الباحث القرآني
﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ القَسْوَةُ في الأصْلِ اليُبْسُ والصَّلابَةُ، وقَدْ شُبِّهَتْ هُنا حالُ قُلُوبِهِمْ، وهي نُبُوُّها عَنِ الِاعْتِبارِ بِحالِ قَسْوَةِ الحِجارَةِ في أنَّها يَجْرِي فِيها لُطْفُ العَمَلِ فَفي (قَسَتِ) اسْتِعارَةٌ تَبَعِيَّةٌ، أوْ تَمْثِيلِيَّةٌ، (وثُمَّ) لِاسْتِبْعادِ القَسْوَةِ بَعْدَ مُشاهَدَةِ ما يُزِيلُها، وقِيلَ: إنَّها لِلتَّراخِي في الزَّمانِ لِأنَّهم قَسَتْ قُلُوبُهم بَعْدَ مُدَّةٍ حِينَ قالُوا: إنَّ المَيِّتَ كَذَبَ عَلَيْهِمْ، أوْ أنَّهُ عِبارَةٌ عَنْ قَسْوَةِ عَقِبِهِمْ، والضَّمِيرُ في (قُلُوبِكُمْ) لِوَرَثَةِ القَتِيلِ عِنْدَ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، وعِنْدَ أبِي العالِيَةِ وغَيْرِهِ لِبَنِي إسْرائِيلَ، ﴿مِن بَعْدِ ذَلِكَ﴾ أيْ إحْياءِ القَتِيلِ، وقِيلَ: كَلامِهِ، وقِيلَ: ما سَبَقَ مِنَ الآياتِ الَّتِي عَلِمُوها، كَمَسْخِهِمْ قِرَدَةً وخَنازِيرَ، ورَفْعِ الجَبَلِ، وانْبِجاسِ الماءِ، والإحْياءِ، وإلى ذَلِكَ ذَهَبَ الزَّجّاجُ، وعَلَيْهِ تَكُونُ ﴿ثُمَّ قَسَتْ﴾ إلَخْ، عَطْفًا عَلى مَضْمُونِ جَمِيعِ القِصَصِ السّابِقَةِ، والآياتِ المَذْكُورَةِ، وعَلى سابِقِهِ تَكُونُ عَطْفًا عَلى قِصَّةِ ﴿وإذْ قَتَلْتُمْ﴾ ﴿فَهِيَ كالحِجارَةِ﴾ أيْ في القَسْوَةِ، وعَدَمِ التَّأثُّرِ، والجَمْعُ لِجَمْعِ القُلُوبِ، ولِلْإشارَةِ إلى أنَّها مُتَفاوِتَةٌ في القَسْوَةِ، كَما أنَّ الحِجارَةَ مُتَفاوِتَةٌ في الصَّلابَةِ، والكافُ لِلتَّشْبِيهِ، وهي حَرْفٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وجُمْهُورِ النَّحْوِيِّينَ، والأخْفَشُ يَدَّعِي اسْمِيَّتَها، وهي مُتَعَلِّقَةٌ هُنا بِمَحْذُوفٍ، أيْ كائِنَةٌ كالحِجارَةِ، خِلافًا لِابْنِ عُصْفُورٍ، إذْ زَعَمَ أنَّ كافَ التَّشْبِيهِ لا تَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ ﴿أوْ أشَدُّ قَسْوَةً﴾ أيْ مِنَ الحِجارَةِ، فَهي كالحَدِيدِ مَثَلًا، أوْ كَشَيْءٍ لا يَتَأثَّرُ أصْلًا، ولَوْ وهْمًا، (وأوْ) لِتَخْيِيرِ المُبالِغِ، ويَكُونُ في التَّشْبِيهِ كَما يَكُونُ بَعْدَ الأمْرِ، أوْ لِلتَّنْوِيعِ، أيْ بَعْضٌ كالحِجارَةِ، وبَعْضٌ أشَدُّ، أوْ لِلتَّرْدِيدِ، بِمَعْنى تَجْوِيزِ الأمْرَيْنِ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الغَيْرِ، عَلى ما قِيلَ، أوْ بِمَعْنى بَلْ، ويَحْتاجُ إلى تَقْدِيرِ مُبْتَدَإٍ، إذا قُلْنا بِاخْتِصاصِ ذَلِكَ بِالجُمَلِ، أوْ بِمَعْنى الواوِ، أوْ لِلشَّكِّ، وهو لِاسْتِحالَتِهِ عَلَيْهِ تَعالى يُصْرَفُ إلى الغَيْرِ، والعَلّامَةُ لا يَرْتَضِي ذَلِكَ لِما أنَّهُ يُؤَدِّي إلى تَجْوِيزِ أنْ يَكُونَ مَعانِي الحُرُوفِ بِالقِياسِ إلى السّامِعِ، وفِيهِ إخْراجٌ لِلْألْفاظِ عَنْ أوْضاعِها، فَإنَّها إنَّما وُضِعَتْ لِيُعَبِّرَ بِها المُتَكَلِّمُ عَمّا في ضَمِيرِهِ، والحَقُّ جَوازُ اعْتِبارِ السّامِعِ في مَعانِي الألْفاظِ عِنْدَ امْتِناعِ جَرْيِها عَلى الأصْلِ بِالنَّظَرِ إلى المُتَكَلِّمِ، فَلا بَأْسَ بِأنْ يَسْلُكَ بِأوْ في الشَّكِّ مَسْلَكَ لَعَلَّ في التَّرَجِّي الواقِعِ في كَلامِهِ تَعالى، فَتِلْكَ جادَّةٌ مَسْلُوكَةٌ لِأهْلِ السُّنَّةِ، وقَدْ مَرَّتِ الإشارَةُ إلى ذَلِكَ، فَتَذَكَّرْ، (وأشَدُّ) عَطْفٌ عَلى (كالحِجارَةِ) مِن قَبِيلِ عَطْفِ المُفْرَدِ عَلى المُفْرَدِ، كَما تَقُولُ: زَيْدٌ عَلى سَفَرٍ أوْ مُقِيمٌ، وقَدَّرَ بَعْضُهُمْ: أوْ هي أشَدُّ، فَيَصِيرُ مِن عَطْفِ الجُمَلِ، ومِنَ النّاسِ مَن يُقَدِّرُ مُضافًا مَحْذُوفًا، أيْ مِثْلُ ما هو أشَدُّ، ويَجْعَلُهُ مَعْطُوفًا عَلى الكافِ، إنْ كانَ اسْمًا، أوْ مَجْمُوعَ الجارِّ والمَجْرُورِ إذا كانَ حَرْفًا، ثُمَّ لَمّا حُذِفَ المُضافُ أُقِيمَ المُضافُ إلَيْهِ مَقامَهُ، فَأُعْرِبَ بِإعْرابِهِ، ولا يَخْفى أنَّ اعْتِبارَ التَّشْبِيهِ في جانِبِ المَعْطُوفِ بِدُونِ عَطْفِهِ عَلى المَجْرُورِ بِالكافِ مُسْتَبْعَدٌ جِدًّا، وقَرَأ الأعْمَشُ (أوْ أشَدُّ) مَجْرُورًا بِالفَتْحَةِ، لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُنْصَرِفٍ (p-296)لِلْوَصْفِ ووَزْنِ الفِعْلِ، وهو عَطْفٌ عَلى الحِجارَةِ، واعْتِبارُ التَّشْبِيهِ حِينَئِذٍ ظاهِرٌ، وإنَّما لَمْ يَقُلْ سُبْحانَهُ وتَعالى: أقْسى، مَعَ أنَّ فِعْلَ القَسْوَةِ مِمّا يُصاغُ مِنهُ أفْعَلُ، وهو أخْصَرُ، ووارِدٌ في الفَصِيحِ كَقَوْلِهِ:
؎كُلُّ خَمْصانَةٍ أرَقُّ مِنَ الخَمْرِ بِقَلْبٍ أقْسى مِنَ الجُلْمُودِ
لِما في أشَدَّ مِنَ المُبالَغَةِ، لِأنَّهُ يَدُلُّ عَلى الزِّيادَةِ بِجَوْهَرِهِ، وهَيْئَتِهِ، بِخِلافِ أقْسى، فَإنَّ دِلالَتَهُ بِالهَيْئَةِ فَقَطْ، وفِيهِ دِلالَةٌ عَلى اشْتِدادِ القَسْوَتَيْنِ، ولَوْ كانَ أقْسى لَكانَ دالًّا عَلى اشْتِراكِ القُلُوبِ والحِجارَةِ في القَسْوَةِ، واشْتِمالِ القُلُوبِ عَلى زِيادَةِ القَسْوَةِ لا في شِدَّةِ القَسْوَةِ، ولَيْسَ هَذا مِثْلَ قَوْلِكَ: زَيْدٌ أشَدُّ إكْرامًا مِن عَمْرٍو، حَيْثُ ذَكَرُوا أنَّ لَيْسَ مَعْناهُ إلّا أنَّهُما مُشْتَرِكانِ في الإكْرامِ، وإكْرامُ زَيْدٍ زِيدَ عَلى إكْرامِ عَمْرٍو، لا أنَّهُما مُشْتَرِكانِ في شِدَّةِ الإكْرامِ وشِدَّةُ إكْرامِ زَيْدٍ زائِدَةٌ عَلى شِدَّةِ إكْرامِ عَمْرٍو، لِلْفَرْقِ بَيْنَ ما بُنِيَ لِلتَّوَصُّلِ، وما بُنِيَ لِغَيْرِهِ، وما نَحْنُ فِيهِ مِنَ الثّانِي، وإنْ كانَ الأوَّلُ أكْثَرَ، والِاعْتِراضُ بِأنَّ أشَدَّ مَحْمُولٌ عَلى القُلُوبِ، دُونَ القَسْوَةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَيْها، بِحَسَبِ المَعْنى، لِكَوْنِها تَمْيِيزًا مُحَوَّلًا عَنِ الفاعِلِ، أوْ مَنقُولًا عَنِ المُبْتَدَإ، كَما في البَحْرِ، ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى أبْرَزَ القَساوَةَ في مَعْرِضِ العُيُوبِ الظّاهِرَةِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّها مِنَ العُيُوبِ، بَلِ العَيْبُ كُلُّ العَيْبِ ما صَدَّ عَنْ عالَمِ الغَيْبِ، ﴿فَإنَّها لا تَعْمى الأبْصارُ ولَكِنْ تَعْمى القُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ﴾
﴿وإنَّ مِنَ الحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنهُ الأنْهارُ وإنَّ مِنها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنهُ الماءُ وإنَّ مِنها لَما يَهْبِطُ مِنَ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ تَذْيِيلٌ لِبَيانِ تَفْضِيلِ قُلُوبِهِمْ عَلى الحِجارَةِ، أوِ اعْتِراضٌ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ وبَيْنَ الحالِ عَنْها، وهو ﴿وما اللَّهُ بِغافِلٍ﴾ لِبَيانِ سَبَبِ ذَلِكَ، فَإنَّهُ لِغَرابَتِهِ يَحْتاجُ إلى بَيانِ السَّبَبِ، كَما في قَوْلِهِ:
؎فَلا هِجْرَةَ يَبْدُو وفي اليَأْسِ راحَةٌ ∗∗∗ ولا وصْفُهُ يَصْفُو لَنا فَنُكارِمُهُ)
وجَعْلُهُ جُمْلَةً حالِيَّةً مُشْعِرَةً بِالتَّعْلِيلِ يَأْباهُ الذَّوْقُ، إذْ لا مَعْنى لِلتَّقْيِيدِ، وكَوْنُهُ بَيانًا وتَقْرِيرًا مِن جِهَةِ المَعْنى لِما تَقَدَّمَ مَعَ كَوْنِهِ بِحَسَبِ اللَّفْظِ مَعْطُوفًا عَلى جُمْلَةِ ﴿فَهِيَ كالحِجارَةِ أوْ أشَدُّ﴾ كَما قالَهُ الَعَلّامَةُ مِمّا لا يَظْهَرُ وجْهُهُ، لِأنَّهُ إذا كانَ بَيانًا في المَعْنى كَيْفَ يَصِحُّ عَطْفُهُ، ويُتْرَكُ جَعْلُهُ بَيانًا؟ والمَعْنى: إنَّ الحِجارَةَ تَتَأثَّرُ، وتَنْفَعِلُ، وقُلُوبُ هَؤُلاءِ لا تَتَأثَّرُ ولا تَنْفَعِلُ عَنْ أمْرِ اللَّهِ تَعالى أصْلًا، وقَدْ تَرَقّى سُبْحانَهُ في بَيانِ التَّفْضِيلِ كَأنَّهُ بَيَّنَ أوَّلًا تَفْضِيلَ قُلُوبِهِمْ في القَساوَةِ عَلى الحِجارَةِ الَّتِي تَتَأثَّرُ تَأثُّرًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَنفَعَةٌ عَظِيمَةٌ مِن تَفَجُّرِ الأنْهارِ، ثُمَّ عَلى الحِجارَةِ الَّتِي تَتَأثَّرُ تَأثُّرًا ضَعِيفًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَنفَعَةٌ قَلِيلَةٌ مِن خُرُوجِ الماءِ، ثُمَّ عَلى الحِجارَةِ الَّتِي تَتَأثَّرُ مِن غَيْرِ مَنفَعَةٍ، فَكَأنَّهُ قالَ سُبْحانَهُ: قُلُوبُ هَؤُلاءِ أشَدُّ قَسْوَةً مِنَ الحِجارَةِ، لِأنَّها لا تَتَأثَّرُ بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ المَنفَعَةُ العَظِيمَةُ بَلِ الحَقِيرَةُ بَلْ لا تَتَأثَّرُ أصْلًا، وبِما ذُكِرَ يَظْهَرُ نُكْتَةُ ذِكْرِ تَفَجُّرِ الأنْهارِ، وخُرُوجِ الماءِ، وتَرْكِ فائِدَةِ الهُبُوطِ، وذَكَرَ غَيْرُ واحِدٍ أنَّ الآيَةَ وارِدَةٌ عَلى نَهْجِ التَّتْمِيمِ دُونَ التَّرَقِّي، كالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إذْ لَوْ أُرِيدَ التَّرَقِّي لَقِيلَ: وإنَّ مِنها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنهُ الماءُ، وإنَّ مِنها لَما يَتَفَجَّرُ مِنهُ الأنْهارُ، وفائِدَتُهُ اسْتِيعابُ جَمِيعِ الِانْفِعالاتِ الَّتِي عَلى خِلافِ طَبِيعَةِ هَذا الجَوْهَرِ، وهو أبْلَغُ مِنَ التَّرَقِّي، ويَكُونُ ﴿وإنَّ مِنها﴾ الأخِيرُ تَتْمِيمًا لِلتَّتْمِيمِ، ولا يَخْفى أنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ مَنعُ إفادَتِهِ لِاسْتِيعابِ جَمِيعِ الِانْفِعالاتِ وخُلُوُّهُ عَنْ لَطافَةِ ما ذَكَرْناهُ، والفَجْرُ التَّفَتُّحُ بِسَعَةٍ، وكَثْرَةٍ، كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ جَوْهَرُ الكَلِمَةِ، وبِناءُ التَّفَعُّلِ، والمُرادُ مِنَ الأنْهارِ الماءُ الكَثِيرُ الَّذِي يَجْرِي في الأنْهارِ، والكَلامُ إمّا عَلى حَذْفِ المُضافِ أوْ ذِكْرِ المَحَلِّ وإرادَةِ الحال،ِ أوِ الإسْنادُ مَجازِيٌّ، قالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: وحَمْلُها عَلى المَعْنى الحَقِيقِيِّ وهْمٌ، إذِ التَّفَتُّحُ لا يُمْكِنُ إسْنادُهُ إلى الأنْهارِ، اللَّهُمَّ إلّا بِتَضْمِينِ مَعْنى الحُصُولِ، بِأنْ يُقالَ: يَتَفَجَّرُ، ويَحْصُلُ مِنهُ الأنْهارُ، عَلى أنَّ تَفْجِيرَ الحِجارَةِ بِحَيْثُ تَصِيرُ (p-297)نَهْرًا غَيْرُ مُعْتادٍ، فَضْلًا عَنْ كَوْنِها أنْهارًا، والتَّشَقُّقُ التَّصَدُّعُ بِطُولٍ أوْ بِعَرْضِ، والخَشْيَةُ الخَوْفُ، واخْتُلِفَ في المُرادِ مِنها، فَذَهَبَ قَوْمٌ وهو المَرْوِيُّ عَنْ مُجاهِدٍ وغَيْرِهِ، أنَّها هُنا حَقِيقَةٌ، وهي مُضافَةٌ إلى الِاسْمِ الكَرِيمِ مِن إضافَةِ المَصْدَرِ إلى مَفْعُولِهِ، أيْ مِن خَشْيَةِ الحِجارَةِ اللَّهَ، ويَجُوزُ أنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعالى العَقْلَ والحَياةَ في الحَجَرِ، واعْتِدالُ المِزاجِ والبِنْيَةُ لَيْسا شَرْطًا في ذَلِكَ خِلافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، وظَواهِرُ الآياتِ ناطِقَةٌ بِذَلِكَ، وفي الصَّحِيحِ: «(إنِّي لَأعْرِفُ حَجَرًا كانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أنْ أُبْعَثَ)» وأنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بَعْدَ مَبْعَثِهِ ما مَرَّ بِحَجَرٍ ولا مَدَرٍ، إلّا سَلَّمَ عَلَيْهِ، ووَرَدَ في الحَجَرِ الأسْوَدِ أنَّهُ يَشْهَدُ لِمَنِ اسْتَلَمَهُ، وحَدِيثُ تَسْبِيحِ الحَصى بِكَفِّهِ الشَّرِيفِ ﷺ مَشْهُورٌ، وقِيلَ: هي حَقِيقَةٌ، والإضافَةُ هي الإضافَةُ، إلّا أنَّ الفاعِلَ مَحْذُوفٌ، هو العِبادُ، والمَعْنى: أنَّ مِنَ الحِجارَةِ ما يَنْزِلُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ، عِنْدَ الزِّلْزالِ مِن خَشْيَةِ عِبادِ اللَّهِ تَعالى إيّاهُ، وتَحْقِيقُهُ أنَّهُ لَمّا كانَ المَقْصُودُ مِنها خَشْيَةَ اللَّهِ تَعالى صارَتْ تِلْكَ الخَشْيَةُ كالعِلَّةِ المُؤَثِّرَةِ في ذَلِكَ الهُبُوطِ، فَيُؤَوَّلُ المَعْنى أنَّهُ يَهْبِطُ مِن أجْلِ أنْ يَحْصُلَ خَشْيَةُ العِبادِ اللَّهَ تَعالى.
وذَهَبُ أبُو مُسْلِمٍ إلى أنَّ الخَشْيَةَ حَقِيقَةٌ، وأنَّ الضَّمِيرَ في ﴿مِنها لَما يَهْبِطُ﴾ عائِدٌ عَلى القُلُوبِ، والمَعْنى: أنَّ مِنَ القُلُوبِ قُلُوبًا تَطْمَئِنُّ، وتَسْكُنُ، وتَرْجِعُ إلى اللَّهِ تَعالى، وهي قُلُوبُ المُخْلِصِينَ، فَكَنّى عَنْ ذَلِكَ بِالهُبُوطِ، وقِيلَ: إنَّها حَقِيقَةٌ، إلّا أنَّ إضافَتَها مِن إضافَةِ المَصْدَرِ إلى الفاعِلِ، والمُرادُ بِالحَجَرِ البَرَدُ، وبِخَشْيَتِهِ تَعالى إخافَتُهُ عِبادَهُ بِإنْزالِهِ، وهَذا القَوْلُ أبْرَدُ مِنَ الثَّلْجِ، وما قَبْلَهُ أكْثَفُ مِنَ الحَجَرِ، وما قَبْلَهُما بَيْنَ بَيْنَ، وقالَ قَوْمٌ: إنَّ الخَشْيَةَ مَجازٌ عَنِ الِانْقِيادِ لِأمْرِ اللَّهِ تَعالى إطْلاقًا لِاسْمِ المَلْزُومِ عَلى اللّازِمِ، ولا يَنْبَغِي أنْ تُحْمَلَ عَلى حَقِيقَتِها، أمّا عَلى القَوْلِ بِأنَّ اعْتِدالَ المِزاجِ والبِنْيَةَ شَرْطٌ، وما ورَدَ مِمّا يَقْتَضِي خِلافَهُ مَحْمُولٌ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى قَرَنَ مَلائِكَتَهُ بِتِلْكَ الجَماداتِ، ومِنها هاتِيكَ الأفْعالُ، ونَحْوُ «(هَذا جَبَلٌ يُحِبُّنا ونُحِبُّهُ)،» عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ يُحِبُّنا أهْلُهُ، ونُحِبُّ أهْلَهُ، فَظاهِرٌ.
وأمّا عَلى القَوْلِ بِعَدَمِ الِاشْتِراطِ فَلِأنَّ الهُبُوطَ والخَشْيَةَ عَلى تَقْدِيرِ خَلْقِ العَقْلِ، والحَياةِ لا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ بَيانًا لِكَوْنِ الحِجارَةِ في نَفْسِها أقَلَّ قَسْوَةً، وهو المُناسِبُ لِلْمَقامِ، والِاعْتِراضُ بِأنَّ قُلُوبَهم إنَّما تَمْتَنِعُ عَنِ الِانْقِيادِ لِأمْرِ التَّكْلِيفِ بِطَرِيقِ القَصْدِ، والِاخْتِيارِ، ولا تَمْتَنِعُ عَمّا يُرادُ بِها عَلى طَرِيقِ القَسْرِ، والإلْجَإ كَما في الحِجارَةِ، وعَلى هَذا لا يَتِمُّ ما ذُكِرَ، فالأوْلى الحَمْلُ عَلى الحَقِيقَةِ، أُجِيبَ عَنْهُ بِأنَّ المُرادَ أنَّ قُلُوبَهم أقْسى مِنَ الحِجارَةِ، لِقَبُولِها التَّأثُّرَ الَّذِي يَلِيقُ بِها، وخُلِقَتْ لِأجْلِهِ بِخِلافِ قُلُوبِهِمْ، فَإنَّها تَنْبُو عَنِ التَّأثُّرِ الَّذِي يَلِيقُ بِها، وخُلِقَتْ لَهُ، والجَوابُ بِأنَّ ما رَأوْهُ مِنَ الآياتِ مِمّا يُقْسِرُ القَلْبَ ويُلْجِؤُهُ فَلَمّا لَمْ تَتَأثَّرْ قُلُوبُهم عَنِ القاسِراتِ الكَثِيرَةِ ويَتَأثَّرُ الحَجَرُ مِن قاسِرٍ واحِدٍ تَكُونُ قُلُوبُهم أشَدُّ قَسْوَةً، لا يَخْلُو عَنْ نَظَرٍ، لِأنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ المُبالَغَةُ في الدِّلالَةِ عَلى الصِّدْقِ، فَلا يَنْفَعُ، وإنْ أُرِيدَ بِهِ حَقِيقَةُ الإلْجاءِ فَمَمْنُوعٌ، وإلّا لَما تَخَلَّفَ عَنْها التَّأثُّرُ، ولَما اسْتَحَقَّ مَن آمَنَ بَعْدَ رُؤْيَتِها الثَّوابَ لِكَوْنِهِ إيمانًا اضْطِرارِيًّا، ولَمْ يَقُلْ بِهِ أحَدٌ، ثُمَّ الظّاهِرُ عَلى هَذا تَعَلُّقُ خَشْيَةِ اللَّهِ بِالأفْعالِ الثَّلاثَةِ السّابِقَةِ، وقُرِئَ (وإنْ) عَلى أنَّها المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، ويَلْزَمُها اللّامُ الفارِقَةُ بَيْنَها وبَيْنَ النّافِيَةِ، والفَرّاءُ يَقُولُ: إنَّها النّافِيَةُ، واللّامُ بِمَعْنى إلّا، وزَعَمَ الكِسائِيُّ أنَّ (إنَّ) إنْ ولِيَها اسْمٌ كانَتِ المُخَفَّفَةَ، وإنْ فِعْلٌ كانَتِ النّافِيَةَ، وقُطْرُبٌ: إنَّها إنْ ولِيَها فِعْلٌ كانَتْ بِمَعْنى قَدْ، وقَرَأ مالِكُ بْنُ دِينارٍ (يَنْفَجِرُ) مُضارِعَ انْفَجَرَ، والأعْمَشُ (يَتَشَقَّقُ)، (ويَهْبُطُ) بِالضَّمِّ.
﴿وما اللَّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ﴾ وعِيدٌ عَلى ما ذُكِرَ كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى لَبِالمِرْصادِ لِهَؤُلاءِ القاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ، حافِظٌ لِأعْمالِهِمْ مُحْصٍ لَها، فَهو مُجازِيهِمْ بِها في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ (يَعْمَلُونَ) بِالياءِ التَّحْتانِيَّةِ ضَمًّا إلى (p-298)ما بَعْدَهُ مِن قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ”أنْ يُؤْمِنُوا ويُسْمِعُونَ“ وفَرِيقٌ مِنهُمْ، وقَرَأ الباقُونَ بِالتّاءِ الفَوْقانِيَّةِ لِمُناسَبَةِ (وإذْ قَتَلْتُمْ) و(ادّارَأْتُمْ) و(تَكْتُمُونَ) إلَخْ، وقِيلَ: ضَمًّا إلى قَوْلِهِ تَعالى: (أفَتَطْمَعُونَ) بِأنْ يَكُونَ الخِطابُ فِيهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وعْدٌ لَهُمْ، ويُبْعِدُهُ أنَّهُ لا وجْهَ لِذِكْرِ وعْدِ المُؤْمِنِينَ تَذْيِيلًا لِبَيانِ قَبائِحِ اليَهُودِ،
{"ayah":"ثُمَّ قَسَتۡ قُلُوبُكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَ ٰلِكَ فَهِیَ كَٱلۡحِجَارَةِ أَوۡ أَشَدُّ قَسۡوَةࣰۚ وَإِنَّ مِنَ ٱلۡحِجَارَةِ لَمَا یَتَفَجَّرُ مِنۡهُ ٱلۡأَنۡهَـٰرُۚ وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا یَشَّقَّقُ فَیَخۡرُجُ مِنۡهُ ٱلۡمَاۤءُۚ وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا یَهۡبِطُ مِنۡ خَشۡیَةِ ٱللَّهِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق