الباحث القرآني

﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ كَلامٌ مُسْتَأْنَفٌ يَتَمَيَّزُ بِهِ حالُ الكَفَرَةِ (p-126)الغُواةِ المَرَدَةِ العُتاةِ، سِيقَ إثْرَ بَيانِ بَدِيعِ أحْوالِ أضْدادِهِمُ المُتَّصِفِينَ بِنُعُوتِ الكَمالِ الفائِزِينَ بِمَطالِبِهِمْ في الحالِ والمَآلِ، ولَمْ يُعْطَفْ عَلى سابِقِيهِ عَطْفَ القِصَّةِ عَلى القِصَّةِ، لِأنَّ المَقْصُودَ مِن ذَلِكَ بَيانُ اتِّصافِ الكِتابِ بِغايَةِ الكَمالِ في الهِدايَةِ تَقْرِيرًا لِكَوْنِهِ يَقِينًا، لا مَجالَ لِلشَّكِّ فِيهِ، ومِن هَذا بَيانُ اتِّصافِ الكُفّارِ بِالإصْرارِ عَلى الكُفْرِ، والضَّلالِ، بِحَيْثُ لا يُجْدِي فِيهِمُ الإنْذارُ، والقَوْلُ: إنَّهُما مَسُوقانِ لِبَيانِ حالِ الكِتابِ، وأنَّهُ هُدًى لِقَوْمٍ، ولَيْسَ هُدًى لِآخَرِينَ لا يُجْدِي نَفْعًا، لِأنَّ عَدَمَ كَوْنِهِ هُدًى لَهم مَفْهُومٌ تَبَعًا، لا مَقْصُودٌ أصالَةً، عَلى أنَّ الِانْتِفاعَ بِهِ صِفَةُ كَمالٍ لَهُ يُؤَيِّدُ ما سَبَقَ مِن تَفْخِيمِ شَأْنِهِ وإعْلاءِ مَكانِهِ بِخِلافِ عَدَمِ الِانْتِفاعِ، وقِيلَ: إنَّ تَرْكَ العَطْفِ لِكَوْنِهِ اسْتِئْنافًا آخَرَ، كَأنَّهُ قِيلَ ثانِيًا: ما بالُ غَيْرِهِمْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ؟ فَأُجِيبَ بِأنَّهم لِإعْراضِهِمْ، وزَوالِ اسْتِعْدادِهِمْ لَمْ يَنْجَعْ فِيهِمْ دَعْوَةُ الكِتابِ إلى الإيمانِ، ولَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأنَّهُ بَعْدَ ما تَقَرَّرَ أنَّ تِلْكَ الأوْصافَ المُخْتَصَّةَ هي المُقْتَضِيَةُ لَمْ يَبْقَ لِهَذا السُّؤالِ وجْهٌ، وأغْرَبُ مِن هَذا تَخَيُّلُ أنَّ التَّرْكَ لِغايَةِ الِاتِّصالِ زَعْمًا أنَّ شَرْحَ تَمَرُّدِ الكُفّارِ يُؤَكِّدُ كَوْنَ الكِتابِ كامِلًا في الهِدايَةِ، نَعَمْ يُمْكِنُ عَلى بُعْدٍ أنَّ وجْهَ السُّؤالِ بِأنْ يُقالَ: لَوْ كانَ الكِتابُ كامِلًا لَكانَ هُدًى لِلْكُفّارِ أيْضًا، فَيُجابُ بِأنَّ عَدَمَ هِدايَتِهِ إيّاهم لِتَمَرُّدِهِمْ وتَعَنُّتِهِمْ، لا لِقُصُورٍ في الكِتابِ. ؎والنَّجْمُ تَسْتَصْغِرُ الأبْصارُ رُؤْيَتَهُ والذَّنَبُ لِلطَّرْفِ لا لِلنَّجْمِ في الصِّغَرِ والعَطْفُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الأبْرارَ لَفي نَعِيمٍ﴾ ﴿وإنَّ الفُجّارَ لَفي جَحِيمٍ﴾ لِاتِّحادِ الجامِعِ إذِ الجُمْلَةُ الأُولى مَسُوقَةٌ لِبَيانِ ثَوابِ الأخْيارِ، والثّانِيَةُ لِذِكْرِ جَزاءِ الأشْرارِ مَعَ ما فِيهِما مِنَ التَّرْصِيعِ، والتَّقابُلِ، وقَدْ عُدَّ التَّضادُّ وشِبْهُهُ جامِعًا، يَقْتَضِي العَطْفَ، لِأنَّ الوَهْمَ يُنْزِلُ المُتَضادَّيْنِ مَنزِلَةَ المُتَضايِفَيْنِ، فَيُجْتَهَدُ في الجَمْعِ بَيْنَهُما في الذِّهْنِ حَتّى قالُوا: إنَّ الضِّدَّ أقْرَبُ خُطُورًا بِالبالِ مَعَ الضِّدِّ مِنَ الأمْثالِ، وصُدِّرَتِ الجُمْلَةُ بِإنَّ، اعْتِناءً بِمَضْمُونِها، وقَدْ تُصَدَّرُ بِها الأجْوِبَةُ لِأنَّ السّائِلَ لِكَوْنِهِ مُتَرَدِّدًا يُناسِبُهُ التَّأْكِيدُ، وتَعْرِيفُ المَوْصُولِ إمّا لِلْعَهْدِ، والمُرادُ مَن شافَهَهم ﷺ بِالإنْذارِ في عَهْدِهِ، وهم مُصِرُّونَ عَلى كُفْرِهِمْ، أوْ لِلْجِنْسِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ﴾ وكَقَوْلِ الشّاعِرِ: ؎ويَسْعى إذا أبْنِي لِيَهْدِمَ صالِحِي ∗∗∗ ولَيْسَ الَّذِي يَبْنِي كَمَن شَأْنُهُ الهَدْمُ فَهُوَ حِينَئِذٍ عامٌّ خَصَّهُ العَقْلُ بِغَيْرِ المُصِرِّينَ، والإخْبارُ بِما ذُكِرَ قَرِينَةٌ عَلَيْهِ، أوِ المُخَصِّصُ عَوْدُ ضَمِيرٍ خاصٍّ عَلَيْهِ مِنَ الخَبَرِ، لا الخَبَرُ نَفْسُهُ، وقَدْ ذَكَرَ الأُصُولِيُّونَ ثَلاثَةَ أقْوالٍ فِيما إذا عادَ ضَمِيرٌ خاصٌّ عَلى العامِّ، فَقِيلَ: يُخَصِّصُهُ، وقِيلَ: لا، وقِيلَ: بِالوَقْفِ، ومَثَّلُوهُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ فَإنَّ الضَّمِيرَ في بُعُولَتِهِنَّ لِلرَّجْعِيّاتِ فَقَطْ، وما ذَكَرَهُ بَعْضُ أجِلَّةِ المُفَسِّرِينَ أنَّ المُخَصِّصَ هُنا الخَبَرُ أوْرَدَ عَلَيْهِ إنَّ تَعَيُّنَ المُخْبَرِ عَنْهُ بِمَفْهُومِ الخَبَرِ يُنافِي ما تَقَرَّرَ مِن أنَّ المُخْبَرَ عَنْهُ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ مُتَعَيِّنًا عِنْدَ المُخاطَبِ، قَبْلَ وُرُودِ الخَبَرِ، فَلَوْ تَوَقَّفَ تَعَيَّنَ المُخْبَرُ عَنْهُ عَلى الخَبَرِ، لَزِمَ الدَّوْرُ، والكُفْرُ بِالضَّمِّ مُقابِلُ الإيمانِ، وأصْلُهُ المَأْخُوذُ مِنهُ الكَفْرُ بِالفَتْحِ مَصْدَرٌ بِمَعْنى السَّتْرِ، يُقالُ: كَفَرَ يَكْفُرُ مِن بابِ قَتَلَ، وما في الصِّحاحِ مِن أنَّهُ مِن بابِ ضَرَبَ، فالظّاهِرُ أنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وإنْ لَمْ يُنَبَّهْ عَلَيْهِ في القامُوسِ، وشاعَ اسْتِعْمالُهُ في سَتْرِ النِّعْمَةِ خاصَّةً، وفي مُقابِلِ الإيمانِ، لِأنَّ فِيهِ سَتْرَ الحَقِّ، ونِعَمِ الفَيْضِ المُطْلَقِ، وقَدْ صَعُبَ عَلى المُتَكَلِّمِينَ تَعْرِيفُ الكُفْرِ الشَّرْعِيِّ الغَيْرِ التَّبَعِيِّ، واخْتَلَفُوا في تَعْرِيفِهِ عَلى حَسَبِ اخْتِلافِهِمْ في تَعْرِيفِ الإيمانِ، إلّا أنَّ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الشّافِعِيَّةُ (p-127)رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعالى أنَّهُ إنْكارُ ما عُلِمَ مَجِيءُ الرَّسُولِ ﷺ بِهِ مِمّا اشْتُهِرَ حَتّى عَرَفَهُ الخَواصُّ والعَوامُّ، فَلا يَكْفُرُ جاحِدُ المُجْمَعِ عَلَيْهِ عَلى الإطْلاقِ، بَلْ مَن جَحَدَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ فِيهِ نَصٌّ، وهو مِنَ الأُمُورِ الظّاهِرَةِ الَّتِي يَشْتَرِكُ في مَعْرِفَتِها سائِرُ النّاسِ كالصَّلاةِ، وتَحْرِيمِ الخَمْرِ، ومَن جَحَدَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، لا يُعَرِّفُهُ إلّا الخَواصُّ كاسْتِحْقاقِ بِنْتِ الِابْنِ السُّدُسَ مَعَ بِنْتِ الصُّلْبِ فَلَيْسَ بِكافِرٍ، ومَن جَحَدَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ ظاهِرًا لا نَصَّ فِيهِ، فَفي الحُكْمِ بِتَكْفِيرِهِ خِلافٌ، وأمّا ساداتُنا الحَنَفِيَّةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمْ، فَلَمْ يَشْتَرِطُوا في الإكْفارِ سِوى القَطْعِ بِثُبُوتِ ذَلِكَ الأمْرِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الإنْكارُ لا بُلُوغُ العِلْمِ بِهِ حَدَّ الضَّرُورَةِ، وهَذا أمْرٌ عَظِيمٌ وكَأنَّهُ لِذَلِكَ قالَ ابْنُ الهُمامِ: يَجِبُ حَمْلُهُ عَلى ما إذا عَلِمَ المُنْكِرُ ثُبُوتَهُ قَطْعًا، لِأنَّ مَناطَ التَّكْفِيرِ التَّكْذِيبُ أوِ الِاسْتِخْفافُ، ولا يَرِدُ عَلى أخْذِ الإنْكارِ في التَّعْرِيفِ أنَّ أهْلَ الشَّرْعِ حَكَمُوا عَلى بَعْضِ الأفْعالِ والأقْوالِ بِأنَّها كُفْرٌ، ولَيْسَتْ إنْكارًا مِن فاعِلِها ظاهِرًا، لِأنَّهم صَرَّحُوا بِأنَّها لَيْسَتْ كُفْرًا، وإنَّما هي دالَّةٌ عَلَيْهِ، فَأُقِيمَ الدّالُّ مَقامَ مَدْلُولِهِ حِمايَةً لِحَرِيمِ الدِّينِ وصِيانَةً لِشَرِيعَةِ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ ﷺ، ولَيْسَتْ بَعْضُ المَنهِيّاتُ الَّتِي تَقْتَضِيها الشَّهْوَةُ النَّفْسانِيَّةُ كَذَلِكَ، فَلا يَبْطُلُ الطَّرْدُ بِغَيْرِ الكُفْرِ مِنَ الفِسْقِ، فَلَيْسَ شِعارُ الكُفّارِ مَثَلًا لَيْسَ في الحَقِيقَةِ كُفْرًا كَما قالَهُ مَوْلانا الإمامُ الرّازِيُّ وغَيْرُهُ، إلّا أنَّهم كَفَرُوا بِهِ لِكَوْنِهِ عَلامَةً ظاهِرَةً عَلى أمْرٍ باطِنٍ، وهو التَّكْذِيبُ، لِأنَّ الظّاهِرَ أنَّ مَن يُصَدِّقُ الرَّسُولَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لا يَأْتِي بِهِ، فَحَيْثُ أتى بِهِ دَلَّ عَلى عَدَمِ التَّصْدِيقِ، وهَذا إذا لَمْ تَقُمْ قَرِينَةٌ عَلى ما يُنافِي تِلْكَ الدِّلالَةَ، ولِهَذا قالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: إنَّ لُبْسَ شِعارِ الكَفَرَةِ سُخْرِيَةٌ بِهِمْ، وهَزْلًا لَيْسَ بِكُفْرٍ، وقالَ مَوْلانا الشِّهابُ: ولَيْسَ بِبَعِيدٍ إذا قامَتِ القَرِينَةُ، وأنا أقُولُ: إذا قامَتِ القَرِينَةُ عَلى غَرَضٍ آخَرَ غَيْرِ السُّخْرِيَةِ والهَزْلِ، لا كُفْرَ بِهِ أيْضًا كَما يَظُنُّهُ بَعْضُ مَنِ ادَّعى العِلْمَ اليَوْمَ، ولَيْسَ مِنهُ في قَبِيلٍ ولا دَبِيرٍ، ولا في العِيرِ ولا النَّفِيرِ، ثُمَّ الإنْكارُ هُنا بِمَعْنى الجُحُودِ، ولا يَرِدُ أنَّ مَن تَشَكَّكَ أوْ كانَ خالِيًا عَنِ التَّصْدِيقِ والتَّكْذِيبِ لَيْسَ بِمُصَدِّقٍ، ولا جاحِدٍ وأنَّهُ قَوْلٌ بِالمَنزِلَةِ بَيْنَ المَنزِلَتَيْنِ، وهو باطِلٌ عِنْدَ أهْلِ السُّنَّةِ، لِأنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ كُفْرُ الشّاكِّ والخالِي، لِأنَّ تَرْكَهُما الإقْرارَ مَعَ السَّعَةِ والأعْمالَ بِالكُلِّيَّةِ دَلِيلٌ كَما قالَهُ السّالَكُوتِيُّ عَلى التَّكْذِيبِ، كَما أنَّ التَّلَفُّظَ بِكَلِمَةِ الشَّهادَةِ دَلِيلٌ عَلى التَّصْدِيقِ، وقِيلَ: هو ها هُنا مِن أنْكَرْتُ الشَّيْءَ جَهِلْتُهُ، فَلا وُرُودَ أيْضًا، وفِيهِ أنَّ الإنْكارَ بِمَعْنى الجَهْلِ يُقابِلُ المَعْرِفَةَ، فَيَلْزَمُ أنْ يَكُونَ العارِفُ الغَيْرُ المُصَدِّقِ كَأحْبارِ اليَهُودِ واسِطَةً، فالمَحْذُورُ باقٍ بِحالِهِ، وعُرِّفَ في المَواقِفِ الكُفْرُ بِأنَّهُ عَدَمُ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ في بَعْضِ ما عُلِمَ مَجِيئُهُ بِهِ بِالضَّرُورَةِ، ولَعَلَّهُ أيْضًا يَقُولُ بِإقامَةِ بَعْضِ الأفْعالِ، والأقْوالِ مَقامَ عَدَمِ التَّصْدِيقِ، واعْتُرِضَ عَلى أخْذِ الضَّرُورَةِ بِأنَّ ما ثَبَتَ بِالإجْماعِ قَدْ يَخْرُجُ مِنَ الضَّرُورِيّاتِ، وكَذا بَراءَةُ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها ثَبَتَتْ بِالقُرْآنِ، وأدِلَّتُهُ اللَّفْظِيَّةُ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِلْعِلْمِ، فَتَخْرُجُ عَنِ الضَّرُورِيّاتِ أيْضًا. وأُجِيبَ بِأنَّ خُرُوجَ ما ثَبَتَ بِالإجْماعِ عَنِ الضَّرُورِيّاتِ مَمْنُوعٌ، والدِّلالَةُ اللَّفْظِيَّةُ تُفِيدُ العِلْمَ بِانْضِمامِ القَرائِنِ، وهي مَوْجُودَةٌ في بَراءَةِ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها، ولَقَدْ عَدَّ أصْحابُنا رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم في بابِ الإكْفارِ أشْياءَ كَثِيرَةً لا أُراها تُوجِبُ إكْفارًا، والإخَراجُ عَنِ المِلَّةِ أمْرٌ لا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ، فَيَنْبَغِي الِاتِّئادُ في هَذا البابِ، مَهْما أمْكَنَ، وقَوْلُ ابْنِ الهُمامِ: ارْفُقْ بِالنّاسِ، وفي أبْكارِ الأفْكارِ في هَذا البَحْثِ ما يُقْضى مِنهُ العَجَبُ، ولا أرْغَبُ في طُولٍ بِلا طَوْلٍ، وفُضُولٍ بِلا فَضْلٍ، واسْتَدَلَّ المُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الآيَةِ، ونَحْوَها عَلى حُدُوثِ كَلامِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى لِاسْتِدْعاءِ صِدْقِ الإخْبارِ بِمِثْلِ هَذا الماضِي سابِقَةَ المُخْبَرِ عَنْهُ، أعْنِي النِّسْبَةَ بِالزَّمانِ، وكُلُّ مَسْبُوقٍ بِالزَّمانِ حادِثٌ، وأُجِيبَ بِأنَّ سَبْقَ المُخْبَرِ عَنْهُ يَقْتَضِي تَعَلُّقَ كَلامِهِ الأزَلِيِّ بِالمُخْبَرِ عَنْهُ، فاللّازِمُ سَبْقُ المُخْبَرِ عَنْهُ عَلى التَّعَلُّقِ، وحُدُوثِهِ، وهو لا يَسْتَلْزِمُ حُدُوثَ الكَلامِ، كَما في عِلْمِهِ تَعالى بِوُقُوعِ الأشْياءِ، فَإنَّ لَهُ تَعَلُّقًا حادِثًا مَعَ عَدَمِ حُدُوثِهِ، أوْ يُقالُ: إنَّ ذاتَهُ تَعالى وصِفاتِهِ (p-128)لَمّا لَمْ تَكُنْ زَمانِيَّةً يَسْتَوِي إلَيْها جَمِيعُ الأزْمِنَةِ اسْتِواءَ جَمِيعِ الأمْكِنَةِ، فالأنْواعُ كُلٌّ مِنها حاضِرٌ عِنْدَهُ في مَرْتَبَتِهِ، واخْتِلافُ التَّعْبِيراتِ بِالنَّظَرِ إلى المُخاطَبِ الزَّمانِيِّ رِعايَةً لِلْحِكْمَةِ في بابِ التَّفْهِيمِ، وقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، مِمّا يَطُولُ ذِكْرُهُ، وقَدْ ذَكَرْنا في الفائِدَةِ الرّابِعَةِ ما يُفِيدُكَ ذِكْرُهُ هُنا، فَتَذَكَّرْ، (وسَواءٌ) اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنى الِاسْتِواءِ وهو لا يُثَنّى ولا يُجْمَعُ، وقَدِ اسْتَغْنَوْا عَنْ تَثْنِيَتِهِ بِتَثْنِيَةِ سِيٍّ إلّا شُذُوذًا، وكَأنَّهُ في الأصْلِ مَصْدَرٌ، كَما قالَهُ الرَّضِيُّ، ورُفِعَ عَلى أنَّهُ خَبَرُ إنَّ، وما بَعْدَهُ مُرْتَفِعٌ بِهِ عَلى الفاعِلِيَّةِ، كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُسْتَوٍ عَلَيْهِمْ إنْذارُكَ وعَدَمُهُ، أوْ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: الأمْرانِ سَواءٌ، ثُمَّ بَيَّنَ الأمْرَيْنِ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ أوْ خَبَرٌ لِما بَعْدَهُ، أيْ إنْذارُكَ وعَدَمُهُ سِيّانِ، وهو المَشْهُورُ عَلى ألْسِنَةِ الطَّلَبَةِ في مِثْلِهِ، وأُورِدَ عَلَيْهِ أُمُورٌ، الأوَّلُ أنَّ الفِعْلَ لا يُسْنَدُ إلَيْهِ، الثّانِي أنَّهُ مُبْطِلٌ لِصَدارَةِ الِاسْتِفْهامِ، الثّالِثُ أنَّ الهَمْزَةَ وأمْ مَوْضُوعانِ لِأحَدِ الأمْرَيْنِ، وكُلُّ ما يَدُلُّ عَلى الِاسْتِواءِ لا يُسْنَدُ إلّا إلى مُتَعَدِّدٍ، فَلِذا يُقالُ: اسْتَوى وُجُودُهُ وعَدَمُهُ، ولا يُقالُ: أوْ عَدَمُهُ، الرّابِعُ أنَّهُ عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ خَبَرًا، يَلْزَمُ أنْ لا يَصِحَّ تَقْدِيمُهُ لِالتِباسِ المُبْتَدَإ بِالفاعِلِ، ويُجابُ أمّا عَنِ الأوَّلِ فَبِأنَّهُ مِن جِنْسِ الكَلامِ المَهْجُورِ فِيهِ جانِبُ اللَّفْظِ إلى جانِبِ المَعْنى، والعَرَبُ تَمِيلُ في مَواضِعَ مِن كَلامِهِمْ مَعَ المَعانِي مَيْلًا بَيِّنًا، ومِن ذَلِكَ: لا تَأْكُلِ السَّمَكَ وتَشْرَبِ اللَّبَنَ، أيْ لا يُمْكِنُ مِنكَ أكْلُ السَّمَكِ وشُرْبُ اللَّبَنِ، ولَوْ أُجْرِيَ عَلى ظاهِرِهِ لَزِمَ عَطْفُ الِاسْمِ المَنصُوبِ عَلى الفِعْلِ، بَلِ المُفْرَدِ عَلى جُمْلَةٍ لا مَحَلَّ لَها، ودَعْوى البَيْضاوِيِّ بَيَّضَ اللَّهُ تَعالى غُرَّةَ أحْوالِهِ أنَّهُ اسْتُعْمِلَ فِيهِ اللَّفْظُ في جُزْءِ مَعْناهُ، وهو الحَدَثُ تَجَوُّزًا، فَلِذا صَحَّ الإخْبارُ عَنْهُ، كَما يَجُوزُ الإخْبارُ عَمّا يُرادُ بِهِ مُجَرَّدُ لَفْظِهِ، كَضَرَبَ ماضٍ مَفْتُوحُ الباءِ عَلى ما فِيها، لا تَتَأتّى فِيما إذا كانَ المُعادَلانِ أوْ أحَدُهُما بَعْدَ هَمْزَةِ التَّسْوِيَةِ جُمْلَةً اسْمِيَّةً، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿سَواءٌ عَلَيْكم أدَعَوْتُمُوهم أمْ أنْتُمْ صامِتُونَ﴾ ويَدْخُلُ في المَيْلِ مَعَ المَعْنى مَعَ أنَّهُ لا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الخُرُوجُ عَنِ الحَقِيقَةِ، وقَدْ نَقَلَ ابْنُ جِنِّي عَنْ أبِي عَلِيٍّ أنَّهُ قالَ: الجُمْلَةُ المُرَكَّبَةُ مِنَ المُبْتَدَإ والخَبَرِ تَقَعُ مَوْقِعَ الفِعْلِ المَنصُوبِ بِأنَّ، إذا انْتَصَبَ وانْصَرَفَ القَوْلُ بِهِ، والرَّأْيُ فِيهِ إلى مَذْهَبِ المَصْدَرِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿هَلْ لَكم مِن ما مَلَكَتْ أيْمانُكم مِن شُرَكاءَ في ما رَزَقْناكم فَأنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ﴾ وكَقَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿أعِنْدَهُ عِلْمُ الغَيْبِ فَهو يَرى﴾ ألا تَرى أنَّ الفاءَ جَوابُ الِاسْتِفْهامِ، وهي تَصْرِفُ الفِعْلَ بَعْدَها إلى الِانْتِصابِ بِأنْ مُضْمَرَةٍ، والفِعْلُ المَنصُوبُ مَصْدَرٌ لا مَحالَةَ، حَتّى كَأنَّهُ قالَ: أعِنْدَهُ عِلْمُ الغَيْبِ فَرُؤْيَتُهُ، وهَلْ بَيْنَكم شَرِكَةٌ فاسْتِواءٌ، وأمّا عَنِ الثّانِي والثّالِثِ فَبِأنَّ الهَمْزَةَ، وأمِ انْسَلَخا عَنْ مَعْنى الِاسْتِفْهامِ عَنْ أحَدِ الأمْرَيْنِ، ولَمّا كانا مُسْتَوِيَيْنِ في عِلْمِ المُسْتَفْهِمِ جُعِلا مُسْتَوِيَيْنِ في تَعَلُّقِ الحُكْمِ بِكِلَيْهِما، ولِهَذا قِيلَ: تُجُوِّزَ بِهِما عَنْ مَعْنى الواوِ العاطِفَةِ الدّالَّةِ عَلى اجْتِماعِ مُتَعاطِفَيْها في نِسْبَةٍ ما، مِن غَيْرِ مُلاحَظَةِ تَقَدُّمٍ أوْ تَأخُّرٍ، ثُمَّ إنَّ مِثْلَ هَذا المَعْنى، وإنْ كانَ مُرادًا، إلّا أنَّهُ لا يُلاحَظُ في عُنْوانِ المَوْضُوعِ بَعْدَ السَّبْكِ، كَما لا يُلاحَظُ مَعْنى العاطِفِ، فَلا يُقالُ في التَّرْجَمَةِ هُنا إلّا: الإنْذارُ وعَدَمُهُ سَواءٌ، مِن غَيْرِ نَظَرٍ إلى التَّساوِي، حَتّى يُقالَ: إذا كانَ تَقْدِيرُ المُبْتَدَإ المُتَساوِيانِ يَلْغُو حَمْلُ سَواءٍ عَلَيْهِ، فَيُدْفَعُ بِما يُدْفَعُ، وقَدْ قالَ الإمامُ الآقُسْرائِيُّ: إنْ أنْذَرَتَهم إلَخِ، انْتَقَلَ عَنْ أنْ يَكُونَ المَقْصُودُ أحَدَهُما إلى أنْ يَكُونَ المُرادُ كِلَيْهِما، وهَذا مَعْنى الِاسْتِواءِ المَوْجُودِ فِيهِ، وأمّا الحُكْمُ بِالِاسْتِواءِ في عَدَمِ النَّفْعِ، فَلَمْ يَحْصُلْ إلّا مِن قَوْلِهِ: ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ وذُكِرَ أنَّهُ ظَفِرَ بِمِثْلِهِ عَنْ أبِي عَلِيٍّ الفارِسِيِّ، وكَلامُ المَوْلى الفَنارِيِّ يَحُومُ حَوْلَ هَذا الحِمى، وذَهَبَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ إلى أنَّهُما في الأصْلِ لِلِاسْتِفْهامِ عَنْ أحَدِ الأمْرَيْنِ، وهُما مُسْتَوِيانِ في عِلْمِ المُسْتَفْهِمِ، وقَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ الِاسْتِواءُ هُنا إذْ سُلِخَ عَنْهُما الِاسْتِفْهامُ، وبَقِيَ الِاسْتِواءُ في العِلْمِ، وهو مَعْنى قَوْلِ مَن قالَ: الهَمْزَةُ وأمْ مُجَرَّدَتانِ لِمَعْنى الِاسْتِواءِ، فَيَكُونُ الحاصِلُ فِيما نَحْنُ فِيهِ المُتَساوِيانِ في عِلْمِكَ، مُسْتَوِيانِ في عَدَمِ (p-129)الجَدْوى، وهَذا عَلى ما فِيهِ تَكَلُّفٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِما ذَكَرْناهُ، ومِثْلُهُ ما ذَكَرَ العامِلِيُّ مِن أنَّ تَمامَ مَعْناهُما الِاسْتِواءُ، والِاسْتِفْهامُ مَعًا، فَجُرِّدا عَنْ مَعْنى الِاسْتِفْهامِ وصارَ المُجَرَّدُ الِاسْتِواءَ، ولِتَكَرُّرِ الحُكْمِ بِالِاسْتِواءِ بِمَعْنًى واحِدٍ يَحْصُلُ التَّأْكِيدُ، كَأنَّهُ قِيلَ: سَواءٌ الإنْذارُ وعَدَمُهُ سَواءٌ، وهو بَعِيدٌ عَنْ ساحَةِ التَّحْقِيقِ كَما لا يَخْفى، ويُوهِمُ قَوْلُهم بِالتَّجْرِيدِ أنْ هُناكَ مَجازًا مُرْسَلًا اسْتُعْمِلَ فِيهِ الكُلُّ في جُزْئِهِ، والتَّحْقِيقُ أنَّهُ إمّا اسْتِعارَةٌ أوْ مُسْتَعْمَلٌ في لازِمِ مَعْناهُ، ثُمَّ المَشْهُورُ أنَّهُ لا يَجُوزُ العَطْفُ بَعْدَ سَواءٍ بَأوْ، إنْ كانَ هُناكَ هَمْزَةُ التَّسْوِيَةِ حَتّى قالَ في المُغْنِي: إنَّهُ مِن لَحْنِ الفُقَهاءِ، وفي شَرْحِ الكِتابِ لِلسِّيرافِيِّ: (سَواءٌ) إذا دَخَلَتْ بَعْدَها ألِفُ الِاسْتِفْهامِ لَزِمَتْ (أمْ)، كَسَواءٍ عَلَيَّ أقُمْتَ أمْ قَعَدْتَ، فَإذا عُطِفَ بَعْدَها أحَدُ اسْمَيْنِ عَلى آخَرَ عُطِفَ بِالواوِ لا غَيْرُ، نَحْوُ: سَواءٌ عِنْدِي زَيْدٌ وعَمْرٌو، فَإذا كانَ بَعْدَها فِعْلانِ بِغَيْرِ اسْتِفْهامٍ عُطِفَ أحَدُهُما عَلى الآخَرِ بَأوْ، كَقَوْلِكَ: سَواءٌ عَلَيَّ قُمْتَ أوْ قَعَدْتَ، فَإنْ كانَ بَعْدَها مَصْدَرانِ، مِثْلُ: سَواءٌ عَلَيَّ قِيامُكَ وقُعُودُكَ، فَلَكَ العَطْفُ بِالواوِ وبَأوْ، وإنَّما دَخَلَتْ في الفِعْلَيْنِ بِغَيْرِ اسْتِفْهامٍ لِما في ذَلِكَ مِن مَعْنى المُجازاةِ، فَتَقْدِيرُ المِثالِ: إنْ قُمْتَ أوْ قَعَدْتَ فَهُما عَلَيَّ سَواءٌ، والظّاهِرُ مِن هَذا بَيانُ اسْتِعْمالاتِ العَرَبِ لِسَواءٍ، ولَمْ يَحُكَ في شَيْءٍ مِن ذَلِكَ شُذُوذًا، فَقِراءَةُ ابْنِ مُحَيْصِنٍ مِن طَرِيقِ الزَّعْفَرانِيِّ: (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أنْذَرْتَهم أوْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) شاذَّةٌ رِوايَةً فَقَطْ، لا اسْتِعْمالًا، كَما يُفْهِمُهُ كَلامُ ابْنِ هِشامٍ فافْهَمْ هَذا المَقامَ، فَقَدْ غَلِطَ فِيهِ أقْوامٌ بَعْدَ أقْوامٍ، وأمّا عَنِ الرّابِعِ فَبِأنَّ النُّحاةَ قَدْ صَرَّحُوا بِتَخْصِيصِ ذَلِكَ بِالخَبَرِ الفِعْلِيِّ دُونَ الصِّفَةِ نَحْوَ: زَيْدٌ قامَ، فَلا يُقَدَّمُ لِالتِباسِ المُبْتَدَإ بِالفاعِلِ حِينَئِذٍ، فَإذا لَمْ يَمْتَنِعْ في صَرِيحِ الصِّفَةِ، فَعَدَمُ امْتِناعِهِ هُنا أوْلى عَلى ما قِيلَ، وإنَّما عَدَلَ سُبْحانَهُ عَنِ المَصْدَرِ فَلَمْ يَأْتِ بِهِ عَلى الأصْلِ لِوَجْهَيْنِ، لَفْظِيٍّ، وهو حُسْنُ دُخُولِ الهَمْزَةِ وأمْ، لِأنَّهُما في الأصْلِ لِلِاسْتِفْهامِ، وهو بِالفِعْلِ أوْلى، ومَعْنَوِيٍّ، وهو إيهامُ التَّجَدُّدِ نَظَرًا لِظاهِرِ الصِّيغَةِ، وفِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أحَدَثَ ذَلِكَ، وأوْجَدَهُ، فَأدّى الأمانَةَ، وبَلَّغَ الرِّسالَةَ، وإنَّما لَمْ يُؤْمِنُوا لِسَبْقِ الشَّقاءِ ودَرْكِ القَضاءِ، لا لِتَقْصِيرٍ مِنهُ، وحاشاهُ، فَهو وإنْ أفادَ اليَأْسَ، فِيهِ تَسْلِيَةٌ لَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، (وعَلى) هُنا بِاعْتِبارِ أصْلِ مَعْناهُ، لِأنَّ الِاسْتِواءَ يَتَعَدّى بِعَلى كَقَوْلِهِ تَعالى: ”اسْتَوى عَلى العَرْشِ“ وقِيلَ بِمَعْنى عِنْدَ، فَفي المُغْنِي: (عَلى) تُجَرَّدُ لِلظَّرْفِيَّةِ، وعَلى ذَلِكَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ، والقَوْلُ بِأنَّها هُنا لِلْمَضَرَّةِ كَدُعاءٍ عَلَيْهِ، لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأنَّ (سَواءً) تُسْتَعْمَلُ مَعَ (عَلى) مُطْلَقًا فَيُقالُ: مَوَدَّتِي دائِمَةٌ سَواءٌ عَلَيَّ أزُرْتَ أمْ لَمْ تَزُرْ، والإنْذارُ التَّخْوِيفُ مُطْلَقًا، أوِ الإبْلاغُ، وأكْثَرُ ما يُسْتَعْمَلُ في تَخْوِيفِ عَذابِ اللَّهِ تَعالى، ويَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنّا أنْذَرْناكم عَذابًا قَرِيبًا﴾ ﴿فَقُلْ أنْذَرْتُكم صاعِقَةً﴾ فالمَفْعُولُ الثّانِي هُنا مَحْذُوفٌ، أيِ العَذابَ ظاهِرًا ومُضْمَرًا، واسْتُحْسِنَ أنْ لا يُقَدَّرَ لِيَعُمَّ، وفي البَحْرِ: الإنْذارُ الإعْلامُ مَعَ التَّخْوِيفِ في مُدَّةٍ تَسَعُ التَّحَفُّظَ مِنَ المُخَوِّفِ، فَإنْ لَمْ تَسْعَ، فَهو إشْعارٌ وإخْبارٌ، لا إنْذارٌ، ولَمْ يَذْكُرْ سُبْحانَهُ البِشارَةَ لِأنَّها تُفْهَمُ بِطَرِيقِ دِلالَةِ النَّصِّ لِأنَّ الإنْذارَ أوْقَعُ في القَلْبِ، وأشَدُّ تَأْثِيرًا، فَإذا لَمْ يَنْفَعْ كانَتِ البِشارَةُ بِعَدَمِ النَّفْعِ أوْلى، وقِيلَ: لا مَحَلَّ لِلْبِشارَةِ هُنا، لِأنَّ الكافِرَ لَيْسَ أهْلًا لَها، وقَوْلُهُ عَزَّ مِن قائِلٍ: ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ يَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً لِإجْمالِ ما قَبْلَها، مِمّا فِيهِ الِاسْتِواءُ، والكُفْرُ وعَدَمُ نَفْعِ الإنْذارِ في الماضِي بِحَسَبِ الظّاهِرِ مَسْكُوتٌ فِيهِ عَنِ الِاسْتِمْرارِ، و﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ دالٌّ عَلَيْهِ ومُبَيِّنٌ لَهُ، فَلا حاجَةَ إلى القَوْلِ بِأنَّ هَذا بِالنَّظَرِ إلى مَفْهُومِ اللَّفْظِ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ أنَّهُ إخْبارٌ عَنِ المُصِرِّينَ، وهي حِينَئِذٍ لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ، كَما هو شَأْنُ الجُمَلِ المُفَسِّرَةِ، وعِنْدَ الشَّلَوْبِينِ: لَها مَحَلٌّ لِأنَّها عَطْفُ بَيانٍ عِنْدَهُ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ حالًا مُؤَكِّدَةً لِما قَبْلَها، وصاحِبُ الحالِ ضَمِيرُ (عَلَيْهِمْ) أوْ (أنْذَرْتَهُمْ)، ولَيْسَ هَذا كَــزَيْدٌ أبُوكَ عَطُوفًا، لِفَقْدِ ما يُشْتَرَطُ في هَذا النَّوْعِ ها هُنا، وأنْ (p-130)تَكُونَ بَدَلًا، إمّا بَدَلَ اشْتِمالٍ لِاشْتِمالِ عَدَمِ نَفْعِ ما مَرَّ عَلى عَدَمِ الإيمانِ، أوْ بَدَلَ كُلٍّ لِأنَّهُ عَيَّنَهُ بِحَسَبِ المَآلِ، أوْ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، أوْ خَبَرَ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ أيْ هم لا يُؤْمِنُونَ، أوْ خَبَرَ إنَّ، والجُمْلَةُ قَبْلَها اعْتِراضٌ، وفي التَّسْهِيلِ: الِاعْتِراضِيَّةُ هي المُفِيدَةُ تَقْوِيَةً، وهي هُنا كالعِلَّةِ لِلْحُكْمِ لِدِلالَتِها عَلى قَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ، وعَدَمِ تَأثُّرِها بِالإنْذارِ، وهو مُقْتَضٍ لِعَدَمِ الإيمانِ، وحَيْثُ إنَّ المَوْضُوعَ دالٌّ عَلى عَدَمِ الإيمانِ في الماضِي، والمَحْمُولُ عَلى اسْتِمْرارِهِ في المُسْتَقْبَلِ، انْدَفَعَ تَوَهُّمُ عَدَمِ الفائِدَةِ في الإخْبارِ، وجَعْلُ الجُمْلَةَ دُعائِيَّةً بَعِيدٌ وأبْعَدُ مِنهُ ما رُوِيَ أنَّ الوَقْفَ عَلى: أمْ لَمْ تُنْذِرْ، والِابْتِداءُ بِـ: هم لا يُؤْمِنُونَ عَلى أنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وخَبَرٌ، بَلْ يَنْبَغِي أنْ لا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، وقَرَأ الجَحْدَرِيُّ: (سَواءٌ) بِتَخْفِيفِ الهَمْزَةِ عَلى لُغَةِ الحِجازِ، فَيَجُوزُ أنَّهُ أخَلَصَ الواوَ، ويَجُوزُ أنَّهُ جَعَلَ الهَمْزَةَ بَيْنَ بَيْنَ، أيْ بَيْنَ الهَمْزَةِ والواوِ، وعَنِ الخَلِيلِ أنَّهُ قَرَأ: (سُوءٌ عَلَيْهِمْ) بِضَمِّ السِّينِ مَعَ واوٍ بَعْدَها، فَهو عُدُولٌ عَنْ مَعْنى المُساواةِ إلى السَّبِّ والقُبْحِ، وعَلَيْهِ لا تَعَلُّقَ إعْرابِيًّا لَهُ بِما بَعْدَهُ، كَما في البَحْرِ، وقَرَأ الكُوفِيُّونَ وابْنُ ذَكْوانَ وهي لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ: (أأنْذَرْتَهُمْ) بِتَحْقِيقِ الهَمْزَتَيْنِ، وهو الأصْلُ، وأهْلُ الحِجازِ لا يَرَوْنَ الجَمْعَ بَيْنَهُما طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ، فَقَرَأ الحَرَمِيّانِ وأبُو عَمْرٍو وهِشامٌ بِتَحْقِيقِ الأُولى، وتَسْهِيلِ الثّانِيَةِ إلّا أنَّ أبا عَمْرٍو، وقالُونَ، وإسْماعِيلَ بْنَ جَعْفَرٍ عَنْ نافِعٍ، وهِشامٍ يُدْخِلُونَ بَيْنَهُما ألِفًا، وابْنُ كَثِيرٍ لا يُدْخِلُ، ورُوِيَ تَحْقِيقُهُما عَنْ هِشامٍ مَعَ إدْخالِ ألِفٍ بَيْنَهُما، وهي قِراءَةُ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ أبِي إسْحاقَ، ورُوِيَ عَنْ ورْشٍ كابْنِ كَثِيرٍ وكَقالُونَ إبْدالُ الهَمْزَةِ الثّانِيَةِ ألِفًا، فَيَلْتَقِي ساكِنانِ عَلى غَيْرِ حَدِّهِما عِنْدَ البَصْرِيِّينَ، وزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنَّ ذَلِكَ لَحْنٌ، وخُرُوجٌ عَنْ كَلامِ العَرَبِ مِن وجْهَيْنِ أحَدُهُما الجَمْعُ بَيْنَ ساكِنَيْنِ عَلى غَيْرِ حَدِّهِ، الثّانِي أنَّ طَرِيقَ تَخْفِيفِ الهَمْزَةِ المُتَحَرِّكَةِ المَفْتُوحِ ما قَبْلَها هو بِالتَّسْهِيلِ بَيْنَ بَيْنَ، لا بِالقَلْبِ ألِفًا، لِأنَّهُ طَرِيقُ الهَمْزَةِ السّاكِنَةِ، وما قالُوهُ مَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ، والكُوفِيُّونَ أجازُوا الجَمْعَ عَلى غَيْرِ الحَدِّ الَّذِي أجازَهُ البَصْرِيُّونَ، وهَذِهِ القِراءَةُ مِن قَبِيلِ الأداءِ، ورِوايَةُ المِصْرِيِّينَ عَنْ ورْشٍ وأهْلِ بَغْدادَ يَرْوُونَ التَّسْهِيلَ بَيْنَ بَيْنَ كَما هو القِياسُ، فَلا يَكُونُ الطَّعْنُ فِيها طَعْنًا فِيما هو مِنَ السَّبْعِ المُتَواتِرِ، إلّا أنَّ المُعْتَزِلِيَّ أساءَ الأدَبَ في التَّعْبِيرِ، وقَدِ احْتَجَّ بِهَذِهِ الآيَةِ وأمْثالِها مَن قالَ بِوُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِالمُمْتَنِعِ لِذاتِهِ بِناءً عَلى أنْ يُرادَ بِالمَوْصُولِ ناسٌ بِأعْيانِهِمْ، وحاصِلُ الِاسْتِدْلالِ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أخْبَرَ بِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ، وأمَرَهم بِالإيمانِ، وهو مُمْتَنِعٌ، إذْ لَوْ كانَ مُمْكِنًا لَما لَزِمَ مِن فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحالٌ، لَكِنَّهُ لازِمٌ إذْ لَوْ آمَنُوا انْقَلَبَ خَبَرُهُ كَذِبًا، وشَمِلَ إيمانَهُمُ الإيمانُ بِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ، لِكَوْنِهِ مِمّا جاءَ بِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وإيمانُهم بِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ فَرْعُ اتِّصافِهِمْ بِعَدَمِ الإيمانِ، فَيَلْزَمُ اتِّصافُهم بِالإيمانِ، وعَدَمِ الإيمانِ، فَيَجْتَمِعُ الضِّدّانِ، وكِلا الأمْرَيْنِ مِنِ انْقِلابِ خَبَرِهِ تَعالى كَذِبًا، واجْتِماعُ الضِّدَّيْنِ مُحالٌ، وما يَسْتَلْزِمُ المُحالَ مُحالٌ، وأُجِيبَ بِأنَّ إيمانَهم لَيْسَ مِنَ المُتَنازَعِ فِيهِ، لِأنَّهُ أمْرٌ مُمْكِنٌ في نَفْسِهِ، وبِإخْبارِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى بِعَدَمِ الإيمانِ لا يَخْرُجُ مِنَ الإمْكانِ، غايَتُهُ أنَّهُ يَصِيرُ مُمْتَنِعًا بِالغَيْرِ، واسْتِلْزامُ وُقُوعِهِ الكَذِبَ أوِ اجْتِماعُ الضِّدَّيْنِ بِالنَّظَرِ إلى ذَلِكَ، لِأنَّ إخْبارَهُ تَعالى بِوُقُوعِ الشَّيْءِ، أوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ لا يَنْفِي القُدْرَةَ عَلَيْهِ، ولا يُخْرِجُهُ مِنَ الإمْكانِ الذّاتِيِّ لِامْتِناعِ الِانْقِلابِ، وإنَّما يَنْفِي عَدَمَ وُقُوعِهِ، أوْ وُقُوعَهُ، فَيَصِيرُ مُمْتَنِعًا بِالغَيْرِ، واللّازِمُ لِلْمُمْكِنِ أنْ لا يَلْزَمَ مِن فَرْضِ وُقُوعِهِ نَظَرًا إلى ذاتِهِ مُحالٌ، وأمّا بِالنَّظَرِ إلى امْتِناعِهِ بِالغَيْرِ، فَقَدْ يَسْتَلْزِمُ المُمْتَنِعُ بِالذّاتِ كاسْتِلْزامِ عَدَمِ المَعْلُولِ الأوَّلِ عَدَمَ الواجِبِ، وقِيلَ في بَيانِ اسْتِحالَةِ إيمانِهِمْ بِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ أنَّهُ تَكْلِيفٌ بِالنَّقِيضَيْنِ، لِأنَّ التَّصْدِيقَ في الإخْبارِ لا يُصَدِّقُونَهُ في شَيْءٍ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ تَصْدِيقِهِمْ في ذَلِكَ، والتَّكْلِيفُ بِالشَّيْءِ تَكْلِيفٌ بِلَوازِمِهِ، وقُوبِلَ بِالمَنعِ لا سِيَّما اللَّوازِمُ العَدَمِيَّةُ. وقِيلَ: لِأنَّ تَصْدِيقَهم في أنْ لا يَصْدِّقُوهُ، يَسْتَلْزِمُ أنْ لا يُصَدِّقُوهُ، وما يَسْتَلْزِمُ وُجُودُهُ عَدَمَهُ مُحالٌ، ورُدَّ بِأنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ الِاسْتِلْزامُ (p-131)لِامْتِناعِهِ بِالغَيْرِ، كَما فِيما نَحْنُ فِيهِ، وقِيلَ: لِأنَّ إذْعانَ الشَّخْصِ بِخِلافِ ما يَجِدُ في نَفْسِهِ مُحالٌ، واعْتُرِضَ بِأنَّهُ يَجُوزُ أنْ لا يَخْلُقَ اللَّهُ تَعالى العِلْمَ بِتَصْدِيقِهِ، فَيُصَدِّقُهُ في أنْ لا يُصَدِّقَهُ، نَعَمْ إنَّهُ خِلافُ العادَةِ لَكِنَّهُ لَيْسَ مِنَ المُمْتَنِعِ بِالذّاتِ، كَذا قِيلَ، ولا يَخْلُو المَقامُ بَعْدُ عَنْ شَيْءٍ، وأيُّ شَيْءٍ والبَحْثُ طَوِيلٌ، واسْتِيفاؤُهُ هُنا كالتَّكْلِيفِ بِما لا يُطاقُ، وسَيَأْتِيكَ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى عَلى أتَمِّ وجْهٍ. ثُمَّ فائِدَةُ الإنْذارِ بَعْدَ العِلْمِ بِأنَّهُ لا يُثْمِرُ اسْتِخْراجَ سِرِّ ما سَبَقَ بِهِ العِلْمُ التّابِعُ لِلْمَعْلُومِ مِنَ الطَّوْعِ والإباءِ في المُكَلَّفِينَ، ﴿لِئَلا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى لَوْ أدْخَلَ ابْتِداءً كُلًّا دارَهُ الَّتِي سَبَقَ العِلْمُ بِأنَّها دارُهُ، لَكانَ شَأْنُ المُعَذَّبِ مِنهم ما وصَفَ اللَّهُ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿ولَوْ أنّا أهْلَكْناهم بِعَذابٍ مِن قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أرْسَلْتَ إلَيْنا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِن قَبْلِ أنْ نَذِلَّ ونَخْزى﴾ فَأرْسَلَ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ، لِيَسْتَخْرِجَ ما في اسْتِعْدادِهِمْ مِنَ الطَّوْعِ والإباءِ، ﴿لِيَهْلِكَ مَن هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ويَحْيا مَن حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ فَإنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ، وتَقُومُ بِهِ الحُجَّةُ عَلى الآخَرِينَ، إذْ بَعْدَ الذِّكْرى وتَبْلِيغِ الرِّسالَةِ تَتَحَرَّكُ الدَّواعِي لِلطَّوْعِ والإباءِ بِحَسَبِ الِاسْتِعْدادِ الأزَلِيِّ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الفِعْلُ، أوِ التَّرْكُ بِالمَشِيئَةِ السّابِقَةِ التّابِعَةِ لِلْعِلْمِ لِلْمَعْلُومِ الثّابِتِ الأزَلِيِّ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ النَّفْعُ والضُّرُّ مِنَ الثَّوابِ والعِقابِ، وإنَّما قامَتِ الحُجَّةُ عَلى الكافِرِ لِأنَّ ما امْتَنَعَ مِنَ الإتْيانِ بِهِ بَعْدَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ وظُهُورِ المُعْجِزَةِ مِنَ الإيمانِ لَوْ كانَ مُمْتَنِعًا لِذاتِهِ مُطْلَقًا لَما وقَعَ مِن أحَدٍ، لَكِنَّهُ قَدْ وقَعَ، فَعَلِمَ أنَّ عَدَمَ وُقُوعِهِ مِنهُ كانَ عَنْ إباءٍ ناشِئٍ مِنِ اسْتِعْدادِهِ الأزَلِيِّ بِاخْتِيارِهِ السَّيِّئِ، وإنْ كانَ إباؤُهُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعالى بِهِ فَإنَّ فِعْلَ اللَّهِ تَعالى تابِعٌ لِمَشِيئَتِهِ التّابِعَةِ لِعِلْمِهِ التّابِعِ لِلْمَعْلُومِ، والمَعْلُومُ مِن حَيْثُ ثُبُوتُهُ الأزَلِيُّ غَيْرُ مَجْعُولٍ، فَتَعَلَّقَ العِلْمُ بِهِ عَلى ما هو عَلَيْهِ، في ثُبُوتِهِ الغَيْرِ المَجْعُولِ مِمّا يَقْتَضِيهِ اسْتِعْدادُهُ الأزَلِيُّ، ثُمَّ الإرادَةُ تَعَلَّقَتْ بِتَخْصِيصِ ما سَبَقَ العِلْمُ بِهِ مِن مُقْتَضى اسْتِعْدادِهِ الأزَلِيِّ، فَأبْرَزَتْهُ القُدْرَةُ عَلى طِبْقِ الإرادَةِ قالَ تَعالى: ﴿أعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ﴾ فَلِهَذا قالَ: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكم أجْمَعِينَ﴾ لَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ، إذْ لَمْ يَسْبِقْ بِهِ العِلْمُ لِكَوْنِهِ كاشِفًا لِلْمَعْلُومِ، وما في اسْتِعْدادِهِ الأزَلِيِّ، فالمَعْلُومُ المُسْتَعِدُّ لِلْهِدايَةِ في نَفْسِهِ كَشَفَهُ عَمّا هو عَلَيْهِ مِن قَبُولِهِ لَها، والمُسْتَعِدُّ لِلْغَوايَةِ تَعَلَّقَ بِهِ عَلى ما هو عَلَيْهِ مِن عَدَمِ قَبُولِهِ لَها، فَلَمْ يَشَأْ إلّا ما سَبَقَ بِهِ العِلْمُ مِن مُقْتَضَياتِ الِاسْتِعْدادِ، فَلَمْ تَبْرُزِ القُدْرَةُ إلّا ما شاءَ اللَّهُ تَعالى، فَصَحَّ أنَّ لِلَّهِ الحُجَّةَ البالِغَةَ سُبْحانَهُ، إذا نُوزِعَ، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ ﴿أعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ﴾ وما يَقْتَضِيهِ اسْتِعْدادُهُ وما نَقَصَ مِنهُ شَيْئًا، ولِهَذا قالَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «(فَمَن وجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ)،» فَإنَّ اللَّهَ مُتَفَضِّلٌ بِالإيجادِ، لا واجِبَ عَلَيْهِ، «(ومَن وجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إلّا نَفْسَهُ)،» لِأنَّهُ ما أبْرَزَ قُدْرَتَهُ بِجُودِهِ ورَحْمَتِهِ مِمّا اقْتَضَتْهُ الحِكْمَةُ مِنَ الأمْرِ الَّذِي لا خَيْرَ فِيهِ لَهُ، إلّا لِكَوْنِهِ مُقْتَضى اسْتِعْدادِهِ، فالحَمْدُ لِلَّهِ عَلى كُلِّ حالٍ، ونَعُوذُ بِهِ مِن أحْوالِ أهْلِ الزَّيْغِ والضَّلالِ، وإنَّما قالَ سُبْحانَهُ: ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ﴾ ولَمْ يَقُلْ: عَلَيْكَ، لِأنَّ الإنْذارَ وعَدَمَهُ لَيْسا سَواءً لَدَيْهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، لِفَضِيلَةِ الإنْذارِ الواجِبِ عَلَيْهِ، عَلى تَرْكِهِ، وإذا أُرِيدَ بِالمَوْصُولِ ناسٌ مُعَيَّنُونَ عَلى أنَّهُ تَعْرِيفٌ عَهْدِيٌّ كَما مَرَّ، كانَ فِيهِ مُعْجِزَةٌ لِإخْبارِهِ بِالغَيْبِ، وهو مَوْتُ أُولَئِكَ عَلى الكُفْرِ، كَما كانَ،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب