الباحث القرآني

﴿أفَتَطْمَعُونَ﴾ الِاسْتِفْهامُ لِلِاسْتِبْعادِ، أوْ لِلْإنْكارِ التَّوْبِيخِيِّ، والجُلْمَةُ قِيلَ: مَعْطُوفَةٌ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ﴾ أوْ عَلى مُقَدَّرٍ بَيْنَ الهَمْزَةِ والفاءِ عِنْدَ غَيْرِ سِيبَوَيْهِ، أيْ تَحْسَبُونَ أنَّ قُلُوبَكم صالِحَةٌ لِلْإيمانِ فَتَطْمَعُونَ، والطَّمَعُ تَعَلُّقُ النَّفْسِ بِإدْراكِ مَطْلُوبٍ تَعَلُّقًا قَوِيًّا، وهو أشَدُّ مِنَ الرَّجاءِ، لا يَحْدُثُ إلّا عَنْ قُوَّةِ رَغْبَةٍ وشِدَّةِ إرادَةٍ، والخِطابُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ والمُؤْمِنِينَ، أوْ لِلْمُؤْمِنِينَ، قالَهُ أبُو العالِيَةِ، وقَتادَةُ، أوْ لِلْأنْصارِ، قالَهُ النَّقّاشُ، والمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُقاتِلٍ أنَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ خاصَّةً، والجَمْعُ لِلتَّعْظِيمِ، ﴿أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ أيْ يُصَدِّقُوا مُسْتَجِيبِينَ لَكُمْ، فالإيمانُ بِالمَعْنى اللُّغَوِيِّ، والتَّعْدِيَةُ بِاللّامِ لِلتَّضْمِينِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ لِأجْلِ دَعْوَتِكم لَهُمْ، فالفِعْلُ مُنَزَّلٌ مَنزِلَةَ اللّازِمِ، والمُرادُ بِالإيمانِ المَعْنى الشَّرْعِيُّ، واللّامُ لامُ الأجَلِ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ: أنْ يُؤْمِنُوا مَعْمُولٌ لِتَطْمَعُونَ، عَلى إسْقاطِ حَرْفِ الجَرِّ، وهو في مَوْضِعِ نَصْبٍ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وجَرٍّ عِنْدَ الخَلِيلِ والكِسائِيِّ، وضَمِيرُ الغَيْبَةِ لِلْيَهُودِ المُعاصِرِينَ لَهُ، لِأنَّهُمُ المَطْمُوعُ في إيمانِهِمْ، وقِيلَ: المُرادُ جِنْسُ اليَهُودِ لِيَصِحَّ جَعْلُ طائِفَةٍ مِنهم مَطْمُوعَ الإيمانِ، وطائِفَةٍ مُحَرِّفِينَ، وفِيهِ ما لا يَخْفى. ﴿وقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنهُمْ﴾ أيْ طائِفَةٌ مِن أسْلافِهِمْ، وهُمُ الأحْبارُ ﴿يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ﴾ أيْ يَسْمَعُونَ التَّوْراةَ، ويُؤَوِّلُونَها تَأْوِيلًا فاسِدًا حَسَبَ أغْراضِهِمْ، وإلى ذَلِكَ ذَهَبَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، والجُمْهُورُ عَلى أنَّ تَحْرِيفَها بِتَبْدِيلِ كَلامٍ مِن تِلْقائِهِمْ كَما فَعَلُوا ذَلِكَ في نَعْتِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَإنَّهُ رُوِيَ أنَّ مِن صِفاتِهِ فِيها أنَّهُ أبْيَضُ، رَبْعَةٌ، فَغَيَّرُوهُ بِأسْمَرَ طَوِيلٍ، وغَيَّرُوا آيَةَ الرَّجْمِ بِالتَّسْخِيمِ، وتَسْوِيدِ الوَجْهِ، كَما في البُخارِيِّ، وقِيلَ: المُرادُ بِكَلامِ اللَّهِ تَعالى ما سَمِعُوهُ عَلى الطُّورِ فَيَكُونُ المُرادُ مِنَ الفَرِيقِ طائِفَةً مِن أُولَئِكَ السَّبْعِينَ، وقَدْ رَوى الكَلْبِيُّ أنَّهم سَألُوا مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أنْ يُسْمِعَهم كَلامَهُ تَعالى، فَقالَ لَهم: اغْتَسِلُوا والبَسُوا الثِّيابَ النَّظِيفَةَ فَفَعَلُوا، فَأسْمَعَهُمُ اللَّهُ تَعالى كَلامَهُ ثُمَّ قالُوا: سَمِعْنا، يَقُولُ في آخِرِهِ: إنِ اسْتَطَعْتُمْ أنْ تَفْعَلُوا هَذِهِ الأشْياءَ فافْعَلُوا، وإنْ شِئْتُمْ فَلا تَفْعَلُوا، والتَّحْرِيفُ عَلى هَذا الزِّيادَةُ. ثُمَّ لا يَخْفى أنَّ فِيما افْتَرَوْا شاهِدًا عَلى فَسادِهِ حَيْثُ عَلَّقُوا الأمْرَ بِالِاسْتِطاعَةِ، والنَّهْيَ بِالمَشِيئَةِ، وهُما لا يَتَقابَلانِ، وكَأنَّهم أرادُوا بِالأمْرِ غَيْرَ المُوجِبِ عَلى مَعْنى افْعَلُوا إنْ شِئْتُمْ، وإنْ شِئْتُمْ فَلا تَفْعَلُوا، كَذا أفادَهُ العَلّامَةُ، ومَقْصُودُهُ بَيانُ مَنشَإ تَحْرِيفِهِمُ الفاسِدِ، فَلا يُنافِي كَوْنَ عَدَمِ التَّقابُلِ شاهِدًا عَلى فَسادِهِ، ومُقْتَضى هَذِهِ الرِّوايَةِ أنَّ هَؤُلاءِ سَمِعُوا كَلامَهُ تَعالى بِلا واسِطَةٍ، كَما سَمِعَهُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، والمُصَحَّحُ أنَّهم لَمْ يَسْمَعُوا بِغَيْرِ واسِطَةٍ، وأنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، وقِيلَ: المُرادُ بِهِ الوَحْيُ المُنَزَّلُ عَلى نَبِيِّنا صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، كانَ جَماعَةٌ مِنَ اليَهُودِ يَسْمَعُونَهُ، فَيُحَرِّفُونَهُ قَصْدًا أنْ يُدْخِلُوا في الدِّينِ ما لَيْسَ مِنهُ، ويَحْصُلَ التَّضادُّ في أحْكامِهِ، ﴿ويَأْبى اللَّهُ إلا أنْ يُتِمَّ نُورَهُ﴾ وقَرَأ الأعْمَشُ (كَلِمَ اللَّهِ). ﴿مِن بَعْدِ ما عَقَلُوهُ﴾ أيْ ضَبَطُوهُ، وفَهِمُوهُ، ولَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِمْ صِحَّتُهُ، (وما) مَصْدَرِيَّةٌ، أيْ مِن بَعْدِ عَقْلِهِمْ إيّاهُ، والضَّمِيرُ في ﴿عَقَلُوهُ﴾ عائِدٌ عَلى كَلامِ اللَّهِ، وقِيلَ: (ما) مَوْصُولَةٌ، والضَّمِيرُ عائِدٌ عَلَيْها، وهو بَعِيدٌ. ﴿وهم يَعْلَمُونَ﴾ مُتَعَلِّقُ العِلْمِ مَحْذُوفٌ، أيْ إنَّهم مُبْطِلُونَ كاذِبُونَ، أوْ ما في تَحْرِيفِهِ مِنَ العِقابِ، وفي (p-299)ذَلِكَ كَمالُ مَذَمَّتِهِمْ، وبِهَذا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ تَوَهُّمُ تَكْرارِ ما ذُكِرَ بَعْدَ ما عَقَلُوهُ، وحاصِلُ الآيَةِ اسْتِبْعادُ الطَّمَعِ في أنْ يَقَعَ مِن هَؤُلاءِ السَّفَلَةِ إيمانٌ، وقَدْ كانَ أحْبارُهم ومُقَدَّمُوهم عَلى هَذِهِ الحالَةِ الشَّنْعاءِ، ولا شَكَّ أنَّ هَؤُلاءِ أسْوَأُ خُلُقًا، وأقَلُّ تَمْيِيزًا مِن أسْلافِهِمْ، أوِ اسْتِبْعادًا لِطَمَعٍ في إيمانِ هَؤُلاءِ الكَفَرَةِ المُحَرِّفِينَ وأسْلافِهِمُ الَّذِينَ كانُوا زَمَنَ نَبِيِّهِمْ فَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَهم فِيهِ سابِقَةٌ، وبِهَذا يَنْدَفِعُ ما عَسى أنْ يَخْتَلِجَ في الصَّدْرِ مِن أنَّهُ كَيْفَ يَلْزَمُ مِن إقْدامِ بَعْضِهِمْ عَلى التَّحْرِيفِ حُصُولُ اليَأْسِ مِن إيمانِ باقِيهِمْ،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب