الباحث القرآني

﴿والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ وما أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبِالآخِرَةِ هم يُوقِنُونَ﴾ عَطْفٌ عَلى المَوْصُولِ الأوَّلِ مَفْصُولًا ومَوْصُولًا، والمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم أُنَّهم مُؤْمِنُو أهْلِ الكِتابِ، وحَيْثُ إنَّ المُتَبادِرَ مِنَ العَطْفِ أنَّ الإيمانَ بِكُلٍّ مِنَ المُنَزَّلَيْنِ عَلى طَرِيقِ الِاسْتِقْلالِ اخْتَصَّ ذَلِكَ بِهِمْ، لِأنَّ إيمانَ غَيْرِهِمْ بِما أُنْزِلَ مِن قَبْلُ إنَّما هو عَلى طَرِيقِ الإجْمالِ والتَّبَعِ لِلْإيمانِ بِالقُرْآنِ، لا سِيَّما في مَقامِ المَدْحِ، وقَدْ دَلَّتِ الآياتُ والأحادِيثُ عَلى أنَّ لِأهْلِ الكِتابِ أجْرَيْنِ بِواسِطَةِ ذَلِكَ، وبِهَذا غايَرُوا مَن قَبْلَهُمْ، وقِيلَ: التَّغايُرُ بِاعْتِبارِ أنَّ الإيمانَ الأوَّلَ بِالعَقْلِ، وهَذا بِالنَّقْلِ، أوْ بِأنَّ ذاكَ بِالغَيْبِ، وهَذا بِما عَرَفُوهُ، كَما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُمْ، فَأُولَئِكَ عَلى هُدًى حِينَئِذٍ إشارَةً إلى الطّائِفَةِ الأُولى، لِأنَّ إيمانَهم بِمَحْضِ الهِدايَةِ الرَّبّانِيَّةِ، ﴿وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ (p-120)إشارَةً إلى الثّانِيَةِ لِفَوْزِهِمْ بِما كانُوا يَنْتَظِرُونَهُ، أوْ بِأنَّ أُولَئِكَ مِن حَيْثُ المَجْمُوعُ كانَ فِيهِمْ شِرْكٌ، وهَؤُلاءِ لَمْ يُشْرِكُوا، ولَمْ يُنْكِرُوا، وقِيلَ التَّغايُرُ بِالعُمُومِ والخُصُوصِ، مِثْلُهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ﴾ والتَّخْصِيصُ هُنا بَعْدَ التَّعْمِيمِ لِلْإشارَةِ إلى الأفْضَلِيَّةِ مِن حَيْثِيَّةِ إنَّهم يُعْطَوْنَ أجْرَهم مَرَّتَيْنِ، وقَدْ يُوجَدُ في المَفْضُولِ ما لَيْسَ في الفاضِلِ، وفي ذَلِكَ تَرْغِيبُ أهْلِ الكِتابِ في الدُّخُولِ في الإسْلامِ، وقالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ هَؤُلاءِ الأوَّلُونَ بِأعْيانِهِمْ، وتَوْسِيطُ العَطْفِ جارٍ في الأسْماءِ والصِّفاتِ بِاعْتِبارِ تَغايُرِ المَفْهُوماتِ، ويَكُونُ بِالواوِ، والفاءِ، وثُمَّ بِاعْتِبارِ تَعاقُبِ الِانْتِقالِ في الأحْوالِ، والجَمْعُ المُسْتَفادُ مِنَ الواوِ هُنا واقِعٌ بَيْنَ مَعانِي الصِّفاتِ المَفْهُومَةِ مِنَ المُتَعاطِفَيْنِ، والإيمانُ الَّذِي مَعَ أوَّلِهِما إجْمالِيٌّ وعَقْلِيٌّ، ومَعَ ثانِيها تَفْصِيلِيٌّ ونَقْلِيٌّ، وإعادَةُ المَوْصُولِ لِلتَّنْبِيهِ عَلى تَغايُرِ القَبِيلَتَيْنِ، وتَبايُنِ السَّبِيلَيْنِ، وقَدْ يُعْطَفُ عَلى المُتَّقِينَ، والمَوْصُولُ غَيْرُ مَفْصُولٍ، لِما يَلْزَمُ عَلى الوَصْلِ الفَصْلُ بِأجْنَبِيٍّ بَيْنَ المُبْتَدَإ وخَبَرِهِ، والمَعْطُوفِ والمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، والتَّغايُرُ بَيْنَ المُتَعاطِفَيْنِ بِاعْتِبارِ أنَّ المُرادَ بِالمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مَن آمَنَ مِنَ العَرَبِ الَّذِينَ لَيْسُوا بِأهْلِ كِتابٍ، وبِالمَعْطُوفِ مَن آمَنَ بِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِن أهْلِ الكِتابِ، وقَدْ رَجَّحَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ احْتِمالَ أنْ يَكُونَ هَؤُلاءِ هُمُ الأوَّلُونَ، وتَوَسُّطُ الواوِ بَيْنَ الصِّفاتِ بِأنَّ الإيمانَ بِالمُنَزَّلَيْنِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ قاطِبَةً، فَلا وجْهَ لِتَخْصِيصِهِ بِمُؤْمِنِي أهْلِ الكِتابِ، والإفْرادُ بِالذِّكْرِ لا يَدُلُّ عَلى أنَّ الإيمانَ بِكُلِّ بِطَرِيقِ الِاسْتِقْلالِ فَقَدْ أفْرَدَ الكُتُبَ المُنَزَّلَةَ مِن قَبْلُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُولُوا آمَنّا بِاللَّهِ وما أُنْزِلَ إلَيْنا وما أُنْزِلَ إلى إبْراهِيمَ﴾ ولَمْ يَقْتَضِ الإيمانُ بِها عَلى الِانْفِرادِ، وبِأنَّ أهْلَ الكِتابِ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بِجَمِيعِ ما أُنْزِلَ مِن قَبْلُ، لِأنَّ اليَهُودَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالإنْجِيلِ، ودِينُهم مَنسُوخٌ بِهِ، وبِأنَّ الصِّفاتِ السّابِقَةَ ثابِتَةٌ لِمَن آمَنَ مِن أهْلِ الكِتابِ، فالتَّخْصِيصُ بِمَن عَداهم تَحَكُّمٌ، وجَعْلُ الكَلامِ مِن قَبِيلِ عَطْفِ الخاصِّ عَلى العامِّ لا يُلائِمُ المَقامَ. وأُجِيبُ، أمّا أوَّلًا، فَبِأنَّ المُتَبادِرَ مِنَ السِّياقِ الإيمانُ بِالِاسْتِقْلالِ لا سِيَّما في مَقامِ المَدْحِ، وإلَيْهِ يُشِيرُ ما جاءَ أنَّهم يُؤْتَوْنَ أجْرَهم مَرَّتَيْنِ، والخِطابُ في الآيَةِ لِلْمُسْلِمِينَ بِأنْ يَقُولُوا دُفْعَةً، ولَمْ يَعُدْ فِيها الإيمانُ والمُؤْمِنُ فَلا تُرَدُّ نَقْضًا، وأمّا ثانِيًا فَلِأنَّ إيمانَ أهْلِ الكِتابِ بِكُلِّ وحْيٍ إنَّما هو بِالنَّظَرِ إلى جَمِيعِهِمْ، فاليَهُودُ اشْتَمَلَ إيمانُهم عَلى القُرْآنِ، والتَّوْراةِ، والنَّصارى اشْتَمَلَ إيمانُهم عَلى الإنْجِيلِ أيْضًا، ويَكْفِي هَذا في تَوْجِيهِ المَرْوِيِّ عَمَّنْ شاهَدُوا نُزُولَ الوَحْيِ، ولا يُرْغَبُ عَنْهُ إذا أمْكَنَ تَوْجِيهُهُ، وكَوْنُ المَفْهُومِ المُتَبادِرِ ثُبُوتُ الحُكْمِ لِكُلِّ واحِدٍ إنْ سُلِّمَ لا يَرُدُّهُ، ولا يَرُدُّ أنَّ اليَهُودَ الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَهْدِ نَبِيِّنا صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَمْ يُؤْمِنُوا قَبْلَ ذَلِكَ بِالتَّوْراةِ، وإلّا لَتَنَصَّرُوا لِأنَّ فِيها نُبُوَّةَ عِيسى، كَما فِيها نُبُوَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، إذْ قَدْ ورَدَ فِيها: إنَّ اللَّهَ جاءَ مِن طُورِ سَيْناءَ، وظَهَرَ بِساعِيرَ، وعَلَنَ بِفارانَ، وساعِيرُ بَيْتُ المَقْدِسِ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ عِيسى، وفارانُ جِبالُ مَكَّةَ الَّتِي كانَتْ مَظْهَرَ المُصْطَفى صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، لِأنّا نَقُولُ: إنَّهم آمَنُوا بِالتَّوْراةِ، وتَأوَّلُوا ما دَلَّ مِنها عَلى نُبُوَّةِ المَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَبَعْضٌ أنْكَرَ نُبُوَّتَهُ رَأْسًا، ورَمَوْهُ بِما رَمَوْهُ، وحاشاهُ، وهُمُ الكَثِيرُونَ، وبَعْضٌ كالعِنانِيَّةِ قالُوا: إنَّهُ مِن أوْلِياءِ اللَّهِ تَعالى المُخْلِصِينَ العارِفِينَ بِأحْكامِ التَّوْراةِ، ولَيْسَ بِنَبِيٍّ، وهَؤُلاءِ قَلِيلُونَ مُخالِفُونَ لِسائِرِ اليَهُودِ في السَّبْتِ والأعْيادِ، ويَقْتَصِرُونَ عَلى أكْلِ الطَّيْرِ، والظِّباءِ، والسَّمَكِ، والجَرادِ، وهَذا الإيمانُ وإنْ لَمْ يَكُنْ نافِعًا في النَّجاةِ مِنَ النّارِ، إلّا أنَّهُ يُقَلِّلُ الشَّرَّ بِالنِّسْبَةِ إلى الكُفْرِ بِالتَّوْراةِ وإنْكارِها بِالكُلِّيَّةِ مَعَ الكُفْرِ بِعِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ، ورُبَّما يُمْدَحُونَ بِالنَّظَرِ إلى أصْلِ الإيمانِ بِها، وإنْ ذُمُّوا بِحَيْثِيَّةٍ أُخْرى، وكَأنَّهُ لِهَذا يُكْتَفى مِنهم بِالجِزْيَةِ، ولَمْ يَكُونُوا طُعْمَةً لِلسُّيُوفِ مُطْلَقًا، والقَوْلُ بِأنَّهم مُدِحُوا بَعْدَ إيمانِهِمْ بِالقُرْآنِ بِالإيمانِ بِالتَّوْراةِ نَظَرًا إلى أسْلافِهِمُ الَّذِينَ كانُوا عَلى عَهْدِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، فَإنَّهم مُؤْمِنُونَ بِها إيمانًا صَحِيحًا عَلى وجْهِها، كَما أنَّهم ذُمُّوا بِما صَنَعَ آباؤُهم عَلى عَهْدِهِ عَلى ما يَنْطِقُ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الآياتِ، لَيْسَ بِشَيْءٍ إذْ لا مَعْنى لِإيتائِهِمْ (p-121)أجْرَيْنِ حِينَئِذٍ، والفَرْقُ بَيْنَ البابَيْنِ واضِحٌ، ثُمَّ النَّسْخُ الَّذِي ادَّعاهُ المُرَجِّحُ خِلافُ ما ذَكَرَهُ الشَّهْرَسْتانِيُّ وغَيْرُهُ مِن أنَّ الإنْجِيلَ لَمْ يُبَيِّنْ أحْكامًا، ولا اسَتَبْطَنَ حَلالًا وحَرامًا، ولَكِنَّهُ رُمُوزٌ وأمْثالٌ ومَواعِظُ، والأحْكامُ مُحالَةٌ إلى التَّوْراةِ، وقَدْ قالَ المَسِيحُ: ما جِئْتُ لِأُبْطِلَ التَّوْراةَ بَلْ جِئْتُ لِأُكْمِلَها، وهَذا خِلافُ ما تَقْتَضِيهِ الظَّواهِرُ، وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى تَحْقِيقَهُ، وأمّا ثالِثًا فَلِأنَّ ثُبُوتَ الصِّفاتِ لِمَن آمَنَ مِن أهْلِ الكِتابِ لا يَضُرُّنا، لِأنَّها مَذْكُورَةٌ في الأوَّلِ صَرِيحًا، وفي الثّانِي التِزامًا، وأمّا رابِعًا فَلِأنّا لا نُسَلِّمُ أنَّ ذَلِكَ العَطْفَ لا يُلائِمُ المَقامَ، فَنِكاتُ عَطْفِ الخاصِّ عَلى العامِّ لا تَخْفى كَثْرَتُها عَلى ذَوِي الأفْهامِ، فَدَعْ ما مَرَّ، وخُذْ ما حَلا، وعِنْدِي بَعْدَ هَذا كُلِّهِ أنَّ الِاعْتِراضَ ذَكَرٌ والجَوابُ أُنْثى، لَكِنَّ الرِّوايَةَ دَعَتْ إلى ذَلِكَ، ولَعَلَّ أهْلَ مَكَّةَ أدْرى بِشِعابِها، وفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ، عَلى أنَّ الدِّرايَةَ قَدْ تُساعِدُهُ كَما قِيلَ، بِناءً عَلى أنَّ إعادَةَ المَوْصُولِ وتَوْصِيفِهِ بِالإيمانِ بِالمُنَزَّلَيْنِ مَعَ اشْتِراكِهِ بَيْنَ جَمِيعِ المُؤْمِنِينَ، واشْتِمالِ الإيمانِ بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ عَلى الإيمانِ بِما أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ يَسْتَدْعِي أنْ يُرادَ بِهِ مَن لَهم نَوْعُ اخْتِصاصٍ بِالصِّلَةِ، وهم مُؤْمِنُو أهْلِ الكِتابِ، حَيْثُ كانُوا مُطالَبِينَ بِالإيمانِ بِالقُرْآنِ خُصُوصًا، قالَ تَعالى: ﴿وآمِنُوا بِما أنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ﴾ مُؤْمِنِينَ بِالكُتُبِ اسْتِقْلالًا في الجُمْلَةِ بِخِلافِ سائِرِ المُؤْمِنِينَ، ثُمَّ المُتَبادِرُ مِن أهْلِ الكِتابِ أهْلُ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، وحَمْلُهُ عَلى أهْلِ الإنْجِيلِ خاصَّةً، وقَدْ آمَنَ مِنهم أرْبَعُونَ واثْنانِ وثَلاثُونَ جاءُوا مَعَ جَعْفَرٍ مِن أرْضِ الحَبَشَةِ، وثَمانِيَةٌ مِنَ الشّامِ، لا تُساعِدُهُ رِوايَةٌ ولا دِرايَةٌ كَما لا يَخْفى، والإنْزالُ الإيصالُ والإبْلاغُ، ولا يُشْتَرَطُ أنْ يَكُونَ مِن أعْلى خِلافًا لِمَنِ ادَّعاهُ نَحْوَ ﴿فَإذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ﴾ أيْ وصَلَ وحَلَّ، وإنْزالُ الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ قَدْ مَرَّ في المُقَدِّماتِ ما يُطْلِعُكَ إلى مَعارِجِهِ، وذُكِرَ أنَّ مَعْنى إنْزالِ القُرْآنِ أنَّ جِبْرِيلَ سَمِعَ كَلامَ اللَّهِ تَعالى كَيْفَ شاءَ اللَّهُ تَعالى، فَنَزَلَ بِهِ، أوْ أظْهَرَهُ في اللَّوْحِ كِتابَةً فَحَفِظَهُ المَلَكُ، وذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إلى أنَّهُ مِنَ المُتَشابِهِ الَّذِي نَجْزِمُ بِهِ مِن غَيْرِ بَحْثٍ عَنْ كَيْفِيَّتِهِ، وقالَ الحُكَماءُ: إنَّ نُفُوسَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ قُدْسِيَّةٌ، فَتَقْوى عَلى الِاتِّصالِ بِالمَلَإ الأعْلى، فَيَنْتَقِشُ فِيها مِنَ الصُّوَرِ ما يَنْتَقِلُ إلى القُوَّةِ المُتَخَيَّلَةِ والحِسِّ المُشْتَرَكِ، فَيَرى كالمُشاهِدِ، وهو الوَحْيُ، ورُبَّما يَعْلُو فَيَسْمَعُ كَلامًا مَنظُومًا، ويُشْبِهُ أنَّ نُزُولَ الكُتُبِ مِن هَذا، وعِنْدِي أنَّ هَذا قَدْ يَكُونُ لِأرْبابِ النُّفُوسِ القُدْسِيَّةِ، والأرْواحِ الإنْسِيَّةِ، إلّا أنَّ أمْرَ النُّبُوَّةِ وراءُ، وأيْنَ الثُّرَيّا مِن يَدِ المُتَناوِلِ. وفِعْلا الإنْزالِ مَبْنِيّانِ لِلْمَفْعُولِ، وقَرَأهُما النَّخَعِيُّ، وأبُو حَيْوَةَ، ويَزِيدُ بْنُ قُطَيْبٍ مَبْنِيَّيْنِ لِلْفاعِلِ، وقُرِئَ شاذًّا: (بِما أُنْزِلَّ إلَيْكَ) بِتَشْدِيدِ اللّامِ، ووَجْهُ ذَلِكَ أنَّهُ أسْكَنَ لامَ (أُنْزِلَ)، ثُمَّ حَذَفَ هَمْزَةَ (إلى) ونَقَلَ كَسْرَتَها إلى اللّامِ، فالتَقى المِثْلانِ فَأُدْغِمَ، وضَمِيرُ الفاعِلِ قِيلَ: اللَّهُ، وقِيلَ: جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، وفي البَحْرِ أنَّ فِيهِ التِفاتًا لِتَقَدُّمِ ”مِمّا رَزَقْناهم“ فَخَرَجَ مِن ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ إلى ضَمِيرِ الغَيْبَةِ، ولَوْ جَرى عَلى الأوَّلِ لَجاءَ: بِما أنْزَلْنا إلَيْكَ، وما أنْزَلْنا مِن قَبْلِكَ، وأتى سُبْحانَهُ بِصِلَةِ (ما) الأُولى فِعْلًا ماضِيًا، مَعَ أنَّ المُرادَ بِالمُنَزَّلِ جَمِيعُهُ لِاقْتِضاءِ السِّياقِ، والسِّباقِ لَهُ مِن تَرَتُّبِ الهُدى والفَلاحِ الكامِلَيْنِ عَلَيْهِ، ولِوُقُوعِهِ في مُقابَلَةِ ما أُنْزِلَ قَبْلُ، ولِاقْتِضاءِ (يُؤْمِنُونَ) المُنْبِئِ عَنِ الِاسْتِمْرارِ، والجَمِيعُ لَمْ يَنْزِلْ وقْتَ تَنَزُّلِ الآيَةِ لِأمْرَيْنِ: الأوَّلُ إنَّهُ تَغْلِيبٌ لِما وُجِدَ نُزُولُهُ عَلى ما لا يُوجَدُ، فَهو مِن قَبِيلِ إطْلاقِ الجُزْءِ عَلى الكُلِّ، والثّانِي تَشْبِيهُ جَمِيعِ المُنَزَّلِ بِشَيْءٍ نَزَلَ في تَحَقُّقِ الوُقُوعِ، لِأنَّ بَعْضَهُ نَزَلَ وبَعْضَهُ سَيَنْزِلُ قَطْعًا، فَيَصِيرُ إنْزالُ مَجْمُوعِهِ مُشَبَّهًا بِإنْزالِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي نَزَلَ، فَتُسْتَعارُ صِيغَةُ الماضِي مِن إنْزالِهِ لِإنْزالِ المَجْمُوعِ، هَذا ما حَقَّقَهُ مَن يُعْقَدُ عِنْدَ ذِكْرِهِمُ الخَناصِرُ، وفِيهِ دَغْدَغَةٌ كُبْرى، وأهْوَنُ مِنهُ أنَّ التَّعْبِيرَ بِالماضِي هُنا لِلْمُشاكَلَةِ لِوُقُوعِ غَيْرِ المُتَحَقِّقِ في صُحْبَةِ المُتَحَقِّقِ، وأهْوَنُ مِن ذَلِكَ كُلِّهِ أنَّ المُرادَ بِهِ حَقِيقَةُ الماضِي، ويَدُلُّ عَلى الإيمانِ بِالمُسْتَقْبَلِ بِدِلالَةِ النَّصِّ، وما قِيلَ مِن أنَّ الإيمانَ بِما سَيَنْزِلُ لَيْسَ بِواجِبٍ إلّا أنَّ حَمْلَهُ عَلى الجَمِيعِ أكْمَلُ، فَلِذا اقْتُصِرَ عَلَيْهِ، لا وجْهَ لَهُ، إذْ لا شُبْهَةَ في أنَّهُ يَلْزَمُ المُؤْمِنَ أنْ يُؤْمِنَ بِما (p-122)نَزَلَ، وبِأنَّ كُلَّ ما سَيَنْزِلُ حَقٌّ، وإنْ لَمْ يَجِبْ تَفْصِيلُهُ وتَعْيِينُهُ، وقَدْ ذَكَرَ العُلَماءُ أنَّ الإيمانَ إجْمالًا بِالكُتُبِ المُنَزَّلَةِ مُطْلَقًا فَرْضُ عَيْنٍ، وتَفْصِيلًا بِالقُرْآنِ المُتَعَبَّدِ بِتَفاصِيلِهِ فَرْضُ كِفايَةٍ، إذْ لَوْ كانَ فَرْضَ عَيْنٍ أدّى إلى الحَرَجِ والمَشَقَّةِ، والدِّينُ يُسْرٌ لا عُسْرٌ، وهَذا مِمّا لا شُبْهَةَ فِيهِ، حَتّى قالَ الدَّوانِيُّ: يَجِبُ عَلى الكِفايَةِ تَفْصِيلُ الدَّلائِلِ الأُصُولِيَّةِ بِحَيْثُ يُتَمَكَّنُ مَعَهُ مِن إزالَةِ الشُّبَهِ، وإلْزامِ المُعانِدِينَ، وإرْشادِ المُسْتَرْشِدِينَ، وذَكَرَ الفُقَهاءُ أنَّهُ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ في كُلِّ حَدٍّ مِن مَسافَةِ القَصْرِ شَخْصٌ مُتَّصِفٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، ويُسَمّى المَنصُوبَ لِلذَّبِّ، ويَحْرُمُ عَلى الإمامِ إخْلاؤُها مِن ذَلِكَ، كَما يَحْرُمُ إخْلاؤُها عَنِ العالِمِ بِالأحْكامِ الَّتِي يَحْتاجُ إلَيْها العامَّةُ، وقِيلَ: لا بُدَّ مِن شَخْصٍ كَذَلِكَ في كُلِّ إقْلِيمٍ، وقِيلَ: يَكْفِي وُجُودُهُ في جَمِيعِ البِلادِ المَعْمُورَةِ الإسْلامِيَّةِ، ولَعَلَّ هَذا التَّنَزُّلَ لِنُزُولِ الأمْرِ، وقِلَّةِ عُلَماءِ الدِّينِ في الدُّنْيا، بِهَذا العَصْرِ. ؎أمْسَتْ يَبابًا وأمْسى أهْلُها احْتَمَلُوا أخْنى عَلَيْها الَّذِي أخْنى عَلى لُبَدِ وإلى اللَّهِ تَعالى المُشْتَكى وإلَيْهِ المُلْتَجى ؎إلى اللَّهِ أشْكُو إنَّ في القَلْبِ حاجَةً ∗∗∗ تَمُرُّ بِها الأيّامُ وهي كَما هَيا (والآخِرَةُ) تَأْنِيثُ الآخِرِ اسْمِ فاعِلٍ مِن أخَرَ الثُّلاثِيِّ بِمَعْنى تَأخَّرَ وإنْ لَمْ يُسْتَعْمَلْ، كَما أنَّ الآخَرَ بِفَتْحِ الخاءِ اسْمُ تَفْضِيلٍ مِنهُ، وهي صِفَةٌ في الأصْلِ كَما في الدّارِ الآخِرَةِ، ويُنْشِيءُ النَّشْأةَ الآخِرَةَ، ثُمَّ غَلَبَتْ كالدُّنْيا، والوَصْفُ الغالِبُ قَدْ يُوصَفُ بِهِ دُونَ الِاسْمِ الغالِبِ، فَلا يُقالُ: قَيْدٌ أدْهَمُ، لِلُزُومِ التَّكْرارِ في المَفْهُومِ، وهو وإنْ كانَ مِنَ الدُّهْمَةِ إلّا أنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُ مَن لا تَخْطُرُ بِبالِهِ أصْلًا، فافْهَمْ، وقَدْ تُضافُ الدّارُ لَها كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَدارُ الآخِرَةِ﴾ أيْ دارُ الحَياةِ الآخِرَةِ، وقَدْ يُقابَلُ بِالأُولى، كَقَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿لَهُ الحَمْدُ في الأُولى والآخِرَةِ﴾ والمَعْنى هُنا الدّارُ الآخِرَةُ أوِ النَّشْأةُ الآخِرَةُ، والجُمْهُورُ عَلى تَسْكِينِ لامِ التَّعْرِيفِ، وإقْرارِ الهَمْزَةِ الَّتِي تَكُونُ بَعْدَها لِلْقَطْعِ، ووَرْشٌ يَحْذِفُ، ويَنْقُلُ الحَرَكَةَ إلى اللّامِ، (والإيقانُ) التَّحَقُّقُ لِلشَّيْءِ كَسُكُونِهِ ووُضُوحِهِ، يُقالُ: يَقَنَ الماءُ إذا سَكَنَ وظَهَرَ ما تَحْتَهُ، وهو واليَقِينُ بِمَعْنًى خِلافًا لِمَن وهِمَ فِيهِ، قالَ الجَوْهَرِيُّ: اليَقِينُ العِلْمُ وزَوالُ الشَّكِّ، يُقالُ مِنهُ: يَقِنْتُ بِالكَسْرِ يَقِينًا، وأيْقَنْتُ واسْتَيْقَنْتُ كُلُّها بِمَعْنًى، وذَهَبَ الواحِدِيُّ وجَماعَةٌ إلى أنَّهُ ما يَكُونُ عَنْ نَظَرٍ واسْتِدْلالٍ فَلا يُوصَفُ بِهِ البَدِيهِيُّ، ولا عِلْمُ اللَّهِ تَعالى. وذَهَبَ الإمامُ النَّسَفِيُّ وبَعْضُ الأئِمَّةِ إلى أنَّهُ العِلْمُ الَّذِي لا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ، وعَدَمُ وصْفِ الحَقِّ سُبْحانَهُ وتَعالى بِهِ لِعَدَمِ التَّوْقِيفِ، وذَهَبَ آخَرُونَ إلى أنَّهُ العِلْمُ بِالشَّيْءِ بَعْدَ أنْ كانَ صاحِبُهُ شاكًّا فِيهِ، سَواءٌ كانَ ضَرُورِيًّا أوِ اسْتِدْلالِيًّا، وذَكَرَ الرّاغِبُ أنَّ اليَقِينَ مِن صِفَةِ العِلْمِ فَوْقَ المَعْرِفَةِ، والدِّرايَةِ، وأخَواتِها، يُقالُ: عِلْمُ يَقِينٍ، ولا يُقالُ: مَعْرِفَةُ يَقِينٍ، وهو سُكُونُ النَّفْسِ مَعَ ثَباتِ الحُكْمِ، وفي (الإحْياءِ)، والقَلْبُ إلَيْهِ يَمِيلُ، أنَّ اليَقِينَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ، الأوَّلُ عَدَمُ الشَّكِّ فَيُطْلَقُ عَلى كُلِّ ما لا شَكَّ فِيهِ، سَواءٌ حَصَلَ بِنَظَرٍ، أوْ حِسٍّ، أوْ غَرِيزَةِ عَقْلٍ، أوْ بِتَواتُرٍ، أوْ دَلِيلٍ، وهَذا لا يَتَفاوَتُ، الثّانِي وهو ما صَرَّحَ بِهِ الفُقَهاءُ والصُّوفِيَّةُ، وكَثِيرٌ مِنَ العُلَماءِ، وهو ما لا يُنْظَرُ فِيهِ إلى التَّجْوِيزِ، والشَّكِّ بَلْ إلى غَلَبَتِهِ عَلى القَلْبِ حَتّى يُقالَ: فُلانٌ ضَعِيفُ اليَقِينِ بِالمَوْتِ، وقَوِيُّ اليَقِينِ بِإثْباتِ الرِّزْقِ، فَكُلُّ ما غَلَبَ عَلى القَلْبِ واسْتَوْلى عَلَيْهِ فَهو يَقِينٌ، وتَفاوُتُ هَذا ظاهِرٌ، وقَرَأ الجُمْهُورُ (يُوقِنُونَ) بِواوٍ ساكِنَةٍ بَعْدَ الياءِ، وهي مُبْدَلَةٌ مِنها، لِأنَّهُ مِن أيْقَنَ، وقَرَأ النُّمَيْرِيُّ بِهَمْزَةٍ ساكِنَةٍ بَدَلَ الواوِ، وشاعَ عِنْدَهم أنَّ الواوَ إذا ضُمَّتْ ضَمَّةً غَيْرَ عارِضَةٍ كَما فُصِّلَ في العَرَبِيَّةِ يَجُوزُ إبْدالُها هَمْزَةً كَما قِيلَ في وُجُوهٍ جَمْعِ وجْهٍ أجُوهٌ، فَلَعَلَّ الإبْدالَ هُنا لِمُجاوَرَتِها لِلْمَضْمُومِ، فَأُعْطِيَتْ حُكْمَهُ، وقَدْ يُؤْخَذُ الجارُ بِظُلْمِ الجارِ، وغايَرَ سُبْحانَهُ بَيْنَ الإيمانِ بِالمُنَزَّلِ والإيمانِ بِالآخِرَةِ، فَلَمْ يَقُلْ: وبِالآخِرَةِ هم يُؤْمِنُونَ، دَفْعًا لِكُلْفَةِ التَّكْرارِ أوْ لِكَثْرَةِ غَرائِبِ مُتَعَلِّقاتِ الآخِرَةِ، وما أُعِدَّ فِيها مِنَ الثَّوابِ، (p-123)والعِقابِ، وتَفْصِيلِ أنْواعِ التَّنْعِيمِ والتَّعْذِيبِ، ونَشْأةِ أصْحابِهِما عَلى خِلافِ النَّشْأةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، مَعَ إثْباتِ المَعادِ الجِسْمانِيِّ كَيْفَما كانَ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا هو أغْرَبُ مِنَ الإيمانِ بِالكِتابِ المُنَزَّلِ، حَتّى أنْكَرَهُ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ، وخَلا عَنْ تَفاصِيلِهِ عَلى ما عِنْدَنا التَّوْراةُ والإنْجِيلُ، فَلَيْسَ في الأوَّلِ عَلى ما في شَرْحِ الطَّوالِعِ ذِكْرُ المَعادِ الجِسْمانِيِّ، وإنَّما ذُكِرَ في كُتُبِ حِزْقِيلَ وأشْعِياءَ، والمَذْكُورُ في الإنْجِيلِ إنَّما هو المَعادُ الرُّوحانِيُّ، فَناسَبَ أنَّ يَقْرِنَ هَذا الأمْرَ المُهِمَّ الغَرِيبَ الَّذِي حارَتْ عُقُولُ الكَثِيرِينَ في إثْباتِهِ، وتَهافَتُوا عَلى إنْكارِهِ تَهافُتَ الفَراشِ عَلى النّارِ بِالإيقانِ، وهو هو إظْهارًا لِكَمالِ المَدْحِ وإبْداءً لِغايَةِ الثَّناءِ، وتَقْدِيمُ المَجْرُورِ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ إيقانَهم مَقْصُورٌ عَلى حَقِيقَةِ الآخِرَةِ لا يَتَعَدّاها إلى خِلافِ حَقِيقَتِها مِمّا يَزْعُمُهُ اليَهُودُ مَثَلًا، حَيْثُ قالُوا: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلا مَن كانَ هُودًا﴾ و﴿لَنْ تَمَسَّنا النّارُ إلا أيّامًا مَعْدُودَةً﴾ وزَعَمُوا أنَّهم يَتَلَذَّذُونَ بِالنَّسِيمِ، والأرْواحِ إذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الآخِرَةِ في شَيْءٍ، وفي بَناءِ (يُوقِنُونَ) عَلى (هُمْ) إشارَةٌ إلى أنَّ اعْتِقادَ مُقابِلِيهِمْ في الآخِرَةِ جَهْلٌ مَحْضٌ وتَخْيِيلٌ فارِغٌ، ولَيْسُوا مِنَ اليَقِينِ في ظِلٍّ ولا فَيْءٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب