الباحث القرآني

﴿وإذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ﴾ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِمُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ الكَلامُ، كانْقادُوا، وأطاعُوا، والعَطْفُ مِن عَطْفِ القِصَّةِ عَلى القِصَّةِ، وفي كُلٍّ تَعْدادُ النِّعْمَةِ مَعَ أنَّ الأوَّلَ تَحْقِيقٌ لِلْفَضْلِ، وهَذا اعْتِرافٌ بِهِ، ولا يَصِحُّ عَطْفُ الظَّرْفِ عَلى الظَّرْفِ بِناءً عَلى اللّائِقِ الَّذِي قَدَّمْناهُ لِاخْتِلافِ الوَقْتَيْنِ، وجُوِّزَ عَلى أنَّ نَصْبَ السّابِقِ بِمُقَدَّرٍ، والسُّجُودُ في الأصْلِ تَذَلُّلٌ مَعَ انْخِفاضٍ بِانْحِناءٍ، وغَيْرِهِ، وفي الشَّرْعِ: وضْعُ الجَبْهَةِ عَلى قَصْدِ العِبادَةِ، وفي المَعْنى المَأْمُورِ بِهِ هُنا خِلافٌ فَقِيلَ: المَعْنى الشَّرْعِيُّ والمَسْجُودُ لَهُ في الحَقِيقَةِ هو اللَّهُ تَعالى، وآدَمُ إمّا قَبْلَهُ أوْ سَبَبٌ، واعْتُرِضَ بِأنَّ لَوْ كانَ كَذَلِكَ ما امْتَنَعَ إبْلِيسُ، وبِأنَّهُ لا يَدُلُّ عَلى تَفْضِيلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَيْهِمْ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أرَأيْتَكَ هَذا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ﴾ يَدُلُّ عَلَيْهِ، ألا تَرى أنَّ الكَعْبَةَ لَيْسَتْ بِأكْرَمَ مِمَّنْ سَجَدَ إلَيْها؟ وأُجِيبَ بِالتِباسِ الأمْرِ عَلى إبْلِيسَ، وبِأنَّ التَّكْرِيمَ يَجْعَلُهُ جِهَةً لِهَذِهِ العِبادَةِ دُونَهُمْ، ولا يَخْفى ما فِيهِ مِنَ الدِّلالَةِ عَلى عَظَمَةِ الشَّأْنِ، كَما في جَعْلِ الكَعْبَةِ قِبْلَةً مِن بَيْنِ سائِرِ الأماكِنِ، ومِنَ النّاسِ مَن جَوَّزَ كَوْنَ المَسْجُودِ لَهُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ حَقِيقَةً، مُدَّعِيًا أنَّ السُّجُودَ لِلْمَخْلُوقِ إنَّما مُنِعَ في شَرْعِنا، وفِيهِ أنَّ السُّجُودَ الشَّرْعِيَّ عِبادَةٌ، وعِبادَةُ غَيْرِهِ سُبْحانَهُ شِرْكٌ مُحَرَّمٌ في جَمِيعِ الأدْيانِ والأزْمانِ، ولا أُراها حَلَّتْ في عَصْرٍ مِنَ الأعْصارِ، وقِيلَ: المَعْنى اللُّغَوِيُّ ولَمْ يَكُنْ فِيهِ وضْعُ (p-229)الجِباهِ، بَلْ كانَ مُجَرَّدَ تَذَلُّلٍ، وانْقِيادٍ، فاللّامُ إمّا باقِيَةٌ عَلى ظاهِرِها، وإمّا بِمَعْنى إلى، مِثْلُها في قَوْلِ حَسّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ؎ألَيْسَ أوَّلَ مَن صَلّى لِقِبْلَتِكم وأعْرَفَ النّاسِ بِالقُرْآنِ والسُّنَنِ أوْ لِلسَّبَبِيَّةِ، مِثْلُها في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ وحِكْمَةُ الأمْرِ بِالسُّجُودِ إظْهارُ الِاعْتِرافِ بِفَضْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، والِاعْتِذارُ عَمّا قالُوا فِيهِ مَعَ الإشارَةِ إلى أنَّ حَقَّ الأُسْتاذِ عَلى مَن عَلَّمَهُ حَقٌّ عَظِيمٌ، وغَيَّرَ سُبْحانَهُ الأُسْلُوبَ حَيْثُ قالَ أوَّلًا: ﴿وإذْ قالَ رَبُّكَ﴾ وهُنا ﴿وإذْ قُلْنا﴾ بِضَمِيرِ العَظَمَةِ، لِأنَّ في الأوَّلِ خَلْقَ آدَمَ واسْتِخْلافَهُ، فَناسَبَ ذِكْرَ الرُّبُوبِيَّةِ مُضافًا إلى أحَبِّ خُلَفائِهِ إلَيْهِ، وهُنا المَقامُ مَقامُ إيرادِ أمْرٍ يُناسِبُ العَظَمَةَ، وأيْضًا في السُّجُودِ تَعْظِيمٌ، فَلَمّا أمَرَ بِفِعْلِهِ لِغَيْرِهِ أشارَ إلى كِبْرِيائِهِ الغَنِيَّةِ عَنِ التَّعْظِيمِ، وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ بِضَمِّ تاءِ المَلائِكَةِ إتْباعًا لِضَمِّ الجِيمِ، وهي لُغَةُ أزْدِشَنُوأةَ، وهي لُغَةٌ غَرِيبَةٌ عَرَبِيَّةٌ ولَيْسَتْ بِخَطَإٍ كَما ظَنَّ الفارِسِيُّ، فَقَدْ رُوِيَ أنَّ امْرَأةً رَأتْ بَناتِها مَعَ رَجُلٍ، فَقالَتْ: أفِي السَّوْأةِ تَنْتُنَّهْ، تُرِيدُ أفِي السَّوْأةِ أنْتُنَّهْ. ﴿فَسَجَدُوا إلا إبْلِيسَ﴾ الفاءُ لِإفادَةِ مُسارَعَتِهِمْ في الِامْتِثالِ وعَدَمِ تَثَبُّطِهم فِيهِ، (وإبْلِيسُ) اسْمٌ أعْجَمِيٌّ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ، والعُجْمَةِ، ووَزْنُهُ فِعْلِيلٌ قالَهُ الزَّجّاجُ، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ وغَيْرُهُ: إنَّهُ عَرَبِيٌّ مُشْتَقٌّ مِنَ الإبْلاسِ، وهو الإبْعادِ مِنَ الخَيْرِ، أوِ اليَأْسِ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ تَعالى، ووَزْنُهُ عَلى هَذا مِفْعِيلٌ، ومَنعُهُ مِنَ الصَّرْفِ حِينَئِذٍ لِكَوْنِهِ لا نَظِيرَ لَهُ في الأسْماءِ، واعْتُرِضَ بِأنَّ ذَلِكَ لَمْ يُعَدَّ مِن مَوانِعِ الصَّرْفِ مَعَ أنَّ لَهُ نَظائِرَ، كَإحْلِيلٍ وإكْلِيلٍ، وفِيهِ نَظَرٌ، وقِيلَ: لِأنَّهُ شَبِيهٌ بِالأسْماءِ الأعْجَمِيَّةِ، إذْ لَمْ يُسَمَّ بِهِ أحَدٌ مِنَ العَرَبِ، ولَيْسَ بِشَيْءٍ، واخْتَلَفَ النّاسُ فِيهِ، هَلْ هو مِنَ المَلائِكَةِ أمْ مِنَ الجِنِّ؟ فَذَهَبَ إلى الثّانِي جَماعَةٌ مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلا إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنِّ﴾ وبِأنَّ المَلائِكَةَ لا يَسْتَكْبِرُونَ وهو قَدِ اسْتَكْبَرَ، وبِأنَّ المَلائِكَةَ كَما رَوى مُسْلِمٌ عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها خُلِقُوا مِنَ النُّورِ، وخُلِقَ الجِنُّ مِن مارِجٍ مِن نارٍ، وهو قَدْ خُلِقَ مِمّا خُلِقَ الجِنُّ، كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى حِكايَةً عَنْهُ: ﴿أنا خَيْرٌ مِنهُ خَلَقْتَنِي مِن نارٍ وخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ وعُدَّ تَرْكُهُ السُّجُودَ إباءً، واسْتِكْبارًا حِينَئِذٍ إمّا لِأنَّهُ كانَ ناشِئًا بَيْنَ المَلائِكَةِ مَغْمُورًا بِالأُلُوفِ مِنهم فَغَلَبُوا عَلَيْهِ، وتَناوَلَهُ الأمْرُ، ولَمْ يَمْتَثِلْ، أوْ لِأنَّ الجِنَّ أيْضًا كانُوا مَأْمُورِينَ مَعَ المَلائِكَةِ، لَكِنَّهُ اسْتَغْنى بِذِكْرِهِمْ لِمَزِيدِ شَرَفِهِمْ عَنْ ذِكْرِ الجِنِّ، أوْ لِأنَّهُ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ كانَ مَأْمُورًا صَرِيحًا لا ضِمْنًا كَما يُشِيرُ إلَيْهِ ظاهِرُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إذْ أمَرْتُكَ﴾ وضَمِيرُ ﴿فَسَجَدُوا﴾ راجِعٌ لِلْمَأْمُورِينَ بِالسُّجُودِ، وذَهَبَ جُمْهُورُ العُلَماءِ مِنَ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ إلى الأوَّلِ، مُسْتَدِلِّينَ بِظاهِرِ الِاسْتِثْناءِ، وتَصْحِيحُهُ بِما ذُكِرَ تَكَلُّفٌ، لِأنَّهُ وإنْ كانَ واحِدًا مِنهم لَكِنْ كانَ رَئِيسَهُمْ، ورَأْسَهم كَما نَطَقْتْ بِهِ الآثارُ، فَلَمْ يَكُنْ مَغْمُورًا بَيْنَهُمْ، ولِأنَّ صَرْفَ الضَّمِيرِ إلى مُطْلَقِ المَأْمُورِينَ مَعَ أنَّهُ في غايَةِ البُعْدِ لَمْ يَثْبُتْ، إذْ لَمْ يُنْقَلْ أنَّ الجِنَّ سَجَدُوا لِآدَمَ سِوى إبْلِيسَ، وكَوْنُهُ مَأْمُورًا صَرِيحًا الآيَةُ غَيْرُ صَرِيحَةٍ فِيهِ، ودُونَ إثْباتِهِ خَرْطُ القَتادِ، واقْتِضاءُ ما ذُكِرَ مِنَ الآيَةِ كَوْنَهُ مِن جِنْسِ الجِنِّ مَمْنُوعٌ لِجَوازِ أنْ يُرادَ كَوْنُهُ مِنهم فِعْلًا، وقَوْلُهُ تَعالى ﴿فَفَسَقَ﴾ كالبَيانِ لَهُ، ويَجُوزُ أيْضًا أنْ يَكُونَ كانَ بِمَعْنى صارَ، كَما رُوِيَ أنَّهُ مُسِخَ بِسَبَبِ هَذِهِ المَعْصِيَةِ، فَصارَ جِنِّيًّا، كَما مُسِخَ اليَهُودُ، فَصارُوا قِرَدَةً وخَنازِيرَ، سَلَّمْنا، لَكِنْ لا مُنافاةَ بَيْنَ كَوْنِهِ جِنًّا، وكَوْنِهِ مَلَكًا، فَإنَّ الجِنَّ كَما يُطْلَقُ عَلى ما يُقابِلُ المَلَكَ يُقالُ عَلى نَوْعٍ مِنهُ عَلى ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، وكانُوا خَزَنَةَ الجَنَّةِ، أوْ صاغَةَ حُلِيِّهِمْ، وقِيلَ: صِنْفٌ مِنَ المَلائِكَةِ، لا تَراهُمُ المَلائِكَةُ مِثْلَنا، أوْ أنَّهُ يُقالُ لِلْمَلائِكَةِ جِنٌّ أيْضًا كَما قالَهُ ابْنُ إسْحاقَ لِاجْتِنانِهِمْ واسْتِتارِهِمْ عَنْ أعْيُنِ النّاسِ، وبِذَلِكَ (p-230)فَسَرَّ بَعْضُهم قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وجَعَلُوا بَيْنَهُ وبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَبًا﴾ ووَرَدَ مِثْلُهُ في كَلامِ العَرَبِ، فَقَدْ قالَ الأعْشى في سَيِّدِنا سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ؎وسَخَّرَ مِن جِنِّ المَلائِكِ تِسْعَةً ∗∗∗ قِيامًا لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلا أجْرِ وكَوْنُ المَلائِكَةِ لا يَسْتَكْبِرُونَ، وهو قَدِ اسْتَكْبَرَ لا يَضُرُّ، إمّا لِأنَّ مِنَ المَلائِكَةِ مَن لَيْسَ بِمَعْصُومٍ، وإنْ كانَ الغالِبُ فِيهِمُ العِصْمَةَ عَلى العَكْسِ مِنّا، وفي عَقِيدَةِ أبِي المُعِينِ النَّسَفِيِّ ما يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، وإمّا لِأنَّ إبْلِيسَ سَلَبَهُ اللَّهُ تَعالى الصِّفاتِ المَلَكِيَّةَ، وألْبَسَهُ ثِيابَ الصِّفاتِ الشَّيْطانِيَّةِ، فَعَصى عِنْدَ ذَلِكَ، والمَلَكُ ما دامَ مَلَكًا لا يَعْصِي. ومَن ذا الَّذِي يا مَيُّ لا يَتَغَيَّرُ وكَوْنُهُ مَخْلُوقًا مِن نارٍ وهم مَخْلُوقُونَ مِن نُورٍ غَيْرُ ضارٍّ أيْضًا، ولا قادِحٍ في مَلَكِيَّتِهِ، لِأنَّ النّارَ والنُّورَ مُتَّحِدا المادَّةِ بِالجِنْسِ، واخْتِلافُهُما بِالعَوارِضِ عَلى أنَّ ما في أثَرِ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها مِن خَلْقِ المَلائِكَةِ مِنَ النُّورِ جارٍ مَجْرى الغالِبِ، وإلّا خالَفَهُ كَثِيرٌ مِن ظَواهِرِ الآثارِ، إذْ فِيها أنَّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَ مَلائِكَةً مِن نارٍ، ومَلائِكَةً مِن ثَلْجٍ، ومَلائِكَةً مِن هَذا، وهَذِهِ، ووَرَدَ أنَّ تَحْتَ العَرْشِ نَهْرًا إذا اغْتَسَلَ فِيهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وانْتَفَضَ يُخْلَقُ مِن كُلِّ قَطْرَةٍ مِنهُ مَلَكٌ، وأفْهَمَ كَلامُ البَعْضِ أنَّهُ يَحْتَمِلُ أنَّ ضَرْبًا مِنَ المَلائِكَةِ لا يُخالِفُ الشَّياطِينَ بِالذّاتِ، وإنَّما يُخالِفُهم بِالعَوارِضِ والصِّفاتِ، كالبَرَرَةِ والفَسَقَةِ مِنَ الإنْسِ والجِنِّ، يَشْمَلُهُما، وكانَ إبْلِيسُ مِن هَذا الصِّنْفِ، فَعُدَّهُ ما شِئْتَ مِن مَلَكٍ وجِنٍّ وشَيْطانٍ، وبِذَلِكَ يَحْصُلُ الجَمْعُ بَيْنَ الأقْوالِ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الحالِ. ثُمَّ المَشْهُورُ أنَّ الِاسْتِثْناءَ مُتَّصِلٌ إنْ كانَ مِنَ المَلائِكَةِ، ومُنْقَطِعٌ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنهُمْ، وقَدْ عَلِمْتَ تَكَلُّفَهم لِاتِّصالِهِ مَعَ قَوْلِهِمْ بِالثّانِي، وقَدْ شاعَ عِنْدَ النُّحاةِ، والأُصُولِيِّينَ أنَّ المُنْقَطِعَ هو المُسْتَثْنى مِن غَيْرِ جِنْسِهِ، والمُتَّصِلَ هو المُسْتَثْنى مِن جِنْسِهِ، قالَ القَرافِيُّ في العِقْدِ المَنظُومِ: وهو غَلَطٌ فِيهِما، فَإنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿لا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ إلا أنْ تَكُونَ تِجارَةً﴾ و﴿لا يَذُوقُونَ فِيها المَوْتَ إلا المَوْتَةَ الأُولى﴾ ﴿وما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلا خَطَأً﴾ الِاسْتِثْناءُ فِيهِ مُنْقَطِعٌ مَعَ أنَّ المُسْتَثْنى مِن جِنْسِ ما قَبْلَهُ، فَيَبْطُلُ الحَدّانِ، والحَقُّ أنَّ المُتَّصِلَ ما حُكِمَ فِيهِ عَلى جِنْسِ ما حَكَمْتَ عَلَيْهِ أوَّلًا بِنَقِيضِ ما حَكَمْتَ بِهِ، ولا بُدَّ مِن هَذَيْنِ القَيْدَيْنِ، فَمَتى انْخَرَمَ أحَدُهُما فَهو مُنْقَطِعٌ بِأنْ كانَ غَيْرَ الجِنْسِ سَواءٌ حُكِمَ عَلَيْهِ بِنَقِيضِهِ أوْ لا، نَحْوَ: رَأيْتُ القَوْمَ إلّا فَرَسًا، فالمُنْقَطِعُ نَوْعانِ، والمُتَّصِلُ نَوْعٌ واحِدٌ، ويَكُونُ المُنْقَطِعُ كَنَقِيضِ المُتَّصِلِ، فَإنَّ نَقِيضَ المُرَكَّبِ بِعَدَمِ أجْزائِهِ، فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يَذُوقُونَ﴾ إلَخْ، مُنْقَطِعٌ بِسَبَبِ الحُكْمِ بِغَيْرِ النَّقِيضِ لِأنَّ نَقِيضَهُ ذاقُوهُ فِيها، ولَيْسَ كَذَلِكَ، وكَذَلِكَ ﴿إلا أنْ تَكُونَ تِجارَةً﴾ لِأنَّها لا تُؤْكَلُ بِالباطِلِ، بَلْ بِحَقٍّ، وكَذَلِكَ ﴿إلا خَطَأً﴾ لِأنَّهُ لَيْسَ لَهُ القَتْلُ مُطْلَقًا، وإلّا لَكانَ مُباحًا، فَتَنَوَّعَ المُنْقَطِعُ حِينَئِذٍ إلى ثَلاثَةٍ، الحُكْمِ عَلى الجِنْسِ بِغَيْرِ النَّقِيضِ، والحُكْمِ عَلى غَيْرِهِ بِهِ، أوْ بِغَيْرِهِ، والمُتَّصِلُ نَوْعٌ واحِدٌ، فَهَذا هو الضّابِطُ، وقِيلَ: العِبْرَةُ بِالِاتِّصالِ، والِانْفِصالُ الدُّخُولُ في الحُكْمِ وعَدَمِهِ، لا في حَقِيقَةِ اللَّفْظِ وعَدَمِهِ، فَتَأمَّلْ تَرْشَدْ. وأفْهَمَ كَلامُ القَوْمِ نَفَعَنا اللَّهُ تَعالى بِهِمْ أنَّ جَمِيعَ المَخْلُوقاتِ عُلْوِيَّها وسُفْلِيَّها سَعِيدَها وشَقِيَّها مَخْلُوقٌ مِنَ الحَقِيقَةِ المُحَمَّدِيَّةِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، كَما يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُ النّابُلْسِيِّ قُدِّسَ سِرُّهُ دافِعًا ما يَرُدُّ عَلى الظّاهِرِ: ؎طَهَ النَّبِيُّ تَكَوَّنَتْ مِن نُورِهِ ∗∗∗ كُلُّ الخَلِيقَةِ ثُمَّ لَوْ تُرِكَ القَطا وفِي الآثارِ ما يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، إلّا أنَّ المَلائِكَةَ العَلَوِيِّينَ خُلِقُوا مِنهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن حَيْثُ الجَمالُ، وإبْلِيسُ مِن حَيْثُ الجَلالُ، ويُؤَوَّلُ هَذا بِالآخِرَةِ إلى أنَّ إبْلِيسَ مَظْهَرُ جَلالِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، ولِهَذا كانَ مِنهُ ما كانَ، ولَمْ يَجْزَعْ، ولَمْ يَنْدَمْ، ولَمْ يَطْلُبِ المَغْفِرَةَ لِعِلْمِهِ أنَّ اللَّهَ تَعالى يَفْعَلُ ما يُرِيدُهُ، وأنَّ ما يُرِيدُهُ سُبْحانَهُ هو الَّذِي (p-231)تَقْتَضِيهِ الحَقائِقُ، فَلا سَبِيلَ إلى تَغْيِيرِها وتَبْدِيلِها، واسْتُشْعِرَ ذَلِكَ مِن نِدائِهِ بِإبْلِيسَ ولَمْ يَكُنِ اسْمَهُ مِن قَبْلُ، بَلْ كانَ اسْمُهُ عَزازِيلَ، أوِ الحَرْثَ، وكُنْيَتُهُ أبا مُرَّةَ، ووَراءَ ذَلِكَ ما لَمْ يُمْكِنْ كَشْفُهُ، واللَّهُ تَعالى يَقُولُ الحَقَّ وهو يَهْدِي السَّبِيلَ، وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أبى واسْتَكْبَرَ وكانَ مِنَ الكافِرِينَ﴾ نَوْعُ إشارَةٍ إلى بَعْضِ ما ذُكِرَ، والجُمْلَةُ اسْتِئْنافُ جَوابٍ لِمَن قالَ: ما فَعَلَ؟ وقِيلَ: إنَّ الفِعْلَيْنِ الأوَّلَيْنِ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الحالِ، أيْ آبِيًا مُسْتَكْبِرًا، ﴿وكانَ مِنَ الكافِرِينَ﴾ مُسْتَأْنَفٌ، أوْ في مَوْضِعِ الحالِ، وقِيلَ: الجُمَلُ الثَّلاثُ تَذْيِيلٌ بَعْدَ تَذْيِيلٍ، والإباءُ الِامْتِناعُ مَعَ الأنَفَةِ والتَّمَكُّنِ مِنَ الفِعْلِ، ولِهَذا كانَ قَوْلُكَ: أبى زَيْدٌ الظُّلْمَ أبْلَغَ مِن: لَمْ يُظْلَمْ، ولِإفادَةِ الفِعْلِ النَّفْيَ صَحَّ بَعْدَهُ الِاسْتِثْناءُ المُفَرَّغُ كَـ ﴿ويَأْبى اللَّهُ إلا أنْ يُتِمَّ نُورَهُ﴾ وقَوْلِهِ: ؎أبى اللَّهُ إلّا عَدْلَهُ ووَفاءَهُ ∗∗∗ فَلا النُّكْرُ مَعْرُوفٌ ولا العُرْفُ ضائِعُ والفِعْلُ مِنهُ أبى بِالفَتْحِ، وعَلَيْهِ لا يَكُونُ يَأْبى قِياسِيًّا، وقَدْ سُمِعَ أبِيَ كَرَضِيَ، فالمُضارِعُ حِينَئِذٍ قِياسِيٌّ، والمَفْعُولُ هُنا مَحْذُوفٌ، أيِ السُّجُودَ، والِاسْتِكْبارُ التَّكَبُّرُ، وهو مِمّا جاءَ فِيهِ اسْتَفْعَلَ بِمَعْنى تَفَعَّلَ وقِيلَ: التَّكَبُّرُ أنْ يَرى الشَّخْصُ نَفْسَهُ أكْبَرَ مِن غَيْرِهِ، وهو مَذْمُومٌ، وإنْ كانَ أكْبَرَ في الواقِعِ، والِاسْتِكْبارُ طَلَبُ ذَلِكَ بِالتَّشَبُّعِ، وقُدِّمَ الإباءُ عَلَيْهِ، وإنْ كانَ مُتَأخِّرًا عَنْهُ في الرُّتْبَةِ، لِأنَّهُ مِنَ الأحْوالِ الظّاهِرَةِ، بِخِلافِ الِاسْتِكْبارِ، فَإنَّهُ نَفْسانِيٌّ، أوْ لِأنَّ المَقْصُودَ الإخْبارُ عَنْهُ بِأنَّهُ خالَفَ حالُهُ حالَ المَلائِكَةِ، فَناسَبَ أنْ يَبْدَأ أوَّلًا بِتَأْكِيدِ ما حُكِمَ بِهِ عَلَيْهِ في الِاسْتِثْناءِ أوْ بِإنْشاءِ الإخْبارِ عَنْهُ بِالمُخالَفَةِ، فَبَدَأ بِذَلِكَ عَلى أبْلَغِ وجْهٍ، وكانَ عَلى بابِها، والمَعْنى: كانَ في عِلْمِ اللَّهِ تَعالى مِنَ الكافِرِينَ، أوْ كانَ مِنَ القَوْمِ الكافِرِينَ الَّذِينَ كانُوا في الأرْضِ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ، وقِيلَ: بِمَعْنى صارَ، وهو مِمّا أثْبَتَهُ بَعْضُ النُّحاةِ، قالَ ابْنُ فُورَكَ: وتَرُدُّهُ الأُصُولُ، ولِأنَّهُ كانَ الظّاهِرَ حِينَئِذٍ، فَكانَ بِالفاءِ، ثُمَّ أنَّ كُفْرَهُ لَيْسَ لِتَرْكِ الواجِبِ كَما زَعَمَ الخَوارِجُ مُتَمَسِّكِينَ بِهَذِهِ الآيَةِ، لِأنَّهُ لا يُوجِبُ ذَلِكَ في مِلَّتِنا عَلى ما دَلَّتْ عَلَيْهِ القَواطِعُ، وإيجابُهُ قَبْلَ ذَلِكَ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ، بَلْ بِاسْتِقْباحِهِ أمْرَ اللَّهِ تَعالى بِالسُّجُودِ لِمَن يَعْتَقِدُ أنَّهُ خَيْرٌ مِنهُ، وأفْضَلُ، كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ الإباءُ والِاسْتِكْبارُ، وقالَ أبُو العالِيَةِ: مَعْنى مِنَ الكافِرِينَ، مِنَ العاصِينَ، ثُمَّ الظّاهِرُ أنَّ كُفْرَهُ كانَ عَنْ جَهْلٍ، بِأنِ اسْتَرَدَّ سُبْحانَهُ مِنهُ ما أعارَهُ مِنَ العِلْمِ الَّذِي كانَ مُرْتَدِيًا بِهِ، حِينَ كانَ طاوُسَ المَلائِكَةِ، وأظافِيرُ القَضاءِ إذا حَكَّتْ أدْمَتْ، وقِسِيُّ القَدَرِ إذا رَمَتْ أصَمَّتْ. ؎وكانَ سِراجُ الوَصْلِ أزْهَرَ بَيْنَنا ∗∗∗ فَهَبَّتْ بِهِ رِيحٌ مِنَ البَيْنِ فانْطَفى وقِيلَ: عَنْ عِنادٍ حَمَلَهُ عَلَيْهِ حُبُّ الرِّياسَةِ والإعْجابُ بِما أُوتِيَ مِنَ النَّفاسَةِ، ولَمْ يَدْرِ المِسْكِينُ أنَّهُ لَوِ امْتَثَلَ ارْتَفَعَ قَدْرُهُ، وسَما بَيْنَ المَلَإ الأسْمى فَخْرُهُ، ولَكِنْ: ؎إذا لَمْ يَكُنْ عَوْنٌ مِنَ اللَّهِ لِلْفَتى ∗∗∗ فَأوَّلُ ما يَجْنِي عَلَيْهِ اجْتِهادُهُ وكَمْ أدَقَّتْ هَذِهِ القِصَّةُ جُفُونًا، وأراقَتْ مِنَ العُيُونِ عُيُونًا، فَإنَّ إبْلِيسَ كانَ مُدَّةً في دَلالِ طاعَتِهِ يَخْتالُ في رِداءِ مُرافَقَتِهِ، ثُمَّ صارَ إلى ما تَرى، وجَرى ما بِهِ القَلَمُ جَرى ؎وكُنّا ولَيْلى في صُعُودٍ مِنَ الهَوى ∗∗∗ فَلَمّا تَوافَيْنا ثَبَتَ وزَلَّتِ ومِن هُنا قالَ الشّافِعِيَّةُ والأشْعَرِيَّةُ وبِقَوْلِهِمْ أقُولُ في هَذِهِ المَسْألَةِ: إنَّ العِبْرَةَ بِالإيمانِ الَّذِي يُوافِي العَبْدُ عَلَيْهِ، ويَأْتِي مُتَّصِفًا بِهِ في آخِرِ حَياتِهِ، وأوَّلِ مَنازِلِ آخِرَتِهِ، ولِذا يَصِحُّ أنا مُؤْمِنٌ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى بِالشَّكِّ، ولَكِنْ لَيْسَ في الإيمانِ النّاجِزِ بَلْ في الإيمانِ الحَقِيقِيِّ المُعْتَبَرِ عِنْدَ المَوْتِ، وخَتْمِ الأعْمالِ، وقَدْ صَحَّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ كَما أوْرَدَهُ الزُّرْقانِيُّ: إنَّ مِن تَمامِ إيمانِ العَبْدِ أنْ يَسْتَثْنِيَ، إذْ عَواقِبُ المُؤْمِنِينَ مُغَيَّبَةٌ عِنْدَهُمْ، ﴿وهُوَ القاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ﴾ (p-232)وفِي الصَّحِيحِ عَنْ جابِرٍ كانَ ﷺ يُكْثِرُ مِن قَوْلِهِ: «(يا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنا عَلى دِينِكَ)،» وخَبَرُ «(مَن قالَ: أنا مُؤْمِنٌ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، فَلَيْسَ لَهُ مِنَ الإسْلامِ نَصِيبٌ)» مَوْضُوعٌ بِاتِّفاقِ المُحَدِّثِينَ، وأنا مُؤْمِنٌ بِغَيْرِهِ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، هَذا واعْلَمْ أنَّ الَّذِي تَقْتَضِيهِ هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ وكَذا الَّتِي في الأعْرافِ، وبَنِي إسْرائِيلَ، والكَهْفِ وطه، أنَّ سُجُودَ المَلائِكَةِ تَرَتَّبَ عَلى الأمْرِ التَّنْجِيزِيِّ الوارِدِ بَعْدَ خَلْقِهِ، ونَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ، وهو الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ النَّقْلُ والعَقْلُ، إلّا أنَّ ما في الحِجْرِ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي خالِقٌ بَشَرًا مِن صَلْصالٍ مِن حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ ﴿فَإذا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ﴾ ﴿فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهم أجْمَعُونَ﴾ وكَذا ما في ص، تَسْتَدْعِي ظاهِرًا تَرَتُّبَهُ عَلى ما فِيها مِنَ الأمْرِ التَّعْلِيقِيِّ مِن غَيْرِ أنْ يَتَوَسَّطَ بَيْنَهُما شَيْءٌ غَيْرُ الخَلْقِ، وتَوابِعِهِ، وبِهِ قالَ بَعْضُهُمْ، وحُمِلَ ما في تِلْكَ الآياتِ مِنَ الأمْرِ عَلى حِكايَةِ الأمْرِ التَّعْلِيقِيِّ بَعْدَ تَحَقُّقِ المُعَلَّقِ بِهِ إجْمالًا، فَإنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ في حُكْمِ التَّنْجِيزِ، و(ثُمَّ) في آيَةِ الأعْرافِ لِلتَّراخِي الرُّتَبِيِّ، أوِ التَّراخِي في الإخْبارِ، أوْ يُقالُ: إنَّ الأمْرَ التَّعْلِيقِيَّ لَمّا كانَ قَبْلَ تَحَقُّقِ المُعَلَّقِ بِهِ بِمَنزِلَةِ العَدَمِ في عَدَمِ إيجابِ المَأْمُورِ بِهِ جُعِلَ كَأنَّهُ إنَّما حَدَثَ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ، فَحُكِيَ عَلى صُورَةِ التَّنْجِيزِ، ولَمّا رَأى بَعْضُهم أنَّ هَذا مُؤَدٍّ إلى أنَّ ما جَرى في شَأْنِ الخِلافَةِ، وما قالُوا، وما سَمِعُوا، إنَّما جَرى بَعْدَ السُّجُودِ المَسْبُوقِ بِمَعْرِفَةِ جَلالَةِ قَدْرِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، وخُرُوجِ إبْلِيسَ مِنَ البَيْنِ بِاللَّعْنِ، وبَعْدَ مُشاهَدَتِهِمْ لِكُلِّ ذَلِكَ، وهو خَرْقٌ لِقَضِيَّةِ النَّقْلِ، بَلْ خَرْقٌ في العَقْلِ، اضْطُرَّ إلى القَوْلِ بِأنَّ السُّجُودَ كانَ مَرَّتَيْنِ، وهَيْهاتَ لا يُصْلِحُ العَطّارُ ما أفْسَدَ الدَّهْرُ، فالحَقُّ الحَقِيقُ ما دَلَّتْ عَلَيْهِ هاتِيكَ الآياتُ، وما اسْتَدَلَّ بِهِ المُخالِفُ لا يَنْتَهِضُ دَلِيلًا، لِأنَّ الشَّرْطَ إنْ كانَ قَيْدًا لِلْجَزاءِ كانَ مَعْناهُ عَلى تَقْدِيرِ: صَدَقَ، إذا سَوَّيْتَهُ أطْلَبَ بِناءً، عَلى أنَّ الشَّرْطَ قَيْدٌ لِلطَّلَبِ عَلى ما صَرَّحَ بِهِ العَلّامَةُ التَّفْتازانِيُّ مِن أنَّ مَعْنى قَوْلِنا: إنْ جاءَكَ زَيْدٌ، فَأكْرِمْهُ، أيْ عَلى تَقْدِيرِ: صَدَقَ إنْ جاءَكَ زَيْدٌ أطْلُبُ مِنكَ إكْرامَهُ، وإنْ كانَ الحُكْمُ بَيْنَ الشَّرْطِ، والجَزاءِ فالجَزاءُ الطَّلَبِيُّ لا بُدَّ مِن تَأْوِيلِهِ بِالخَبَرِ، أيْ يَسْتَحِقُّ أنْ يُقالَ في حَقِّهِ أكْرِمْهُ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ كانَ مَدْلُولُ ﴿فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ﴾ طَلَبًا اسْتِقْبالِيًّا لا حالِيًّا، فَلا يَلْزَمُ تَحَقُّقُ الأمْرِ بِالسُّجُودِ قَبْلَ التَّسْوِيَةِ، نَعَمْ لَوْ كانَ الشَّرْطُ قَيْدًا لِلْمَطْلُوبِ لا لِلطَّلَبِ، يَكُونُ المَعْنى طَلَبٌ في الحالِ لِلسُّجُودِ وقْتَ التَّسْوِيَةِ، فَيُفِيدُ تَقَدُّمَ الأمْرِ عَلى التَّسْوِيَةِ، وقَوْلُ مَوْلانا الرّازِيِّ قُدِّسَ سِرُّهُ: إنَّ الآيَةَ كَما تَدُلُّ عَلى تَقَدُّمِ الأمْرِ بِالسُّجُودِ عَلى التَّسْوِيَةِ تُفِيدُ أنَّ التَّعْلِيمَ والإنْباءَ كانَ بَعْدَ السُّجُودِ، لِأنَّها تَدُلُّ عَلى أنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَما صارَ حَيًّا صارَ مَسْجُودًا لِلْمَلائِكَةِ، لِأنَّ الفاءَ في (فَقَعُوا) لِلتَّعْقِيبِ لا يَخْفى ما فِيهِ، لِأنَّ الفاءَ لِلسَّبَبِيَّةِ، لا لِلْعَطْفِ، وهو لا يَقْتَضِي التَّعْقِيبَ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فاسْعَوْا﴾ وقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿فَتَلَقّى آدَمُ مِن رَبِّهِ كَلِماتٍ﴾ ومِنَ النّاسِ مَن حَمَلَ نَفْخَ الرُّوحِ في الآيَةِ عَلى التَّعْلِيمِ لِما اشْتُهِرَ أنَّ العِلْمَ حَياةٌ، والجَهْلَ مَوْتٌ، وأنْتَ في غِنًى عَنْهُ واللَّهُ المُوَفِّقُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب