الباحث القرآني
﴿وظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الغَمامَ﴾ عَطْفٌ عَلى ﴿بَعَثْناكُمْ﴾ وقِيلَ: عَلى (قُلْتُمْ)، والأوَّلُ أظْهَرُ لِلْقُرْبِ، والِاشْتِراكِ في المُسْنَدِ إلَيْهِ مَعَ التَّناسُبِ في المُسْنَدَيْنِ في كَوْنِ كُلٍّ مِنهُما نِعْمَةً بِخِلافِ (قُلْتُمْ)، فَإنَّهُ تَمْهِيدٌ لَها، وإفادَتُهُ تَأْخِيرُ التَّظْلِيلِ والإنْزالِ عَنْ واقِعَةِ طَلَبِهِمُ الرُّؤْيَةَ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ، لا بُدَّ لِتَرْكِ كَلِمَةِ (إذْ) ها هُنا مِن نُكْتَةٍ، ولَعَلَّها الِاكْتِفاءُ بِالدِّلالَةِ العَقْلِيَّةِ عَلى كَوْنِ كُلٍّ مِنهُما نِعْمَةً مُسْتَقِلَّةً مَعَ التَّحَرُّزِ عَنْ تَكْرارِها في ظَلَّلْنا، وأنْزَلْنا، والغَمامُ اسْمُ جِنْسٍ كَحَمامَةٍ وحَمامٍ، وهو السَّحابُ، وقِيلَ: ما ابْيَضَّ مِنهُ، وقالَ مُجاهِدٌ: هو أبْرَدُ مِنَ السَّحابِ، وأرَقُّ، وسُمِّيَ غَمامًا لِأنَّهُ يَغُمُّ وجْهَ السَّماءِ، ويَسْتُرُهُ، ومِنهُ الغَمُّ، والغَمَمُ، وهَلْ كانَ غَمامًا حَقِيقَةً أوْ شَيْئًا يُشْبِهُهُ وسُمِّيَ بِهِ؟ قَوْلانِ، والمَشْهُورُ الأوَّلُ، وهو مَفْعُولُ (ظَلَّلْنا)، عَلى إسْقاطِ حَرْفِ الجَرِّ، كَما تَقُولُ: ظَلَّلْتُ عَلى فُلانٍ بِالرِّداءِ، أوْ بِلا إسْقاطٍ، والمَعْنى: جَعَلْنا الغَمامَ عَلَيْكم ظُلَّةً، والظّاهِرُ أنَّ الخِطابَ لِجَمِيعِهِمْ، فَقَدْ رُوِيَ أنَّهم لَمّا أُمِرُوا بِقِتالِ الجَبّارِينَ، وامْتَنَعُوا، وقالُوا: ”اذْهَبُ أنْتَ ورَبُّك فَقاتَلا“ ابْتَلاهُمُ اللَّهُ تَعالى بِالتِّيهِ بَيْنَ الشّامِ ومِصْرَ أرْبَعِينَ سَنَةً، وشَكَوْا حَرَّ الشَّمْسِ، فَلَطَفَ اللَّهُ تَعالى بِهِمْ بِإظْلالِ الغَمامِ وإنْزالِ المَنِّ والسَّلْوى، وقِيلَ: لَمّا خَرَجُوا مِنَ البَحْرِ وقَعُوا بِأرْضٍ بَيْضاءَ عَفْراءَ، لَيْسَ فِيها ماءٌ ولا ظِلٌّ، فَشَكَوُا الحَرَّ، فَوُقُوا بِهِ، وقِيلَ: الَّذِينَ ظُلِّلُوا بِالغَمامِ بَعْضُ بَنِي إسْرائِيلَ، وكانَ اللَّهُ تَعالى قَدْ أجْرى العادَةَ فِيهِمْ أنَّ مَن عَبَدَ ثَلاثِينَ سَنَةً لا يُحْدِثُ فِيها ذَنْبًا أظَلَّتْهُ الغَمامَةُ، وكانَ فِيهِمْ جَماعَةٌ يُسَمَّوْنَ أصْحابَ غَمائِمَ، فامْتَنَّ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمْ فِيهِمْ مَن لَهُ هَذِهِ الكَرامَةُ الظّاهِرَةُ، والنِّعْمَةُ الباهِرَةُ، ﴿وأنْزَلْنا عَلَيْكُمُ المَنَّ والسَّلْوى﴾ المَنُّ اسْمُ جِنْسٍ لا واحِدَ لَهُ مِن لَفْظِهِ، والمَشْهُورُ أنَّهُ التُّرُنْجَبِينُ، وهو شَيْءٌ يُشْبِهُ الصَّمْغَ حُلْوٌ مَعَ شَيْءٍ مِنَ الحُمُوضَةِ، كانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ كالطَّلِّ مِن طُلُوعِ الفَجْرِ إلى طُلُوعِ الشَّمْسِ في كُلِّ يَوْمٍ، إلّا يَوْمَ السَّبْتِ، وكانَ كُلُّ شَخْصٍ مَأْمُورًا بِأنْ يَأْخُذَ قَدْرَ صاعٍ كُلَّ يَوْمٍ، أوْ ما يَكْفِيهِ يَوْمًا ولَيْلَةً، ولا يَدَّخِرَ إلّا يَوْمَ الجُمْعَةِ، فَإنَّ ادِّخارَ حِصَّةِ السَّبْتِ كانَ مُباحًا فِيهِ، وعَنْ وهَبٍ: إنَّهُ الخُبْزُ الرُّقاقُ، وقِيلَ: المُرادُ بِهِ جَمِيعُ ما مَنَّ اللَّهُ تَعالى (p-264)بِهِ عَلَيْهِمْ في التِّيهِ، وجاءَهم عَفْوًا بِلا تَعَبٍ، وإلَيْهِ ذَهَبَ الزَّجّاجُ، ويُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «(الكَمْأةُ مِنَ المَنِّ الَّذِي مَنَّ اللَّهُ تَعالى بِهِ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ)،» والسَّلْوى اسْمُ جِنْسٍ أيْضًا، واحِدُها سَلْواةٌ كَما قالَهُ الخَلِيلُ، ولَيْسَتِ الألِفُ فِيها لِلتَّأْنِيثِ، وإلّا لَما أُنِّثَتْ بِالهاءِ في قَوْلِهِ:
كَما انْتَفَضَ السَّلَواتُ مِن بَلَلِ القَطْرِ
وقالَ الكِسائِيُّ: السَّلْوى واحِدَةٌ وجَمْعُها سَلاوى، وعِنْدَ الأخْفَشِ الجَمْعُ والواحِدُ بِلَفْظٍ واحِدٍ، وقِيلَ: جَمْعٌ لا واحِدَ لَهُ مِن لَفْظِهِ، وهو طائِرٌ يُشْبِهُ السُّمانى أوْ هو السُّمانى بِعَيْنِها، وكانَتْ تَأْتِيهِمْ مِن جِهَةِ السَّماءِ بُكْرَةً وعَشِيًّا، أوْ مَتى أحَبُّوا، فَيَخْتارُونَ مِنها السَّمِينَ ويَتْرُكُونَ مِنها الهَزِيلَ، وقِيلَ: إنَّ رِيحَ الجَنُوبِ تَسُوقُها إلَيْهِمْ، فَيَخْتارُونَ مِنها حاجَتَهُمْ، ويَذْهَبُ الباقِي، وفي رِوايَةٍ: (كانَتْ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ مَطْبُوخَةً ومَشْوِيَّةً)، وسُبْحانَ مَن يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ، وذَكَرَ السَّدُوسِيُّ أنَّ السَّلْوى هو العَسَلُ بِلُغَةِ كِنانَةَ، ويُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الهُذَلِيِّ:
؎وقاسَمْتُها بِاللَّهِ جَهْرًا لَأنْتَمْ ألَذُّ مِنَ السَّلْوى إذا ما نَشُورُها
وقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: (إنَّهُ غَلَطٌ) غَلَطٌ، واشْتِقاقُها مِنَ السَّلْوَةِ لِأنَّها لِطِيبِها تُسَلِّي عَنْ غَيْرِها، وعَطْفُها عَلى بَعْضِ وُجُوهٍ المَنَّ مِن عَطْفِ الخاصِّ عَلى العامِّ اعْتِناءً بِشَأْنِهِ، ﴿كُلُوا مِن طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ﴾ أمْرُ إباحَةٍ عَلى إرادَةِ القَوْلِ، أيْ وقُلْنا، أوْ قائِلِينَ، والطَّيِّباتُ المُسْتَلَذّاتُ، وذَكَرَها لِلْمِنَّةِ عَلَيْهِمْ، أوِ الحَلالاتُ، فَهو لِلنَّهْيِ عَنِ الِادِّخارِ، (ومِن) لِلتَّبْعِيضِ، وأبْعَدَ مَن جَعَلَها لِلْجِنْسِ أوْ لِلْبَدَلِ، ومِثْلُهُ مَن زَعَمَ أنَّ هَذا عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ مِن عِوَضِ طَيِّباتٍ قائِلًا: إنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ عَوَّضَهم عَنْ جَمِيعِ مَآكِلِهِمُ المُسْتَلَذَّةِ مِن قَبْلُ بِالمَنِّ والسَّلْوى، فَكانا بَدَلًا مِنَ الطَّيِّباتِ، (وما) مَوْصُولَةٌ، والعائِدُ مَحْذُوفٌ، أيْ رَزَقْناكُمُوهُ، أوْ مَصْدَرِيَّةٌ، والمَصْدَرُ بِمَعْنى المَفْعُولِ، واسْتَنْبَطَ بَعْضُهم مِنَ الآيَةِ أنَّهُ لا يَكْفِي وضْعُ المالِكِ الطَّعامَ بَيْنَ يَدَيِ الإنْسانِ في إباحَةِ الأكْلِ، بَلْ لا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ إلّا بِإذْنِ المالِكِ، وهو أحَدُ أقْوالٍ في المَسْألَةِ، ﴿وما ظَلَمُونا﴾ عَطْفٌ عَلى مَحْذُوفٍ (فَعَصَوْا)، ولَمْ يُقابِلُوا النِّعَمَ بِالشُّكْرِ، أوْ فَظَلَمُوا بِأنْ كَفَرُوا هَذِهِ النِّعَمَ، وما ظَلَمُونا بِذَلِكَ، ويَجُوزُ كَما في البَحْرِ أنْ يُقَدَّرَ مَحْذُوفٌ لِأنَّهُ قَدْ صَدَرَ مِنهُمُ ارْتِكابُ قَبائِحَ مِنَ اتِّخاذِ العِجْلِ إلَهًا، وسُؤالِ رُؤْيَتِهِ تَعالى ظُلْمًا، وغَيْرِ ذَلِكَ، فَجاءَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما ظَلَمُونا﴾ بِجُمْلَةٍ مَنفِيَّةٍ تَدُلُّ عَلى أنَّ ما وقَعَ مِنهم مِن تِلْكَ القَبائِحِ لَمْ يَصِلْ إلَيْنا مِنها نَقْصٌ ولا ضَرَرٌ، وفي هَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لَيْسَ مِن شَرْطِ نَفْيِ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ إمْكانُ وُقُوعِهِ، لِأنَّ ظُلْمَ الإنْسانِ لِلَّهِ تَعالى لا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ البَتَّةَ، ﴿ولَكِنْ كانُوا أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ﴾ بِالكُفْرانِ، أوْ بِما فَعَلُوا إذْ لا يَتَخَطّاهم ضَرَرُهُ، وتَقْدِيمُ المَفْعُولِ لِلدِّلالَةِ عَلى القَصْرِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّفْيُ السّابِقُ، وفِيهِ ضَرْبُ تَهَكُّمٍ بِهِمْ، والجَمْعُ بَيْنَ صِيغَتَيِ الماضِي والمُسْتَقْبَلِ لِلدِّلالَةِ عَلى تَمادِيهِمْ في الظُّلْمِ، واسْتِمْرارِهِمْ عَلَيْهِ، وفي ذِكْرِ أنْفُسِهِمْ بِجَمْعِ القِلَّةِ تَحْقِيرٌ لَهُمْ، وتَقْلِيلٌ، والنَّفْسُ العاصِيَةُ أقَلُّ مِن كُلِّ قَلِيلٍ،
{"ayah":"وَظَلَّلۡنَا عَلَیۡكُمُ ٱلۡغَمَامَ وَأَنزَلۡنَا عَلَیۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰۖ كُلُوا۟ مِن طَیِّبَـٰتِ مَا رَزَقۡنَـٰكُمۡۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ یَظۡلِمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











