الباحث القرآني

﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وعَلى سَمْعِهِمْ وعَلى أبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ولَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ إشارَةٌ إلى بُرْهانٍ لَمِّيٍّ لِلْحُكْمِ السّابِقِ، كَما أنَّ ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ﴾ إلَخْ عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ اعْتِراضًا بُرْهانٌ إنِّيٌّ، فالخَتْمُ والتَّغْشِيَةُ مُسَبَّبانِ عَنْ نَفْسِ الكُفْرِ، واقْتِرافُ المَعاصِي سَبَبانِ لِلِاسْتِمْرارِ عَلى عَدَمِ الإيمانِ، أوْ لِاسْتِواءِ الإنْذارِ وعَدَمِهِ، فالقَطْعُ لِأنَّهُ سُؤالٌ عَنْ سَبَبِ الحُكْمِ، والخَتْمُ الوَسْمُ بِطابَعٍ، ونَحْوِهِ، والأثَرُ الحاصِلُ، ويُتَجَوَّزُ بِذَلِكَ تارَةً في الِاسْتِيثاقِ مِنَ الشَّيْءِ، والمَنعِ مِنهُ اعْتِبارًا بِما يَحْصُلُ مِنَ المَنعِ بِالخَتْمِ عَلى الكُتُبِ والأبْوابِ، وتارَةً في تَحْصِيلِ أثَرٍ عَنْ أثَرٍ اعْتِبارًا بالنَّقْشِ الحاصِلِ، وتارَةً يُعْتَبَرُ مَعَهُ بُلُوغُ الآخِرِ، ومِنهُ خَتَمْتُ القُرْآنَ، والغِشاوَةُ عَلى ما عَلَيْهِ السَّبْعَةُ بِكَسْرِ الغَيْنِ (p-132)المُجَمَّعَةِ مِن غَشّاهُ إذا غَطّاهُ، قالَ أبُو عَلِيٍّ: ولَمْ يُسْمَعْ مِنهُ فِعْلٌ إلّا يائِيٌّ، فالواوُ مُبْدَلَةٌ مِنَ الياءِ عِنْدَهُ، أوْ يُقالُ: لَعَلَّ لَهُ مادَّتَيْنِ، وفِعالَةٌ عِنْدَ الزَّجّاجِ لِما اشْتَمَلَ عَلى شَيْءٍ، كاللِّفافَةِ، ومِنهُ أسْماءُ الصِّناعاتِ كالخِياطَةِ لِاشْتِمالِها عَلى ما فِيها، وكَذَلِكَ ما اسْتَوْلى عَلى شَيْءٍ، كالخِلافَةِ، وعِنْدَ الرّاغِبِ: هي لِما يُفْعَلُ بِهِ الفِعْلُ كاللَّفِّ في اللِّفافَةِ، فَإنِ اسْتُعْمِلَتْ في غَيْرِهِ فَعَلى التَّشْبِيهِ، وبَعْضُهم فَرَّقَ بَيْنَ ما فِيهِ هاءُ التَّأْنِيثِ وبَيْنَ ما لَيْسَ فِيهِ، فالأوَّلُ اسْمٌ لِما يُفْعَلُ بِهِ الشَّيْءُ، كالآلَةِ نَحْوِ حِزامٍ، وإمامٍ، والثّانِي لِما يَشْتَمِلُ عَلى الشَّيْءِ، ويُحِيطُ بِهِ، وحَمَلَ الظّاهِرِيُّونَ الخَتْمَ والتَّغْشِيَةَ عَلى حَقِيقَتِهِما، وفَوَّضُوا الكَيْفِيَّةَ إلى عِلْمِ مَن لا كَيْفِيَّةَ لَهُ سُبْحانَهُ، ورُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ أنَّهُ قالَ: إذا أذْنَبَ العَبْدُ ضُمَّ مِنَ القَلْبِ هَكَذا، وضَمَّ الخِنْصَرَ، ثُمَّ إذا أذْنَبَ ضُمَّ هَكَذا، وضَمَّ البِنْصَرَ، وهَكَذا إلى الإبْهامِ، ثُمَّ قالَ: وهَذا هو الخَتْمُ والطَّبْعُ والرَّيْنُ، وهو عِنْدِي غَيْرُ مَعْقُولٍ، والَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ المُحَقِّقُونَ أنَّ الخَتْمَ اسْتُعِيرَ مِن ضَرْبِ الخاتَمِ عَلى نَحْوِ الأوانِي لِإحْداثِ هَيْئَةٍ في القَلْبِ والسَّمْعِ مانِعَةٍ مِن نُفُوذِ الحَقِّ إلَيْهِما، كَما يَمْنَعُ نَقْشُ الخاتَمِ تِلْكَ الظُّرُوفَ مِن نُفُوذِ ما هو بِصَدَدِ الِانْصِبابِ فِيها، فَيَكُونُ اسْتِعارَةَ مَحْسُوسٍ لِمَعْقُولٍ بِجامِعٍ عَقْلِيٍّ، وهو الِاشْتِمالُ عَلى مَنعِ القابِلِ عَمّا مِن شَأْنِهِ أنْ يَقْبَلَهُ، ثُمَّ اشْتُقَّ مِنَ الخَتْمِ خَتَمَ، فَفِيهِ اسْتِعارَةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ تَبَعِيَّةٌ، وأمّا الغِشاوَةُ، فَقَدِ اسْتُعِيرَتْ مِن مَعْناها الأصْلِيِّ لِحالَةٍ في أبْصارِهِمْ مُقْتَضِيَةٍ لِعَدَمٍ إجْتَلائِها الآياتِ، والجامِعُ ما ذُكِرَ، فَهُناكَ اسْتِعارَةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ أصْلِيَّةٌ أوْ تَبَعِيَّةٌ إذا أوَّلْتَ الغِشاوَةَ بِمُشْتَقٍّ، أوْ جَعَلْتَ اسْمَ آلَةٍ عَلى ما قِيلَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ في الكَلامِ اسْتِعارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ بِأنْ يُقالَ: شُبِّهَتْ حالُ قُلُوبِهِمْ وأسْماعِهِمْ وأبْصارِهِمْ مَعَ الهَيْئَةِ الحادِثَةِ فِيها المانِعَةِ مِنَ الِاسْتِنْفاعِ بِها بِحالِ أشْياءَ مُعَدَّةٍ لِلِانْتِفاعِ بِها في مَصالِحَ مُهِمَّةٍ مَعَ المَنعِ مِن ذَلِكَ بِالخَتْمِ والتَّغْطِيَةِ، ثُمَّ يُسْتَعارُ لِلْمُشَبَّهِ اللَّفْظُ الدّالُّ عَلى المُشَبَّهِ بِهِ، فَيَكُونُ كُلُّ واحِدٍ مِن طَرَفَيِ التَّشْبِيهِ مُرَكَّبًا، والجامِعُ عَدَمُ الِانْتِفاعِ بِما أُعِدَّ لَهُ، بِسَبَبِ عُرُوضٍ مانِعٍ يُمْكِنُ فِيهِ، كالمانِعِ الأصْلِيِّ، وهو أمْرٌ عَقْلِيٌّ مُنْتَزَعٌ مِن تِلْكَ العُدَّةِ، ثُمَّ إنَّ إسْنادَ الخَتْمِ إلَيْهِ عَزَّ وجَلَّ بِاعْتِبارِ الخَلْقِ، والذَّمُّ، والتَّشْنِيعُ الَّذِي تُشِيرُ إلَيْهِ الآيَةُ بِاعْتِبارِ كَوْنِ ذَلِكَ مُسَبَّبًا عَمّا كَسَبَهُ الكُفّارُ مِنَ المَعاصِي كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ﴾ وإلّا أشْكَلَ التَّشْنِيعُ والذَّمُّ عَلى ما لَيْسَ فِعْلَهُمْ، كَذا قالَهُ مُفَسِّرُو أهْلِ السُّنَّةِ عَنْ آخِرِهِمْ فِيما أعْلَمُ، والمُعْتَزِلَةُ لَمّا رَأوْا أنَّ الآيَةَ يَلْزَمُ مِنها أنْ يَكُونَ سُبْحانَهُ مانِعًا عَنْ قَبُولِ الحَقِّ وسَماعِهِ بِالخَتْمِ، وهو قَبِيحٌ يَمْتَنِعُ صُدُورُهُ عَنْهُ تَعالى عَلى قاعِدَتِهِمُ التَزَمُوا لِلْآيَةِ تَأْوِيلاتٍ، ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ جُمْلَةً مِنها حَتّى قالَ: الشَّيْطانُ هو الخاتَمُ في الحَقِيقَةِ، أوِ الكافِرُ، إلّا أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى لَمّا كانَ هو الَّذِي أقْدَرَهُ أوْ مَكَّنَهُ أُسْنِدَ الخَتْمُ إلَيْهِ، كَما يُسْنَدُ إلى السَّبَبِ نَحْوَ: بَنى الأمِيرُ المَدِينَةَ، وناقَةٌ حَلُوبٌ، وأنا أقُولُ: إنْ ماهِيّاتِ المُمْكِناتِ مَعْلُومَةٌ لَهُ سُبْحانَهُ أزَلًا، فَهي مُتَمَيِّزَةٌ في أنْفُسِها تَمَيُّزًا ذاتِيًّا غَيْرَ مَجْعُولٍ لِتَوَقُّفِ العِلْمِ بِها عَلى ذَلِكَ التَّمَيُّزِ، وإنَّ لَها اسْتِعْداداتٍ ذاتِيَّةً غَيْرَ مَجْعُولَةٍ أيْضًا، مُخْتَلِفَةَ الِاقْتِضاءاتِ، والعِلْمُ الإلَهِيُّ مُتَعَلِّقٌ بِها كاشِفٌ لَها، عَلى ما هي عَلَيْهِ، في أنْفُسِها مِنِ اخْتِلافِ اسْتِعْداداتِها الَّتِي هي مِن مَفاتِيحِ الغَيْبِ، الَّتِي لا يَعْلَمُها إلّا هُوَ، واخْتِلافِ مُقْتَضَياتِ تِلْكَ الِاسْتِعْداداتِ، فَإذا تَعَلَّقَ العِلْمُ (p-133)الإلَهِيُّ بِها عَلى ما هي عَلَيْهِ مِمّا يَقْتَضِيهِ اسْتِعْدادُها مِنِ اخْتِيارِ أحَدِ الطَّرَفَيْنِ الخَيْرَ والشَّرَّ تَعَلَّقَتِ الإرادَةُ الإلَهِيَّةُ بِهَذا الَّذِي اخْتارَهُ العَبْدُ بِمُقْتَضى اسْتِعْدادِهِ، فَيَصِيرُ مُرادُهُ بَعْدَ تَعَلُّقِ الإرادَةِ الإلَهِيَّةِ مُرادًا لِلَّهِ تَعالى، فاخْتِيارُهُ الأزَلِيُّ بِمُقْتَضى اسْتِعْدادِهِ مَتْبُوعٌ لِلْعِلْمِ المَتْبُوعِ لِلْإرادَةِ مُراعاةً لِلْحِكْمَةِ، وإنَّ اخْتِيارَهُ فِيما لا يَزالُ تابِعٌ لِلْإرادَةِ الأزَلِيَّةِ المُتَعَلِّقَةِ بِاخْتِيارِهِ لِما اخْتارَهُ، فالعِبادُ مُنْساقُونَ إلى أنْ يَفْعَلُوا ما يَصْدُرُ عَنْهم بِاخْتِيارِهِمْ لا بالإكْراهِ والجَبْرِ، ولَيْسُوا مَجْبُورِينَ في اخْتِيارِهِمُ الأزَلِيِّ، لِأنَّهُ سابِقُ الرُّتْبَةِ عَلى تَعَلُّقِ العِلْمِ السّابِقِ عَلى تَعَلُّقِ الإرادَةِ، والجَبْرُ تَبَعٌ لِلْإرادَةِ التّابِعَةِ لِلْعِلْمِ التّابِعِ لِلْمَعْلُومِ الَّذِي هو هُنا اخْتِيارُهُمُ الأزَلِيُّ، فَيَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ تابِعًا لِما هو مُتَأخِّرٌ عَنْهُ بِمَراتِبَ، فَما مِن شَيْءٍ يُبْرِزُهُ اللَّهُ تَعالى بِمُقْتَضى الحِكْمَةِ ويُفِيضُهُ عَلى المُمْكِناتِ إلّا وهو مَطْلُوبُها بِلِسانِ اسْتِعْدادِها، وما حَرَمَها سُبْحانَهُ شَيْئًا مِن ذَلِكَ، كَما يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ﴾ أيِ الثّابِتَ لَهُ في الأزَلِ مِمّا يَقْتَضِيهِ اسْتِعْدادُهُ الغَيْرُ المَجْعُولِ، وإنْ كانَتِ الصُّوَرُ الوُجُودِيَّةُ الحادِثَةُ مَجْعُولَةً، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَألْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها﴾ أيِ الثّابِتَيْنِ لَها في نَفْسِ الأمْرِ، والكُلُّ مِن حَيْثُ إنَّهُ خَلَقَهُ حَسَنٌ لِكَوْنِهِ بارِزًا بِمُقْتَضى الحِكْمَةِ مِن صانِعٍ مُطْلَقٍ لا حاكِمَ عَلَيْهِ، ولِهَذا قالَ عَزَّ شَأْنُهُ: ﴿أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ و﴿ما تَرى في خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفاوُتٍ﴾ أيْ مِن حَيْثُ إنَّهُ مُضافٌ إلَيْهِ ومُفاضٌ مِنهُ، وإنْ تَفاوَتَ مِن جِهَةٍ أُخْرى، وافْتَرَقَ عِنْدَ إضافَةِ بَعْضِهِ إلى بَعْضٍ، فَعَلى هَذا يَكُونُ الخَتْمُ مِنهُ سُبْحانَهُ وتَعالى دَلِيلًا عَلى سَواءِ اسْتِعْدادِهِمُ الثّابِتِ في عِلْمِهِ الأزَلِيِّ الغَيْرِ المَجْعُولِ، بَلْ هَذا الخَتْمُ الَّذِي هو مِن مُقْتَضَياتِ الِاسْتِعْدادِ لَمْ يَكُنْ مِنَ اللَّهِ تَعالى إلّا إيجادُهُ، وإظْهارُ يَقِينِهِ طِبْقَ ما عَلِمَهُ فِيهِمْ أزَلًا، حَيْثُ لا جَعَلَ، وما ظَلَمَهم اللَّهُ تَعالى في إظْهارِهِ إذْ مِن صِفَتِهِ سُبْحانَهُ إفاضَةُ الوُجُودِ عَلى القَوابِلِ بِحَسَبِ القابِلِيّاتِ عَلى ما تَقْتَضِيهِ الحِكْمَةُ، ولَكِنْ كانُوا أنْفُسهمْ يَظْلِمُونَ حَيْثُ كانَتْ مُسْتَعِدَّةً بِذاتِها لِذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ أنَّ إسْنادَ الخَتْمِ إلَيْهِ تَعالى بِاعْتِبارِ الإيجادِ حَقِيقَةٌ، ويَحْسُنُ الذَّمُّ لَهم بِهِ مِن حَيْثُ دِلالَتُهُ عَلى سُوءِ الِاسْتِعْدادِ وقُبْحِ ما انْطَوَتْ عَلَيْهِ ذَواتُهم في ذَلِكَ النّادِّ ﴿والبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإذْنِ رَبِّهِ والَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلا نَكِدًا﴾ وأمّا ما ذَكَرَهُ المُفَسِّرُونَ مِن أنَّ إسْنادَ الخَتْمِ إلَيْهِ تَعالى بِاعْتِبارِ الخَلْقِ فَمُسَلَّمٌ، لا كَلامَ لَنا فِيهِ، وأمّا إنَّ الذَّمَّ بِاعْتِبارِ كَوْنِ ذَلِكَ مُسَبَّبًا عَمّا كَسَبَهُ الكُفّارُ إلَخْ، فَنَقُولُ فِيهِ: إنْ أرادُوا بِالكَسْبِ ما شاعَ عِنْدَ الأشاعِرَةِ مِن مُقارَنَةِ الفِعْلِ لِقُدْرَةِ العَبْدِ مِن غَيْرِ تَأْثِيرٍ لَها فِيهِ أصْلًا، وإنَّما المُؤَثِّرُ هو اللَّهُ تَعالى، فَهو مَعَ مُخالَفَتِهِ لِمَعْنى الكَسْبِ، وكَوْنِهِ ﴿كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتّى إذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾ لا يَشْفِي عَلِيلًا، ولا يَرْوِي غَلِيلًا، إذْ لِلْخَصْمِ أنْ يَقُولَ: أيُّ مَعْنًى لِذَمِّ العَبْدِ بِشَيْءٍ لا مَدْخَلَ لِقُدْرَتِهِ فِيهِ، إلّا كَمَدْخَلِ اليَدِ الشَّلّاءِ فِيما فَعَلَتْهُ الأيْدِي السَّلِيمَةُ، وحِينَئِذٍ يَتَأتّى ما قالَهُ الصّاحِبُ بْنُ عَبّادٍ في هَذا البابِ: كَيْفَ يَأْمُرُ اللَّهُ تَعالى العَبْدَ بِالإيمانِ، وقَدْ مَنَعَهُ مِنهُ، ويَنْهاهُ عَنِ الكُفْرِ، وقَدْ حَمَلَهُ عَلَيْهِ، وكَيْفَ يَصْرِفُهُ عَنِ الإيمانِ، ثُمَّ يَقُولُ: ﴿أنّى يُصْرَفُونَ﴾ ويَخْلُقُ فِيهِمُ الإفْكَ ثُمَّ يَقُولُ: ﴿أنّى يُؤْفَكُونَ﴾ وأنْشَأ فِيهِمُ الكُفْرَ ثُمَّ يَقُولُ لِمَ تَكْفُرُونَ؟ وخَلَقَ فِيهِمْ لَبْسَ الحَقِّ بِالباطِلِ ثُمَّ يَقُولُ: ﴿لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالباطِلِ﴾ وصَدَّهم عَنِ السَّبِيلِ ثُمَّ يَقُولُ: لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وحالَ بَيْنَهم وبَيْنَ الإيمانِ، ثُمَّ قالَ: ﴿وماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا﴾ وذَهَبَ بِهِمْ عَنِ الرُّشْدِ، ثُمَّ قالَ: وأيْنَ تَذْهَبُونَ، وأضَلَّهم عَنِ الدِّينِ حَتّى أعْرَضُوا، ثُمَّ قالَ: ﴿فَما لَهم عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾ ! فَإنْ أجابُوا بِأنَّ لِلَّهِ أنْ يَفْعَلَ ما يَشاءُ، ولا يَتَعَرَّضُ لِلِاعْتِراضِ عَلَيْهِ المُعْتَرِضُونَ، ﴿لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ وهم يُسْألُونَ﴾ قُلْنا لَهم: هَذِهِ كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِها باطِلٌ، ورَوْضَةُ صِدْقٍ، ولَكِنْ لَيْسَ لَكم مِنها حاصِلٌ، لِأنَّ كَوْنَهُ تَعالى لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ لَيْسَ إلّا لِأنَّهُ حَكِيمٌ لا يَفْعَلُ ما عَنْهُ يُسْألُ، وإذا قُلْتُمْ: لا أثَرَ لِلْقُدْرَةِ الحادِثَةِ في مَقْدُورِها، كَما لا أثَرَ لِلْعِلْمِ في مَعْلُومِهِ فَوَجْهُ مُطالَبَةِ (p-134)العَبْدِ بِأفْعالِهِ كَوَجْهِ مُطالَبَتِهِ بِأنْ يُثَبِّتَ في نَفْسِهِ ألْوانًا وإدْراكاتٍ، وهَذا خُرُوجٌ عَنْ حَدِّ الِاعْتِدالِ إلى التِزامِ الباطِلِ والمُحالِ، وفِيهِ إبْطالُ الشَّرائِعِ العِظامِ، ورَدُّ ما ورَدَ عَنِ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وإنْ أرادُوا بِالكَسْبِ فِعْلَ العَبْدِ اسْتِقْلالا ما يُرِيدُهُ هُوَ، وإنْ لَمْ يُرِدْهُ اللَّهُ تَعالى، فَهَذا مَذْهَبُ المُعْتَزِلَةِ، وفِيهِ الخُرُوجُ عَمّا دَرَجَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأُمَّةِ، واقْتِحامُ ورَطاتِ الضَّلالِ، وسُلُوكُ مَهامِّهِ الوَبالُ. ؎مَساوٍ لَوْ قُسِمْنَ عَلى الغَوانِي لَما أُمْهِرْنَ إلّا بِالطَّلاقِ وإنْ أرادُوا بِهِ تَحْصِيلَ العَبْدِ بِقُدْرَتِهِ الحادِثَةِ حَسَبَ اسْتِعْدادِهِ الأزَلِيِّ المُؤَثِّرَةِ لا مُسْتَقِلًّا، بَلْ بِإذْنِ اللَّهِ تَعالى ما تَعَلَّقَتْ بِهِ مِنَ الأفْعالِ الِاخْتِيارِيَّةِ مَشِيئَتُهُ التّابِعَةُ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى عَلى ما أشَرْنا إلَيْهِ، فَنِعْمَتِ الإرادَةُ وحَبَّذا السُّلُوكُ في هَذِهِ الجادَّةِ، وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى بَسْطُها، وإقامَةُ الأدِلَّةِ عَلى صِحَّتِها، وإماطَةُ الأذى عَنْ طَرِيقِها، إلّا أنَّ أشاعِرَتَنا اليَوْمَ لا يَشْعُرُونَ، وإنَّهم لَيَحْسَبُونَ أنَّهم يُحْسِنُونَ صُنْعًا، ولَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ. ؎ما في الدِّيارِ أخُو وجْدٍ نُطارِحُهُ ∗∗∗ حَدِيثَ نَجْدٍ ولا خِلٌّ نُجارِيهِ وأمّا ما ذَكَرَهُ المُعْتَزِلَةُ لا سِيَّما عَلّامَتُهُمُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَلَيْسَ أوَّلَ عَشْواءَ خَبَطُوها، وفي مَهْواةٍ مِنَ الأهْواءِ أُهْبِطُوها، ولَكَمْ نَزَلُوا عَنْ مِنَصَّةِ الإيمانِ بِالنَّصِّ إلى حَضِيضِ تَأْوِيلِهِ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ، واسْتِيفاءً لِما كُتِبَ عَلَيْهِمْ مِنَ المِحْنَةِ، وطالَما اسْتَوْخَمُوا مِنَ السُّنَّةِ المَناهِلَ العِذابَ، ووَرَدُوا مِن حَمِيمِ البِدْعَةِ مَوارِدَ العَذابِ، والشُّبْهَةُ الَّتِي تُدَنْدِنُ هُنا حَوْلَ الحِمى أنَّ أفْعالَ العِبادِ لَوْ كانَتْ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ تَعالى لَما نَعاها عَلى عِبادِهِ، ولا عاقَبَهم بِها، ولا قامَتْ حُجَّةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِمْ، وهي أوْهى مِن بَيْتِ العَنْكَبُوتِ، وإنَّهُ لَأوْهَنُ البُيُوتِ، وقَدْ عَلِمْتَ جَوابَها مِمّا قَدَّمْناهُ لَكَ، ولْيَكُنْ عَلى ذُكْرٍ مِنكَ، عَلى أنّا نَرْجِعُ فَنَقُولُ: إنْ أسْنَدُوا المُلازَمَةَ وكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ، إلى قاعِدَةِ التَّحْسِينِ والتَّقْبِيحِ، وقالُوا: مُعاقَبَةُ الإنْسانِ مَثَلًا بِفِعْلِ غَيْرِهِ قَبِيحَةٌ في الشّاهِدِ، لا سِيَّما إذا كانَتْ مِنَ الفاعِلِ، فَيَلْزَمُ طَرْدُ ذَلِكَ غائِبًا، قِيلَ: ويَقْبُحُ في الشّاهِدِ أيْضًا أنْ يُمَكِّنَ الإنْسانُ عَبْدَهُ مِنَ القَبائِحِ والفَواحِشِ بِمَرْأى ومَسْمَعٍ، ثُمَّ يُعاقِبَهُ عَلى ذَلِكَ مَعَ القُدْرَةِ عَلى رَدْعِهِ ورَدِّهِ مِنَ الأوَّلِ عَنْها، وأنْتُمْ تَقُولُونَ: إنَّ القُدْرَةَ الَّتِي بِها يَخْلُقُ العَبْدُ الفَواحِشَ لِنَفْسِهِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعالى عَلى عِلْمٍ مِنهُ عَزَّ وجَلَّ، أنَّ العَبْدَ يَخْلُقُ بِها لِنَفْسِهِ ذَلِكَ، فَهو بِمَثابَةِ إعْطاءِ سَيْفٍ باتِرٍ لِفاجِرٍ يُعْلَمُ أنَّهُ يَقْطَعُ بِهِ السَّبِيلَ ويَسْبِي بِهِ الحَرِيمَ، وذَلِكَ في الشّاهِدِ قَبِيحٌ جَزْمًا، فَإنْ قالُوا: ثَمَّ حِكْمَةٌ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعالى بِعِلْمِها، فَرَّقَتْ بَيْنَ الغائِبِ والشّاهِدِ، فَحَسُنَ مِنَ الغائِبِ ذَلِكَ التَّمْكِينُ ولَمْ يَحْسُنْ في الشّاهِدِ، (قُلْنا عَلى سَبِيلِ التَّنَزُّلِ، والمُوافَقَةِ لِبَعْضِ النّاسِ) ما المانِعُ أنْ تَكُونَ تِلْكَ الأفْعالُ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ تَعالى، ويُعاقِبُ العَبْدَ عَلَيْها لِمَصْلَحَةٍ وحِكْمَةٍ اسْتَأْثَرَ بِها كَما فَرَغْتُمْ مِنهُ الآنَ حَذْوَ القُذَّةِ بِالقُذَّةِ؟ عَلى أنَّ في كَوْنِ الخاتَمِ في الحَقِيقَةِ هو الشَّيْطانُ مِمّا لا يَقْدَمُ عَلَيْهِ حَتّى الشَّيْطانُ، ألا تَسْمَعُهُ كَيْفَ قالَ: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهم أجْمَعِينَ﴾ فَلا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ، ولْيَكُنْ هَذا المِقْدارُ كافِيًا في هَذا المَقامِ، ولِشَحْرُورِ القَلَمِ بَعْدُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، عَلى كُلِّ بانَةٍ تَغْرِيدٌ بِأحْسَنِ مَقامٍ، (والقُلُوبُ) جَمْعُ قَلْبٍ، وهو في الأصْلِ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ الجِسْمُ الصَّنَوْبَرِيُّ المُودَعُ في التَّجْوِيفِ الأيْسَرِ مِنَ الصَّدْرِ، وهو مَشْرِقُ اللَّطِيفَةِ الإنْسانِيَّةِ، ويُطْلَقُ عَلى نَفْسِ اللَّطِيفَةِ النُّورانِيَّةِ الرَّبّانِيَّةِ العالِمَةِ الَّتِي هي مَهْبِطُ الأنْوارِ الصَّمَدانِيَّةِ، وبِها يَكُونُ الإنْسانُ إنْسانًا، وبِها يَسْتَعِدُّ لِاكْتِسابِ الأوامِرِ، واجْتِنابِ الزَّواجِرِ، وهي خُلاصَةٌ تَوَلَّدَتْ مِنَ الرُّوحِ الرُّوحانِيِّ، ويُعَبِّرُ عَنْها الحَكِيمُ بِالنَّفْسِ النّاطِقَةِ، ولِكَوْنِها هَدَفَ سِهامِ القَهْرِ واللُّطْفِ ومَظْهَرَ الجَمالِ والجَلالِ ومَنشَأ البَسْطِ والقَبْضِ، ومَبْدَأ المَحْوِ والصَّحْوِ، ومَنبَعَ الأخْلاقِ المَرْضِيَّةِ والأحْوالِ الرَّدِيَّةِ، وقَلَّما تَسْتَقِرُّ عَلى حالٍ، وتَسْتَمِرُّ عَلى مِنوالٍ، سُمِّيَتْ قَلْبًا، فَهي مُتَقَلِّبَةٌ في أمْرِهِ، ومُنْقَلِبَةٌ (p-135)بِقَضاءِ اللَّهِ، وقَدَرِهِ، وفي الحَدِيثِ: «(إنَّ القَلْبَ كَرِيشَةٍ بِأرْضِ فَلاةٍ، تُقَلِّبُها الرِّياحُ)،» وقَدْ قالَ الشّاعِرُ: ؎قَدْ سُمِّيَ القَلْبُ قَلْبًا مِن تَقَلُّبِهِ ∗∗∗ فاحْذَرْ عَلى القَلْبِ مِن قَلْبٍ وتَحْوِيلِ وتَسْمِيَةُ الجِسْمِ المَعْرُوفِ قَلْبًا إذا أمْعَنْتَ النَّظَرَ لَيْسَ إلّا لِتَقَلُّبِ هاتِيكَ اللَّطِيفَةِ المُشْرِقَةِ عَلَيْهِ، لِأنَّهُ العُضْوُ الرَّئِيسُ الَّذِي هو مَنشَأُ الحَرارَةِ الغَرِيزِيَّةِ المُمِدَّةِ لِلْجَسَدِ كُلِّهِ، ويُكَنّى بِصَلاحِهِ وفَسادِهِ عَنْ صَلاحِ هاتِيكَ اللَّطِيفَةِ وفَسادِها، لِما بَيْنَهُما مِنَ التَّعَلُّقِ الَّذِي لا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهُ إلّا اللَّهُ تَعالى، وكَأنَّهُ لِهَذا قالَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «(ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ ألا وهي القَلْبُ)،» وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ ذَهَبَ إلى أنَّ تِلْكَ المُضْغَةِ هي مَحَلُّ العِلْمِ، وقِيلَ: إنَّهُ في الدِّماغِ، وقِيلَ: إنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُما، وبُنِيَ ذَلِكَ عَلى إثْباتِ الحَواسِّ الباطِنَةِ، والكَلامُ فِيها مَشْهُورٌ، ومَن راجَعَ وجَدَ أنَّهُ أدْرَكَ أنَّ بَيْنَ الدِّماغِ والقَلْبِ رابِطَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ، ومُراجَعَةٌ سِرِّيَّةٌ لا يُنْكِرُها مَن كانَ لَهُ قَلْبٌ أوْ ألْقى السَّمْعَ وهو شَهِيدٌ، لَكِنَّ مَعْرِفَةَ حَقِيقَةِ ذَلِكَ مُتَعَزِّزَةٌ كَما هي مُتَعَذِّرَةٌ، والإشارَةُ إلى كُنْهِ ما هُنالِكَ عَلى أرْبابِ الحَقائِقِ، وأصْحابِ الدَّقائِقِ مُتَعَسِّرَةٌ، ومَن عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ، والعَجْزُ عَنْ دَرْكِ الإدْراكِ إدْراكٌ، والسَّمْعُ مَصْدَرُ سَمِعَ سَمْعًا وسَماعًا، ويُطْلَقُ عَلى قُوَّةٍ مُودَعَةٍ في العَصَبِ المَفْرُوشِ أوِ المُبْطَلِ في الأُذُنِ تُدْرَكُ بِها الأصْواتُ، ويُعَبَّرُ بِهِ تارَةً عَنْ نَفْسِ الأُذُنِ، وأُخْرى عَنِ الفِعْلِ، نَحْوَ ﴿إنَّهم عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ﴾ والأبْصارُ جَمْعُ بَصَرٍ، وهو في الأصْلِ بِمَعْنى إدْراكِ العَيْنِ، وإحْساسِها، ثُمَّ تُجُوِّزَ بِهِ عَنِ القُوَّةِ المُودَعَةِ في مُلْتَقى العَصَبَتَيْنِ المُجَوَّفَتَيْنِ الواصِلَتَيْنِ مِنَ الدِّماغِ إلى الحَدَقَتَيْنِ الَّتِي مِن شَأْنِها إدْراكُ الألْوانِ والأشْكالِ بِتَفْصِيلٍ مَعْرُوفٍ في مَحَلِّهِ، وعَنِ العَيْنِ الَّتِي هي مَحَلُّهُ، وشاعَ هَذا حَتّى صارَ حَقِيقَةً في العُرْفِ لِتَبادُرِهِ، وهو المُناسِبُ لِلْغِشاوَةِ لِتَعَلُّقِها بِالأعْيانِ، ويُناسِبُ الخَتْمَ ما يُناسِبُ الغِشاوَةَ، وإنَّما قَدَّمَ سُبْحانَهُ الخَتْمَ عَلى القُلُوبِ هُنا لِأنَّ الآيَةَ تَقْرِيرٌ لِعَدَمِ الإيمانِ، فَناسَبَ تَقْدِيمَ القُلُوبِ لِأنَّها مَحَلُّ الإيمانِ، والسَّمْعُ والأبْصارُ طُرُقٌ وآلاتٌ لَهُ، وهَذا بِخِلافِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وقَلْبِهِ﴾ فَإنَّهُ مَسُوقٌ لِعَدَمِ المُبالاةِ بِالمَواعِظِ، ولِذا جاءَتِ الفاصِلَةُ ”أفَلا تَذْكُرُونَ“ فَكانَ المُناسِبُ هُناكَ تَقْدِيمُ السَّمْعِ، وأعادَ جَلَّ شَأْنُهُ الجارَّ لِتَكُونَ أدَلَّ عَلى شِدَّةِ الخَتْمِ في المَوْضِعَيْنِ، فَإنَّ ما يُوضَعُ في خِزانَةٍ إذا خُتِمَتْ خِزانَتُهُ وخُتِمَتْ دارُهُ كانَ أقْوى مِنَ المَنعِ عَنْهُ، وأظْهَرَ في الِاسْتِقْلالِ لِأنَّ إعادَةَ الجارِّ تَقْتَضِي مُلاحَظَةَ مَعْنى الفِعْلِ المُتَعَدِّي بِهِ حَتّى كَأنَّهُ ذُكِرَ مَرَّتَيْنِ، ولِذا قالُوا فِي: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ وعَمْرٍو، مُرُورٌ واحِدٌ، وفِي: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ وبِعَمْرٍو، مُرُورانِ، والعَطْفُ وإنْ كانَ في قُوَّةِ الإعادَةِ لَكِنَّهُ لَيْسَ ظاهِرًا مِثْلَها في الإفادَةِ لِما فِيهِ مِنَ الِاحْتِمالِ، ووَحَّدَ السَّمْعَ مَعَ أنَّهُ مُتَعَدِّدٌ في الواقِعِ، ومُقْتَضى الِانْتِظامِ بِالسِّباقِ واللَّحاقِ أنْ يَجْرِيَ عَلى نَمَطِهِما لِلِاخْتِصارِ والتَّفَنُّنِ مَعَ الإشارَةِ إلى نُكْتَةٍ هي أنَّ مُدْرَكاتِهِ نَوْعٌ واحِدٌ ومُدْرَكاتِهِما مُخْتَلِفَةٌ، وكَثِيرًا ما يَعْتَبِرُ البُلَغاءُ مِثْلَ ذَلِكَ، وقِيلَ: إنَّ وحْدَةَ اللَّفْظِ تَدُلُّ عَلى وحْدَةِ مُسَمّاهُ، وهو الحاسَّةُ، ووَحْدَتُها تَدُلُّ عَلى قِلَّةِ مُدْرَكاتِها في بادِئِ النَّظَرِ، فَهُناكَ دِلالَةُ التِزامٍ، ويَكْفِي مِثْلُ ما ذُكِرَ في اللُّزُومِ عُرْفًا، ومِنهُ يُتَنَبَّهُ لِوَجْهِ جَمْعِ القُلُوبِ كَثْرَةِ الأبْصارِ قِلَّةً، وإنْ كانَ ذَلِكَ هو المَعْرُوفُ في اسْتِعْمالِ الفُقَهاءِ في جَمِيعِها عَلى أنَّ الأسْماعَ قَلَّما قَرَعَ السَّمْعَ، ومِنهُ قِراءَةُ ابْنِ أبِي عَبْلَةَ في الشَّواذِّ (وعَلى أسْماعِهِمْ)، واسْتَشْهَدَ لَهُ بِقَوْلِهِ (p-136) ؎قالَتْ ولَمْ تَقْصِدْ لِقِيلِ الخَنا ∗∗∗ مَهْلًا لَقَدْ أبْلَغْتَ أسْماعِي والقَوْلُ بِأنَّهُ وحْدَةٌ لِلْأمْنِ عَنِ اللَّبْسِ كَما في قَوْلِهِ: ؎كُلُوا في بَعْضِ بَطْنِكم تَعِفُّوا ∗∗∗ فَإنَّ زَمانَكم زَمَنٌ خَمِيصُ ولِأنَّهُ في الأصْلِ مَصْدَرٌ والمَصادِرُ لا تُجْمَعُ، فَرُوعِيَ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأنَّ ما ذُكِرَ مُصَحِّحٌ لا مُرَجِّحٌ، وأدْنى مِن هَذا عِنْدِي تَقْدِيرُ مُضافٍ مِثْلِ: (وحَواسِّ سَمْعِهِمْ)، وقَدِ اتَّفَقَ القُرّاءُ عَلى الوَقْفِ عَلى (سَمْعِهِمْ)، وظاهِرُهُ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لا تَعَلُّقَ لَهُ بِما بَعْدَهُ، فَهو مَعْطُوفٌ عَلى (عَلى قُلُوبِهِمْ) وهَذا أوْلى مِن كَوْنِهِ هُوَ، وما عُطِفَ عَلَيْهِ خَبَرًا مُقَدَّمًا، لِغِشاوَةٍ أوْ عامِلانِ فِيهِ عَلى التَّنازُعِ، وإنِ احْتَمَلَتْهُ الآيَةُ لِتَعَيُّنِ نَظِيرِهِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وقَلْبِهِ﴾ والقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا، ولِأنَّ السَّمْعَ كالقَلْبِ يُدْرِكُ ما يُدْرِكُهُ مِن جَمِيعِ الجِهاتِ فَناسَبَ أنْ يُقْرَنَ مَعَهُ بِالخَتْمِ الَّذِي يَمْنَعُ مِن جَمِيعِها، وإنِ اخْتَصَّ وُقُوعُهُ بِجانِبٍ، إلّا أنَّهُ لا يَتَعَيَّنُ، ولَمّا كانَ إدْراكُ البَصَرِ لا يَكُونُ عادَةً إلّا بِالمُحاذاةِ والمُقابَلَةِ جُعِلَ المانِعُ ما يَمْنَعُ مِنها، وهو الغِشاوَةُ، لِأنَّها في الغالِبِ كَذَلِكَ، كَغاشِيَةِ السَّرْجِ، ومِثْلُ هَذا يَكْفِي في النِّكاتِ، ولا يَضُرُّهُ سَتْرُهُ لِجَمِيعِ الجَوانِبِ كالإزارِ، وما في الكَشْفِ مِن أنَّ الوَجْهَ أنَّ الغِشاوَةَ مَشْهُورَةٌ في أمْراضِ العَيْنِ، فَهي أنْسَبُ بِالبَصَرِ مِن غَيْرِ حاجَةٍ لِما تَكَلَّفُوهُ، يَكْشِفُ عَنْ حالِهِ النَّظَرُ في المَعْنى اللُّغَوِيِّ مِمَّنْ لا غِشاوَةَ عَلى بَصَرِهِ، ولَعَلَّ سَبَبَ تَقْدِيمِ السَّمْعِ عَلى البَصَرِ مُشارَكَتُهُ لِلْقَلْبِ في التَّصَرُّفِ في الجِهاتِ السِّتِّ مِثْلَهُ دُونَ البَصَرِ ومِن هُنا قِيلَ: إنَّهُ أفْضَلُ مِنهُ، والحَقُّ أنَّ كُلًّا مِنَ الحَواسِّ ضَرُورِيٌّ في مَوْضِعِهِ، ومَن فَقَدَ حِسًّا فَقَدَ عِلْمًا، وتَفْضِيلُ البَعْضِ عَلى البَعْضِ تَطْوِيلٌ مِن غَيْرِ طائِلٍ، وقَدْ قُرِئَ بِإمالَةِ (أبْصارِهِمْ) ووَجْهُ الإمالَةِ مَعَ أنَّ الصّادَ حَرْفٌ مُسْتَعْلٍ وهو مُنافٍ لَها لِاقْتِضائِها لِتَسَفُّلِ الصَّوْتِ، مُناسَبَةُ الكَسْرَةِ، واعْتُبِرَتْ عَلى الرّاءِ دُونَ غَيْرِها لِمُناسَبَةِ الإمالَةِ التَّرْقِيقَ، والمَشْهُورُ عِنْدَ أهْلِ العَرَبِيَّةِ أنَّ ذَلِكَ لِقُوَّةِ الرّاءِ لِئَلّا يَقَعَ التَّقْرِيرُ، فَإنَّهُ مُضِرٌّ في الأداءِ حَتّى سَمِعْتُ مِن بَعْضِ الشّافِعِيَّةِ أنَّ مَن كَرَّرَ الرّاءَ في تَكْبِيرَةِ الإحْرامِ لَمْ تَنْعَقِدْ صَلاتُهُ، والعُهْدَةُ عَلى الرّاوِي، والجُمْهُورُ عَلى أنَّ (عَلى أبْصارِهِمْ) خَبَرٌ مُقَدَّمٌ لِــ(غِشاوَةٌ)، والتَّقْدِيمُ مُصَحِّحٌ لِجَوازِ الِابْتِداءِ بِالنَّكِرَةِ مَعَ أنَّ فِيهِ مُطابَقَةَ الجُمْلَةِ قَبْلَهُ، لِأنَّهُ تَقَدُّمُ الجُزْءِ المَحْكُومِ بِهِ فِيها، وهَذا كَذَلِكَ، فَفي الآيَةِ جُمْلَتانِ خَبَرِيَّتانِ فِعْلِيَّةٌ دالَّةٌ عَلى التَّجَدُّدِ، واسْمِيَّةٌ دالَّةٌ عَلى الثُّبُوتِ، حَتّى كَأنَّ الغِشاوَةَ جِبِلِّيَّةٌ فِيهِمْ، وكَوْنُ الجُمْلَتَيْنِ دُعائِيَّتَيْنِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وفي تَقْدِيمِ الفِعْلِيَّةِ إشارَةٌ إلى أنَّ ذَلِكَ قَدْ وقَعَ، وفُرِغَ مِنهُ، ونَصَبَ المُفَضَّلُ وأبُو حَيْوَةَ، وإسْماعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ (غِشاوَةً)، وقِيلَ: إنَّهُ عَلى حَذْفِ الجارِّ، وقالَ أبُو حَيّانَ: يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مِن مَعْنى خَتَمَ، لِأنَّ مَعْناهُ غَشّى وسَتَرَ، كَأنَّهُ قِيلَ: تَغْشِيَةً، عَلى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ قُلُوبُهُمْ، وسَمْعُهُمْ، وأبْصارُهم مَخْتُومًا عَلَيْها مُغَشّاةً، وقِيلَ: يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مَفْعُولَ خَتَمَ، والظُّرُوفُ أحْوالٌ، أيْ خَتْمَ غِشاوَةٍ كائِنَةٍ عَلى هَذِهِ الأُمُورِ لِئَلّا يُتَصَرَّفَ بِها بِالرَّفْعِ والإزالَةِ، وفي كُلٍّ ما لا يَخْفى، فَقِراءَةُ الرَّفْعِ أوْلى، وقُرِئَ أيْضًا بِضَمِّ الغَيْنِ، ورَفْعِهِ، وبِفَتْحِ الغَيْنِ ونَصْبِهِ، وقُرِئَ (غِشْوَةٌ)، بِكَسْرِ المُعْجَمَةِ مَرْفُوعًا، وبِفَتْحِها مَرْفُوعًا ومَنصُوبًا، و(غَشْيَةٌ) بِالفَتْحِ والرَّفْعِ، و(عَشاوَةٌ) بِفَتْحِ المُهْمَلَةِ، والرَّفْعِ، وجُوِّزَ فِيهِ الكَسْرُ والنَّصْبُ مِنَ الغَشا (p-137)بِالفَتْحِ والقَصْرِ، وهو الرُّؤْيَةُ نَهارًا لا لَيْلًا، والمَعْنى أنَّهم يُبْصِرُونَ إبْصارَ غَفْلَةٍ لا إبْصارَ عِبْرَةٍ، أوْ أنَّهم لا يَرَوْنَ آياتِ اللَّهِ تَعالى في ظُلُماتِ كُفْرِهِمْ، ولَوْ زالَتْ أبْصَرُوها، وقالَ الرّاغِبُ العَشا ظُلْمَةٌ تَعْرِضُ لِلْعَيْنِ، وعَشى عَنْ كَذا عَمِيَ، قالَ تَعالى ﴿ومَن يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ﴾ فالمَعْنى حِينَئِذٍ ظاهِرٌ، والتَّنْوِينُ لِلْإشارَةِ إلى نَوْعٍ مِنَ الأغْطِيَةِ غَيْرِ ما يَتَعارَفُهُ النّاسُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لِلتَّعْظِيمِ، أيْ غِشاوَةٌ أيُّ غِشاوَةٍ، وصَرَّحَ بَعْضُهم بِحَمْلِهِ عَلى النَّوْعِيَّةِ، والتَّعْظِيمِ مَعًا كَما حُمِلَ عَلى التَّكْثِيرِ والتَّعْظِيمِ مَعًا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ﴾ واللّامُ في (لَهُمْ) لِلِاسْتِحْقاقِ كَما في ﴿لَهم في الدُّنْيا خِزْيٌ﴾ وفي المُغْنِي: لامُ الِاسْتِحْقاقِ هي الواقِعَةُ بَيْنَ مَعْنًى وذاتٍ، وهُنا كَذَلِكَ، إلّا أنَّهُ قَدَّمَ الخَبَرَ اسْتِحْسانًا، لِأنَّ المُبْتَدَأ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، ولَوْ أُخِّرَ جازَ كَـ ”أجَل مُسَمّى عِنْدَهُ“ ويَجُوزُ كَما قِيلَ: أنْ يَكُونَ تَقْدِيمُهُ لِلتَّخْصِيصِ، فَلا يُعَذَّبُ عَذابَهم أحَدٌ ولا يُوثَقُ وثاقَهم أحَدٌ، وكَوْنُ اللّامِ لِلنَّفْعِ، واسْتُعْمِلَتْ هُنا لِلتَّهَكُّمِ، مِمّا لا وجْهَ لَهُ، لِأنَّها إنَّما تَقَعُ لَهُ في مُقابَلَةِ (عَلى) في الدُّعاءِ، وما يُقارِبُهُ، ولَمْ يَقُلْ بِهِ أحَدٌ مِمَّنْ يُوثَقُ بِهِ هُنا، ولا يُقالُ عَلَيْهِمُ العَذابُ، والظّاهِرُ أنَّ الجُمْلَةَ مُساقَةٌ لِبَيانِ إصْرارِهِمْ بِأنَّ مَشاعِرَهم خُتِمَتْ، وإنَّ الشِّقْوَةَ عَلَيْهِمْ خُتِمَتْ، وهي مَعْطُوفَةٌ عَلى ما قَبْلَها، ولَيْسَتِ اسْتِئْنافًا، ولا حالًا، وقالَ السّالَكُوتِيُّ: عُطِفَ عَلى الَّذِينَ كَفَرُوا، والجامِعُ أنَّ ما سَبَقَ بَيانُ حالِهِمْ، وهَذا بَيانُ ما يَسْتَحِقُّونَهُ، أوْ عَلى خَبَرِ إنَّ، والجامِعُ الشَّرِكَةُ في المُسْنَدِ إلَيْهِ مَعَ تَناسُبِ مَفْهُومِ المُسْنَدَيْنِ، وجَعْلِ ذَلِكَ لِدَفْعِ ما يُتَوَهَّمُ مِن عَدَمِ اسْتِحْقاقِهِمُ العَذابَ عَلى كُفْرِهِمْ، لِأنَّهُ بِخَتْمِ اللَّهِ تَعالى وتَغْشِيَتِهِ لَيْسَ بِوَجِيهٍ كَما لا يَخْفى، والعَذابُ في الأصْلِ الِاسْتِمْرارُ ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهِ، فَسُمِّيَ بِهِ كُلُّ اسْتِمْرارِ ألَمٍ، واشْتَقُّوا مِنهُ فَقالُوا: عَذَّبَتُهُ أيْ داوَمْتُ عَلَيْهِ الألَمَ، قالَهُ أبُو حَيّانَ، وعَنِ الخَلِيلِ، وإلَيْهِ مالَ كَثِيرٌ أنَّ أصْلَهُ المَنعُ، يُقالُ: عَذَبَ الفَرَسُ إذا امْتَنَعَ عَنِ العَلَفِ، ومِنهُ العَذْبُ لِمَنعِهِ مِنَ العَطَشِ، ثُمَّ تُوُسِّعَ فَأُطْلِقَ عَلى كُلِّ مُؤْلِمٍ شاقٍّ مُطْلَقًا، وإنْ لَمْ يَكُنْ مانِعًا ورادِعًا، ولِهَذا كانَ أعَمَّ مِنَ النَّكالِ، لِأنَّهُ ما كانَ رادِعًا كالعِقابِ، وقِيلَ: العِقابُ ما يُجازى بِهِ كَما في الآخِرَةِ، وشَمَلَ البَيانُ عَذابَ الأطْفالِ والبَهائِمِ وغَيْرِهِما، وخَصَّ السَّجاوَنْدِيُّ العَذابَ بِإيصالِ الألَمِ إلى الحَيِّ مَعَ الهَوانِ، فَإيلامُ الأطْفالِ والبَهائِمِ لَيْسَ بِعَذابٍ عِنْدَهُ، وقِيلَ: إنَّ العَذابَ مَأْخُوذٌ في الأصْلِ مِنَ التَّعْذِيبِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ في الإيلامِ مُطْلَقًا، وأصْلُ التَّعْذِيبِ عَلى ما قِيلَ: إكْثارُ الضَّرْبِ بِعَذْبَةِ السَّوْطِ، وقالَ الرّاغِبُ: أصْلُهُ مِنَ العَذْبِ فَعَذَّبْتُهُ أزَلْتَ عَذْبَ حَياتِهِ، عَلى بِناءِ مَرَّضْتُهُ وقَذَّيْتُهُ، والتَّنْكِيرُ فِيهِ لِلنَّوْعِيَّةِ أيْ لَهم في الآخِرَةِ نَوْعٌ مِنَ العَذابِ غَيْرُ مُتَعارَفٍ في عَذابِ الدُّنْيا، وحَمْلُهُ عَلى التَّعْظِيمِ يَسْتَدْعِي حَمْلَ ما يُسْتَفادُ مِنَ الوَصْفِ عَلى التَّأْكِيدِ، ولا حاجَةَ إلَيْهِ، والعَظِيمُ الكَبِيرُ، وقِيلَ: فَوْقَ الكَبِيرِ، لَأنَّ الكَبِيرَ يُقابِلُهُ الصَّغِيرُ، والعَظِيمَ يُقابِلُهُ الحَقِيرُ، والحَقِيرَ دُونَ الصَّغِيرِ، فالصَّغِيرُ والحَقِيرُ خَسِيسانِ، والحَقِيرُ أخَسُّهُما، والعَظِيمُ والكَبِيرُ شَرِيفانِ، والعَظِيمُ أشْرَفُهُما، فَتَوْصِيفُ العَذابِ بِهِ أكْثَرُ في التَّهْوِيلِ مِن تَوْصِيفِهِ بِالكَبِيرِ، كَما ذَكَرَهُ الكَثِيرُ مِمَّنْ شاعَ فَضْلُهُ، إذِ العادَةُ جارِيَةٌ بِأنَّ الأخَسَّ يُقابَلُ بِالأشْرَفِ، والخَسِيسَ بِالشَّرِيفِ، فَما يُتَوَهَّمُ مِن أنَّ نَقِيضَ الأخَصِّ أعَمُّ مِمّا لا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ هُنا، نَعَمْ يُشْكِلُ عَلى دَعْوى أنَّ العَظِيمَ فَوْقَ الكَبِيرِ قَوْلُهُ عَزَّ شَأْنُهُ في الحَدِيثِ القُدْسِيِّ: «(الكِبْرِياءُ رِدائِي، والعَظَمَةُ إزارِي)» حَيْثُ جَعَلَ سُبْحانَهُ الكِبْرِياءُ مَقامَ الرِّداءِ والعَظْمَةَ مَقامَ الإزارِ، ومَعْلُومٌ أنَّ الرِّداءَ أرْفَعُ مِنَ الإزارِ، فَيَجِبُ أنْ يَكُونَ صِفَةُ الكِبْرِ أرْفَعُ مِنَ العَظَمَةِ، ويُقالُ: إنَّ الكَبِيرَ هو الكَبِيرُ في ذاتِهِ سَواءٌ اسْتَكْبَرَهُ غَيْرُهُ أمْ لا، وأمّا العَظَمَةُ فَعِبارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ بِحَيْثُ يَسْتَعْظِمُهُ غَيْرُهُ، فالصِّفَةُ الأُولى عَلى هَذا ذاتِيَّةٌ وأشْرَفُ مِنَ الثّانِيَةِ، ويُمْكِنُ أنْ يُجابَ عَلى بُعْدٍ بِأنَّ ما ذَكَرُوهُ خاصٌّ بِما إذا اسْتُعْمِلَ الكَبِيرُ والعَظِيمُ في غَيْرِهِ تَعالى، أوْ فِيما إذا خَلا الكَلامُ عَنْ قَرِينَةٍ تَقْتَضِي العَكْسَ، أوْ يُقالُ: إنَّهُ سُبْحانَهُ جَعَلَ العَظَمَةَ وهي أشْرَفُ مِنَ الكِبْرِياءِ إزارًا لِقِلَّةِ العارِفِينَ بِهِ جَلَّ شَأْنُهُ بِهَذا العُنْوانِ بِالنَّظَرِ إلى العارِفِينَ (p-138)بِعُنْوانِ الكِبْرِياءِ، فَلِقِلَّةِ أُولَئِكَ كانَتْ إزارًا، ولِكَثْرَةِ هَؤُلاءِ كانَتْ رِداءًا، وسُبْحانَ الكَبِيرِ العَظِيمِ، وذَكَرَ الرّاغِبُ أنَّ أصْلَ عَظُمَ الرَّجُلُ كِبَرَ عَظْمُهُ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِكُلِّ كَبِيرٍ وأُجْرِيَ مَجْراهُ مَحْسُوسًا كانَ أوْ مَعْقُولًا مَعْنًى كانَ أوْ عَيْنًا، والعَظِيمُ إذا اسْتُعْمِلَ في الأعْيانِ فَأصْلُهُ أنْ يُقالَ في الأجْزاءِ المُتَّصِلَةِ، والكَبِيرُ يُقالُ في المُنْفَصِلَةِ، وقَدْ يُقالُ فِيها أيْضًا عَظِيمٌ، وهو بِمَعْنى كَبِيرٍ كَجَيْشٍ عَظِيمٍ، وعِظَمُ العَذابِ بِالنِّسْبَةِ إلى عَذابٍ دُونَهُ يَتَخَلَّلُهُ فُتُورٌ، وبِهَذا التَّخَلُّلِ يَصِحُّ أنْ يَتَفاضَلَ العَذابانِ كَسَوادَيْنِ أحَدُهُما أشَبْعُ مِنَ الآخَرِ، وقَدْ تَخَلَّلَ الآخَرَ ما لَيْسَ بِسَوادٍ، وقَدْ ذَهَبَ المُسْلِمُونَ إلى أنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ اللَّهِ تَعالى تَعْذِيبُ الكُفّارِ، وهَذِهِ الآيَةُ وأمْثالُها شَواهِدُ صِدْقٍ عَلى ذَلِكَ، وقالَ بَعْضُهُمْ: لا يَحْسُنُ، وذَكَرُوا دَلائِلَ عَقْلِيَّةً مَبْنِيَّةً عَلى الحُسْنِ والقُبْحِ العَقْلِيَّيْنِ، فَقالُوا: التَّعْذِيبُ ضَرَرٌ خالٍ عَنِ المَنفَعَةِ، لِأنَّهُ سُبْحانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ أنْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ، والعَبْدُ يَتَضَرَّرُ بِهِ، ولَوْ سُلِّمَ انْتِفاعُهُ، فاللَّهُ تَعالى قادِرٌ أنْ يُوَصِّلَ إلَيْهِ النَّفْعَ مِن غَيْرِ عَذابٍ، والضَّرَرُ الخالِي عَنِ النَّفْعِ قَبِيحٌ بَدِيهَةً، وأيْضًا أنَّ الكافِرَ لا يَظْهَرُ مِنهُ إلّا العِصْيانُ، فَتَكْلِيفُهُ مَتى حَصَلَ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ العَذابُ، وما كانَ مُسْتَعْقِبًا لِلضَّرَرِ مِن غَيْرِ نَفْعٍ قَبِيحٌ، فَإمّا أنْ يُقالَ: لا تَكْلِيفَ، أوْ تَكْلِيفٌ ولا عَذابَ، وأيْضًا هو الخالِقُ لِداعِيَةِ المَعْصِيَةِ، فَيَقْبُحُ أنْ يُعاقِبَ عَلَيْها، وقالُوا أيْضًا هَبْ أنّا سَلَّمْنا العِقابَ فَمِن أيْنَ القَوْلُ بِالدَّوامِ وأقْسى النّاسِ قَلْبًا إذا أخَذَ مَن بالَغَ في الإساءَةِ إلَيْهِ وعَذَّبَهُ، وبالَغَ فِيهِ، وواظَبَ عَلَيْهِ لامَهُ كُلُّ أحَدٍ، وقِيلَ لَهُ: إمّا أنْ تَقْتُلَهُ وتُرِيحَهُ، وإمّا أنْ تَعْفُوَ عَنْهُ، فَإذا قَبُحَ هَذا مِن إنْسانٍ يَلْتَذُّ بِالِانْتِقامِ فالغَنِيُّ عَنِ الكُلِّ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ هَذا الدَّوامُ؟ وأيْضًا مَن تابَ مِنَ الكُفْرِ، ولَوْ بَعْدَ حِينٍ تابَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ، أفَتَرى أنَّ هَذا الكَرَمَ العَظِيمَ يَذْهَبُ في الآخِرَةِ أوْ تُسْلَبُ عُقُولُ أُولَئِكَ المُعَذَّبِينَ فَلا يَتُوبُونَ، أوْ يَحْسُنُ أنْ يَقُولَ في الدُّنْيا ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ، وفي الآخِرَةِ لا يُجِيبُ دُعاءَهم إلّا ﴿اخْسَئُوا فِيها ولا تُكَلِّمُونِ﴾ * * * بَقِيَ التَّمَسُّكُ بِالدَّلائِلِ اللَّفْظِيَّةِ، وهي لا تُفِيدُ اليَقِينَ، فَلا تُعارِضُ الأدِلَّةَ العَقْلِيَّةَ المُفِيدَةَ لَهُ، عَلى أنّا نَدَّعِي أنَّ أخْبارَ الوَعِيدِ في الكُفّارِ مَشْرُوطَةٌ بِعَدَمِ العَفْوِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ هَذا الشَّرْطُ مَذْكُورًا صَرِيحًا كَما قالَ ذَلِكَ فِيها مَن جَوَّزَ العَفْوَ عَنِ الفُسّاقِ عَلى أنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ تِلْكَ الجُمَلُ دُعائِيَّةً، أوْ أنَّها إخْبارِيَّةٌ، لَكِنَّ الإخْبارَ عَنِ اسْتِحْقاقِ الوُقُوعِ لا عَنِ الوُقُوعِ نَفْسِهِ، وهَذا خُلاصَةُ ما ذُكِرَ في هَذا البابِ، وبَسَطَ الإمامُ الرّازِيُّ الكَلامَ فِيهِ، ولَمْ يَتَعَقَّبْهُ بِما يَشْرَحُ الفُؤادَ، ويُبَرِّدُ الأكْبادَ، وتِلْكَ شَنْشَنَةٌ أعْرِفُها مِن أخْزَمَ، ولَعَمْرِي إنَّها شُبَهٌ تَمَكَّنَتْ في قُلُوبِ كَثِيرٍ مِنَ النّاسِ، فَكانَتْ لَهُمُ الخَنّاسَ الوَسْواسَ، فَخَلَعُوا رِبْقَةَ التَّكْلِيفِ، وانْحَرَفُوا عَنِ الدِّينِ الحَنِيفِ، وهي عِنْدَ المُؤْمِنِينَ المُتَمَكِّنِينَ كَصَرِيرِ بابٍ، أوْ كَطَنِينِ ذُبابٍ، فَأقُولُ، وما تَوْفِيقِي إلّا بِاللَّهِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإلَيْهِ أُنِيبُ: نَفْيُ العَذابِ مُطْلَقًا مِمّا لَمْ يَقُلْهُ أحَدٌ مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ تَعالى واليَوْمِ الآخِرِ، حَتّى أنَّ المَجُوسَ لا يَقُولُونَهُ مَعَ أنَّهُمُ الَّذِينَ بَلَغُوا مِنَ الهَذَيانِ أقْصاهُ، فَإنَّ عُقَلاءَهم والعَقْلُ بِمَراحِلَ عَنْهم زَعَمُوا أنَّ إبْلِيسَ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ لَمْ يَزَلْ في الظُّلْمَةِ بِمَعْزِلٍ عَنْ سُلْطانِ اللَّهِ تَعالى، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَزْحَفُ حَتّى رَأى النُّورَ، فَوَثَبَ، فَصارَ في سُلْطانِ اللَّهِ تَعالى، وأُدْخِلَ مَعَهُ الآفاتُ والشُّرُورُ، فَخَلَقَ اللَّهُ تَعالى هَذا العالَمَ شَبَكَةً لَهُ، فَوَقَعَ فِيها، فَصارَ لا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ إلى سُلْطانِهِ، فَبَقِيَ مَحْبُوسًا يُرْمى بِالآفاتِ، فَمَن أحْياهُ اللَّهُ تَعالى أماتَهُ، ومَن أصَحَّهُ أسْقَمَهُ، ومَن أسَرَّهُ أحْزَنَهُ، وكُلَّ يَوْمٍ يَنْقُصُ سُلْطانُهُ، فَإذا قامَتِ القِيامَةُ وزالَتْ قُوَّتُهُ طَرَحَهُ اللَّهُ تَعالى في الجَوِّ، وحاسَبَ أهْلَ الأدْيانِ، وجازاهم عَلى طاعَتِهِمْ لِلشَّيْطانِ، وعِصْيانِهِمْ لَهُ، نَعَمِ المَشْهُورُ عَنْهم أنَّ الآلامَ الدُّنْيَوِيَّةَ قَبِيحَةٌ لِذاتِها، ولا تَحْسُنُ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، فَهي صادِرَةٌ عَنِ الظُّلْمَةِ دُونَ النُّورِ، وبُطْلانُ مَذْهَبِ هَؤُلاءِ أظْهَرُ مِن نارٍ عَلى عَلَمٍ، ولَئِنْ سَلَّمْنا أنَّ أحَدًا مِنَ النّاسِ يَقُولُ ذَلِكَ فَهو مَرْدُودٌ، وغالِبُ الأدِلَّةِ الَّتِي تُذْكَرُ في هَذا البابِ مَبْنِيٌّ عَلى الحُسْنِ والقُبْحِ العَقْلِيَّيْنِ، وقَدْ نَفاهُما أهْلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ، وأقامُوا الأدِلَّةَ عَلى بُطْلانِهِما، وشُيُوعُ ذَلِكَ (p-139)فِي كُتُبِ الكَلامِ يَجْعَلُ نَقْلُهُ هُنا مِن لَغْوِ الكَلامِ عَلى أنّا نَقُولُ: إنَّ لِلَّهِ تَعالى صِفَتَيْ لُطْفٍ وقَهْرٍ، ومِنَ الواجِبِ في الحِكْمَةِ أنْ يَكُونَ المَلِكُ لا سِيَّما مَلِكُ المُلُوكِ كَذَلِكَ، إذْ كُلٌّ مِنهُما مِن أوْصافِ الكَمالِ، ولا يَقُومُ أحَدُهُما مَقامَ الآخَرِ، ومَن مَنَعَ ذَلِكَ فَقَدْ كابَرَ، وقَدْ مُدِحَ في الشّاهِدِ ذَلِكَ، كَما قِيلَ: ؎يَداكَ يَدٌ خَيْرُها يُرْتَجى وأُخْرى لِأعْدائِها غائِظَةْ فَلَمّا نَظَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ إلى ما عَلِمَهُ مِنَ الماهِيّاتِ الأزَلِيَّةِ، والأعْيانِ الثّابِتَةِ ورَأى فِيها مَنِ اسْتَعَدَّ لِلْخَيْرِ، وطَلَبَهُ بِلِسانِ اسْتِعْدادِهِ، ومَنِ اسْتَعَدَّ لِلشَّرِّ، وطَلَبَهُ كَذَلِكَ أفاضَ عَلى كُلٍّ بِمُقْتَضى حِكْمَتِهِ ما اسْتَعَدَّ لَهُ، وأعْطاهُ ما طَلَبَهُ مِنهُ، ثُمَّ كَلَّفَهُ ورَغَّبَهُ ورَهَّبَهُ إتْمامًا لِلنِّعْمَةِ، وإظْهارًا لِلْحُجَّةِ، إذْ لَوْ عَذَّبَهُ وأظْهَرَ فِيهِ صِفَةَ قَهْرِهِ قَبْلَ أنْ يُنْذِرَهُ لَرُبَّما قالَ: ﴿لَوْلا أرْسَلْتَ إلَيْنا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِن قَبْلِ أنْ نَذِلَّ ونَخْزى﴾ فالتَّعْذِيبُ وإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَفْعٌ لَهُ سُبْحانَهُ بِالمَعْنى المَأْلُوفِ، لَكِنَّهُ مِن آثارِ القَهْرِ، ووُقُوعُ فَرِيقٍ في طَرِيقِ القَهْرِ ضَرُورِيٌّ في حِكْمَتِهِ تَعالى، وكُلُّ ما تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ تَعالى وكَمالُهُ حَسَنٌ، وإنْ شِئْتَ فَقُلْ: إنَّ صِفَتَيِ اللُّطْفِ والقَهْرِ مِن مُسْتَتْبَعاتِ ذاتِهِ الَّتِي هي في غايَةِ الكَمالِ، ولَهُما مُتَعَلِّقاتٌ في نَفْسِ الأمْرِ مُسْتَعِدَّةٌ لَهُما في الأزَلِ اسْتِعْدادًا غَيْرَ مَجْعُولٍ، وقَدْ عَلِمَ سُبْحانَهُ في الأزَلِ التَّعَلُّقاتِ والمُتَعَلِّقاتِ فَظَهَرَتْ طِبْقَ ما عَلِمَ، ولَوْ لَمْ تَظْهَرْ كَذَلِكَ لَزِمَ انْقِلابُ الحَقائِقِ، وهو مُحالٌ، فالإيمانُ والكُفْرُ في الحَقِيقَةِ لَيْسا سَبَبًا حَقِيقِيًّا، وعِلَّةً تامَّةً لِلتَّنْعِيمِ والتَّعْذِيبِ، وإنَّما هُما عَلامَتانِ لَهُما، دَعَتْ إلَيْهِما الحِكْمَةُ، والرَّحْمَةُ، وهَذا مَعْنى ما ورَدَ في الصَّحِيحِ: «(اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ لَهُ)،» أمّا مَن كانَ أيْ في عِلْمِ اللَّهِ مِن أهْلِ السَّعادَةِ المُسْتَعِدَّةِ لَها ذاتُهُ فَسَيُيَسَّرُ بِمُقْتَضى الرَّحْمَةِ لِعَمَلِ أهْلِ السَّعادَةِ، لِأنَّ شَأْنَهُ تَعالى الإفاضَةُ عَلى القَوابِلِ بِحَسَبِ القابِلِيّاتِ، وأمّا مَن كانَ في الأزَلِ والعِلْمِ القَدِيمِ مِن أهْلِ الشَّقاوَةِ الَّتِي ثَبَتَتْ لِماهِيَّتِهِ الغَيْرِ المَجْعُولَةِ أزَلًا، فَسَيُيَسَّرُ بِمُقْتَضى القَهْرِ لِعَمَلِ أهْلِ الشَّقاوَةِ، وفي ذَلِكَ تَظْهَرُ المِنَّةُ، وتَتِمُّ الحُجَّةُ، ولا يُرَدُّ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَوْ شاءَ لَهَداكم أجْمَعِينَ﴾ لِأنَّ نَفْيَ الهِدايَةِ لِنَفْيِ المَشِيئَةِ، ولا شَكَّ أنَّ المَشِيئَةَ تابِعَةٌ لِلْعِلْمِ، والعِلْمُ تابِعٌ لِثُبُوتِ المَعْلُومِ في نَفْسِ الأمْرِ، كَما يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى في المُسْتَحِيلِ الغَيْرِ الثّابِتِ في نَفْسِهِ ﴿أمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ في الأرْضِ﴾ وحَيْثُ لا ثُبُوتَ لِلْهِدايَةِ في نَفْسِها لا تَعَلُّقَ لِلْعِلْمِ بِها، وحَيْثُ لا تَعَلُّقَ لا مَشِيئَةَ، فَسَبَبُ نَفْيِ إيجادِ الهِدايَةِ نَفْيُ المَشِيئَةِ، وسَبَبُ نَفْيِ المَشِيئَةِ تَقَرُّرُ عَدَمِ الهِدايَةِ في نَفْسِها، فَيَئُولُ الأمْرُ إلى أنَّ سَبَبَ نَفْيِ إيجادِ الهِدايَةِ انْتِفاؤُها في نَفْسِ الأمْرِ، وعَدَمُ تَقَرُّرِها في العِلْمِ الأزَلِيِّ، ﴿ولَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ﴾ فَإذا انْتَقَشَ هَذا عَلى صَحِيفَةِ خاطِرِكَ فَنَقُولُ: قَوْلُهُمُ الضَّرَرُ الخالِي عَنِ النَّفْعِ قَبِيحٌ بَدِيهَةً، لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأنَّ ذَلِكَ الضَّرَرَ مِن آثارِ القَهْرِ التّابِعِ لِلذّاتِ الأقْدَسِ، ومَتى خَلا عَنِ القَهْرِ كانَ عَزَّ شَأْنُهُ عَمّا يَقُولُهُ الظّالِمُونَ كالأقْطَعِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ إلّا يَدٌ واحِدَةٌ بَلْ مَن أنْصَفَهُ عَقْلُهُ يَعْلَمُ أنَّ الخُلُوَّ عَنْ صِفَةِ القَهْرِ يُخِلُّ بِالرُّبُوبِيَّةِ، ويَسْلُبُ إزارَ العَظَمَةِ، ويَحُطُّ شَأْنَ المِلْكِيَّةِ، إذْ لا يُرْهَبُ مِنهُ حِينَئِذٍ، فَيَخْتَلُّ النِّظامُ، ويَنْحَلُّ نُبَذُ هَذا الِانْتِظامِ، عَلى أنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ تَسْتَدْعِي عَدَمَ إيلامِ الحَيَوانِ في هَذِهِ النَّشْأةِ لا سِيَّما البَهائِمُ والأطْفالُ الَّذِينَ لا يَنالُهم مِن هَذِهِ الآلامِ نَفْعٌ بِالكُلِّيَّةِ لا عاجِلًا ولا آجِلًا، مَعَ أنّا نُشاهِدُ وُقُوعَ ذَلِكَ أكْثَرَ مِن نُجُومِ السَّماءِ فَما هو جَوابُهم عَنْ هَذِهِ الآلامِ مِنهُ سُبْحانَهُ في هَذِهِ النَّشْأةِ، مَعَ أنَّهُ لا نَفْعَ لَهُ مِنها بِوَجْهٍ، فَهو جَوابُنا عَنِ التَّعْذِيبِ في تِلْكَ النَّشْأةِ، وقَوْلُهُمْ: إنَّ الكافِرَ لا يَظْهَرُ مِنهُ إلّا العِصْيانُ، فَتَكْلِيفُهُ مَتى حَصَلَ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ العَذابُ إلْخَ، فَفِيهِ أنَّ الكافِرَ في عِلْمِ اللَّهِ تَعالى حَسَبَ اسْتِعْدادِهِ مُتَعَشِّقٌ لِلنّارِ تَعْشُّقَ الحَدِيدِ لِلْمِغْناطِيسِ، وإنْ نَفَرَ عَنْها نافِرٌ عَنِ الجَنَّةِ نُفُورَ الظُّلْمَةِ عَنِ النُّورِ، وإنْ تَعَشَّقَها فَهو إنْ كُلِّفَ وإنْ لَمْ يُكَلَّفْ لا بُدَّ وأنْ يُعَذَّبَ فِيها، ولَكِنَّ التَّكْلِيفَ لِاسْتِخْراجِ ما في اسْتِعْدادِهِ مِن الإباءِ لِإظْهارِ الحُجَّةِ، والكُفْرُ مُجَرَّدُ عَلامَةٍ، ﴿وما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ ولَكِنْ كانُوا أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ﴾ (p-140)، وقَوْلُهُمْ: هو سُبْحانَهُ الخالِقُ لِداعِيَةِ المَعْصِيَةِ مُسَلَّمٌ، لَكِنَّهُ خَلَقَها وأظْهَرَها طِبْقَ ما دَعا إلَيْهِ الِاسْتِعَدادُ الذّاتِيُّ الَّذِي لا دَخْلَ لِلْقُدْرَةِ إلّا في إيجادِهِ، وأيُّ قُبْحٍ في إعْطاءِ الشَّيْءِ ما طَلَبَهُ بِلِسانِ اسْتِعْدادِهِ، وإنَّ أضَرَّ بِهِ، ولا يَلْزَمُ اللَّهَ تَعالى عَقْلًا أنْ يَتْرُكَ مُقْتَضى حِكْمَتِهِ ويُبْطِلَ شَأْنَ رُبُوبِيَّتِهِ مَعَ عَدَمِ تَعَلُّقِ عِلْمِهِ بِخِلافِ ما اقْتَضاهُ ذَلِكَ الِاسْتِعْدادُ، وقَوْلُهُمْ: هَبْ أنّا سَلَّمَنا العِقابَ فَمِن أيْنَ الدَّوامُ إلَخْ، قُلْنا: الدَّوامُ مِن خُبْثِ الذّاتِ، وقُبْحِ الصِّفاتِ الثّابِتَيْنِ فِيما لَمْ يَزَلِ، الظّاهِرَيْنِ فِيما لا يَزالُ بِالإباءِ بَعْدَ التَّكْلِيفِ، مَعَ مُراعاةِ الحِكْمَةِ، وهَذا الخُبْثُ دائِمٌ فِيهِمْ ما دامَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ تَعالى الذّاتِيَّةُ وذَواتُهم كَما يُرْشِدُكَ إلى ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿ولَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ﴾ ويَدُومُ المَعْلُولُ ما دامَتْ عِلَّتُهُ، أوْ يُقالُ: العَذابُ وهو في الحَقِيقَةِ البُعْدُ مِنَ اللَّهِ لازِمٌ لِلْكُفْرِ، والمَلْزُومُ لا يَنْفَكُّ مِنَ اللّازِمِ، وأيْضًا الكُفْرُ مَعَ ظُهُورِ البُرْهانِ في الأنْفُسِ والآفاقِ بِمَن لا تَتَناهى كِبْرِياؤُهُ ولا تَنْحَصِرُ عَظَمَتُهُ أمْرٌ لا يُحِيطُ نِطاقُ الفِكْرِ بِقُبْحِهِ، وإنْ لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ سُبْحانَهُ، لَكِنَّ الغَيْرَةَ الإلَهِيَّةَ لا تَرْتَضِيهِ، وإنْ أفاضَتْهُ القُدْرَةُ الأزَلِيَّةُ حَسَبَ الِاسْتِعْدادِ بِمُقْتَضى الحِكْمَةِ، ومِثْلُ ذَلِكَ يَطْلُبُ عَذابًا أبَدِيًّا، وعِقابًا سَرْمَدِيًّا، وشَبِيهُ الشَّيْءِ مُنْجَذِبٌ إلَيْهِ، ولا يُقاسِ هَذا بِما ضَرَبَهُ مِنَ المِثالِ، إذْ أيْنَ ذِلَّةُ التُّرابِ مِن عِزَّةِ رَبِّ الأرْبابِ، ولَيْسَ مَوْرِدُ المَسْألَتَيْنِ مَنهَلًا واحِدًا، وقَوْلُهُمْ: مَن تابَ مِنَ الكُفْرِ ولَوْ بَعْدَ حِينٍ تابَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ، أفَتَرى أنَّ هَذا الكَرَمَ العَظِيمَ يَذْهَبُ في الآخِرَةِ أوْ تُسْلَبُ عُقُولُ أُولَئِكَ المُعَذَّبِينَ، فَلا يَتُوبُونَ إلَخْ، فَفِيهِ أنَّ مَن تابَ مِنَ الكُفْرِ فَقَدْ أبْدَلَ القَبِيحَ بِضِدِّهِ، وأظْهَرَ سُبْحانَهُ مُقْتَضى ذاتِهِ وماهِيَّتِهِ المَعْلُومَةِ لَهُ حَسَبَ عِلْمِهِ، فَهُناكَ حِينَئِذٍ كُفْرٌ قَبِيحٌ زائِلٌ، وإيمانٌ حَسَنٌ ثابِتٌ، وقَدِ انْضَمَّ إلى هَذا الإيمانِ نَدَمٌ عَلى ذَلِكَ الكُفْرِ في دارٍ يَنْفَعُ فِيها تَدارُكُ ما فاتَ، والنَّدَمُ عَلى الهَفَواتِ، فَيَصِيرُ الكُفْرُ بِهَذا الإيمانِ، كَأنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، إذْ يُقابَلُ القَبِيحُ بِالحَسَنِ، ويَبْقى النَّدَمُ، وهو رُكْنُ التَّوْبَةِ مَكْسَبًا، عَلى أنَّ ظُهُورَ الإيمانِ بَعْدَ الكُفْرِ دَلِيلٌ عَلى نَجابَةِ الذّاتِ في نَفْسِها، وطَهارَتِها في مَعْلُومِيَّتِها، والأعْمالُ بِالخَواتِيمِ، فَلا بِدْعَ في مَغْفِرَةِ اللَّهِ تَعالى لَهُ جُودًا وكَرَمًا، ورَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى وإنْ وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ بِبَعْضِ اعْتِباراتِها إلّا أنَّها خَصَّتِ المُتَّقِينَ بِاعْتِبارٍ آخَرَ، كَما يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ورَحْمَتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ فَهي كَمَعِيَّتِهِ سُبْحانَهُ الغَيْرِ المُكَيَّفَةِ، ألا تَسْمَعُ قَوْلَهُ تَعالى مَرَّةً: ﴿ما يَكُونُ مِن نَجْوى ثَلاثَةٍ إلا هو رابِعُهم ولا خَمْسَةٍ إلا هو سادِسُهم ولا أدْنى مِن ذَلِكَ ولا أكْثَرَ إلا هو مَعَهُمْ﴾ وتارَةً: ﴿إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا والَّذِينَ هم مُحْسِنُونَ﴾ وكَرَّةً: ﴿إنَّ اللَّهَ مَعَنا﴾ وطَوْرًا: ﴿إنَّ مَعِيَ رَبِّي﴾ ولا يُنافِي كَوْنَ الرَّحْمَةِ أوْسَعَ دائِرَةً مِنَ الغَضَبِ كَما يَرْمُزُ إلَيْهِ ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ أنَّ الكُفّارَ المُعَذَّبِينَ أكْثَرُ مِنَ المُؤْمِنِينَ المُنَعَّمِينَ، كَما يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يُؤْمِنُونَ﴾ وكَذا حَدِيثُ البَعْثِ، لِأنَّ هَذِهِ الكَثْرَةَ بِالنِّسْبَةِ إلى بَنِي آدَمَ وهم قَلِيلُونَ بِالنِّسْبَةِ إلى المَلائِكَةِ، والحُورِ، والغِلْمانِ، ﴿وما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلا هُوَ﴾ ﴿ويَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ فَيَكُونُ أهْلُ الرَّحْمَةِ أكْثَرَ مِن أهْلِ الغَضَبِ عَلى أنَّ أهْلَ النّارِ مَرْحُومُونَ في عَذابِهِمْ، وما عِنْدَ اللَّهِ تَعالى مِن كُلِّ شَيْءٍ لا يَتَناهى، وبَعْضُ الشَّرِّ أهْوَنُ مِن بَعْضٍ، وهم مُخْتَلِفُونَ في العَذابِ، وبَيْنَ عَذابِ كُلِّ طَبَقَةٍ وطَبَقَةٍ ما بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، وإنْ ظَنَّ كُلٌّ مِن أهْلِها أنَّهُ أشَدُّ النّاسِ عَذابًا، لَكِنَّ الكَلامَ في الواقِعِ بَلْ مِنهم مَن هو مُلْتَذٌّ بِعَذابِهِ مِن بَعْضِ الجِهاتِ، ومِنهم غَيْرُ ذَلِكَ، نَعَمْ فِيهِمْ مَن عَذابُهُ مَحْضٌ لا لَذَّةَ لَهم فِيهِ، ومَعَ هَذا يَمْقُتُونَ أنْفُسَهم لِعِلْمِهِمْ أنَّها هي الَّتِي اسْتَعَدَّتْ لِذَلِكَ، فَفاضَ عَلَيْها ما فاضَ مِن جانِبِ المَبْدَإ الفَيّاضِ، كَما يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَمَقْتُ اللَّهِ أكْبَرُ مِن مَقْتِكم أنْفُسَكُمْ﴾ ومَن غَفَلَ مِنهم عَنْ ذَلِكَ نَبَّهَهُ إبْلِيسُ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ كَما حَكى اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَلا تَلُومُونِي ولُومُوا أنْفُسَكُمْ﴾ ولا تَنْفَعُهُمُ التَّوْبَةُ هُناكَ، كَما تَنْفَعُهم هُنا، إذْ قَدِ اخْتَلَفَتِ الدّارانِ، وامْتازَ الفَرِيقانِ، وانْتَهى الأمَدُ المَضْرُوبُ (p-141)لَها بِمُقْتَضى الحِكْمَةِ الإلَهِيَّةِ، وقَدْ رَأيْنا في الشّاهِدِ أنَّ لِنَفْعِ الدَّواءِ وقْتًا مَخْصُوصًا، إذا تَعَدّاهُ رُبَّما يُؤَثِّرُ ضَرَرًا، ومِنَ الكُفّارِ مَن يَعْرِفُ أنَّهُ قَدْ مَضى الوَقْتُ، وانْقَضى ذَلِكَ الزَّمانُ، وأنَّ التَّوْبَةَ إنَّما كانَتْ في الدّارِ الدُّنْيا، ولِهَذا قالَ: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ﴾ ﴿لَعَلِّي أعْمَلُ صالِحًا فِيما تَرَكْتُ﴾ ولَمّا كانَ هَذا طَلَبَ عارِفٍ مِن وجْهِ جاهِلٍ مِن وجْهٍ آخَرَ، قالَ اللَّهُ تَعالى في مُقابَلَتِهِ: ﴿كَلا إنَّها كَلِمَةٌ هو قائِلُها﴾ ولَمْ يُغْلِظْ عَلَيْهِ كَما أغْلَظَ عَلى مَن قالَ: ﴿رَبَّنا أخْرِجْنا مِنها فَإنْ عُدْنا فَإنّا ظالِمُونَ﴾ حَيْثُ صَدَرَ عَنْ جَهْلٍ مَحْضٍ، فَأجابَهم بِقَوْلِهِ: ﴿اخْسَئُوا فِيها ولا تُكَلِّمُونِ﴾ فَلَمّا اخْتَلَفَ الطَّلَبُ اخْتَلَفَ الجَوابُ، ولَيْسَ كُلُّ دُعاءٍ يُسْتَجابُ، كَما لا يَخْفى عَلى أُولِي الألْبابِ، وقَوْلُهُمْ: بَقِيَ التَّمَسُّكُ بِالدَّلائِلِ اللَّفْظِيَّةِ، وهي لا تُفِيدُ اليَقِينَ فَلا تُعارِضُ الأدِلَّةَ العَقْلِيَّةَ المُفِيدَةَ لَهُ، فَيُقالُ فِيهِ: إنْ أرادُوا إنَّ هَذِهِ الأدِلَّةَ العَقْلِيَّةَ مُفِيدَةٌ لِلْيَقِينِ فَقَدْ عَلِمْتَ حالَها، وأنَّها كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ، ولَيْتَها أفادَتْ ظَنًّا، وإنْ أرادُوا مُطْلَقَ الأدِلَّةِ العَقْلِيَّةِ فَهَذِهِ لَيْسَتْ مِنها، عَلى أنَّ كَوْنَ الدَّلائِلِ اللَّفْظِيَّةِ لا تُفِيدُ اليَقِينَ إنَّما هو مَذْهَبُ المُعْتَزِلَةِ، وجُمْهُورِ الأشاعِرَةِ، والحَقُّ أنَّها قَدْ تُفِيدُ اليَقِينَ بِقَرائِنَ مُشاهَدَةٍ، أوْ مُتَواتِرَةٍ تَدُلُّ عَلى انْتِفاءِ الِاحْتِمالاتِ، ومِن صِدْقِ القائِلِ يُعْلَمُ عَدَمُ المُعارِضِ العَقْلِيِّ، فَإنَّهُ إذا تَعَيَّنَ المَعْنى وكانَ مُرادًا لَهُ، فَلَوْ كانَ هُناكَ مُعارِضٌ عَقْلِيٌّ لَزِمَ كَذِبُهُ، نَعَمْ في إفادَتِها اليَقِينَ في العَقْلِيّاتِ نَظَرٌ، لِأنَّ كَوْنَها مُفِيدَةً لِلْيَقِينِ مَبْنِيٌّ عَلى أنَّهُ هَلْ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِها والنَّظَرِ فِيها - وكَوْنِ قائِلِها صادِقًا - الجَزْمُ بِعَدَمِ المُعارِضِ العَقْلِيِّ؟ وأنَّهُ هَلْ لِلْقَرِينَةِ الَّتِي تُشاهَدُ أوْ تُنْقَلُ تَواتُرًا مَدْخَلٌ في ذَلِكَ الجَزْمِ؟ وحُصُولُ ذَلِكَ الجَزْمِ بِمُجَرَّدِها، ومَدْخَلِيَّةُ القَرِينَةِ فِيهِ مِمّا لا يُمْكِنُ الجَزْمُ بِأحَدِ طَرَفَيْهِ، الإثْباتِ والنَّفْيِ، فَلا جَرَمَ كانَتْ إفادَتُها اليَقِينَ في العَقْلِيّاتِ مَحَلَّ نَظَرٍ وتَأمُّلٍ، فَإنْ قُلْتَ: إذا كانَ صِدْقُ القائِلِ مَجْزُومًا بِهِ لَزِمَ مِنهُ الجَزْمُ بِعَدَمِ المُعارِضِ في العَقْلِيّاتِ، كَما لَزِمَ مِنهُ في الشَّرْعِيّاتِ، وإلّا احْتَمَلَ كَلامُهُ الكَذِبَ فِيهِما، فَلا فَرْقَ بَيْنَهُما. قُلْتُ: أجابَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ بِأنَّ المُرادَ بِالشَّرْعِيّاتِ أُمُورٌ يَجْزِمُ العَقْلُ بِإمْكانِها ثُبُوتًا وانْتِفاءً، ولا طَرِيقَ إلَيْها، وبِالعَقْلِيّاتِ ما لَيْسَ كَذَلِكَ، وحِينَئِذٍ جازَ أنْ يَكُونَ مِنَ المُمْتَنِعاتِ، فَلِأجْلِ هَذا الِاحْتِمالِ رُبَّما لَمْ يَحْصُلِ الجَزْمُ بِعَدَمِ المُعارِضِ العَقْلِيِّ لِلدَّلِيلِ النَّقْلِيِّ في العَقْلِيّاتِ، وإنْ حَصَلَ الجَزْمُ بِهِ في الشَّرْعِيّاتِ، وذَلِكَ بِخِلافِ الأدِلَّةِ العَقْلِيَّةِ في العَقْلِيّاتِ، فَإنَّها بِمُجَرَّدِها تُفِيدُ الجَزْمَ بِعَدَمِ المُعارِضِ، لِأنَّها مُرَكَّبَةٌ مِن مُقَدِّماتٍ عُلِمَ بِالبَدِيهَةِ صِحَّتُها، أوْ عُلِمَ بِالبَدِيهَةِ لُزُومُها، مِمّا عُلِمَ صِحَّتُهُ بِالبَدِيهَةِ، وحِينَئِذٍ يَسْتَحِيلُ أنْ يُوجَدَ ما يُعارِضُها، لِأنَّ أحْكامَ البَدِيهَةِ لا تَتَعارَضُ بِحَسَبِ نَفْسِ الأمْرِ أصْلًا. هَذا، وقالَ الفاضِلُ الرُّومِيُّ: ها هُنا بَحْثٌ مَشْهُورٌ، وهو أنَّ المَعْنى بِعَدَمِ المُعارِضِ العَقْلِيِّ في الشَّرْعِيّاتِ صِدْقُ القائِلِ، وهو قائِمٌ في العَقْلِيّاتِ أيْضًا، وما لا يَحْكُمُ العَقْلُ بِإمْكانِهِ ثُبُوتًا أوِ انْتِفاءً، لا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ مِنَ المُمْتَنِعاتِ لِجَوازِ إمْكانِهِ الخافِي مِنَ العَقْلِ، فَيَنْبَغِي أنْ يُحْمَلَ كُلُّ ما عُلِمَ أنَّ الشَّرْعَ نَطَقَ بِهِ عَلى هَذا القِسْمِ، لِئَلّا يَلْزَمَ كَذِبُهُ وإبْطالُ قَطْعِ العَقْلِ بِصِدْقِهِ، فالحَقُّ أنَّ النَّقْلِيَّ يُفِيدُ القَطْعَ في العَقْلِيّاتِ أيْضًا، ولا مُخَلِّصَ إلّا بِأنْ يُقالَ المُرادُ أنَّ النَّظَرَ في الأدِلَّةِ نَفْسِها والقَرائِنِ في الشَّرْعِيّاتِ يُفِيدُ الجَزْمَ بِعَدَمِ المُعارِضِ لِأجْلِ إفادَةِ الإرادَةِ مِنَ القائِلِ الصّادِقِ جَزْمًا، وفي العَقْلِيّاتِ إفادَتُهُ الجَزْمَ بِعَدَمِهِ مَحَلُّ نَظَرٍ، بِناءً عَلى أنَّ إفادَتَهُ الإرادَةَ مُحْتَمَلَةٌ انْتَهى، وقَدْ ذَهَبَ الشَّيْخُ الأكْبَرُ قُدِّسَ سِرُّهُ إلى تَقْدِيمِ الدَّلِيلِ النَّقْلِيِّ عَلى العَقْلِيِّ، فَقالَ في البابِ الثّانِي والسَّبْعِينَ والأرْبَعِمِائَةٍ مِنَ الفُتُوحاتِ: ؎عَلى السَّمْعِ عَوَّلْنا فَكُنّا أُولِي النُّهْى ∗∗∗ ولا عِلْمَ فِيما لا يَكُونُ عَنِ السَّمْعِ وقالَ قُدِّسَ سِرُّهُ في البابِ الثّامِنِ والخَمْسِينَ والثَّلَثِمِائَةٍ: ؎كَيْفَ لِلْعَقْلِ دَلِيلٌ والَّذِي ∗∗∗ قَدْ بَناهُ العَقْلُ بِالكَشْفِ انْهَدَمْ ؎فَنَجاةُ النَّفْسِ في الشَّرْعِ فَلا ∗∗∗ تَكُ إنْسانًا رَأى ثُمَّ حُرِمْ ؎(p-142)واعْتَصِمْ بِالشَّرْعِ في الكَشْفِ فَقَدْ ∗∗∗ فازَ بِالخَيْرِ عَبِيدٌ قَدْ عُصِمْ ؎أهْمِلِ الفِكْرَ فَلا تَحْفُلْ بِهِ ∗∗∗ واتْرُكَنَّهُ مِثْلَ لَحْمٍ في وضَمْ ؎إنَّ لِلْفِكْرِ مَقامًا فاعْتَضِدْ ∗∗∗ بِهِ فِيهِ تَكُ شَخْصًا قَدْ رُحِمْ ؎كُلُّ عِلْمٍ يَشْهَدُ الشَّرْعُ لَهُ ∗∗∗ هو عِلْمٌ فِيهِ فَلْتَعْتَصِمْ ؎وإذا خالَفَهُ العَقْلُ فَقُلْ ∗∗∗ طَوْرَكَ الزَمْ ما لَكم فِيهِ قَدَمْ ويُؤَيِّدُ هَذا ما رُوِيَ عَنِ الشّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ قالَ: إنَّ لِلْعَقْلِ حَدًّا يَنْتَهِي إلَيْهِ، كَما أنَّ لِلْبَصَرِ حَدًّا يَنْتَهِي إلَيْهِ، وقالَ الإمامُ الغَزالِيُّ: ولا تَسْتَبْعِدْ أيُّها المُعْتَكِفُ في عالَمِ العَقْلِ أنْ يَكُونَ وراءَ العَقْلِ طَوْرٌ آخَرُ يَظْهَرُ فِيهِ ما لا يَظْهَرُ في العَقْلِ، كَما لا تَسْتَبْعِدُ أنْ يَكُونَ العَقْلُ طَوْرًا وراءَ التَّمْيِيزِ والإحْساسِ، يَنْكَشِفُ فِيهِ عَوالِمُ وعَجائِبُ يَقْصُرُ عَنْها الإحْساسُ، والتَّمْيِيزُ إلى آخِرِ ما قالَ، فَفِيما نَحْنُ فِيهِ في القُرْآنِ والسُّنَّةِ المُتَواتِرَةِ ما لا يُحْصى مِمّا يَدُلُّ عَلى الخُلُودِ في النّارِ، وفي العَذابِ دِلالَةٌ واضِحَةٌ لا خَفاءَ فِيها، فَتَأْوِيلُها كُلُّها بِمُجَرَّدِ شُبَهٍ أضْعَفُ مِن حِبالِ القَمَرِ، والعُدُولُ عَنْها إلى القَوْلِ بِنَفْيِ العَذابِ أوِ الخُلُودِ فِيهِ مِمّا لا يَنْبَغِي، لا سِيَّما في مِثْلِ هَذِهِ الأوْقاتِ الَّتِي فِيها النّاسُ كَما تَرى، عَلى أنَّ هَذِهِ التَّأْوِيلاتِ في غايَةِ السَّخافَةِ، إذْ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ حَقِيقَةُ الدُّعاءِ مِن رَبِّ الأرْضِ والسَّماءِ أمْ كَيْفَ يَكُونُ التَّعْلِيقُ بَعْدَ النَّظَرِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ أمْ كَيْفَ يُقْبَلُ أنْ يَكُونَ الإخْبارُ عَنِ الِاسْتِحْقاقِ دُونَ الوُقُوعِ عَلى ما فِيهِ في مِثْلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كُلَّما خَبَتْ زِدْناهم سَعِيرًا﴾ و﴿كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهم بَدَّلْناهم جُلُودًا غَيْرَها﴾ سُبْحانَكَ هَذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ، وأمّا ما يُنْقَلُ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ الصّالِحِ، وكَذا عَنْ حَضْرَةِ مَوْلانا الشَّيْخِ الأكْبَرِ، ومَن حَذا حَذْوَهُ مِنَ السّادَةِ الصُّوفِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم مِنَ القَوْلِ بِعَدَمِ الخُلُودِ فَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلى مَشْرَبٍ آخَرَ، وتَجَلٍّ لَمْ يَنْكَشِفْ لَنا، والكَثِيرُ مِنهم قَدْ بَنى كَلامَهُ عَلى اصْطِلاحاتٍ، ورُمُوزٍ، وإشاراتٍ، قَدْ حالَ بَيْنَنا وبَيْنَ فَهْمِها العَوائِقُ الدُّنْيَوِيَّةُ، والعَلائِقُ النَّفْسانِيَّةُ، ولَعَلَّ قَوْلَ مَن قالَ بِعَدَمِ الخُلُودِ مِمَّنْ لَمْ يَسَلُكْ مَسْلَكَ أهْلِ السُّلُوكِ مَبْنِيٌّ عَلى عَدَمِ خُلُودِ طائِفَةٍ مِن أهْلِ النّارِ، وهُمُ العُصاةُ بِما دُونَ الكُفْرِ، وإنْ وقَعَ إطْلاقُ الكُفْرِ عَلَيْهِمْ حُمِلَ عَلى مَعْنًى آخَرَ، كَما حُمِلَ عَلى رَأْيٍ في قَوْلِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «(مَن تَرَكَ الصَّلاةَ فَقَدْ كَفَرَ)،» عَلى أنَّ الشَّيْخَ قُدِّسَ سِرُّهُ، كَمْ وكَمْ صَرَّحَ في كُتُبِهِ بِالخُلُودِ، فَقالَ في عَقِيدَتِهِ الصُّغْرى: أوَّلَ الفُتُوحاتِ: والتَّأْبِيدُ لِأهْلِ النّارِ في النّارِ حَقٌّ، وفي البابِ الرّابِعِ والسِّتِّينَ في بَحْثِ ذَبْحِ المَوْتِ ونِداءِ المُنادِي: «(يا أهْلَ النّارِ خُلُودٌ ولا خُرُوجَ)،» ما نَصُّهُ: ويَغْتَمُّ أهْلُ النّارِ أشَدَّ الغَمِّ، لِذَلِكَ ثُمَّ تُغْلَقُ أبْوابُ النّارِ غَلْقًا لا فَتْحَ بَعْدَهُ، وتَنْطَبِقُ النّارُ عَلى أهْلِها، ويَدْخُلُ بَعْضُهم في بَعْضٍ، لِيَعْظُمَ انْضِغاطُهم فِيها، ويَرْجِعَ أعْلاها أسْفَلَها، وأسْفَلُها أعْلاها، ويُرى النّاسُ والجِنُّ فِيها مِثْلَ قِطَعِ اللَّحْمِ في القِدْرِ الَّتِي تَحْتَها النّارُ العَظِيمَةُ تَغْلِي كَغَلْيِ الحَمِيمِ، فَتَدُورُ في الخَلْقِ عُلُوًّا وسُفْلًا، ﴿كُلَّما خَبَتْ زِدْناهم سَعِيرًا﴾ وذَكَرَ الشَّيْخُ عَبْدُ الكَرِيمِ الجِيلِيُّ في كِتابِهِ المُسَمّى بِالإنْسانِ الكَبِيرِ، وفي شَرْحٍ لِبابِ الأسْرارِ مِنَ الفُتُوحاتِ: إنَّ مُرادَ القَوْمِ بِأنَّ أهْلَ النّارِ يَخْرُجُونَ مِنها هم عُصاةُ المُوَحِّدِينَ، لا الكُفّارُ، وقالَ: إيّاكَ أنْ تَحْمِلَ كَلامَ الشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ أوْ غَيْرِهِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ في قَوْلِهِمْ بِانْتِهاءِ مُدَّةِ أهْلِ النّارِ مِنَ العُصاةِ عَلى الكُفّارِ، فَإنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ وخَطَأٌ، وإذا احْتَمَلَ الكَلامُ وجْهًا صَحِيحًا، وجَبَ المَصِيرُ إلَيْهِ، انْتَهى، نَعَمْ، قالَ قُدِّسَ سِرُّهُ في تَفْسِيرِ الفاتِحَةِ مِنَ الفُتُوحاتِ: فَإذا وقَعَ الجِدارُ، وانْهَدَمَ الصُّورُ وامْتَزَجَتِ الأنْهارُ والتَقى البَحْرانِ، وعُدِمَ البَرْزَخُ صارَ العَذابُ نَعِيمًا، وجَهَنَّمُ جَنَّةً ولا عَذابَ، ولا عِقابَ، إلّا نَعِيمٌ وأمانٌ بِمُشاهَدَةِ العِيانِ إلَخْ، وهَذا وأمْثالُهُ مَحْمُولٌ عَلى مَعْنًى (p-143)صَحِيحٍ، يَعْرِفُهُ أهْلُ الذَّوْقِ لا يُنافِي ما ورَدَتْ بِهِ القَواطِعُ، وقُصارى ما يَخْطُرُ لِأمْثالِنا فِيهِ أنَّهُ مَحْمُولٌ عَلى مَسْكَنِ عُصاةِ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ النّارِ، وفِيهِ يَضَعُ الجَبّارُ قَدَّمَهُ، ويَتَجَلّى بِصِفَةِ القَهْرِ عَلى النّارِ، فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ، ولا تُطِيقُ تَجَلِّيهِ، فَتَخْمُدُ، ولا بُعْدَ أنْ تَلْحَقَ بَعْدُ بِالجَنَّةِ، وإيّاكَ أنْ تَقُولَ بِظاهِرِهِ، مَعَ ما أنْتَ عَلَيْهِ، وكُلَّما وجَدْتَ مِثْلَ هَذا لِأحَدٍ مِن أهْلِ اللَّهِ تَعالى فَسَلِّمْهُ لَهم بِالمَعْنى الَّذِي أرادُوهُ مِمّا لا تَعْلَمُهُ أنْتَ، ولا أنا، لا بِالمَعْنى الَّذِي يَنْقَدِحُ في عَقْلِكَ المَشُوبِ بِالأوْهامِ، فالأمْرُ واللَّهِ وراءَ ذَلِكَ، والأخْذُ بِظَواهِرِ هَذِهِ العِباراتِ النّافِيَةِ لِلْخُلُودِ في العَذابِ، وتَأْوِيلُ النُّصُوصِ الدّالَّةِ عَلى الخُلُودِ في النّارِ بِأنْ يُقالَ الخُلُودُ فِيها لا يَسْتَلْزِمُ الخُلُودَ في العَذابِ، لِجَوازِ التَّنَعُّمِ فِيها، وانْقِلابِ العَذابِ عُذُوبَةً مِمّا يَجُرُّ إلى نَفْيِ الأحْكامِ الشَّرْعِيَّةِ، وتَعْطِيلِ النُّبُوّاتِ، وفَتْحِ بابٍ لا يُسَدُّ، وإنْ سَوَّلَتْ نَفْسُكَ لَكَ ذَلِكَ قَلَّبْنا البَحْثَ مَعَكَ، ولَنَأْتِيَنَّكَ بِجُنُودٍ مِنَ الأدِلَّةِ لا قِبَلَ لَكَ بِها، وما النَّصْرُ إلّا مِن عِنْدِ اللَّهِ، وكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ، ولا يُوقِعَنَّكَ في الوَهْمِ أنَّ الخُلُودَ مُسْتَلْزِمٌ لِتَناهِي التَّجَلِّياتِ، فاللَّهُ تَعالى هو اللَّهُ وكُلَّ يَوْمٍ هو في شَأْنٍ، فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وكُنْ مِنَ الشّاكِرِينَ، ولا أظُنُّكَ تَجِدُ هَذا التَّحْقِيقَ مِن غَيْرِنا، والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب