْ في تَيْنِكَ الحالَتَيْنِ، فَإنَّ كَسْبَ السَّيِّئَةِ، وإحاطَةَ الخَطِيئَةِ بِهِ في حالَةِ الإفْرادِ، وصاحِبِيَّةَ النّارِ في حالَةِ الِاجْتِماعِ (p-307)قالَهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ، ولا يَخْلُو عَنْ حُسْنٍ، وقَرَأ نافِعٌ (خَطِيئَآتُهُ)، وبَعْضُ (خَطِيّاهُ)، و(خَطِيَّتُهُ)، و(خَطِيّاتُهُ) بِالقَلْبِ والإدْغامِ، واسْتَحْسَنُوا قِراءَةَ الجَمْعِ، بِأنَّ الإحاطَةَ لا تَكُونُ بِشَيْءٍ واحِدٍ، ووُجِّهَتْ قِراءَةُ الإفْرادِ بِأنَّ الخَطِيئَةَ وإنْ كانَتْ مُفْرَدَةً لَكِنَّها لِإضافَتِها مُتَعَدِّدَةٌ، مَعَ أنَّ الشَّيْءَ الواحِدَ قَدْ يُحِيطُ كالحَلْقَةِ، فَلا تَغْفُلْ.
{"ayah":"بَلَىٰۚ مَن كَسَبَ سَیِّئَةࣰ وَأَحَـٰطَتۡ بِهِۦ خَطِیۤـَٔتُهُۥ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











